تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 57 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 57

056

ومعنى 53- "بما أنزلت" ما أنزله الله سبحانه في كتبه. والرسول عيسى، وحذف المتعلق مشعر بالتعميم: أي اتبعناه في كل ما يأتي به فاكتبنا مع الشاهدين لك بالوحدانية ولرسولك بالرسالة. أو اكتبنا مع الأنبياء الذين يشهدون لأممهم، وقيل: مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله 54- "ومكروا" أي الذين أحس عيسى منهم الكفر، وهم كفار بني إسرائيل. ومكر الله استدراجه للعباد من حيث لا يعلمون. قاله الفراء وغيره. وقال الزجاج: مكر الله مجازاتهم على مكرهم، فسمي الجزاء باسم الابتداء كقوله تعالى "الله يستهزئ بهم"، "وهو خادعهم" وأصل المكر في اللغة: الاغتيال والخدع: حكاه ابن فارس، وعلى هذا فلا يسند إلى الله سبحانه إلا على طريق المشاكلة، وقيل: مكر الله هنا إلقاء شبه عيسى على غيره، ورفع عيسى إليه "والله خير الماكرين" أي: أقواهم مكراً وأنفذهم كيداً وأقوالهم على إيصال الضرر بمن يريد إيصاله به من حيث لا يحتسب.
قوله 55- "إذ قال الله يا عيسى" العامل في إذ: مكروا، أو قوله "خير الماكرين" أو فعل مضمر تقديره وقع ذلك. وقال الفراء: إن في الكلام تقديماً وتأخيراً تقديره إني رافعك ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد إنزالك من السماء. وقال أبو زيد: متوفيك قابضك. وقال في الكشاف: مستوفي أجلك، ومعناه: إني عاصمك من أن يقتلك الكفار، ومؤخر أجلك إلى أجل كتبته لك، ومميتك حتف أنفك لا قتلاً بأيديهم. وإنما احتاج المفسرون إلى تأويل الوفاة بما ذكر، لأن الصحيح أن الله رفعه إلى السماء من غير وفاة، كما رجحه كثير من المفسرين، واختاره ابن جرير الطبري، ووجه ذلك أنه قد صح في الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم نزوله وقتله الدجال، وقيل: إن الله سبحانه توفاه ثلاث ساعات من نهار ثم رفعه إلى السماء، وفيه ضعف، وقيل: المراد بالوفاة هنا النوم ومثله "وهو الذي يتوفاكم بالليل" أي ينميكم، وبه قال كثيرون. قوله "ومطهرك من الذين كفروا" أي من حيث جوازهم برفعه إلى السماء وبعده عنهم. قوله "وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة" أي الذين اتبعوا ما جئت به وهم خلص أصحابه الذين لم يبلغوا في الغلو فيه إلى ما بلغ من جعله إلهاً، ومنهم المسلمون فإنهم اتبعوا ما جاء به، عيسى عليه السلام ووصفوه بما يستحقه من دون غلو، فلم يفرطوا في وصفه كما فرطت اليهود ولا أفرطوا كما أفرطت النصارى. وقد ذهب إلى هذا كثير من أهل العلم. وقيل: المراد بالآية أن النصارى الذين هم أتباع عيسى لا يزالون ظاهرين على اليهود غالبين لهم قاهرين لمن وجد منهم، فيكون المراد بالذين كفروا هم اليهود خاصة، وقيل: هم الروم لا يزالون ظاهرين على من خالفهم من الكافرين، وقيل: هم الحواريون لا يزالون ظاهرين على من كفر بالمسيح، وعلى كل حال فغلبة النصارى لطائفة من الكفار أو لكل طوائف الكفار لا ينافي كونهم مقهورين مغلوبين بطوائف المسلمين كما تفيده الآيات الكثيرة، بأن هذه الملة الإسلامية ظاهرة على كل الملل، قاهرة لها مستعلية عليها. وقد أفردت هذه الآية بمؤلف سميته وبل الغمامة في تفسير "وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة" فمن رام استيفاء ما في المقام فليرجع إلى ذلك. والفوقية هنا هي أعم من أن تكون بالسيف أو بالحجة. وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن عيسى عليه السلام ينزل في آخر الزمان فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويحكم بين العباد بالشريعة المحمدية، ويكون المسلمون أنصاره وأتباعه إذ ذاك، فلا يبعد أن يكون في هذه الآية إشارة إلى هذه الحالة. قوله "ثم إلي مرجعكم" أي رجوعكم، وتقديم الظرف للقصر "فأحكم بينكم" يومئذ "فيما كنتم فيه تختلفون" من أمور الدين.أن
وقوله 56- "فأما الذين كفروا" إلى قوله "والله لا يحب الظالمين" تفسير للحكم. قوله "في الدنيا والآخرة" متعلق بقوله فأعذبهم، أما تعذيبهم في الدنيا فبالقتل والسبي والجزية والصغار، وأما في الآخرة فبعذاب النار.
قوله 57- " فيوفيهم أجورهم " أي: نعطيهم إياها كامة موفرة، قرئ بالتحتية وبالنون. وقوله "لا يحب الظالمين" كناية عن بغضهم، وهي جملة تذييلية مقررة لما قبلها.
قوله 58- "ذلك" إشارة إلى ما سلف من نبأ عيسى وغيره وهو مبتدأ خبره ما بعده، و"من الآيات" حال أو خبر بعد خبر. والحكيم المشتمل على الحكم أو المحكم الذي لا خلل فيه. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله "فلما أحس عيسى منهم الكفر" قال: كفروا وأرادوا قتله، فذلك حين استنصر قومه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: إنما سموا الحواريين لبياض ثيابهم كانوا صيادين. وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك قال: الحواريون قصارون مر بهم عيسى فآمنوا به. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: الحواريون هم الذين تصلح لهم الخلافة. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: هم أصفياء الأنبياء. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الضحاك مثله. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن قتادة قال: الحواري الوزير. وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان بن عيينة قال: الحواري الناصر. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس في قوله "فاكتبنا مع الشاهدين" قال: مع محمد وأمته أنهم شهدوا له أنه قد بلغ، وشهدوا للرسل أنهم قد بلغوا. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن طريق الكلبي عن أبي صالح عنه قال "مع الشاهدين" مع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير عن السدي قال: إن بني إسرائيل حصروا عيسى وتسعة عشر رجلاً من الحواريين في بيت، فقال عيسى لأصحابه: من يأخذ صورتي فيقتل وله الجنة، فأخذها رجل منهم وصعد عيسى إلى السماء فذلك قوله "ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "إني متوفيك" يقول: مميتك. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن قال: متوفيك من الأرض. وأخرج الآخران عنه قال: وفاة المنام. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال: هذا من المقدم والمؤخر: أي رافعك إلي ومتوفيك. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مطر الوراق قال: متوفيك من الدنيا وليس بوفاة موت. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن وهب قال: توفى الله عيسى ثلاث ساعات من النهار حتى رفعه إليه، وأخرج ابن عساكر عنه قال: أماته ثلاثة أيام ثم بعثه ورفعه. وأخرج الحاكم عنه قال: توفى الله عيسى سبع ساعات. وأخرج ابن سعد وأحمد في الزهد والحاكم عن سعيد بن المسيب قال: رفع عيسى وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. وأخرج ابن عساكر عن وهب مثله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله تعالى "ومطهرك من الذين كفروا" قال: طهره من اليهود والنصارى والمجوس ومن كفار قومه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله: "وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا" قال: هم أهل الإسلام الذين اتبعوا على فطرته وملته وسنته. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن نحوه أيضاً. وأخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر عن النعمان بن بشير سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يبالون بمن خالفهم حتى يأتي أمر الله" قال النعمان: من قال: إني أقول على رسول الله ما لم يقل فإن تصديق ذلك في كتاب الله، قال الله "وجاعل الذين اتبعوك" الآية. وأخرج ابن عساكر عن معاوية مرفوعاً نحوه ثم قرأ معاوية الآية. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: النصارى فوق اليهود إلى يوم القيامة، وليس بلد فيه أحد من النصارى إلا وهم فوق اليهود في شرق ولا غرب، هم في البلدان كلها مستذلون.
تشبيه عيسى بآدم في كونه مخلوقاً من غير أب كآدم، ولا يقدح في التشبيه اشتمال المشبه به على زيادة وهو كونه لا أم له: كما أنه لا أب له، فذلك أمر خارج عن الأمر المراد بالتشبيه وإن كان المشبه به أشد غرابة من المشبه وأعظم عجباً وأغرب أسلوباً. وقوله "خلقه من تراب" جملة مفسرة لما أبهم في المثل: أي أن آدم لم يكن له أب ولا أم، بل خلقه الله من تراب. وفي ذلك دفع لإنكار من أنكر خلق عيسى من غير أب مع اعترافه بأن آدم خلق من غير أب وأم. قوله "ثم قال له كن فيكون" أي كن بشراً فكان بشراً. وقوله "فيكون" حكاية حال ماضية، وقد تقدم تفسير هذا.
وقوله 60- "الحق من ربك" قال الفراء: هو مرفوع بإضمار هو. وقال أبو عبيدة: هو استئناف كلام وخبره قوله "من ربك" وقيل: هو فاعل فعل محذوف: أي جاءك الحق من ربك. قوله "فلا تكن من الممترين" الخطاب إما لكل من يصلح له من الناس: أي لا يكن أحد منكم ممترياً، أو للرسول صلى الله عليه وسلم، ويكون النهي له لزيادة التثبيت لأنه لا يكون منه شك في ذلك.
قوله 61- "فمن حاجك فيه" هذا وإن كان عاماً فالمراد به الخاص، وهم النصارى الذين وفدوا إليه صلى الله عليه وسلم من نجران كما سيأتي بيانه، ويمكن أن يقال هو على عمومه وإن كان السبب خاصاً، فيدل على جواز المباهلة منه صلى الله عليه وسلم لكل من حاجه في عيسى عليه السلام، وأمته أسوته، وضمير فيه لعيسى، والمراد بمجيء العلم هنا مجيء سببه، وهو الآيات البينات، والمحاجة: المخاصمة والمجادلة. وقوله "تعالوا" أي: هلموا وأقبلوا، وأصله الطلب لإقبال الذوات، ويستعمل في الرأي إذا كان المخاطب حاضراً كما تقول لمن هو حاضر عندك: تعال ننظر في هذا الأمر. قوله "ندع أبناءنا" إلخ اكتفي بذكر البنين عن البنات، إما لدخولهن في النساء، أو لكونهم الذين يحضرون مواقف الخصام دونهن، ومعنى الآية: ليدع كل منا ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إلى المباهلة. وفيه دليل على أن أبناء البنات يسمون أبناء لكونه صلى الله عليه وسلم أراد بالأبناء الحسنين كما سيأتي. قوله: "نبتهل" أصل الابتهال الاجتهاد في الدعاء باللعن وغيره، يقال بهله الله: أي لعنه، والبهل اللعن. قال أبو عبيد والكسائي: نبتهل نلتعن، ويطلق على الاجتهاد في الهلاك، ومنه قول لبيد: في كهول سادة من قومه نظر الدهر إليهم فابتهل أي: فاجتهد في هلاكهم. قال في الكشاف: ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه وإن لم يكن التعاناً. قوله "فنجعل لعنة الله على الكاذبين" عطف على نبتهل مبين لمعناه.