تفسير الطبري تفسير الصفحة 57 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 57
058
056
 الآية : 53
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{رَبّنَآ آمَنّا بِمَآ أَنزَلَتْ وَاتّبَعْنَا الرّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشّاهِدِينَ }
وهذا خبر من الله عزّ وجلّ عن الـحواريـين أنهم قالوا: {ربنا آمَنّ} أي صدّقنا {بِـما أنزَلْت} يعنـي: بـما أنزلت علـى نبـيك عيسى من كتابك {وَاتّبَعْنا الرّسُولَ} يعنـي بذلك: صرنا أتبـاع عيسى علـى دينك الذي ابتعثته به وأعوانه, علـى الـحقّ الذي أرسلته به إلـى عبـادك. وقوله: {فـاكْتُبْنَا مَعَ الشّاهِدِينَ} يقول: فأثبت أسماءنا مع أسماء الذين شهدوا بـالـحقّ, وأقرّوا لك بـالتوحيد, وصدّقوا رسلك, واتبعوا أمرك ونهيك, فـاجعلنا فـي عدادهم ومعهم فـيـما تكرمهم به من كرامتك, وأحلنا مـحلهم, ولا تـجعلنا مـمن كفر بك, وصدّ عن سبـيـلك, وخالف أمرك ونهيك, يعرّف خـلقه جل ثناؤه بذلك سبـيـل الذين رضي أقوالهم وأفعالهم, لـيحتذوا طريقهم, ويتبعوا منهاجهم, فـيصلوا إلـى مثل الذي وصلوا إلـيه من درجات كرامته, ويكذّب بذلك الذين انتـحلوا من الـملل غير الـحنـيفـية الـمسلـمة فـي دعواهم علـى أنبـياء الله أنهم كانوا علـى غيرها, ويحتـجّ به علـى الوفد الذين حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نـجران بأنه قـيـل من رضي الله عنه من أتبـاع عيسى كان خلاف قـيـلهم, ومنهاجهم غير منهاجهم. كما:
5744ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {رَبّنَا آمَنّا بِـمَا أنْزَلْتَ وَاتّبَعْنَا الرّسُولَ فـاكْتُبْنَا مَعَ الشّاهِدِينَ} أي هكذا كان قولهم وإيـمانهم.
الآية : 54
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: ومكر الذين كفروا من بنـي إسرائيـل, وهم الذين ذكر الله أن عيسى أحسّ منهم الكفر, وكان مكرهم الذي وصفهم الله به, مواطأة بعضهم بعضا علـى الفتك بعيسى وقتله, وذلك أن عيسى صلوات الله علـيه بعد إخراج قومه إياه وأمه من بـين أظهرهم عاد إلـيهم, فـيـما:
5745ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: ثم إن عيسى سار بهم: يعنـي بـالـحواريـين الذين كانوا يصطادون السمك, فآمنوا به واتبعوه إذ دعاهم حتـى أتـى بنـي إسرائيـل لـيلاً فصاح فـيهم, فذلك قوله: {فآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِـي إِسْرَائِيـلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ}... الاَية.
وأما مكر الله بهم فإنه فـيـما ذكر السديّ: إلقاؤه شبه عيسى علـى بعض أتبـاعه, حتـى قتله الـماكرون بعيسى, وهم يحسبونه عيسى, وقد رفع الله عزّ وجلّ عيسى قبل ذلك. كما:
5746ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: ثم إن بنـي إسرائيـل حصروا عيسى وتسعة عشر رجلاً من الـحواريـين فـي بـيت, فقال عيسى لأصحابه: من يأخذ صورتـي فـيقتل وله الـجنة, فأخذها رجل منهم, وصُعِد بعيسى إلـى السماء, فذلك قوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الـمَاكِرِينَ}. فلـما خرج الـحواريون أبصروهم تسعة عشر, فأخبروهم أن عيسى قد صعد به إلـى السماء, فجعلوا يعدّون القوم فـيجدونهم ينقصون رجلاً من العدّة, ويرون صورة عيسى فـيهم فشكّوا فـيه, وعلـى ذلك قتلوا الرجل وهم يرون أنه عيسى, وصلبوه, فذلك قول الله عزّ وجلّ {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبّهَ لَهُمْ}.
وقد يحتـمل أن يكون معنى مكر الله بهم استدراجه إياهم لـيبلغ الكتاب أجله, كما قد بـينا ذلك فـي قول الله: {اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ}.
الآية : 55
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{إِذْ قَالَ اللّهُ يَعِيسَىَ إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيّ وَمُطَهّرُكَ مِنَ الّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُواْ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمّ إِلَيّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }
يعنـي بذلك جل ثناؤه: ومكر الله بـالقوم الذين حاولوا قتل عيسى مع كفرهم بـالله, وتكذيبهم عيسى فـيـما أتاهم به من عند ربهم, إذ قال الله جل ثناؤه: {إنّـي مُتَوَفّـيكَ} فـ«إذْ» صلة من قوله: {وَمَكَرَ اللّهُ} يعنـي: ومكر الله بهم حين قال الله لعيسى: {إنّـي مُتَوَفّـيكَ وَرَافِعُكَ إِلـيّ} فتوفـاه ورفعه إلـيه.
ثم اختلف أهل التأويـل فـي معنى الوفـاة التـي ذكرها الله عزّ وجلّ فـي هذه الاَية, فقال بعضهم: هي وفـاة نوم, وكان معنى الكلام علـى مذهبهم: إنـي مُنِـيـمُك, ورافعك فـي نومك. ذكر من قال ذلك:
5747ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: {إنّـي مُتَوَفّـيكَ} قال: يعنـي وفـاة الـمنام: رفعه الله فـي منامه. قال الـحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للـيهود: «إِنّ عِيسَى لَـمْ يَـمُتْ, وَإِنّهُ رَاجِعٌ إِلَـيْكُمْ قَبْلَ يَوْمِ القِـيامَةِ».
وقال آخرون: معنى ذلك: إنـي قابضك من الأرض, فرافعك إلـيّ, قالوا: ومعنى الوفـاة: القبض, لـما يقال: توفـيت من فلان ما لـي علـيه, بـمعنى: قبضته واستوفـيته. قالوا: فمعنى قوله: {إِنّـي مُتَوَفّـيكَ وَرَافِعُكَ}: أي قابضك من الأرض حيا إلـى جواري, وآخذك إلـى ما عندي بغير موت, ورافعك من بـين الـمشركين وأهل الكفر بك. ذكر من قال ذلك:
5748ـ حدثنا علـيّ بن سهل, قال: حدثنا ضمرة بن ربـيعة, عن ابن شوذب, عن مطر الورّاق فـي قول الله: {إنّـي مُتَوَفّـيكَ} قال: متوفـيك من الدنـيا, ولـيس بوفـاة موت.
5749ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن الـحسن فـي قوله: {إنّـي مُتَوَفّـيكَ} قال: متوفـيك من الأرض.
5750ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قوله: {إنّـي مُتَوَفّـيكَ وَرَافِعُكَ إِلـيّ وَمُطَهّرُكَ مِنَ الّذِينَ كَفَرُو} قال: فرفعه إياه إلـيه, توفـيه إياه, وتطهيره من الذين كفروا.
5751ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية بن صالـح أن كعب الأحبـار, قال: ما كان الله عزّ وجلّ لـيـميت عيسى ابن مريـم, إنـما بعثه الله داعيا ومبشرا يدعو إلـيه وحده, فلـما رأى عيسى قلة من اتبعه وكثرة من كذّبه, شكا ذلك إلـى الله عزّ وجلّ, فأوحى الله إلـيه: {إِنّـي مُتَوَفّـيكَ وَرَافِعُكَ إِلـيّ} ولـيس من رفعته عندي ميتا, وإنـي سأبعثك علـى الأعور الدجال, فتقتله, ثم تعيش بعد ذلك أربعا وعشرين سنة, ثم أميتك ميتة الـحيّ. قال كعب الأحبـار: وذلك يصدّق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: «كيفَ تَهلِكُ أمةٌ أنَا فِـي أوّلهَا, وَعِيسَى فِـي آخِرِهَا؟».
5752ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: يا عيسى إنـي متوفـيك: أي قابضك.
5753ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: {إنّـي مُتَوَفّـيكَ وَرَافِعُكَ إِلـيّ} قال: متوفـيك: قابضك, قال: ومتوفـيك ورافعك واحد. قال: ولـم يـمت بعد حتـى يقتلَ الدجال, وسيـموت, وقرأ قول الله عزّ وجلّ: {وَيُكَلّـمُ النّاسَ فِـي الـمَهْدِ وَكَهْل} قال: رفعه الله إلـيه قبل أن يكون كهلاً, قال: وينزل كهلاً.
5754ـ حدثنا مـحمد بن سنان, قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي, عن عبـاد, عن الـحسن فـي قول الله عزّ وجلّ: {يا عِيسَى إنّـي مُتَوَفّـيكَ وَرَافِعُكَ إلـيّ}... الاَية كلها, قال: رفعه الله إلـيه, فهو عنده فـي السماء.
وقال آخرون: معنى ذلك: إنـي متوفـيك وفـاة موت. ذكر من قال ذلك:
5755ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: {إنّـي مُتَوَفّـيكَ} يقول: إنـي مـميتك.
5756ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عمن لا يتهم, عن وهب بن منبه الـيـمانـي أنه قال: توفـي الله عيسى ابن مريـم ثلاث ساعات من النهار حتـى رفعه إلـيه.
5757ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: والنصارى يزعمون أنه توفـاه سبع ساعات من النهار, ثم أحياه الله.
وقال آخرون: معنى ذلك: إذ قال الله يا عيسى, إنـي رافعك إلـيّ, ومطهرك من الذين كفروا, ومتوفـيك بعد إنزالـي إياك إلـى الدنـيا. وقال: هذا من الـمقدّم الذي معناه التأخير, والـمؤخر الذي معناه التقديـم.
قال أبو جعفر: وأولـى هذه الأقوال بـالصحة عندنا قول من قال: معنى ذلك: إنـي قابضك من الأرض ورافعك إلـيّ, لتواتر الأخبـار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَـمَ فَـيَقْتُلُ الدّجّالَ» ثُمّ يَـمْكُثُ فِـي الأرْض مُدّةً ذَكَرَها اختلفت الرواية فـي مبلغها, ثم يـموت, فـيصلـي علـيه الـمسلـمون ويدفنونه.
5758ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن مسلـم الزهري, عن حنظلة بن علـيّ الأسلـميّ, عن أبـي هريرة, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لَـيُهْبِطنّ اللّهُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَـمَ حَكَما عَدْلاً وَإِمَاما مُقْسِطا, يَكْسِرُ الصّلِـيبَ, وَيَقْتُلُ الـخِنْزِيرَ, وَيَضَعُ الـجِزْيَةَ, وَيُفِـيضُ الـمالُ حتـى لا يَجِدَ مَنْ يَأْخُذُهُ, وَلَـيُسْلَكَنّ الرّوْحَاءَ حاجّا أَوْ مُعْتَـمِرا, أَوْ يَدِينُ بِهِمَا جَمِيعا».
5759ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن الـحسن بن دينار, عن قتادة, عن عبد الرحمن بن آدم, عن أبـي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأنْبِـيَاءُ إخْوَةٌ لعَلاّتٍ, أمّهاتُهُمْ شَتّـى, وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ, وَأنا أَوْلَـى النّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَـمَ, لأنّهُ لَـمْ يَكُنْ بَـيْنِـي وَبَـيْنَهُ نَبِـيّ, وَإِنّهُ خَـلِـيفَتِـي علـى أُمّتِـي, وإِنّهُ نَازِلٌ فَـإِذَا رَأيْتُـمُوهُ فَـاعْرِفُوهُ, فَـإِنّهُ رَجُلٌ مَرْبُوعُ الـخـلْقِ إلـى الـحُمْرَةِ وَالبَـيَاضِ سَبْطُ الشّعْرِ كأنّ شَعْرَهُ يَقْطُرُ, وَإِنْ لَـمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ بَـيْنَ مُـمَصّرَتَـيْنِ, يَدُقّ الصّلِـيبَ, وَيَقْتُلُ الـخِنْزِيرَ, وَيُفِـيضُ الـمَالُ, وَيُقَاتِلُ النّاسَ علـى الإسْلاَمِ حتـى يُهْلِكَ اللّهُ فِـي زَمَانِهِ الـمِلَلَ كُلّها, وَيُهْلِكَ اللّهُ فِـي زَمَانِهِ مَسِيخَ الضّلاَلَةِ الكَذّابَ الدّجّالَ وَتَقَعُ فِـي الأرْضِ الأمَنَةُ حتـى تَرْتَعَ الأسُودُ مَعَ الإبِلِ, وَالنّـمْرُ مَعَ البَقَرِ, وَالذّئابُ مَعَ الغَنَـمِ, وَتَلْعَبُ الغِلْـمَانُ بـالـحَيّاتِ, لاَ يَضُرّ بَعْضُهُمْ بَعْضا, فَـيَثْبُتُ فِـي الأَرْضِ أرْبَعِينَ سَنَةً, ثُمّ يُتَوَفّـى وَيُصَلّـي الـمُسْلِـمُونَ عَلَـيْهِ وَيَدْفِنُونَهُ».
قال أبو جعفر: ومعلوم أنه لو كان قد أماته الله عزّ وجلّ لـم يكن بـالذي يـميته ميتة أخرى, فـيجمع علـيه ميتتـين, لأن الله عزّ وجلّ إنـما أخبر عبـاده أنه يخـلقهم ثم يـميتهم, ثم يحيـيهم, كما قال جل ثناؤه¹ {اللّهُ الّذِي خَـلَقَكُمْ ثُمّ رَزَقَكُمْ ثُمّ يُـمِيتُكُمْ ثُمّ يُحْيـيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْء}.
فتأويـل الاَية إذا: قال الله لعيسى: يا عيسى إنـي قابضك من الأرض ورافعك إلـيّ, ومطهرك من الذين كفروا, فجحدوا نبوتك. وهذا الـخبر وإن كان مخرجه مخرج خبر, فإن فـيه من الله عز وجل احتـجاجا علـى الذين حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي عيسى من وفد نـجران, بأن عيسى لـم يقتل ولـم يصلب كما زعموا, وأنهم والـيهود الذين أقروا بذلك وادعوا علـى عيسى كَذَبةٌ فـي دعواهم وزعمهم. كما:
5760ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير ثم أخبرهم ـ يعنـي الوفد من نـجران ـ وردّ علـيهم فـيـما أخبروا هم والـيهود بصلبه, كيف رفعه وطهره منهم, فقال: {إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنّـي مُتَوَفّـيكَ وَرَافِعُكَ إِلـيّ}.
وأما مطهرك من الذين كفروا, فإنه يعنـي منظّفك, فمخـلّصك مـمن كفر بك وجحد ما جئتهم به من الـحق من الـيهود وسائر الـملل غيرها. كما:
5761ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {وَمُطَهّرُكَ مِنَ الّذِينَ كَفَرُو} قال: إذ همّوا منك بـما همّوا.
5762ـ حدثنـي مـحمد بن سنان, قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي, عن عبـاد, عن الـحسن, فـي قوله: {وَمُطَهّرُكَ مِنَ الّذِينَ كَفَرُو} قال: طهره من الـيهود والنصارى والـمـجوس, ومن كفـار قومه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَجاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُوا إلـى يَوْمِ القِـيَامَةِ}.
(يعنـي بذلك جل ثناؤه: وجاعل الذين اتبعوك علـى منهاجك وملتك من الإسلام وفطرته فوق الذين جحدوا نبوتك, وخالفوا بسبـيـلهم جميع أهل الـملل, فكذبوا بـما جئت به, وصدوا عن الإقرار به, فمصيرهم فوقهم ظاهرين علـيهم.) كما:
5763ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة فـي قوله: {وَجَاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُوا إلـى يَوْمِ القِـيَامَةِ} هم أهل الإسلام الذين اتبعوه علـى فطرته وملته وسنته فلا يزالون ظاهرين علـى من ناوأهم إلـى يوم القـيامة.
5764ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: {وَجَاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُوا إلـى يَوْمِ القِـيَامَةِ} ثم ذكر نـحوه.
5765ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج: {وَجاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُوا إلـى يَوْمِ القِـيَامَةِ} ثم ذكر نـحوه.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج: {وَجَاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُوا إلـى يَوْمِ القِـيَامَةِ} قال: ناصر من اتبعك علـى الإسلام علـى الذين كفروا إلـى يوم القـيامة.
5766ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {وَجَاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُوا إلـى يَوْمِ القِـيَامَةِ} أما الذين اتبعوك, فـيقال: هم الـمؤمنون ولـيس هم الروم.
5767ـ حدثنـي مـحمد بن سنان, قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـيّ, عن عبـاد, عن الـحسن: {وَجَاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُوا إلـى يَوْمِ القِـيَامَةِ} قال: جعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلـى يوم القـيامة, قال: الـمسلـمون من فوقهم, وجعلهم أعلـى مـمن ترك الإسلام إلـى يوم القـيامة.
وقال آخرون: ومعنى ذلك: وجاعل الذين اتبعوك من النصارى فوق الـيهود. ذكر من قال ذلك:
5768ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قول الله: {وَمُطَهّرُكَ مِنَ الّذِينَ كَفَرُو} قال: الذين كفروا من بنـي إسرائيـل. {وَجَاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ} قال: الذين آمنوا به من بنـي إسرائيـل وغيرهم, {فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُو} النصارى فوق الـيهود إلـى يوم القـيامة, قال: فلـيس بلد فـيه أحد من النصارى إلا وهم فوق يهود فـي شرق ولا غرب, هم فـي البلدان كلها مستذلّون.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ثُمّ إِلـيّ مَرْجِعُكُمْ فأحْكُمُ بَـيْنَكُمْ فِمَا كُنْتُـمْ فِـيهِ تَـخْتَلِفُونَ}.
يعنـي بذلك جل ثناؤه: {ثمّ إلـيّ} ثم إلـى الله أيها الـمختلفون فـي عيسى, {مَرْجِعُكُمْ} يعنـي مصيركم يوم القـيامة, {فأحْكُمْ بَـيْنَكُمْ} يقول: فأقضي حينئذٍ بـين جميعكم فـي أمر عيسى بـالـحق فـيـما كنتـم فـيه تـختلفون من أمره. وهذا من الكلام الذي صرف من الـخبر عن الغائب إلـى الـمخاطبة, وذلك أن قوله: {ثُمّ إِلـيّ مَرْجِعُكُمْ} إنـما قصد به الـخبر عن متبعي عيسى والكافرين به.
وتأويـل الكلام: وجاعلُ الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلـى يوم القـيامة, ثم إلـيّ مرجع الفريقـين: الذين اتبعوك, والذين كفروا بك, فأحكم بـينهم فـيـما كانوا فـيه يختلفون. ولكن ردّ الكلام إلـى الـخطاب لسَبُوقِ القول علـى سبـيـل ما ذكرنا من الكلام الذي يخرج عل وجه الـحكاية, كما قال: {حتـى إذَا كُنْتُـمْ فِـي الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيّبَةٍ}.
الآية : 56-57
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{فَأَمّا الّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مّن نّاصِرِينَ * وَأَمّا الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الظّالِمِينَ }
يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {فَأمّا الّذِينَ كَفَرُو}: فأما الذين جحدوا نبوّتك يا عيسى, وخالفوا ملتك, وكذّبوا بـما جئتهم به من الـحقّ, وقالوا فـيك البـاطل, وأضافوك إلـى غير الذي ينبغي أن يضيفوك إلـيه من الـيهود والنصارى, وسائر أصناف الأديان¹ فإنـي أعذّبهم عذابـا شديدا¹ أما فـي الدنـيا فبـالقتل والسبـاء والذلة والـمسكنة¹ وأما فـي الاَخرة, فبنار جهنـم خالدين فـيها أبدا. {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} يقول: وما لهم من عذاب الله مانع, ولا عن ألـيـم عقابه لهم دافع بقوّة ولا شفـاعة, لأنه العزيز ذو الانتقام.
وأما قوله: {وأمّا الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِـحَاتِ} فإنه يعنـي تعالـى ذكره: وأما الذين آمنوا بك يا عيسى, يقول: صدّقوك فأقرّوا بنبوّتك, وبـما جئتهم به من الـحقّ من عندي, ودانوا بـالإسلام الذي بعثتك به, وعملوا بـما فرضت من فرائضي علـى لسانك, وشرعت من شرائعي, وسننت من سننـي. كما:
5769ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: {وَعَمِلُوا الصّالِـحَاتِ} يقول: أدوا فرائضي, فـيوفـيهم أجورهم, يقول: فـيعطيهم جزاء أعمالهم الصالـحة كاملاً لا يبخسون منه شيئا ولا ينقصونه.
وأما قوله: {وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الظّالِـمِينَ} فإنه يعنفي: والله لا يحبّ من ظلـم غيره حقا له, أو وضع شيئا فـي غير موضعه. فنفـى جلّ ثناؤه عن نفسه بذلك أن يظلـم عبـاده, فـيجازي الـمسيء مـمن كفر جزاء الـمـحسنـين مـمن آمن به, أو يجازي الـمـحسن مـمن آمن به واتبع أمره وانتهى عما نهاه عنه فأطاعه, جزاء الـمسيئين مـمن كفر به وكذّب رسله وخالف أمره ونهيه, فقال: إنـي لا أحبّ الظالـمين, فكيف أظلـم خـلقـي.
وهذا القول من الله تعالـى ذكره, وإن كان خرج مخرج الـخبر, كأنه وعيد منه للكافرين به وبرسله, ووعد منه للـمؤمنـين به وبرسله, لأنه أعلـم الفريقـين جميعا أنه لا يبخس هذا الـمؤمن حقه, ولا يظلـم كرامته, فـيضعها فـيـمن كفر به, وخالف أمره ونهيه, فـيكون لها بوضعها فـي غير أهلها ظالـما.
الآية : 58
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الاَيَاتِ وَالذّكْرِ الْحَكِيمِ }
يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: ذلك هذه الأنبـاء التـي أنبأ بها نبـيه عن عيسى وأمه مريـم, وأمها حنة, وزكريا وابنه يحيـى, وما قصّ من أمر الـحواريـين, والـيهود من بنـي إسرائيـل¹ نتلوها علـيك يا مـحمد, يقول: نقرؤها علـيك يا مـحمد, علـى لسان جبريـل صلى الله عليه وسلم, بوحيناها إلـيك {منَ الاَياتِ} يقول: من العبر والـحجج, علـى من حاجك من وفد نصارى نـجران ويهود بنـي إسرائيـل, الذين كذّبوك, وكذّبوا ما جئتهم به من الـحقّ من عندي. {والذّكْر} يعنـي: والقرآن {الـحَكِيـم} يعنـي: ذي الـحكمة الفـاصلة بـين الـحقّ والبـاطل, وبـينك وبـين ناسبـي الـمسيح إلـى غير نسبه. كما:
5770ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَـيْكَ مِنَ الاَياتِ وَالذّكْرِ الـحَكِيـمِ} القاطع الفـاصل الـحقّ, الذي لـم يخـلطه البـاطل من الـخبر عن عيسى, وعما اختلفوا فـيه من أمره, فلا تقبلن خبرا غيره.
5771ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَـيْكَ مِنَ الاَيَاتِ وَالذّكْرِ الـحَكِيـمِ} قال: القرآن.
5772ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ, عن ابن عبـاس قوله: {وَالذّكْرِ} يقول: القرآن الـحكيـم الذي قد كمل فـي حكمته.
الآية : 59
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{إِنّ مَثَلَ عِيسَىَ عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }
يعنـي جل ثناؤه: إن شبه عيسى فـي خـلقـي إياه من غير فحل ـ فأخبرْ به يا مـحمد الوفد من نصارى نـجران ـ عندي كشبه آدم الذي خـلقته من تراب, ثم قلت له كن فكان, من غير فحل, ولا ذكر, ولا أنثى. يقول: فلـيس خـلقـي عيسى من أمه من غير فحل, بأعجب من خـلقـي آدم من غير ذكر ولا أنثى, فكان لـحما, يقول: وأمري إذ أمرته أن يكون فكان, فكذلك خـلقـي عيسى أمرته أن يكون فكان.
وذكر أهل التأويـل أن الله عزّ وجلّ أنزل هذه الاَية احتـجاجا لنبـيه صلى الله عليه وسلم علـى الوفد من نصارى نـجران الذين حاجوه فـي عيسى. ذكر من قال ذلك:
5773ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن مغيرة, عن عامر, قال: كان أهل نـجران أعظم قوم من النصارى فـي عيسى قولاً, فكانوا يجادلون النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الاَية فـي سورة آل عمران: {إِنّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَـلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ قَالَ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ} إلـى قوله: {فَنَـجْعَلْ لَعْنَةَ اللّهِ علـى الكاذِبِـينَ}.
5774ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: {إِنّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَـلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ قَالَ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ}, وذلك أن رهطا من أهل نـجران قدموا علـى مـحمد صلى الله عليه وسلم, وكان فـيهم السيد والعاقب, فقالوا لـمـحمد: ما شأنك تذكر صاحبنا؟ فقال: «مَنْ هُوَ؟» قالوا: عيسى, تزعم أنه عبد الله, فقال مـحمد: «أجَلْ إِنّهُ عَبْدُ اللّهِ». قالوا له: فهل رأيت مثل عيسى, أو أنبئت به؟ ثم خرجوا من عنده, فجاءه جبريـل صلى الله عليه وسلم بأمر ربنا السميع العلـيـم, فقال: قل لهم إذا أتوك: {إِنّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ}... إلـى آخر الاَية.
5775ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: {إِنّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَـلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ قَالَ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ}: ذكر لنا أن سيدي أهل نـجران وأسقـفـيهم, السيد والعاقب, لقـيا نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم, فسألاه عن عيسى؟ فقالا: كل آدميّ له أب فما شأن عيسى لا أب له؟ فأنزل الله عزّ وجلّ فـيه هذه الاَية: {إِنّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَـلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ قَالَ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ}.
5776ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: {إِنّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَـلَقَهُ مِنْ تُرَاب} لـما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم, وسمع به أهل نـجران, أتاه منهم أربعة نفر من خيارهم, منهم: العاقب, والسيد, وماسرجس, وماريحز, فسألوه ما يقول فـي عيسى؟ فقال: هو عبد الله وروحه وكلـمته, قالوا هم: لا, ولكنه هو الله, نزل من ملكه, فدخـل فـي جوف مريـم, ثم خرج منها فأرانا قدرته وأمره, فهل رأيت قط إنسانا خـلق من غير أب؟ فأنزل الله عزّ وجلّ: {إِنّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَـلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ قَالَ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ}.
5777ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريح, عن عكرمة, قوله: {إِنّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَـلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ قَالَ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ}. قال: نزلت فـي العاقب والسيد من أهل نـجران, وهما نصرانـيان. قال ابن جريج: بلغنا أن نصارى أهل نـجران قدم وفدهم علـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فـيهم السيد والعاقب, وهما يومئذٍ سيدا أهل نـجران, فقالوا: يا مـحمد فـيـم تشتـم صاحبنا؟ قال: «مَنْ صَاحِبُكُما؟» قالا: عيسى ابن مريـم, تزعم أنه عبد. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أجَلْ إِنّهُ عَبْدُ اللّهِ وَكَلِـمَتُهُ ألْقاهَا إِلـى مَرْيَـمَ وَرُوحٌ مِنْهُ», فغضبوا وقالوا: إن كنت صادقا, فأرنا عبدا يحيـي الـموتـى, ويبرىء الأكمه, ويخـلق من الطين كهيئة الطير, فـينفخ فـيه, الاَية... لكنه الله! فسكت حتـى أتاه جبريـل, فقال: يا مـحمد {لَقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قَالُوا إِنّ اللّهَ هُوَ الـمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَـمَ}... الاَية, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا جِبْرِيـلُ إِنّهُمْ سألُونِـي أنْ أُخْبِرَهُمْ بِـمَثَلِ عِيسَى». قال جبريـل: مثل عيسى كمثل آدم خـلقه من تراب ثم قال له كن فـيكون. فلـما أصبحوا عادوا, فقرأ علـيهم الاَيات.
5778ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {إِنّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّهِ} فـاسمع! {كَمَثَلِ آدَمَ خَـلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ قَالَ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ الـحَقّ مِنْ رَبّكَ فَلاَ تَكُنْ مِنَ الـمُـمْتَرِين}. فإن قالوا: خـلق عيسى من غير ذكر, فقد خـلقت آدم من تراب بتلك القدرة, من غير أنثى ولا ذكر فكان كما كان عيسى لـحما ودما وشعرا وبشرا, فلـيس خـلق عيسى من غير ذكر بأعجب من هذا.
5779ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قول الله عزّ وجلّ {إِنّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَـلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} قال: أتـى نـجرانـيان إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا له: هل علـمت أن أحدا ولد من غير ذكر فـيكون عيسى كذلك؟ قال: فأنزل الله عزّ وجلّ: {إِنّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَـلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ قَالَ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ} أكان لاَدم أب أو أم, كما خـلقت هذا فـي بطن هذه؟
فإن قال قائل: فكيف قال: «كمثل آدم خـلقه», وآدم معرفة, والـمعارف لا توصل؟ قـيـل: إن قوله: {خَـلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} غير صلة لاَدم, وإنـما هو بـيان عن أمره علـى وجه التفسير عن الـمثل الذي ضربه وكيف كان.
وأما قوله: {ثُمّ قَالَ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ} فإنـما قال: «فـيكون», وقد ابتدأ الـخبر عن خـلق آدم, وذلك خبر عن أمر قد تقضى, وقد أخرج الـخبر عنه مخرج الـخبر عما قد مضى, فقال جل ثناؤه: {خَـلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ قَالَ لَهُ كُنْ}, لأنه بـمعنى الإعلام من الله نبـيه أن تكوينه الأشياء بقوله: {كُنْ}, ثم قال: «فـيكون» خبرا مبتدأ, وقد تناهى الـخبر عن أمر آدم عند قوله: «كن».
فتأويـل الكلام إذا: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم, خـلقه من تراب, ثم قال له كن¹ واعلـم يا مـحمد أن ما قال له ربك: كن, فهو كائن. فلـما كان فـي قوله: {كَمَثَلِ آدَمَ خَـلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ قَالَ لَهُ كُنْ} دلالة علـى أن الكلام يراد به إعلام نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم وسائر خـلقه أنه كائن ما كوّنه ابتداء من غير أصل ولا أول ولا عنصر, استغنى بدلالة الكلام علـى الـمعنى, وقـيـل: فـيكون, فعطف بـالـمستقبل علـى الـماضي علـى ذلك الـمعنى. وقد قال بعض أهل العربـية: فـيكون رفع علـى الابتداء ومعناه: كن فكان, فكأنه قال: فإذا هو كائن.
الآية : 60
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{الْحَقّ مِن رّبّكَ فَلاَ تَكُنْ مّن الْمُمْتَرِينَ }
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: الذي أنبأتك به من خبر عيسى, وأن مثله كمثل آدم خـلقه من تراب. ثم قال له ربه: كن هو الـحقّ من ربك, يقول: هو الـخبر الذي هو من عند ربك¹ {فَلاَ تَكُنْ مِنَ الـمُـمْترينَ} يعنـي: فلا تكن من الشاكين فـي أن ذلك كذلك. كما:
5780ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {الـحَقّ مِنْ رَبّكَ فَلاَ تَكُنْ مِنَ الـمُـمْتَرِينَ} يعنـي فلا تكن فـي شكّ من عيسى أنه كمثل آدم عبد الله ورسوله, وكلـمة الله وروحه.
5781ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, قوله: {الـحَقّ مِنْ رَبّكَ فَلاَ تَكُنْ مِنَ الـمُـمْتَرِينَ} يقول: فلا تكن فـي شكّ مـما قصصنا علـيك أن عيسى عبد الله ورسوله وكلـمة منه وروح, وأن مثله عند الله كمثل آدم خـلقه من تراب ثم قال له كن فـيكون.
5782ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {الـحَقّ مِنْ رَبّكَ} ما جاءك من الـخبر عن عيسى, {فَلا تَكُنْ مِنَ الـمُـمْتَرِينَ}: أي قد جاءك الـحقّ من ربك فلا تـمتر فـيه.
5783ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: {فَلاَ تَكُنْ مِنَ الـمُـمْتَرِينَ} قال: والـمـمترون: الشاكون.
والـمرية والشكّ والريب واحد سواء كهيئة ما تقول: أعطنـي وناولنـي وهلـمّ, فهذا مختلف فـي الكلام وهو واحد.
الآية : 61
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{فَمَنْ حَآجّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ }
يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {فَمَنْ حاجّكَ فِـيهِ}: فمن جادلك يا مـحمد فـي الـمسيح عيسى ابن مريـم. والهاء فـي قوله: {فِـيهِ} عائدة علـى ذكر عيسى, وجائز أن تكون عائدة علـى الـحقّ الذي قال تعالـى ذكره: {الـحَقّ مِنْ رَبّكَ}. ويعنـي بقوله: {مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ العِلْـمِ}: من بعد ما جاءك من العلـم الذي قد بـينته لك فـي عيسى أنه عبد الله. {فَقُلْ تَعَالَوْ} هلـموا فلندعْ أبناءنا وأبناءكم, ونساءنا ونساءكم, وأنفسنا وأنفسكم, {ثم نَبْتَهِلْ} يقول: ثم نلتعن, يقال فـي الكلام: ما له بَهَلَهَ الله! أي لعنه الله, وما له علـيه بُهْلَة الله! يريد اللعن. وقال لَبـيد, وذكر قوما هلكوا, فقال:
نَـظَـرَ الـدّهْـرُ إِلَـيْهِـمْ فَـابْـتَـهَـلْ
يعنـي دعا علـيهم بـالهلاك. {فَنَـجْعَل لَعْنَةَ اللّهِ عَلَـى الكَاذِبِـينَ} منا ومنكم فـي آية عيسى. كما:
5784ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {فَمَنْ حَاجّكَ فِـيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ العِلْـمِ}: أي فـي عيسى أنه عبد الله ورسوله من كلـمة الله وروحه. {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْع أبْناءَنا وأبْناءَكُمْ} إلـى قوله: {علـى الكاذِبِـينَ}.
5785ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {فَمَنْ حاجّكَ فِـيهِ مِنْ بَعْدِ ما جَاءَكَ مِنَ العِلْـمِ}: أي من بعد ما قصصت علـيك من خبره, وكيف كان أمره {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أبْنَاءَنَا وَأبْناءَكُمْ}... الاَية.
5786ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, قوله: {فَمَنْ حاجّكَ فِـيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ العِلْـمِ} يقول: من حاجك فـي عيسى من بعد ما جاءك فـيه من العلـم.
5787ـ حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: {ثُمّ تَبْتَهِلْ فَنَـجْعَلْ لَعْنَةَ اللّهِ علـى الكاذِبِـينَ} قال: منا ومنكم.
5788ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: وثنـي ابن لهيعة, عن سلـيـمان بن زياد الـحضرمي عن عبد الله بن الـحارث بن جزء الزبـيدي, أنه سمع النبـيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «لَـيْتَ بَـيْنِـي وَبَـيْنَ أهْلِ نَـجْرَانَ حِجابـا فَلا أرَاهُمْ وَلا يَرَوْنِـي» من شدّة ما كانوا يـمارون النبـيّ صلى الله عليه وسلم