تفسير الطبري تفسير الصفحة 65 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 65
066
064
 الآية : 116
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مّنَ اللّهِ شَيْئاً وَأُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
وهذا وعيد من الله عزّ وجلّ للأمة الأخرى الفـاسقة من أهل الكتاب, الذين أخبر عنهم بأنهم فـاسقون وأنهم قد بـاءوا بغضب منه, ولـمن كان من نظرائهم من أهل الكفر بـالله ورسوله, وما جاء به مـحمد صلى الله عليه وسلم من عندالله. يقول تعالـى ذكره: {إنّ الّذِينَ كَفَرُو} يعنـي الذين جحدوا نبوّة مـحمد صلى الله عليه وسلم, وكذبوا به, وبـما جاءهم به من عند الله¹ {لَنْ تُغْنِى عَنْهُمْ أمْوَالُهُمْ وَلا أوْلادُهُمْ مِنَ اللّهِ شَيْئ} يعنـي: لن تدفع أمواله التـي جمعها فـي الدنـيا وأولاده الذين ربـاهم فـيها شيئا من عقوبة الله يوم القـيامة إن أخرها لهم إلـى يوم القـيامة, ولا فـي الدنـيا إن عجلها لهم فـيها. وإنـما خصّ أولاده وأمواله, لأن أولاد الرجل أقرب أنسبـائه إلـيه, وهو علـى ماله أقرب منه علـى مال غيره, وأمره فـيه أجوز من أمره فـي مال غيره, فإذا لـم يغن عنه ولده لصلبه وماله الذي هو نافذ الأمر فـيه, فغير ذلك من أقربـائه وسائر أنسبـائه وأموالهم أبعد من أن تغنـي عنه من الله شيئا. ثم أخبر جلّ ثناؤه أنهم هم أهل النار الذين هم أهلها بقوله: {وأُولَئِكَ أصحَابُ النّارِ}¹ وإنـما جعلهم أصحابها, لأنهم أهلها الذين لا يخرجون منها ولا يفـارقونها, كصاحب الرجل الذي لا يفـارقه وقرينه الذي لا يزايـله. ثم وكد ذلك بإخبـاره عنهم أنهم فـيها خالدون, صحبتهم إياها صحبة لا انقطاع لها, إذْ كان من الأشياء ما يفـارق صاحبه فـي بعض الأحوال ويزايـله فـي بعض الأوقات, ولـيس كذلك صحبة الذين كفروا النار التـي أصلوها, ولكنها صحبة دائمة لا نهاية لها ولا انقطاع, نعوذ بـالله منها ومـما قرّب منها من قول وعمل.
الآية : 117
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هِـَذِهِ الْحَيَاةِ الدّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوَاْ أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَـَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: شبه ما ينفق الذين كفروا: أي شبه ما يتصدق به الكافر من ماله, فـيعطيه من يعطيه علـى وجه القربة إلـى ربه, وهو لوحدانـية الله جاحد ولـمـحمد صلى الله عليه وسلم مكذّب فـي أن ذلك غير نافعه مع كفره, وأنه مضمـحلّ عند حاجته إلـيه ذاهب بعد الذي كان يرجو من عائدة نفعه علـيه, كشبه ريح فـيها برد شديد {أصَابَتْ} هذه الريح التـي فـيها البرد الشديد {حَرْثَ قَوْمٍ} يعنـي زرع قوم, قد أمّلوا إدراكه, ورجوا ريعه وعائدة نفعه, {ظَلَـمُوا أَنْفُسُهُمْ} يعنـي أصحاب الزرع, عصوا الله, وتعدّوا حدوده {فَـأَهْلَكَتْهُ} يعنـي فأهلكت الريح التـي فـيها الصرّ زرعهم ذلك, بعد الذي كانوا علـيه من الأمل, ورجاء عائدة نفعه علـيهم. يقول تعالـى ذكره: فكذلك فعل الله بنفقة الكافر وصدقته فـي حياته حين يـلقاه يبطل ثوابها, ويخيب رجاءه منها. وخرج الـمثل للنفقة, والـمراد بـالـمثل: صنـيع الله بـالنفقة, فبـين ذلك قوله: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِـيها صُرّ} فهو كما قد بـينا فـي مثله من قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نار} وما أشبه ذلك.
فتأويـل الكلام: مثل إبطال الله أجر ما ينفقون فـي هذه الـحياة الدنـيا, كمثل ريح صرّ. وإنـما جاز ترك ذكر إبطال الله أجر ذلك لدلالة آخر الكلام علـيه, وهو قوله: {كَمَثَلِ ريحٍ فِـيها صِرٌ} ولـمعرفة السامع ذلك معناه.
واختلف أهل التأويـل فـي معنى النفقة التـي ذكرها فـي هذه الاَية, فقال بعضهم: هي النفقة الـمعروفة فـي الناس. ذكر من قال ذلك:
6189ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله عزّ وجلّ: {مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِـي هَذِهِ الـحَياةِ الدّنْـي} قال: نفقة الكافر فـي الدنـيا.
وقال آخرون: بل ذلك قوله الذي يقوله بلسانه مـما لا يصدّقه بقلبه. ذكر من قال ذلك:
6190ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: ثنـي أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِـي هَذِهِ الـحَياةِ الدّنـيْا كَمَثَلِ رِيحٍ فِـيها صِرّ أصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَـمُوا أَنْفُسَهُمْ فأهْلَكَتْهُ} يقول: مثل ما يقول فلا يقبل منه كمثل هذا الزرع إذا زرعه القوم الظالـمون, فأصابه ريح فـيها صرّ أصابته فأهلكته. فكذلك أنفقوا فأهلكهم شِرْكهم.
وقد بـينا أولـى ذلك بـالصواب قبل. وقد تقدم بـياننا تأويـل الـحياة الدنـيا بـما فـيه الكفـاية من إعادته فـي هذا الـموضع. وأما الصرّ, فإنه شدة البرد, وذلك بُعُصوف من الشمال فـي إعصار الطّلّ والأنداء فـي صبـيحة معتـمة بعقب لـيـلة مصحية. كما:
6191ـ حدثنا حميد بن مسعدة, قال: حدثنا يزيد بن زريع, عن عثمان بن غياث, قال: سمعت عكرمة يقول: {رِيحٍ فِـيها صِرّ} قال: برد شديد.
6192ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج, قال ابن عبـاس: {رِيحٍ فِـيها صِرّ} قال: برد شديد وزمهرير.
6193ـ حدثنا علـيّ بن داود, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ. عن ابن عبـاس, قوله: {رِيحٍ فِـيها صِرّ} يقول: برد.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, عن هارون بن عنترة, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: الصرّ: البرد.
6194ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {كَمَثلِ رِيحٍ فِـيها صِرّ}: أي برد شديد.
6195ـ حدثت عن عمار, عن ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, مثله.
6196ـ حدثنا مـحمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ فـي الصرّ: البرد الشديد.
حدثنا مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: حدثنا عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِـيها صِرّ} يقول: ريح فـيها برد.
6197ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: {رِيحٍ فِـيها صِرّ} قال: صر بـاردة أهلكت حرثهم. قال: والعرب تدعوها الضّريب: تأتـي الريح بـاردة فتصبح ضريبـا قد أحرق الزرع, تقول: «قد ضُرب اللـيـلة» أصابه ضريب تلك الصرّ التـي أصابته.
6198ـ حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا جويبر, عن الضحاك: {رِيحٌ فِـيها صِرّ} قال: ريح فـيها برد.
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: وما فعل الله بهؤلاء الكفـار ما فعل بهم, من إحبـاطه ثواب أعمالهم, وإبطاله أجورها ظلـما منه لهم, يعنـي: وضعا منه لـما فعل بهم من ذلك فـي غير موضعه وعند غير أهله, بل وضع فعله ذلك فـي موضعه, وفعل بهم ما هم أهله, لأن عملهم الذي عملوه لـم يكن لله, وهم له بـالوحدانـية دائنون ولأمره متبعون, ولرسله مصدّقون. بل كان ذلك منهم وهم به مشركون, ولأمره مخالفون, ولرسله مكذّبون, بعد تقدّم منه إلـيهم أنه لا يقبل عملاً من عامل إلا مع إخلاص التوحيد له, والإقرار بنبوّة أنبـيائه, وتصديق ما جاءوهم به, وتوكيده الـحجج بذلك علـيهم. فلـم يكن بفعله ما فعل بـمن كفر به وخالف أمره فـي ذلك بعد الإعذار إلـيه من إحبـاط وافر عمله له ظالـما, بل الكافر هو الظالـم نفسه لإكسابها من معصية الله وخلاف أمره ما أوردها به نار جهنـم وأصلاها به سعير سقر.
الآية : 118
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدّواْ مَا عَنِتّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيّنّا لَكُمُ الاَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ }
يعنـي بذلك تعالـى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله, وأقرّوا بـما جاءهم به نبـيهم من عند ربهم, {لا تَتّـخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} يقول: لا تتـخذوا أولـياء وأصدقاء لأنفسكم من دونكم, يقول: من دون أهل دينكم وملتكم, يعنـي من غير الـمؤمنـين. وإنـما جعل البطانة مثلاً لـخـلـيـل الرجل فشبهه بـما ولـي بطنه من ثـيابه لـحلوله منه فـي اطلاعه علـى أسراره, وما يطويه عن أبـاعده وكثـير من أقاربه, مـحلّ ما ولـي جسده من ثـيابه, فنهى الله الـمؤمنـين به أن يتـخذوا من الكفـار به أخلاء وأصفـياء ثم عرّفهم ما هم علـيه لهم منطوون من الغشّ والـخيانة, وبغيهم إياهم الغوائل, فحذّرهم بذلك منهم عن مخالّتهم, فقال تعالـى ذكره: {لا يَألُونَكُم خَبـال} يعنـي لا يستطيعُونَكُمْ شرّا, من أَلَوْتُ آلُو ألُوّا, يقال: ما ألا فلان كذا, أي ما استطاع, كما قال الشاعر:
جَهْراءُ لا تأْلُو إذا هِيَ أظْهَرَتْبَصَرا وَلا مِنْ عَيْـلَةٍ تُغْنِـينـي
يعنـي لا تستطيع عند الظهر إبصارا.
وإنـما يعنـي جلّ ذكره بقوله: {لا يَأْلُونَكُمْ خَبـال} البطانة التـي نهى الـمؤمنـين عن اتـخاذها من دونهم, فقال: إن هذه البطانة لا تترككم طاقتها خبـالاً: أي لا تدع جهدها فـيـما أورثكم الـخبـال. وأصل الـخبـال والـخبـال: الفساد, ثم يستعمل فـي معان كثـيرة, يدلّ علـى ذلك الـخبر عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أُصِيبَ بَخْبلٍ ـ أو جِرَاحٍ».
وأما قوله: {وَدّوا ما عَنِتّـمْ} فإنه يعنـي: ودّوا عنتكم, يقول: يتـمنون لكم العنت والشرّ فـي دينكم وما يسوءكم ولا يسرّكم. وذكر أن هذه الاَية نزلت فـي قوم من الـمسلـمين كانوا يخالطون حلفـاءهم من الـيهود وأهل النفـاق منهم, ويصافونهم الـمودة بـالأسبـاب التـي كانت بـينهم فـي جاهلـيتهم قبل الإسلام, فنهاهم الله عن ذلك وأن يستنصحوهم فـي شيء من أمورهم. ذكر من قال ذلك:
6199ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن مـحمد بن إسحاق, قال: قال مـحمد بن أبـي مـحمد, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, قال: كان رجال من الـمسلـمين يواصلون رجالاً من الـيهود لـما كان بـينهم من الـجوار والـحلف فـي الـجاهلـية, فأنزل الله عزّ وجلّ فـيهم, فنهاهم عن مبـاطنتهم تـخوّف الفتنة علـيهم منهم: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّـخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ} إلـى قوله: {وَتُؤمِنُونَ بـالكِتابِ كُلّه}.
6200ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله عزّ وجلّ: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّـخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خبَـال} فـي الـمنافقـين من أهل الـمدينة, نهى الله عزّ وجلّ الـمؤمنـين أن يتولوهم.
6201ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّـخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَألُونَكُمْ خَبـالاً وَدّوا ما عَنِتـمْ} نهى الله عزّ وجلّ الـمؤمنـين أن يستدخـلوا الـمنافقـين أو يؤاخوهم, أي يتولوهم من دون الـمؤمنـين.
6202ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: {لا تَتّـخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ} هم الـمنافقون.
6203ـ حدثت عن عمار. قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّـخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُم لا يأْلونَكُمْ خَبـال} يقول: لا تستدخـلوا الـمنافقـين, تتولوهم دون الـمؤمنـين.
6204ـ حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيـم, قالا: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا العوام بن حوشب, عن الأزهر بن راشد, عن أنس بن مالك, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تَسْتَضِيئُوا بِنارِ أهْلِ الشّرْكِ, وَلا تَنْقُشُوا فِـي خَوَاتِـيـمِكُمْ عَرَبِـيّا» قال: فلـم ندر ما ذلك حتـى أتوا الـحسن فسألوه, فقال: نعم, أما قوله: «لا تَنْقُشُوا فـي خَوَاتِـيـمِكُمْ عَرَبـيّا», فإنه يقول: لا تنقشوا فـي خواتـيـمكم «مـحمد»¹ وأما قوله: «ولا تَسْتَـيضِئُوا بَنارِ أهْل الشّرْكِ», فإنه يعنـي به الـمشركين, يقول: لا تستشيروهم فـي شيء من أموركم. قال: قال الـحسن: وتصديق ذلك فـي كتاب الله, ثم تلا هذه الاَية: {يا أيها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّـخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ}.
6205ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّـخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ} أما البطانة: فهم الـمنافقون.
6206ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّـخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ}... الاَية, قال: لا يستدخـل الـمؤمن الـمنافق دون أخيه.
6207ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنوا لا تَتّـخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ}... الاَية, قال: هؤلاء الـمنافقون, وقرأ قوله: {قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ}... الاَية.
واختلفوا فـي تأويـل قوله {وَدّوا ما عَنِتّـمْ} فقال بعضهم معناه: ودّوا ما ضللتـم عن دينكم. ذكر من قال ذلك:
6208ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: {وَدّوا ما عَنِتّـمْ} يقول: ما ضللتـم.
وقال آخرون بـما:
6209ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج: {وَدّوا ما عَنِتّـمْ} يقول فـي دينكم, يعنـي: أنهم يودّون أن تعنتوا فـي دينكم.
فإن قال لنا قائل: وكيف قـيـل: {وَدّوا ما عَنِتّـمْ} فجاء بـالـخبر عن البطانة بلفظ الـماضي فـي مـحل الـحال والقطع بعد تـمام الـخبر, والـحالات التـي لا تكون إلا بصور الأسماء والأفعال الـمستقبلة دون الـماضية منها؟ قـيـل: لـيس الأمر فـي ذلك علـى ما ظننت من أن قوله: {وَدّوا ما عَنِتّـمّ} حال من البطانة, وإنـما هو خبر عنهم ثان, منقطع عن الأوّل غير متصل به. وإنـما تأويـل الكلام: يا أيها الذين آمنوا لا تتـخذوا بطانة صفتهم كذا صفتهم كذا. فـالـخبر عن الصفة الثانـية غير متصل بـالصفة الأولـى, وإن كانتا جميعا من صفة شخص واحد.
وقد زعم بعض أهل العربـية أن قوله: {وَدّوا ما عَنِتّـمْ} من صلة البطانة, وقد وصلت بقوله: {لا يَألُونَكُمْ خَبـال} فلا وجه لصلة أخرى بعد تـمام البطانة بصلته, ولكن القول فـي ذلك كما بـينا قبل من أن قوله: {وَدّوا ما عَنِتّـمْ} خبر مبتدأ عن البطانة غير الـخبر الأوّل, وغير حال من البطانة ولا قطع منها.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ}.
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: قد بدت بغضاء هؤلاء الذين نهيتكم أيها الـمؤمنون أن تتـخذوهم بطانة من دونكم لكم بأفواههم, يعنـي بألسنتهم. والذي بدا لهم منهم بألسنتهم إقامتهم علـى كفرهم, وعدواتهم من خالف ما هم علـيه مقـيـمون من الضلالة, فذلك من أوكد الأسبـاب من معاداتهم أهل الإيـمان, لأن ذلك عداوة علـى الدين, والعداوة علـى الدين, العداوة التـي لا زوال لها إلا بـانتقال أحد الـمتعاديـين إلـى ملة الاَخر منهما, وذلك انتقال من هدى إلا ضلالة كانت عند الـمنتقل إلـيها ضلالة قبل ذلك, فكان فـي إبدائهم ذلك للـمؤمنـين ومقامهم علـيه أبـين الدلالة لأهل الإيـمان علـى ما هم علـيه من البغضاء والعداوة.
وقد قال بعضهم: معنى قوله: {قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ} قد بدت بغضاؤهم لأهل الإيـمان إلـى أولـيائهم من الـمنافقـين وأهل الكفر بإطلاع بعضهم بعضا علـى ذلك.
وزعم قائلو هذه الـمقالة أن الذين عنوا بهذه الاَية: أهل النفـاق, دون من كان مصرّحا بـالكفر من الـيهود وأهل الشرك. ذكر من قال ذلك.
6210ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ} يقول: قد بدت البغضاء من أفواه الـمنافقـين إلـى إخوانهم من الكفـار, من غِشّهم للإسلام وأهله وبغضهم إياهم.
6211ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: {قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ} يقول: من أفواه الـمنافقـين.
وهذا القول الذي ذكرناه عن قتادة قول لا معنى له, وذلك أن الله تعالـى ذكره إنـما نهى الـمؤمنـين أن يتـخذوا بطانة مـمن قد عرفوه بـالغشّ للإسلام وأهله, والبغضاء إما بأدلة ظاهرة دالة علـى أن ذلك من صفتهم, وإما بإظهار الـموصوفـين بذلك العداوة والشنآن والـمناصبة لهم. فأما من لـم يثبتوه معرفة أنه الذي نهاهم الله عزّ وجلّ عن مخالته ومبـاطنته, فغير جائز أن يكونوا نهوا عن مخالته ومصادقته إلا بعد تعريفهم إياهم, إما بأعيانهم وأسمائهم, وإما بصفـات قد عرفوهم بها. وإذ كان ذلك كذلك, وكان إبداء الـمنافقـين بألسنتهم ما فـي قلوبهم من بغضاء الـمؤمنـين إلـى إخوانهم من الكفـار, غير مدرك به الـمؤمنون معرفة ما هم علـيه لهم مع إظهارهم الإيـمان بألسنتهم لهم والتودّد إلـيهم, كان بـينا أن الذي نهى الله الـمؤمنون عن اتـخاذهم لأنفسهم بطانة دونهم, هم الذين قد ظهرت لهم بغضاؤهم بألسنتهم علـى ما وصفهم الله عزّ وجلّ به, فعرفهم الـمؤمنون بـالصفة التـي نعتهم الله بها, وأنهم هم الذين وصفهم تعالـى ذكره بأنهم أصحاب النار هم فـيها خالدون مـمن كان له ذمة وعهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أهل الكتاب, لأنهم لو كانوا الـمنافقـين لكان الأمر فـيهم علـى ما قد بـينا, ولو كانوا الكفـار مـمن قد ناصب الـمؤمنـين الـحرب, لـم يكن الـمؤمنون متـخذيهم لأنفسهم بطانة من دون الـمؤمنـين مع اختلاف بلادهم وافتراق أمصارهم, ولكنهم الذين كانوا بـين أظهر الـمؤمنـين من أهل الكتاب أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم, مـمن كان له من رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد وعقد من يهود بنـي إسرائيـل. والبغضاء: مصدر, وقد ذكر أنها فـي قراءة عبد الله بن مسعود: «قد بدا البغضاء من أفواههم», علـى وجه التذكير, وإنـما جاز ذلك بـالتذكير ولفظه لفظ الـمؤنث, لأن الـمصادر تأنـيثها لـيس بـالتأنـيث اللازم, فـيجوز تذكير ما خرج منها علـى لفظ الـمؤنث وتأنـيثه, كما قال عزّ وجلّ: {وأخَذَ الّذِينَ ظَلَـمُوا الصّيْحَةُ} وكما قال: {فقدْ جاءَكُمْ بَـيّنَةٌ مِنْ رَبّكُمْ} وفـي موضع آخر: {وأخَذَتِ الّذِينَ ظَلَـمُوا الصّيْحَةُ} {وَجاءَتْكُمْ بَـيّنَةٌ مِنْ رَبّكُمْ}. وقال: {مِنْ أفْوَاهِهِمْ} وإنـما بدا ما بدا من البغضاء بألسنتهم, لأن الـمعنـيّ به الكلام الذي ظهر للـمؤمنـين منهم من أفواههم, فقال: قد بدت البغضاء من أفواههم بألسنتهم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَما تُـخْفِـي صُدُورُهُمْ أكْبَرُ}.
يعنـي تعالـى ذكره بذلك: والذي تـخفـي صدورهم, يعنـي صدور هؤلاء الذين نهاهم عن اتـخاذهم بطانة فتـخفـيه عنكم أيها الـمؤمنون أكبر, يقول: أكبر مـما قد بدا لكم بألسنتهم من أفواههم من البغضاء وأعظم. كما:
6212ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {وَما تُـخْفِـي صُدُورُهُمْ أكْبَرُ} يقول: وما تـخفـي صدورهم أكبر مـما قد أبدوا بألسنتهم.
6213ـ حُدثت عن عمار, عن ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, قوله: {وَما تُـخْفِـي صُدُورُهُمْ أكْبَرُ} يقول: ما تكنّ صدورهم أكبر مـما قد أبدوا بألسنتهم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَدْ بَـيّنَا لَكُمُ الاَياتِ إنْ كُنْتُـمْ تَعْقِلُونَ}.
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: قد بـينا لكم أيها الـمؤمنون الاَيات, يعنـي بـالاَيات: العبر, قد بـينا لكم من أمر هؤلاء الـيهود الذين نهيناكم أن تتـخذوهم بطانة من دون الـمؤمنـين ما تعتبرون وتتعظون به من أمرهم, {إنْ كُنْتُـمْ تَعْقِلُونَ} يعنـي: إن كنتـم تعقلون عن الله مواعظه وأمره ونهيه, وتعرفون مواقع نفع ذلك منكم ومبلغ عائدته علـيكم.
الآية : 119
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {هَآأَنْتُمْ أُوْلآءِ تُحِبّونَهُمْ وَلاَ يُحِبّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوَاْ آمَنّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضّواْ عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ }
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: ها أنتـم أيها الـمؤمنون الذين تـحبونهم, يقول: تـحبون هؤلاء الكفـار الذين نهيتكم عن اتـخاذهم بطانة من دون الـمؤمنـين, فتودّونهم وتواصلونهم, وهم لا يحبونكم, بل ينتظرون لكم العداوة والغش, وتؤمنون بـالكتاب كله. ومعنى الكتاب فـي هذا الـموضع, معنى الـجمع, كما يقال: أكثر الدرهم فـي أيدي الناس, بـمعنى الدراهم, فكذلك قوله: {وَتُؤْمِنُونَ بـالكِتابِ كُلّهِ}, إنـما معناه: بـالكتب كلها كتابكم الذي أنزل الله إلـيكم, وكتابهم الذي أنزله إلـيهم, وغير ذلك من الكتب التـي أنزلها الله علـى عبـاده.
يقول تعالـى ذكره: فأنتـم إذ كنتـم أيها الـمؤمنون تؤمنون بـالكتب كلها, وتعلـمون أن الذين نهيتكم عن أن تتـخذوهم بطانة من دونكم, كفـار بذلك كله, بجحودهم ذلك كله من عهود الله إلـيهم, وتبديـلهم ما فـيه من أمر الله ونهيه, أولـى بعداوتكم إياهم, وبغضائهم وغشهم منهم بعداوتكم وبغضائكم مع جحودهم بعض الكتب وتكذيبهم ببعضها. كما:
6214ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: ثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس: {وَتُؤْمِنُونَ بـالكِتابِ كُلّهِ}: أي بكتابكم وكتابهم, وبـما مضى من الكتب قبل ذلك, وهم يكفرون بكتابكم, فأنتـم أحقّ بـالبغضاء لهم منهم لكم.
وقال: {ها أنْتُـمْ أُولاءِ} ولـم يقل: «هؤلاء أنتـم», ففرّق بـين «ها» و«أولاء» بكناية اسم الـمخاطبـين, لأن العرب كذلك تفعل فـي هذا إذا أرادت به التقريب ومذهب النقصان الذي يحتاج إلـى تـمام الـخبر, وذلك مثل أن يقال لبعضهم: أين أنت؟ فـيجيب الـمقول ذلك له: ها أنا ذا, فـيفرّق بـين التنبـيه و«ذا» بـمكْنّـي اسم نفسه, ولا يكادون يقولون: هذا أنا, ثم يثنى ويجمع علـى ذلك, وربـما أعادوا حرف التنبـيه مع ذا, فقالوا: ها أنا هذا ولا يفعلون ذلك إلا فـيـما كان تقريبـا, فأما إذا كان علـى غير التقريب والنقصان, قالوا: هذا هو, وهذا أنت, وكذلك يفعلون مع الأسماء الظاهرة, يقولون: هذا عمرو قائما, إن كان هذا تقريبـا. وإنـما فعلوا ذلك فـي الـمكنـي مع التقريب تفرقة بـين هذا إذا كان بـمعنى الناقص الذي يحتاج إلـى تـمام, وبـينه وبـين ما إذا كان بـمعنى الاسم الصحيح. وقوله: {تُـحِبّوَنَهمْ} خبر للتقريب.
وفـي هذه الاَية إبـانة من الله عزّ وجلّ عن حال الفريقـين, أعنـي الـمؤمنـين والكافرين, ورحمة أهل الإيـمان ورأفتهم بأهل الـخلاف لهم, وقساوة قلوب أهل الكفر وغلظتهم علـى أهل الإيـمان. كما:
6215ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {ها أنْتُـمْ أُولاءِ تُـحِبّوَنَهُمْ وَلا يُحِبّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بـالكِتابِ كُلّهِ} فوالله إن الـمؤمن لـيحبّ الـمنافق ويأوي له ويرحمه, ولو أن الـمنافق يقدر علـى ما يقدر علـيه الـمؤمن منه لأبـاد خضراءه.
6216ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: الـمؤمن خير للـمنافق من الـمنافق للـمؤمن يرحمه, ولو يقدر الـمنافق من الـمؤمن علـى مثل ما يقدر الـمؤمن علـيه منه لأبـاد خضراءه.
وكان مـجاهد يقول: نزلت هذه الاَية فـي الـمنافقـين.
6217ـ حدثنـي بذلك مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإذَا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنّا وَإذا خَـلَوْا عَضّوا عَلَـيْكُمُ الأنامِلَ مِنِ الغَيْظِ}.
يعنـي بذلك تعالـى ذكره: إن هؤلاء الذين نهى الله الـمؤمنـين أن يتـخذوهم بطانة من دونهم, ووصفهم بصفتهم إذا لقوا الـمؤمنـين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, أعطوهم بألسنتهم تقـية, حذرا علـى أنفسهم منهم, فقالوا لهم: قد آمنا وصدّقنا بـما جاء به مـحمد صلى الله عليه وسلم, وإذا هم خـلوا فصاروا فـي خلاء حيث لا يراهم الـمؤمنون, عضوا علـى ما يرون من ائتلاف الـمؤمنـين, واجتـماع كلـمتهم, وصلاح ذات بـينهم, {أنامِلَهُمْ} وهي أطراف أصابعهم, تغيظا مـما بهم من الـموجدة علـيهم, وأَسًى علـى ظهر يسندون إلـيه لـمكاشفتهم العداوة ومناجزتهم الـمـحاربة. وبنـحو ما قلنا فـي ذلك, قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
6218ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {وَإذَا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنّا وَإذَا خَـلَوْا عَضّوا عَلَـيْكُمُ الأنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ}: إذا لقوا الـمؤمنـين قالوا آمنا لـيس بهم إلا مخافة علـى دمائهم وأموالهم, فصانعوهم بذلك. {وَإذَا خَـلَوْا عَضّوا عَلَـيْكُمُ الأنامِلَ مِنَ الغَيْظِ} يقول: مـما يجدون فـي قلوبهم من الغيظ والكراهة لـما هم علـيه لو يجدون ريحا لكانوا علـى الـمؤمنـين, فهم كما نعت الله عزّ وجلّ.
6219ـ حُدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع بـمثله, إلا أنه قال: من الغيظ لكراهتهم الذي هم علـيه, ولـم يقل: لو يجدون ريحا وما بعده.
6220ـ حدثنا عبـاس بن مـحمد, قال: حدثنا مسلـم, قال: ثنـي يحيـى بن عمرو بن مالك البكري, قال: حدثنا أبـي, قال: كان أبو الـجوزاء إذا تلا هذه الاَية: {وَإذَا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنّا وَإذَا خَـلَوْا عَضّوا عَلَـيْكُمُ الأنامِلَ مِنَ الغَيْظ} قال: هم الإبـاضية.
والأنامل: جمع أَنْـمُلَة, ويقال أُنْـمُلَة, وربـما جمعت أَنْـمُلاً, قال الشاعر:
أوَدّكُمَا ما بَلّ حَلْقِـيَ رِيقَتِـيوَما حَمَلَتْ كَفّـايَ أَنْـمُلِـيَ العَشْرَا
وهي أطراف الأصابع¹ كما:
6221ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, الأنامل: أطراف الأصابع.
6222ـ حُدثت عن عمار, عن ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, بـمثله.
6223ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: {وَإذَا خَـلَوْا عَضّوا عَلَـيْكُمُ الأنامِلَ}: الأصابع.
6224ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن إسرائيـل, عن أبـي الأحوص, عن عبد الله, قوله: {عَضّوا عَلَـيْكُمُ الأنامِلَ مِنَ الغَيْظِ} قال: عضوا علـى أصابعهم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إنّ اللّهَ عَلِـيـمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ}.
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: قل يا مـحمد لهؤلاء الـيهود الذين وصفت لك صفتهم, وأخبرتك أنهم إذا لقوا أصحابك, قالوا آمنا, وإذا خـلوا عضوا علـيكم الأنامل من الغيظ: موتوا بغيظكم الذي بكم علـى الـمؤمنـين, لاجتـماع كلـمتهم, وائتلاف جماعتهم.
وخرج هذا الكلام مخرج الأمر, وهو دعاء من الله نبـيه مـحمدا صلى الله عليه وسلم بأن يدعو علـيهم بأن يهلكهم الله كمدا مـما بهم من الغيظ علـى الـمؤمنـين, قبل أن يروا فـيهم ما يتـمنون لهم من العنت فـي دينهم, والضلالة بعد هداهم, فقال لنبـيه صلى الله عليه وسلم: قل يا مـحمد, اهلكوا بغيظكم, إن الله علـيـم بذات الصدور, يعنـي بذلك: إن الله ذو علـم بـالذي فـي صدور هؤلاء الذين إذا لقوا الـمؤمنـين, قالوا: آمنا, وما ينطوون لهم علـيه من الغلّ والغمّ, ويعتقدون لهم من العداوة والبغضاء, وبـما فـي صدور جميع خـلقه, حافظ علـى جميعهم ما هو علـيه منطو من خير وشرّ, حتـى يجازي جميعهم علـى ما قدّم من خير وشرّ, واعتقد من إيـمان وكفر, وانطوى علـيه لرسوله وللـمؤمنـين من نصيحة أو غِلّ وغِمْر.
الآية : 120
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتّقُواْ لاَ يَضُرّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ }
يعنـي بقوله تعالـى ذكره: {إنْ تَـمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} إنْ تَنالُوا أيها الـمؤمنون سرورا بظهوركم علـى عدوّكم, وتتابع الناس فـي الدخول فـي دينكم, وتصديق نبـيكم, ومعاونتكم علـى أعدائكم, يسؤهم. وإن تنلكم مساءة بإخفـاق سرية لكم, أو بإصابة عدوّ لكم منكم, أو اختلاف يكون بـين جماعتكم يفرحوا بها. كما:
6225ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {إنْ تَـمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإنْ تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُوا بِه}, فإذا رأوا من أهل الإسلام ألفة وجماعة وظهورا علـى عدوّهم, غاظهم ذلك وساءهم, وإذا رأوا من أهل الإسلام فرقة واختلافـا أو أصيب طرف من أطراف الـمسلـمين سرّهم ذلك وأعجبوا به وابتهجوا به, فهم كلـما خرج منهم قرن أكذب الله أحدوثته وأوطأ مـحلته, وأبطل حجته, وأظهر عورته, فذاك قضاء الله فـيـمن مضى منهم وفـيـمن بقـي إلـى يوم القـيامة.
6226ـ حُدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, قوله: {إنْ تَـمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإنْ تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُوا بِه} قال: هم الـمنافقون إذا رأوا من أهل الإسلام جماعة وظهورا علـى عدوّهم, غاظهم ذلك غيظا شديدا وساءهم, وإذا رأوا من أهل الإسلام فرقة واختلافـا, أو أصيب طرف من أطراف الـمسلـمين, سرّهم ذلك وأعجبوا به¹ قال الله عزّ وجلّ: {وَإنْ تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا لا يَضُرّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئا إنّ اللّهَ بِـمَا يَعْمَلُونَ مُـحِيطٌ}.
6227ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قوله: {إنْ تَـمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} قال: إذا رأوا من الـمؤمنـين جماعة وألفة ساءهم ذلك, وإذا رأوا منهم فرقة واختلافـا فرحوا.
وأما قوله: {وَإنْ تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا لا يَضُرّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئ} فإنه يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: وإن تصبروا أيها الـمؤمنون علـى طاعة الله, واتبـاع أمره فـيـما أمركم به, واجتناب ما نهاكم عنه, من اتـخاذ بطانة لأنفسكم من هؤلاء الـيهود الذين وصف الله صفتهم من دون الـمؤمنـين, وغير ذلك من سائر ما نهاكم, وتتقوا ربكم, فتـخافوا التقدم بـين يديه فـيـما ألزمكم, وأوجب علـيكم من حقه وحقّ رسوله, لا يضرّكم كيدهم شيئا: أي كيد هؤلاء الذين وصف صفتهم. ويعنـي بكيدهم: غوائلهم التـي يبتغونها للـمسلـمين ومكرهم بهم لـيصدّوهم عن الهدى وسبـيـل الـحقّ.
واختلف القراء فـي قراءة قوله: {لا يَضُرّكُمْ} فقرأ ذلك جماعة من أهل الـحجاز وبعض البصريـين: «لا يَضِرْكُمْ» مخففة بكسر الضاد من قول القائل: ضارنـي فلان فهو يضيرنـي ضَيْرا, وقد حكي سماعا من العرب: ما ينفعنـي ولا يضورنـي. فلو كانت قرئت علـى هذه اللغة لقـيـل: لا يضركم كيدهم شيئا, ولكنـي لا أعلـم أحدا قرأ به, وقرأ ذلك جماعة من أهل الـمدينة وعامة قراء أهل الكوفة: {لا يَضُرّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئ} بضم الضاد وتشديد الراء من قول القائل: ضرّنـي فلان فهو يضرّنـي ضرّا.
وأما الرفع فـي قوله: {لا يَضُرّكُمْ} فمن وجهين: أحدهما علـى إتبـاع الراء فـي حركتها, إذ كان الأصل فـيها الـجزم, ولـم يـمكن جزمها لتشديدها أقرب حركات الـحروف التـي قبلها, وذلك حركة الضاد, وهي الضمة, فألـحقت بها حركة الراء لقربها منها, كما قالوا: مُدّ يا هذا. والوجه الاَخر من وجهي الرفع فـي ذلك: أن تكون مرفوعة علـى صحة, وتكون «لا» بـمعنى «لـيس», وتكون الفـاء التـي هي جواب الـجزاء متروكة لعلـم السامع بـموضعها. وإذا كان ذلك معناه, كان تأويـل الكلام: وإن تصبروا وتتقوا فلـيس يضرّكم كيدهم شيئا, ثم تركت الفـاء من قوله: {لا يَضُرّكُمْ كَيْدُهُمْ} ووجهت «لا» إلـى معنى «لـيس», كما قال الشاعر:
فإنْ كانَ لا يُرْضِيكَ حتـى تَرُدّنِـيإلـى قَطَرِيّ لا إخالُكَ رَاضِيا
ولو كانت الراء مـحركة إلـى النصب والـخفض كان جائزا, كما قـيـل: مُدّ يا هذا, ومُدّ.
وقوله: {إنّ اللّهَ بِـمَا تَعْمَلُونَ مُـحِيطٌ} يقول جل ثناؤه: إن الله بـما يعمل هؤلاء الكفـار فـي عبـاده وبلاده من الفساد والصدّ عن سبـيـله والعداوة لأهل دينه وغير ذلك من معاصي الله, مـحيط بجميعه, حافظ له لا يعزب عنه شيء منه, حتـى يوفـيهم جزاءهم علـى ذلك كله ويذيقهم عقوبته علـيه.
الآية : 121
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
يعنـي جلّ ثناؤه بقوله: {وَإذْ غَدَوتَ مِن أهْلِكَ تُبَوّىءُ الـمُؤمِنِـينَ}: وإن تصبروا وتتقوا لا يضرّكم أيها الـمؤمنون كيد هؤلاء الكفـار من الـيهود شيئا, ولكن الله ينصركم علـيهم إن صبرتـم علـى طاعتـي, واتبـاع أمر رسولـي, كما نصرتكم ببدر وأنتـم أذلة. وإن أنتـم خالفتـم أيها الـمؤمنون أمري, ولـم تصبروا علـى ما كلفتكم من فرائضي, ولـم تتقوا ما نهيتكم عنه, وخالفتـم أمري, وأمر رسولـي, فإنه نازل بكم ما نزل بكم بأحد, واذكروا ذلك الـيوم إذ غدا نبـيكم يبوّىء الـمؤمنـين¹ فترك ذكر الـخبر عن أمر القوم إن لـم يصبروا علـى أمر ربهم ولـم يتقوه اكتفـاء بدلالة ما ظهر من الكلام علـى معناه, إذ ذكر ما هو فـاعل بهم من صرف كيد أعدائهم عنهم, إن صبروا علـى أمره, واتقوا مـحارمه, وتعقـيبه ذلك بتذكيرهم ما حلّ بهم من البلاء بأحد, إذ خالف بعضهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم, وتنازعوا الرأي بـينهم. وأخرج الـخطاب فـي قوله: {وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أهْلِكَ} علـى وجه الـخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم, والـمراد بـمعناه الذين نهاهم أن يتـخذ الكفـار من الـيهود بطانة من دون الـمؤمنـين, فقد بـيّن إذا أن قوله: «وإذ» إنـما جرّها فـي معنى الكلام علـى ما قد بـينت وأوضحت.
وقد اختلف أهل التأويـل فـي الـيوم الذي عنى الله عزّ وجلّ بقوله: {وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أهْلِكَ تُبَوّىءُ الـمُؤْمِنِـينَ مَقاعِدَ للْقِتالِ} فقال بعضهم: عَنَى بذلك يَوْمَ أحد. ذكر من قال ذلك:
6228ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: {وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أهْلِكَ تُبوّىءُ الـمُؤْمِنِـينَ مَقاعِدَ للْقِتالِ} قال: مشى النبـيّ صلى الله عليه وسلم يومئذٍ علـى رجلـيه يبوّىء الـمؤمنـين.
6229ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أهِلِكَ تُبَوّىءُ الـمُؤْمِنِـينَ مَقاعِدَ للْقِتالِ} ذلك يوم أحد, غدا نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم من أهله إلـى أحد يبوىء الـمؤمنـين مقاعد للقتال.
6230ـ حُدثت عن عمار, عن ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, قوله: {وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أهْلِكَ تُبَوّىءُ الـمُؤْمِنِـينَ مَقاعِدَ للْقِتالِ} فغدا النبـيّ صلى الله عليه وسلم من أهله إلـى أحد يبوّىء الـمؤمنـين مقاعد للقتال.
6231ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: {وَإذْ غَدَوْتَ مِنَ أهْلِكَ تُبَوّىءُ الـمُؤْمِنِـينَ مَقاعِدَ للْقِتالِ} فهو يوم أحد.
6232ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: {وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أهْلِكَ تُبَوّىءُ الـمُؤْمِنِـينَ} قال: هنا يوم أحد.
6233ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: مـما نزل فـي يوم أحد: {وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أهْلِكَ تُبَوّىءُ الـمؤْمِنِـينَ}.
وقال آخرون: عَنَى بذلك يوم الأحزاب. ذكر من قال ذلك:
6234ـ حدثنـي مـحمد بن سنان القزاز, قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي, قال: حدثنا عبـاد, عن الـحسن فـي قوله: {وإذْ غَدَوْتَ مِنْ أهْلِكَ تُبَوّىءُ الـمُؤْمِنِـينَ مَقاعِدَ للْقِتالِ} قال: يعنـي مـحمدا صلى الله عليه وسلم غدا يبوّىء الـمؤمنـين مقاعد للقتال يوم الأحزاب.
وأولـى هذين القولـين بـالصواب, قول من قال: عنى بذلك: يوم أحد¹ لأن الله عزّ وجلّ يقول فـي الاَية التـي بعدها: {إذْ هَمّتْ طائِفَتانِ مِنكُمْ أنْ تَفْشَل} ولا خلاف بـين أهل التأويـل أنه عنى بـالطائفتـين بنو سلـمة وبنو حارثة. ولا خلاف بـين أَهل السير والـمعرفة بـمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم, أن الذي ذكر الله من أمرهما إنـما كان يوم أحد دون يوم الأحزاب.
فإن قال لنا قائل: وكيف يكون ذلك يوم أحد ورسول الله صلى الله عليه وسلم إنـما راح إلـى أحد من أهله للقتال يوم الـجمعة بعد ما صلـى الـجمعة فـي أهله بـالـمدينة بـالناس, كالذي:
6235ـ حدثكم ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن مـحمد بن إسحاق, قال: ثنـي مـحمد بن مسلـم بن عبـيد الله بن شهاب الزهري ومـحمد بن يحيـى بن حبـان, وعاصم بن عمر بن قتادة والـحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ وغيرهم من علـمائنا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم راح حين صلـى الـجمعة إلـى أحد, دخـل فلبس لأمَتَهُ, وذلك يوم الـجمعة حين فرغ من الصلاة, وقد مات فـي ذلك الـيوم رجل من الأنصار, فصلـى علـيه رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم خرج علـيهم وقال: «ما يَنْبَغِي لنبـيّ إذا لَبَسَ لأْمَتَهُ أنْ يَضَعَها حتـى يُقاتِلَ»؟.
قـيـل: إن النبـيّ صلى الله عليه وسلم وإن كان خروجه للقوم كان رَواحا فلـم يكن تبوئته للـمؤمنـين مقاعدهم للقتال عند خروجه, بل كان ذلك قبل خروجه لقتال عدوه¹ وذلك أن الـمشركين نزلوا منزلهم من أحد فـيـما بلغنا يوم الأربعاء, فأقاموا به ذلك الـيوم ويوم الـخميس ويوم الـجمعة, حتـى راح رسول الله صلى الله عليه وسلم إلـيهم يوم الـجمعة بعد ما صلـى بأصحابه الـجمعة, فأصبح بـالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوّال.
6236ـ حدثنا بذلك ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: ثنـي مـحمد بن مسلـم الزهري, ومـحمد بن يحيـى بن حبـان, وعاصم بن عمر بن قتادة والـحصين بن عبد الرحمن وغيرهم.
فإن قال: وكيف كانت تبوئته الـمؤمنـين مقاعد للقتال غدوّا قبل خروجه, وقد علـمت أن التبوئة اتـخاذ الـموضع؟ قـيـل: كانت تبوئته إياهم ذلك قبل مناهضته عدوّه عند مشورته علـى أصحابه بـالرأي الذي رآه لهم بـيوم أو يومين. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لـما سمع بنزول الـمشركين من قريش وأتبـاعها أُحُدا, قال فـيـما:
6237ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط عن السديّ لأصحابه: «أشِيرُوا عَلـيّ ما أصْنَع؟»فقالوا: يا رسول الله اخرج إلـى هذه الأكلب. فقالت الأنصار: يا رسول الله ما غلبنا عدوّ لنا أتانا فـي ديارنا, فكيف وأنت فـينا؟ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبـيّ ابن سلول, ولـم يدعه قط قبلها, فـاستشاره فقال: يا رسول الله اخرج بنا إلـى هذه الأكلب. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه أن يدخـلوا علـيه الـمدينة, فـيقاتَلوا فـي الأزقة, فأتاه النعمان بن مالك الأنصاريّ, فقال: يا رسول الله, لا تـحرمنـي الـجنة, فوالذي بعثك بـالـحقّ لأدخـلنّ الـجنة! فقال له: «بـم؟» قال: بأنـي أشهد أن لا إله إلا الله, وأنك رسول الله, وأنـي لا أفرّ من الزحف. قال: «صَدَقْتَ؟» فقتل يومئذٍ. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بدرعه فلبسها, فلـما رأوه وقد لبس السلاح, ندموا, وقالوا: بئسما صنعنا, نشير علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحي يأتـيه! فقاموا واعتذروا إلـيه, وقالوا: اصنع ما رأيت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يَنْبَغِي لِنَبِـيّ أنْ يَـلْبَسَ لأُمَتَهُ فَـيَضَعَها حتـى يُقاتِلَ».
6238ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن مـحمد بن إسحاق, قال: ثنـي ابن شهاب الزهري ومـحمد بن يحيـى بن حبـان وعاصم بن عمر بن قتادة, والـحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ, وغيرهم من علـمائنا قالوا: لـما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم والـمسلـمون بـالـمشركين قد نزلوا منزلهم من أحد, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّـي قَدْ رأيْتُ بَقَرا فأوّلْتُها خَيْرا, ورأيْتُ فِـي ذُبـابِ سَيْفِـي ثَلْـما, ورأيْتُ أنّـي أدْخَـلْتُ يَدِي فِـي دِرْعٍ حَصِينَةٍ, فأوّلْتُها الـمَدِينَةَ فإنْ رأيْتُـمْ أنْ تُقـيـمُوا بـالـمَدِينَةِ وَتَدَعُوهُمْ حَيْثُ نَزَلُوا, فإنْ أقامُوا أقامُوا بِشَرّ مُقامٍ, وَإنْ هُمْ دَخَـلُوا عَلَـيْنا قاتَلْناهُمْ فِـيها». وكان رأي عبد الله بن أبـيّ ابن سلول مع رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم, يرى رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي ذلك أن لا يخرج إلـيهم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره الـخروج من الـمدينة, فقال رجال من الـمسلـمين مـمن أكرم الله بـالشهادة يوم أحد وغيرهم مـمن كان فـاته بدر وحضروه: يا رسول الله, اخرج بنا إلـى أعدائنا لا يرون أنا جبنّا عنهم وضعفنا! فقال عبد الله بن أبـيّ ابن سلول: يا رسول الله أقم بـالـمدينة لا تـخرج إلـيهم, فوالله ما خرجنا منها إلـى عدوّ لنا قط إلا أصاب منا, ولا دخـلها علـينا قط إلا أصبنا منه! فدعهم يا رسول الله, فإن أقاموا أقاموا بشرّ مـحبس, وإن دخـلوا قاتلهم الرجال فـي وجوههم, ورماهم النساء والصبـيان بـالـحجارة من فوقهم, وإن رجعوا رجعوا خائبـين كما جاءوا. فلـم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان من أمرهم حبّ لقاء القوم حتـى دخـل رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلبس لأمته.
فكانت تبوئة رسول الله صلى الله عليه وسلم الـمؤمنـين مقاعد للقتال, ما ذكرنا من مشورته علـى أصحابه بـالرأي الذي ذكرنا علـى ما وصفه الذين حكينا قولهم¹ يقال منه: بوّأت القوم منزلاً وبوّأته لهم فأنا أبوّئهم الـمنزل تبوئة, وأبوىء لهم منزلاً تبوئة. وقد ذكر أن فـي قراءة عبد الله بن مسعود: «وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أهْلِكَ تُبَوّىءُ الْـمُؤْمِنِـينَ مَقاعِدَ للْقِتالِ» وذلك جائز, كما يقال: رَدِفَكَ وَردِفَ لك, ونقدت لها صداقها ونقدتها, كما قال الشاعر:
أسْتَغْفِرُ اللّهَ ذَنْبـا لَسْتُ مُـحْصِيَهُرَبّ العِبـادِ إلـيهِ الوَجْهِ وَالعَمَلُ
والكلام: أستغفر الله لذنب. وقد حكي عن العرب سماعا: أبأت القوم منزلاً فأنا أبـيئهم إبـاءة, ويقال منه: أبأت الإبل: إذا رددتها إلـى الـمبـاءة, والـمبـاءة: الـمراح الذي تبـيت فـيه, والـمقاعد: جمع مقعد وهو الـمـجلس. فتأويـل الكلام: واذكر إذ غدوت يا مـحمد من أهلك تتـخذ للـمؤمنـين معسكرا وموضعا لقتال عدوّهم. وقوله: {وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِـيـمٌ} يعنـي بذلك تعالـى ذكره: والله سميع لـما يقول الـمؤمنون لك, فـيـما شاورتهم فـيه من موضع لقائك ولقائهم عدوّك وعدوّهم من قول من قال: اخرج بنا إلـيهم حتـى نلقاهم خارج الـمدينة, وقول من قال لك: لا تـخرج إلـيهم وأقم بـالـمدينة حتـى يدخـلوها علـينا, علـى ما قد بـينا قبل, ومـما تشير به علـيهم أنت يا مـحمد. علـيـم بأصلـح تلك الاَراء لك ولهم, وبـما تـخفـيه صدور الـمشيرين علـيك بـالـخروج إلـى عدوّك, وصدور الـمشيرين علـيك بـالـمقام فـي الـمدينة, وغير ذلك من أمرك وأمورهم. كما:
6239ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق فـي قوله: {وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِـيـمٌ}: أي سميع لـما يقولون, علـيـم بـما يخفون