تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 65 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 65

064

وقوله 116- "إن الذين كفروا" قيل: هم بنو قريظة والنضير. قال مقاتل: لما ذكر تعالى مؤمني أهل الكتاب ذكر كفارهم في هذه الآية. والظاهر أن المراد بذلك كل من كفر بما يجب الإيمان به. ومعنى "لن تغني" لن تدفع، وخص الأولاد لأنهم أحب القرابة وأراجاهم لدفع ما ينوبه.
وقوله 117- "مثل ما ينفقون" بيان لعدم إغناء أموالهم التي كانوا يعولون عليها. والصبر: البرد الشديد، أصله من الصرير الذي هو الصوت/ فهو صوت الريح الشديد. وقال الزجاج: صوت لهب النار التي في تلك الريح. ومعنى الآية: مثل نفقة الكافرين في بطلانها وذهابها وعدم منفعتها كمثل زرع أصابه ريح باردة أو نار فأحرقته أو أهلكته فلم ينتفع أصحابه بشيء منه بعد أن كانوا على طمع من نفعه وفائدته. وعلى هذا فلا بد من تقدير في جانب المشبه به فيقال: كمثل زرع أصابته ريح فيها صر، أو مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم "وما ظلمهم الله" أي المنفقين من الكافرين "ولكن أنفسهم يظلمون" بالكفر المانع من قبول النفقة التي أنفقوها، وتقديم المفعول لرعاية الفواصل لا للتخصيص، لأن الكلام في الفعل باعتبار تعلقه بالفاعل لا بالمفعول. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن منده وأبو نعيم في المعرفة والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن ابن عباس قال: لما أسلم عبد الله بن سلام وثعلبة بن سعيد وأسيد بن سعيد، ومن أسلم من يهود معهم فآمنوا وصدقوا ورغبوا في الإسلام، قالت أحبار يهود وأهل الكفر منهم: ما آمن بمحمد وتبعه إلا شرارنا، ولو كانوا خيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره فأنزل الله "ليسوا سواء" الآية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه "أمة قائمة" يقول: مهتدية قائمة على أمر الله لم تنزع عنه ولم تتركه الآخرون وضيعوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم قال "أمة قائمة" عادلة. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "آناء الليل" قال: جوف الليل. وأخرج ابن جرير عن الربيع قال: ساعات الليل. وأخرج عبد بن حميد والبخاري في تاريخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله "ليسوا سواء" قال: لا يستوي أهل الكتاب وأمة محمد "يتلون آيات الله آناء الليل" قال: صلاة العتمة هم يصلونها، ومن سواهم من أهل الكتاب لا يصلونها. وأخرج أحمد والنسائي والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني. قال السيوطي بسند حسن عن ابن مسعود قال: "أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء ليلة، ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة، فقال: أما إنه ليس من أهل هذه الأديان أحد يذكر الله هذه الساعة غيركم" ولفظ ابن جرير والطبراني فقال: إنه لا يصلي هذه الصلاة أحد من أهل الكتاب. قال: وأنزلت هذه الآية " ليسوا سواء ". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن منصور قال: بلغني أنها نزلت هذه الآية "يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون" فيما بين المغرب والعشاء. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة " فلن يكفروه " قال: لن يضل عنكم. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن " فلن يكفروه " قال: لن تظلموه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في الآية يقول "مثل ما ينفقون" أي المشركون، ولا يتقبل منهم كمثل هذا الزرع إذا زرعه القوم الظالمون فأصابه ريح فيها صر فأهلكته فكذلك أنفقوا فأهلكهم شركهم. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "فيها صر" قال: برد شديد.
البطانة: مصدر يسمى به الواحد والجمع، وبطانة الرجل: خاصته الذين يستبطنون أمره، وأصله البطن الذي هو خلاف الظهر، وبطن فلان بفلان يبطن بطوناً وبطانة: إذا كان خالصاً به، ومنه قول الشاعر: وهم خلصائي كلهم وبطانتي وهم عيبتي من دون كل قريب قوله 118- "من دونكم" أي: من سواكم قاله الفراء: أي من دون المسلمين وهم الكفار: أي بطانة كائنة من دونكم، ويجوز أن يتعلق بقوله "لا تتخذوا". وقوله "لا يألونكم خبالاً" في محل نصب صفة البطانة، يقال: لا ألوك جهداً: أي لا أقصر. قال امرؤ القيس: وما المرء ما دامت حشاشة نفسه بمدرك أطراف الخطوب ولا آل والمراد لا يقصرون فيما فيه الفساد عليكم، وإنما عدي إلى مفعولين لكونه مضمناً معنى المنع: أي لا يمنعوكم خبالاً، والخبال والخبل: الفساد في الأفعال والأبدان والعقول. قال أوس: أبني لبني لستم بيد إلا يد مخبولة العضد أي فاسدة العضد. قوله "ودوا ما عنتم" ما مصدرية: أي ودوا عنتكم، والعنت المشقة وشدة الضرر. والجملة مستأنفة مؤكدة للنهي. قوله "قد بدت البغضاء" هي شدة البغض كالضراء لشدة الضر. والأفواه جمع فم. والمعنى: أنها قد ظهرت البغضاء في كلامهم لأنهم لما خامرهم من شدة البغض والحسد أظهرت ألسنتهم ما في صدورهم، فتركوا التقية وصرحوا بالتكذيب. أما اليهود فالأمر في ذلك واضح. وأما المنافقون فكان يظهر من فلتات ألسنتهم ما يكشف عن خبث طويتهم. وهذه الجملة مستأنفة لبيان حالهم "وما تخفي صدورهم أكبر" لأن فلتات اللسان أقل مما تجنه الصدور، بل تلك الفلتات بالنسبة إلى ما في الصدور قليلة جداً. ثم إنه سبحانه امتن عليهم ببيان الآيات الدالة على وجوب الإخلاص إن كانوا من أهل العقول المدركة لذلك البيان.
قوله 119- "ها أنتم أولاء" جملة مصدرة بحرف التنبيه: أي أنتم أولاء الخاطئون في موالاتهم، ثم بين خطأهم بتلك الموالاة بهذه الجملة التذليلية. فقال "تحبونهم ولا يحبونكم"، وقيل إن قوله "تحبونهم" خبر ثان لقوله أنتم، وقيل: إن أولاء موصول وتحبونهم صلته أي: تحبونهم لما أظهروا لكم الإيمان أو لما بينكم وبينهم من القرابة "ولا يحبونكم" لما قد استحكم في صدورهم من الغيظ والحسد. قوله "وتؤمنون بالكتاب كله" أي بجنس الكتاب جميعاً. ومحل الجملة النصب على الحال: أي لا يحبونكم والحال أنكم مؤمنون بكتب الله سبحانه التي من جملتها كتابهم فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بكتابكم. وفيه توبيخ لهم شديد، لأن من بيده الحق أحق بالصلابة والشدة ممن هو على الباطل. "وإذا لقوكم قالوا آمنا" نفاقاً وتقية "وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ" تأسفاً وتحسراً، حيث عجزوا عن الانتقام منكم. والعرب تصف المغتاظ والنادم بعض الأنامل والبنان، ثم أمره الله سبحانه بأن يدعو عليهم، فقال "قل موتوا بغيظكم" وهو يتضمن استمرار غيظهم ما داموا في الحياة حتى يأتيهم الموت وهم عليه، ثم قال "إن الله عليم بذات الصدور" فهو يعلم ما في صدوركم وصدورهم، والمراد بذات الصدور: الخواطر القائمة بها، وهو كلام داخل تحت قوله "قل" فهو من جملة المقول.
قوله 120- "إن تمسسكم حسنة تسؤهم" هذه الجملة مستأنفة لبيان تناهي عداوتهم، وحسنة وسيئة يعمان كل ما يحسن وما يسوء. وعبر بالمس في الحسنة وبالإصابة في السيئة، للدلالة على أن مجرد مس الحسنة يحصل به المساءة، ولا يفرحون إلا بإصابة السيئة، وقيل: إن المس مستعار لمعنى الإصابة. ومعنى الآية: أن من كانت هذه حالته لم يكن أهلاً لأن يتخذ بطانة "وإن تصبروا" على عداوتهم أو على التكاليف الشاقة "وتتقوا" موالاتهم، أو ما حرمه الله عليكم "لا يضركم كيدهم شيئاً"، يقال: ضاره يضوره ويضيره ضيراً وضيوراً: بمعنى ضره يضره، وبه قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو. وقرأ الكوفيون وابن عامر "لا يضركم" بضم الراء وتشديدها من ضر يضر، فهو على القراءة الأولى مجزوم على أنه جواب الشرط، وعلى القراءة الثانية مرفوع على تقدير إضمار الفاء كما في قول الشاعر: من يفعل الحسنات الله يشكرها قاله الكسائي والفراء، وقال سيبويه: إنه مرفوع على نية التقديم: أي لا يضركم أن تصبروا. وحكى أبو زيد عن المفضل عن عاصم "لا يضركم" بفتح الراء، وشيئاً صفة مصدر محذوف. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان رجال من المسلمين يواصلون رجالاً من يهود لما كان بيهم من الجوار والحلف في الجاهلية، فأنزل الله فيهم ينهاهم عن مباطنتهم لخوف الفتنة عليهم منهم "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة" الآية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال: هم النافقون. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هم الخوارج. قال السيوطي وسنده جيد. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله "وتؤمنون بالكتاب كله" أي: بكتابكم وبكتابهم وبما مضى من الكتب قبل ذلك، وهم يكفرون بكتابكم، فأنتم أحق بالبغضاء لهم منهم لكم. واخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل "إن تمسسكم حسنة" يعني النصر على العدو والرزق والخير "تسؤهم وإن تصبكم سيئة" يعني القتل والهزيمة والجهد.
العامل في إذ فعل محذوف: أي واذكر إذ غدوت من منزل أهلك: أي من المنزل الذي فيه أهلك. وقد ذهب الجمهور إلى أن هذه الآية نزلت في غزوة أحد. وقال الحسن: في يوم بدر. وقال مجاهد ومقاتل والكلبي: في غزوة الخندق. قوله 121- " تبوء " أي: تتخذ لهم مقاعد للقتال، وأصل التبوء اتخاذ المنزل، يقال بوأته منزلاً: إذا أسكنته إياه، والفعل في محل نصب على الحال. ومعنى الآية: واذكر إذ خرجت من منزل أهلك تتخذ للمؤمنين مقاعد للقتال: أي أماكن يقعدون فيها، وعبر عن الخروج بالغدو الذي هو الخروج غدوة مع كونه صلى الله عليه وسلم خرج بعد صلاة الجمعة كما سيأتي، لأنه قد يعبر بالغدو والرواح عن الخروج والدخول من غير اعتبار أصل معناهما كما يقال، أضحى وإن لم يكن في وقت الضحى.