تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 68 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 68

067

وقوله 141- "وليمحص الله الذين آمنوا" من جملة العلل معطوف على ما قبله. والتمحيص: الاختبار، وقيل: التطهير على حذف مضاف: أي ليمحص ذنوب الذين آمنوا، قاله الفراء، وقيل: يمحص يخلص، قاله الخليل والزجاج: أي ليخلص المؤمنين من ذنوبهم. وقوله "ويمحق الكافرين" أي يستأصلهم بالهلاك، وأصل التمحيق محو الآثار، والمحق نقسها.
قوله 142- "أم حسبتم أن تدخلوا الجنة" كلام مستأنف لبيان ما ذكر من التمييز، وأم هي المنقطعة، والهمزة للإنكار: أي بل أحسبتم، والواو في قوله "ولما يعلم الله" واو الحال. والجملة الحالية، وفيه تمثيل كالأول، أو علم يقع عليه الجزاء. وقوله " ويعلم الصابرين " منصوب بإضمار أن كما قال الخليل وغيره على أن الواو للجمع. وقال الزجاج: الواو بمعنى حتى، وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر ويعلم الصابرين بالجزم عطفاً على "ولما يعلم" وقرئ بالرفع على القطع، وقيل إن قوله "ولما يعلم" كناية عن نفي المعلوم، وهو الجهاد. والمعنى: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة، والحال أنه لم يتحقق منكم الجهاد والصبر: أي الجمع بينهما، ومعنى "لما" معنى لم عند الجمهور، وفرق سيبويه بينهما فجعل لم لنفي الماضي، ولما لنفي الماضي والمتوقع.
قوله 143- "ولقد كنتم تمنون الموت" هو خطاب لمن كان يتمنى القتال والشهادة في سبيل الله ممن لم يحضر يوم بدر، فإنهم كانوا يتمنون يوماً يكون فيه قتال. فلما كان يوم أحد انهزموا مع أنهم الذين ألحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج، ولم يصبر منهم إلا نفر يسير مثل أنس بن النضر عم أنس بن مالك. وقوله "من قبل أن تلقوه" أي: القتال أو الشهادة التي هي سبب الموت. وقرأ الأعمش من قبل أن تلاقوه وقد ورد النهي عن تمني الموت فلا بد من حمله هنا على الشهادة. قال القرطبي: وتمني الموت من المسلمين يرجع إلى تمني الشهادة المبنية على الثبات والصبر على الجهاد لا إلى قتل الكفار لهم لأنه معصية وكفر، ولا يجوز إرادة المعصية، وعلى هذا يحمل سؤال المسلمين من الله أن يرزقهم الشهادة فيسألون الصبر على الجهاد وإن أدى إلى القتل. قوله "فقد رأيتموه" أي: القتال أو ما هو سبب للموت، ومحل قوله "وأنتم تنظرون" النصب على الحال، وقيد الرؤية بالنظر مع اتحاد معناهما للمبالغة: أي قد رأيتموه معاينين له حين قتل من قتل منكم.قال الأخفش : إن التكرير بمعنى التأكيد مثل قوله "ولا طائر يطير بجناحيه " وقيل: معناه بصراء ليس في أعينكم علل، وقيل: معناه وأنتم تنظرون إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله 144- "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل". سبب نزول هذه ما سيأتي من أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أصيب في يوم أحد صاح الشيطان قائلاً: قد قتل محمد، ففشل بعض المسلمين حتى قال قائل: قد أصيب محمد فأعطوا بأيديكم فإنما هم إخوانكم، وقال آخر: لو كان رسولاً ما قتل، فرد الله عليهم ذلك وأخبرهم بأنه رسول قد خلت من قبله الرسل وسيخلو كما خلوا، فجملة قوله "قد خلت من قبله الرسل" صفة لرسول. والقصر قصر إفراد كأنهم استبعدوا هلاكه فأثبتوا له صفتين: الرسالة، وكونه لا يهلك، فرد الله عليهم ذلك بأنه رسول لا يتجاوز ذلك إلى صفة عدم الهلاك، وقيل: هو قصر قلب. وقرأ ابن عباس قد خلت من قبل رسل ثم أنكر الله عليه بقوله "أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم" أي: كيف ترتدون وتتركون دنيه إذا مات أو قتل مع علمكم أن الرسل تخلو ويتمسك أتباعهم بدينهم وإن فقدوا بموت أو قتل، وقيل: الإنكار لجعلهم خلو الرسل قبله سبباً لانقلابهم بموته أو قتله، وإنما ذكر القتل مع علمه سبحانه أنه لا يقتل لكونه مجوزاً عند المخاطبين. قوله " ومن ينقلب على عقبيه " أي: بإدباره عن القتال أو بارتداده عن الإسلام "فلن يضر الله شيئاً" من الضرر وإنما يضر نفسه "وسيجزي الله الشاكرين" أي الذين صبروا وقاتلوا واستشهدوا، لأنهم بذلك شكروا نعمة الله عليهم بالإسلام. ومن امتثل ما أمر به فقد شكر النعمة التي أنعم الله به عليه.
قوله 145- "وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله" هذا كلام مستأنف يتضمن الحث على الجهاد والإعلام بأن الموت لا بد منه. ومعنى "بإذن الله" بقضاء الله وقدره، وقيل: إن هذه الجملة متضمنة للإنكار على من فشل بسبب ذلك الإرجاف بقتله صلى الله عليه وسلم، فبين لهم أن الموت بالقتل أو بغيره منوط بإذن الله، وإسناده إلى النفس مع كونها غير مختارة له للإيذان بانه لا ينبغي لأحد أن يقدم عليه إلا بإذن الله. وقوله "كتاباً" مصدر مؤكد لما قبله، لأن معناه كتب الله الموت كتاباً. والمؤجل: المؤقت الذي لا يتقدم على أجله ولا يتأخر. قوله "ومن يرد" أي بعلمه "ثواب الدنيا" كالغنيمة ونحوها، واللفظ يعم كل ما يسمى ثواب الدنيا، وإن كان السبب خاصاً "نؤته منها" أي: من ثوابها على حذف المضاف "ومن يرد" بعمله "ثواب الآخرة" وهو الجنة نؤته من ثوابها، ونضاعف له الحسنات أضعافاً كثيرة "وسنجزي الشاكرين" بامتثال ما أمرناهم به كالقتال، ونهيناهم عنه كالفرار وقبول الإرجاف.
وقوله 146- "وكأين" قال الخليل وسيبويه: هي أي دخلت عليها كاف التشبيه وثبتت معها فصارت بعد التركيب بمعنى كم، وصورت في المصحف نوناً، لأنها كلمة نقلت عن أصلها فغير لفظها لتغيير معناها، ثم كثر استعمالها فتصرفت فيها العرب بالقلب والحذف فصار فيها أربع لغات قرئ بها: أحدها كائن مثل كاعن، وبها قرأ ابن كثير، ومثله قول الشاعر: وكائن بالأباطح من صديق تراه لو أصبت هو المصابا وقال آخر: وكائن رددنا عنكم من مدجج بحي أمام الركب يردي مقنعا وقال زهير: وكائن ترى من معجب لك شخصه زيادته أو نقصه في التكلم وكأين بالتشديد مثل كعين، وبه قرأ الباقون وهو الأصل. والثالثة: كأين مثل كعين مخففاً. والرابعة: كيئن بياء بعدها همزة مكسورة، ووقف أبو عمرو بغير نون فقال: كأي لأنه تنوين، ووقف الباقون بالنون، والمعنى كثير من الأنبياء قتل معه ربيون قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب قتل على البناء للمجهول وهي قراءة ابن عباس، واختارها أبو حاتم، وفيه وجهان: أحدهما أن يكون في قتل ضمير يعود إلى النبي، وحينئذ يكون قوله "معه ربيون" جملة حالية كما يقال: قتل الأمير معه جيش: أي ومعه جيش، والوجه الثاني أن يكون القتل واقعاً على ربيون، فلا يكون في قتل ضمير، والمعنى: قتل بعض أصحابه وهم الربيون. وقرأ الكوفيون وابن عامر قاتل وهي قراءة ابن مسعود واختارها أبو عبيد: وقال: إن الله إذا حمد من قاتل كان من قتل داخلاً فيه، وإذا حمد من قتل ولم يدخل فيه من قاتل ولم يقتل، فقاتل أعم وأمدح، ويرجح هذه القراءة الأخرى. والوجه الثاني من القراءة الأولى قول الحسن: ما قتل نبي في حرب قط، وكذا قال سعيد بن جبير والربيون بكسر الراء قراءة الجمهور، وقرأ علي بضمها وابن عباس بفتحها، وواحده ربي بالفتح منسوب إلى الرب والربي بضم الراء وكسرها منصوب إلى الربة بكسر الراء وضمها وهي الجماعة، ولهذا فسرهم جماعة من السلف بالجماعات الكثيرة، وقيل: هم الأتباع، وقيل: هم العلماء. قال الخليل: الربي الواحد من العباد الذين صبروا مع الأنبياء وهم الربانيون نسبوا إلى التأله والعبادة ومعرفة الربوبية. وقال الزجاج: الربيون بالضم الجماعات. قوله "فما وهنوا" عطف على قاتل أو قتل. والوهن: إنكسار الجد بالخوف. وقرأ الحسن وهنوا بكسر الهاء وضمها. قال أبو زيد: لغتان وهن الشيء يهن وهناً: ضعف: أي ما وهنوا لقتل نبيهم أو لقتل من قتل منهم "وما ضعفوا" أي: عن عدوهم "وما استكانوا" لما أصابهم في الجهاد. والاستكانة: الذلة والخضوع وقرئ وما وهنوا وما ضعفوا بإسكان الهاء والعين. وحكى الكسائي "ضعفوا" بفتح العين، وفي هذا توبيخ لمن انهزم يوم أحد وذل واستكان وضعف بسبب ذلك الإرجاف الواقع من الشيطان ولم يصنع كما صنع أصحاب من خلا من قبلهم من الرسل.
قوله 147- "وما كان قولهم" أي: قول أولئك الذين كانوا مع الأنبياء إلا هذا القول، وقولهم: منصوب على أنه خبر كان. وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية عنهما برفع قولهم. وقوله "إلا أن قالوا" استثناء مفرغ: أي ما كان قولهم عند أن قتل منهم ربانيون أو قتل نبيهم "إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا" قيل: هي الصغائر. وقوله: "وإسرافنا في أمرنا" قيل: هي الكبائر، والظاهر أن الذنوب تعم كل ما يسمى ذنباً من صغيرة أو كبيرة. والإسراف ما فيه مجاوزة للحد، فهو من عطف الخاص على العام، قالوا ذلك مع كونهم ربانيين هضماً لأنفسهم "وثبت أقدامنا" في مواطن القتال.
148- "فآتاهم الله" بسبب ذلك "ثواب الدنيا" من النصر والغنيمة والعزة ونحوها "وحسن ثواب الآخرة" من إضافة الصفة إلى الموصوف: أي ثواب الآخرة الحسن، وهو نعيم الجنة، جعلنا الله من أهلها. وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله "قد خلت من قبلكم سنن" قال: تداول من الكفار والمؤمنين في الخير والشر. وأخرج ابن أبي شيبة في كتاب المصاحف عن سعيد بن جبير قال: أول ما نزل من آل عمران "هذا بيان للناس" ثم أنزل بقيتها يوم أحد. وأخرج ابن جرير عن الحسن في قوله "هذا بيان" يعني القرآن. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس قال: أقبل خالد بن الوليد يريد أن يعلو عليهم الجبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا يعلون علينا" فأنزل الله "ولا تهنوا ولا تحزنوا" الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن جريج قال: انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب يوم أحد، فسألوا ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وما فعل فلان، فنعى بعضهم لبعض وتحدثوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل، فكانوا في هم وحزن، فبينما هم كذلك علا خالد بن الوليد بخيل المشركين فوقهم على الجبل. وكانوا على أحد مجنبتي المشركين، وهم أسفل من الشعب، فلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم فرحوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا قوة لنا إلا بك، وليس أحد يعبدك بهذا البلد غير هؤلاء النفر فلا تهلكهم" وثاب نفر من المسلمين رماة فصعدوا فرموا خيل المشركين حتى هزمهم الله، وعلا المسلمون الجبل، فذلك قوله: "وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين". وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك "وأنتم الأعلون" قال: وأنتم الغالبون. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد "إن يمسسكم قرح" قال: جراح وقتل. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: "إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله" قال: إن يقتل منكم يوم أحد فقد قتل منهم يوم بدر. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله "وتلك الأيام نداولها بين الناس" قال: كان يوم أحد بيوم بدر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر من طريق ابن جريج عن ابن عباس في قوله "وتلك الأيام" الآية، قال: أدال المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وبلغني أن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أحد بضعة وسبعين ألفاً عدد الأسارى الذين أسروا يوم بدر من المشركين، وكان عدد الأسارى يوم بدر ثلاثة وسبعين رجلاً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله "ويتخذ منكم شهداء" قال: إن المسلمين كانوا يسألون ربهم: اللهم ربنا أرنا يوماً كيوم بدر نقاتل فيه المشركين ونبليك فيه خيراً، ونلتمس فيه الشهادة، فلقوا المشركين يوم أحد فاتخذ منهم شهداء. وأخرجا عنه في قوله "وليمحص الله الذين آمنوا" قال: يبتليهم "ويمحق الكافرين" قال: ينقصهم. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عنه أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون: ليتنا نقتل كما قتل أصحاب بدر ونستشهد، أو ليت لنا يوماً كيوم بدر نقاتل فيه المشركين ونبلي فيه خيراً ونلتمس الشهادة والجنة والحياة والرزق فاشهدهم الله أحداً، فلم يثبتوا إلا من شاء الله منهم. فقال الله "ولقد كنتم تمنون الموت" الآية. وأخرج ابن المنذر عن كليب قال: خطبنا عمر بن الخطاب، فكان يقرأ على المنبر آل عمران ويقول: إنها أحدية، ثم قال: تفرقنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فصعدت الجبل فسمعت يهودياً يقول: قتل محمد، فقلت: لا أسمع أحداً يقول: قتل محمد إلا ضربت عنقه، فنظرت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يتراجعون إليه، فنزلت هذه الآية "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل". وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: نادى مناد يوم أحد ألا إن محمداً قد قتل فاجعوا إلى دينكم الأول، فأنزل الله "وما محمد إلا رسول". وأخرج أيضاً عن مجاهد نحوه. وأخرج أيضاً عن علي في قوله "وسيجزي الله الشاكرين" قال: الثابتين على دينهم أبا بكر وأصحابه، فكان علي يقول: كان أبو بكر أمير الشاكرين. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم عنه أنه كان يقول في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله يقول "أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم" والله لا ننقلت على أعقابنا بعد إذ هدانا الله، والله لئن مات أو قتل لأقتلن على ما قتل عليه حتى أموت. وأخرج عبد بن حميد ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن مسعود في قوله "ربيون" قال: ألوف. وأخرج سعيد بن منصور عن الضحاك قال: الربة الواحدة ألف. وأخرج وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "ربيون" قال: جموع. وأخرج ابن جرير عنه قال: علماء كثير. وأخرج وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله "وما استكانوا" قال: تخشوا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم في قوله "وإسرافنا في أمرنا" قال: خطايانا.
لما أمر الله سبحانه بالاقتداء بمن تقدم من أنصار الأنبياء حذر عن طاعة الكفار، وهم مشركو العرب، وقيل: اليهود والنصارى، وقيل: المنافقون في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة ارجعوا إلى دين آبائكم. وقوله "يردوكم على أعقابكم" أي: يخرجوكم من دين الإسلام إلى الكفر 149- "فتنقلبوا خاسرين" أي: ترجعوا مغبونين.