تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 67 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 67

066

وقوله 133- "وسارعوا" عطف على أطيعوا، وقرأ نافع وابن عامر "سارعوا" بغير واو، وكذلك في مصاحف أهل المدينة وأهل الشام، وقرأ الباقون بالواو. قال أبو علي: كلا الأمرين سائغ مستقيم، والمسارعة: المبادرة، وفي الآية حذف، أي سارعوا إلى ما يوجب المغفرة من الطاعات. وقوله "عرضها السموات والأرض" أي: عرضها كعرض السموات والأرض، ومثله الآية الأخرى "عرضها كعرض السماء والأرض" وقد اختلف في معنى ذلك، فذهب الجمهور إلى أنها تقرن السموات والأرض بعضها إلى بعض كما تبسط الثياب ويوصل بعضها ببعض فذلك عرض الجنة، ونبه بالعرض على الطول لأن الغالب أن الطول يكون أكثر من العرض، وقيل: إن هذا الكلام جاء على نهج كلام العرب من الاستعارة دون الحقيقة، وذلك أنها ما كانت الجنة من الاتساع والانفساح في غاية قصوى، حسن التعبير عنها بعرض السموات والأرض مبالغة لأنهما أوسع مخلوقات الله سبحانه فيما يعلمه عباده، ولم يقصد بذلك التحديد.
والسراء: اليسر، والضراء: العسر. وقد تقدم تفسيرهما- وقيل السراء: الرخاء، والضراء: الشدة، وهو مثل الأول، وقيل: السراء في الحياة، والضراء بعد الموت. قوله 134- "والكاظمين الغيظ" يقال كظم غيظه: أي سكت عليه ولم يظهره، ومنه كظمت السقاء: أي ملأته. والكظامة: ما يسد به مجرى الماء، وكظم البعير جرته: إذا ردها في جوفه، وهو عطف على الموصول الذي قبله. قوله "والعافين عن الناس" أي: التاركين عقوبة من أذنب إليهم واستحق المؤاخذة، وذلك من أجل ضروب الخير. وظاهره العفو عن الناس سواء كانوا من المماليك أم لا. وقال الزجاج وغيره: المراد بهم المماليك. واللام في المحسنين يجوز أن تكون للجنس فيدخل فيه كل محسن من هؤلاء وغيرهم، ويجوز أن تكون للعهد فيختص بهؤلاء. والأول أولى اعتباراً بعموم اللفظ لا بخصوص السياق فيدخل تحته كل من صدر منه مسمى الإحسان: أي إحسان كان.
قوله 135- "والذين إذا فعلوا فاحشة" هذا مبتدأ وخبره "أولئك" وقيل: معطوف على المتقين. والأول أولى، وهؤلاء هم صنف دون الصنف الأول ملحقين بهم وهم التوابون، وسيأتي ذكر سبب نزولها، والفاحشة وصف لموصوف محذوف: أي فعلة فاحشة وهي تطلق على كل معصية. وقد كثر اختصاصها بالزنا. وقوله "أو ظلموا أنفسهم" أي: باقتراف ذنب من الذنوب، وقيل: أو بمعنى الواو. والمراد ما ذكر، وقيل: الفاحشة الكبيرة، وظلم النفس الصغيرة، وقيل غير ذلك. قوله "ذكروا الله" أي: بألسنتهم أو أخطروه في قلوبهم أو ذكروا وعده ووعيده " فاستغفروا لذنوبهم " أي: طلبوا المغفرة لها من الله سبحانه، وتفسيره بالتوبة خلاف معناه لغة، وفي الاستفهام بقوله "ومن يغفر الذنوب إلا الله" من الإنكار مع ما يتضمنه من الدلالة على أنه المختص بذلك سبحانه دون غيره: أي لا يغفر جنس الذنوب أحد إلا الله، وفيه ترغيب لطلب المغفرة منه سبحانه وتنشيط للمذنبين أن يقفوا في مواقف الخضوع والتذلل، وهذه الجملة اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه. وقوله "ولم يصروا على ما فعلوا" عطف على فاستغفروا: أي لم يقيموا على قبيح فعلهم. وقد تقدم تفسير الإصرار. والمراد به هنا العزم على معاودة الذنب وعدم الإقلاع عنه بالتوبة منه. وقوله "وهم يعلمون" جملة حالية: أي لم يصروا على فعلهم عالمين بقبحه.
قوله "أولئك جزاؤهم" الإشارة إلى المذكورين بقوله "والذين إذا فعلوا فاحشة". وقوله "جزاؤهم" بدل اشتمال من اسم الإشارة. وقوله "مغفرة" خبر " من ربهم" متعلق بمحذوف وقع صفة لمغفرة: أي كائنة من ربهم. وقوله "ونعم أجر العاملين" المخصوص بالمدح محذوف: أي أجرهم، أو ذلك المذكور. وقد تقدم تفسير الجنات وكيفية جري الأنهار من تحتها. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد: قال: كانوا يتبايعون إلى الأجل، فإذا جاء الأجل زادوا عليهم وزادوا في الأجل، فنزلت "يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة". وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عطاء قال: كانت ثقيف تدين بني المغيرة في الجاهلية وذكر نحوه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن معاوية بن قرة قال: كان الناس يتأولون هذه الآية "واتقوا النار التي أعدت للكافرين" اتقوا لا أعذبكم بذنوبكم في النار التي أعددتها للكافرين. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن عطاء بن أبي رباح قال: قال المسلمون: يا رسول الله أبنو إسرائيل كانوا أكرم على الله منا؟ كانوا إذا أذنب أحدهم ذنباً أصبح كفارة ذنبه مكتوبة في عتبة بابه اجدع أنفك اجدع أذنك افعل كذا وكذا، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت "وسارعوا" الآية. وأخرج ابن المنذر عن أنس بن مالك في تفسير "وسارعوا" قال: التكبيرة الأولى. وأخرج ابن جرير من طريق السدي عن إبن عباس في قوله " عرضها السماوات والأرض " مثل ما ذكرناه سابقا عن الجمهور. وأخرج نحوه عنه سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق كريب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "الذين ينفقون في السراء والضراء" يقول: في اليسر والعسر "والكاظمين الغيظ" يقول: كاظمين على الغيظ: وقد وردت أحاديث كثيرة في ثواب من كظم الغيظ. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن النخعي في الآية قال: الظلم من الفاحشة والفاحشة من الظلم. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والطبراني وابن أبي الدنيا وابن المنذر والبيهقي عن ابن مسعود قال: إن في كتاب الله لآيتين ما أذنب عبد ذنباً فقرأهما فاستغفر الله إلا غفر له "والذين إذا فعلوا فاحشة" الآية. وقوله "ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه" الآية. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن ثابت البناتي قال: بلغني أن إبليس حين نزلت هذه الآية بكى "والذين إذا فعلوا فاحشة" الآية. وأخرج الحكيم الترمذي عن عطاف بن خالد قال: بلغني أنه لما نزل قوله تعالى " ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا " صاح إبليس بجنوده وحثا على رأسه التراب ودعا بالويل والثبور حتى جاءته جنوده من كل بر وبحر، فقالوا: مالك يا سيدنا؟ قال: آية نزلت في كتاب الله لا يضر بعدها أحداً من بني آدم ذنب، قالوا: وما هي؟ فأخبرهم، قالوا: نفتح لهم باب الأهواء فلا يتوبون ولا يستغفرون ولا يرون إلا أنهم على الحق، فرضي منهم بذلك. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والحميدي وعبد بن حميد وأهل السنن الأربع وحسنه النسائي وابن حبان والدارقطني في الإفراد والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن السني والبيهقي في الشعب والضياء في المختارة عن أبي بكر الصديق سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من رجل يذنب ذنباً ثم يقوم عند ذكر ذنبه فيتطهر ثم يصلي ركعتين، ثم يستغفر الله من ذنبه ذلك إلا غفر الله له، ثم قرأ هذه الآية "والذين إذا فعلوا فاحشة" الآية". وأخرج البيهقي في الشعب عن الحسن مرفوعاً نحوه، ولكنه قال: ثم خرج إلى براز من الأرض فصلى. وأخرج عبد بن حميد وأبو داود والترمذي وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن أبي بكر الصديق قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله "ولم يصروا" فيسكتون ولا يستغفرون. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل "ونعم أجر العاملين" قال: أجر العاملين بطاعة الله الجنة.
قوله 137- "قد خلت من قبلكم سنن" هذا رجوع إلى وصف باقي القصة. والمراد بالسنن ما سنه الله في الأمم من وقائعه: أي قد خلت من قبل زمانكم وقائع سنها الله في الأمم المكذبة، وأصل السنن جمع سنة: وهي الطريقة المستقيمة ومنه قول الهذلي: ‌فلا تجزعن من سنة أنت سرتها فأول راض سنة من يسيرها والسنة: الإمام المتبع المؤتم به، ومنه قول لبيد: من معشر سنت لهم آباؤهم ولكل قوم سنة وإمام والسنة الأمة، والسنن الأمم، قاله المفضل الضبي. وقال الزجاج: المعنى في الآية أهل سنن فحذف المضاف، والفاء في قوله "فسيروا" سببية، وقيل شرطية: أي إن شككتم فسيروا. والعاقبة: آخر الأمر. والمعنى: سيروا فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين فإنهم خالفوا رسلهم بالحرص على الدنيا ثم انقرضوا فلم يبق من دنياهم التي آثروها أثر. هذا قول أكثر المفسرين. والمطلوب من هذا السير المأمور به هو حصول المعرفة بذلك، فإن حصلت بدونه فقد حصل المقصود، وإن كان لمشاهدة الآثار زيادة غير حاصلة لمن لم يشاهدها.
والإشارة بقوله 138- "هذا" إلى قوله "قد خلت" وقال الحسن إلى القرآن "بيان للناس" أي تبيين لهم، وتعريف الناس للعهد وهم المكذبون، أو للجنس، أي للمكذبين وغيرهم. وفيه حث على النظر في سوء عاقبة المكذبين وما انتهى إليه أمرهم. قوله "وهدى وموعظة" أي: هذا النظر مع كونه بياناً فيه هدى وموعظة للمتقين من المؤمنين، فعطف الهدى والموعظة على البيان يدل على التغاير ولو باعتبار المتعلق، وبيانه أن اللام في الناس إن كانت للعهد فالبيان للمكذبين والهدى والموعظة للمؤمنين، وإن كانت للجنس فالبيان لجميع الناس مؤمنهم وكافرهم والهدى والموعظة للمتقين وحدهم.
قوله 139- "ولا تهنوا ولا تحزنوا" عزاهم وسلاهم بما نالهم يوم أحد من القتل والجراح، وحثهم على قتال عدوهم ونهاهم عن العجز والفشل، ثم بين لهم أنهم الأعلون على عدوهم بالنصر والظفر، وهي جملة حالية: أي والحال أنكم الأعلون عليهم وعلى غيرهم بعد هذه الوقعة. وقد صدق الله وعده فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعد وقعة أحد ظفر بعدوه في جميع وقعاته، وقيل المعنى: وأنتم الأعلون عليهم بما أصبتم منهم في يوم بدر فإنه أكثر مما أصابوا منكم اليوم. وقوله "إن كنتم مؤمنين" متعلق بقوله "ولا تهنوا" وما بعده، أو بقوله "وأنتم الأعلون" أي: إن كنتم مؤمنين فلا تهنوا ولا تحزنوا، أو إن كنتم مؤمنين فأنتم الأعلون.
والقرح بالضم والفتح: الجرح وهما لغتان فيه، قاله الكسائي والأخفش. وقال الفراء: هو بالفتح الجرح، وبالضم ألمه. وقرأ محمد بن السميفع قرح بفتح القاف والراء على المصدر. والمعنى في الآية: إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم يوم بدر، فلا تهنوا لما أصابكم في هذا اليوم، فإنهم لم يهنوا لما أصابهم في ذلك اليوم، وأنتم أولى بالصبر منهم، وقيل: إن المراد بما أصاب المؤمنين والكافرين في هذا اليوم، فإن المسلمين انتصروا عليهم في الابتداء فأصابوا منهم جماعة، ثم انتصر الكفار عليهم فأصابوا منهم. والأول أولى، لأن ما أصابه المسلمون من الكفار في هذا اليوم لم يكن مثل ما أصابوه منهم فيه. وقوله "وتلك الأيام" أي: الكائنة بين الأمم في حروبها والآتية فيما بعد كالأيام الكائنة في زمن النبوة، تارة تغلب هذه الطائفة، وتارة تغلب الأخرى كما وقع لكم أيها المسلمون في يوم بدر وأحد، وهو معنى قوله "نداولها بين الناس" فقوله "تلك" مبتدأ، والأيام صفته، والخبر نداولها، وأصل المداولة المعاورة: داولته بينهم عاورته. والدولة: الكرة، ويجوز أن تكون الأيام خبراً ونداولها حالاً، والأول أولى. وقوله "وليعلم الله" معطوف على علة مقدرة كأنه قال: نداولها بين الناس ليظهر أمركم وليعلم، أو يكون المعلل محذوفاً: أي ليعلم الله الذين اتقوا، فعلنا ذلك، وهو من باب التمثيل: أي فعلنا فعل من يريد أن يعلم لأنه سبحانه لم يزل عالماً، أو ليعلم الله الذين آمنوا بصبرهم علماً يقع عليه الجزاء كما علمه علماً أزلياً "ويتخذ منكم شهداء" أي: يكرمهم بالشهادة. والشهداء جمع شهيد، سمي بذلك لكونه مشهوداً له بالجنة، أو جمع شاهد لكونه كالمشاهد للجنة، ومن للتبعيض وهم شهداء أحد. وقوله "والله لا يحب الظالمين" جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه لتقرير مضمون ما قبله.