تفسير الطبري تفسير الصفحة 67 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 67
068
066
 الآية : 133
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَسَارِعُوَاْ إِلَىَ مَغْفِرَةٍ مّن رّبّكُمْ وَجَنّةٍ عَرْضُهَا السّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدّتْ لِلْمُتّقِينَ }
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: {وَسَارِعُو} وبـادروا وسابقوا إلـى مغفرة من ربكم, يعنـي: إلـى ما يستر علـيكم ذنوبكم من رحمته, وما يغطيها علـيكم من عفوه عن عقوبتكم علـيها {وَجنّةِ عَرْضُها السّمَوَاتُ والأَرْضُ} يعنى سارعوا أيضا إلـى جنة عرضها السموات والأرض, ذكر أن معنى ذلك: وجنة عرضها كعرض السموات السبع, والأرضين السبع, إذا ضمّ بعضها إلـى بعض. ذكر من قال ذلك:
6333ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {وَجَنّةٍ عَرْضُها السّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} قال: قال ابن عبـاس: تقرن السموات السبع والأرضون السبع, كما تقرن الثـياب بعضها إلـى بعض, فذاك عرض الـجنة.
وإنـما قـيـل: {وَجَنّةٍ عَرْضُها السّمَوَاتُ والأَرْضُ} فوصف عرضها بـالسموات والأرضين, والـمعنى ما وصفنا من وصف عرضها بعرض السموات والأرض, تشبـيها به فـي السعة والعظم, كما قـيـل: {مَا خَـلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إلاّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} يعنـي إلا كبعث نفس واحدة, وكما قال الشاعر:
كأنّ عَذِيرَهُمْ بجَنُوبِ سِلّـىنَعامٌ قَاقَ فَـي بَلَدٍ قِـفـارِ
أي عذير نعام, وكما قال الاَخر:
حَسِبْتُ بُغامَ رَاحِلَتـي عَناقاوَما هِيَ وَيْبَ غَيْرِكَ بـالْعَناقِ
يريد صوت عناق. وقد ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل فقـيـل له: هذه الـجنة عرضها السموات والأرض, فأين النار؟ فقال: «هَذَا النّهارُ إذَا جَاءَ, أيْنَ اللّـيْـلُ؟».
ذكر الأخبـار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره.
6334ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي مسلـم بن خالد, عن ابن خثـيـم, عن سعيد بن أبـي راشد, عن يعلـى بن مرة, قال: لقـيت التنوخيّ رسول هرقل إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمص شيخا كبـيرا قد أقعد, قال: قدمت علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب هرقل, فناول الصحيفة رجلاً عن يساره, قال: قلت من صاحبكم الذي يقرأ؟ قالوا: معاوية, فإذا هو: إنك كتبت تدعونـي إلـى جنة عرضها السموات والأرض أعدّت للـمتقـين, فأين النار؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سُبْحانَ اللّهِ, فأيْنَ اللّـيْـلُ إذَا جاءَ النّهارُ؟».
2126ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, قال: حدثنا سفـيان, عن قـيس بن مسلـم, عن طارق بن شهاب: أن ناسا من الـيهود سألوا عمر بن الـخطاب عن جنة عرضها السموات والأرض, أين النار؟ قال: «أرأيتـم إذا جاء اللـيـل أين يكون النهار؟» فقالوا: اللهمّ نزعْتَ مثله من التوراة.
حدثنـي مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن قـيس بن مسلـم, عن طارق بن شهاب: أن عمر أتاه ثلاثة نفر من أهل نـجران, فسألوه وعنده أصحابه, فقالوا: أرأيت قوله: {وَجَنّةٍ عَرْضُها السّمَوَاتِ وَالأرْضُ} فأين النار؟ فأحجم الناس, فقال عمر: «أرأيتـم إذا جاء اللـيـل, أين يكون النهار؟ وإذا جاء النهار, أين يكون اللـيـل؟» فقالوا: نزعت مثلها من التوراة.
حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: أخبرنا شعبة, عن إبراهيـم بن مهاجر, عن طارق بن شهاب, عن عمر, بنـحوه فـي الثلاثة الرهط الذين أتوا عمر, فسألوه عن جنة عرضها كعرض السموات والأرض, بـمثل حديث قـيس بن مسلـم.
6335ـ حدثنا مـجاهد بن موسى, قال: حدثنا جعفر بن عون, أخبرنا الأعمش, عن قـيس بن مسلـم, عن طارق بن شهاب, قال: جاء رجل من الـيهود إلـى عمر, فقال: تقولون: جنة عرضها السموات والأرض أين تكون النار؟ فقال له عمر: أرأيت النهار إذا جاء, أين يكون اللـيـل؟ أرأيت اللـيـل إذا جاء, أين يكون النهار؟ فقال: إنه لـمثلها فـي التوراة, فقال له صاحبه: لـم أخبرته؟ فقال له صاحبه: دعه إنه بكلّ موقنٌ.
6336ـ حدثنـي أحمد بن حازم, قال: أخبرنا أبو نعيـم, قال: حدثنا جعفر بن برقان, قال: حدثنا يزيد بن الأصم أن رجلاً من أهل الكتاب أتـى ابن عبـاس, فقال: تقولون جنة عرضها السموات والأرض, فأين النار؟ فقال ابن عبـاس: أرأيت اللـيـل إذا جاء, أين يكون النهار؟ وإذا جاء النهار, أين يكون اللـيـل؟
وأما قوله: {أُعِدّتْ للْـمُتّقِـينَ} فإنه يعنـي: إن الـجنة التـي عرضها كعرض السموات والأرضين السبع أعدها الله للـمتقـين, الذين اتقوا الله, فأطاعوه فـيـما أمرهم ونهاهم, فلـم يتعدّوا حدوده, ولـم يقصروا فـي واجب حقه علـيهم فـيضيعوه. كما:
6337ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: {وَسَارِعُوا إلـى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبّكُمْ وَجَنّةٍ عَرْضُها السّمَوَاتُ والأرْضُ أُعِدّتْ للْـمُتّقِـينَ}: أي ذلك لـمن أطاعنـي وأطاع رسولـي.
الآية : 134
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السّرّآءِ وَالضّرّآءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النّاسِ وَاللّهُ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ }
يعنـي جلّ ثناؤه بقوله: {الّذِينَ يُنْفِقُونَ فِـي السّرّاء وَالضّرّاءِ} أُعدت الـجنة التـي عرضها السموات والأرض للـمتقـين, وهم الـمنفقون أموالهم فـي سبـيـل الله, إما فـي صرفه علـى مـحتاج, وإما فـي تقوية مضعف علـى النهوض للـجهاد فـي سبـيـل الله.
وأما قوله: {فِـي السّرّاء} فإنه يعنـي: فـي حال السرور بكثرة الـمال, ورخاء العيش والسرّاء: مصدر من قولهم سرّنـي هذا الأمر مسرّة وسرورا¹ والضراء: مصدر من قولهم: قد ضرّ فلان فهو يضرّ إذا أصابه الضرّ, وذلك إذا أصابه الضيق والـجهد فـي عيشه.
6338ـ حدثنا مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قوله: {الّذِينَ يُنْفِقُونَ فِـي السّرّاء وَالضّرّاءِ} يقول: فـي العسر والـيسر.
فأخبر جلّ ثناؤه أن الـجنة التـي وصف صفتها لـمن اتّقاه وأنفق ماله فـي حال الرخاء والسعة وفـي حال الضيق والشدة فـي سبـيـله.
وقوله: {وَالكَاظِمِينَ الغَيُظَ} يعنـي: والـجارعين الغيظ عند امتلاء نفوسهم منه, يقال منه: كظم فلان غيظه: إذا تـجرّعه فحفظ نفسه من أن تـمضي ما هي قادرة علـى إمضائه بـاستـمكانها مـمن غاظها وانتصارها مـمن ظلـمها. وأصل ذلك من كظم القربة, يقال منه: كظمتُ القربة: إذا ملأتها ماء, وفلان كظيـم ومكظوم إذا كان مـمتلئا غمّا وحزنا, ومنه قول الله عزّ وجلّ, {وابْـيَضّتْ عَيْناهُ مِنَ الـحُزْنِ فَهُوَ كَظِيـمٌ} يعنـي مـمتلـىء من الـحزن, ومنه قـيـل لـمـجاري الـمياه الكظائم لامتلائها بـالـماء, ومن قـيـل: أخذت بكظمه يعنـي بـمـجاري نفسه. والغيظ: مصدر من قول القائل: غاظنـي فلان فهو يغيظنـي غيظا, وذلك إذا أحفظه وأغضبه.
وأما قوله: {وَالعَافِـينَ عَنِ النّاسِ} فإنه يعنـي: والصافحين عن الناس عقوبة ذنوبهم إلـيهم, وهم علـى الانتقام منهم قادرون, فتاركوها لهم.
وأما قوله {واللّهُ يُحِبّ الـمُـحْسِنِـينَ} فإنه يعنـي: فإن الله يحبّ من عمل بهذه الأمور التـي وصف أنه أعدّ للعاملـين بها الـجنة التـي عرضها السموات والأرض. والعاملون بها هم الـمـحسنون, وإحسانهم هو عملهم بها. كما:
6339ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {الّذِينَ يُنْفِقُونَ فِـي السّرّاء وَالضّرّاءِ}... الاَية: {وَالعَافِـينَ عَنِ النّاسِ واللّهُ يُحِبّ الـمُـحْسِنِـينَ} أي وذلك الإحسان, وأنا أحبّ من عمل به.
6340ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {الّذِينَ يُنْفِقُونَ فِـي السّرّاء وَالضّرّاءِ وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعَافِـينَ عَنِ النّاسِ واللّهُ يُحِبّ الـمُـحْسِنِـينَ}: قوم أنفقوا فـي العسر والـيسر, والـجهد والرخاء, فمن استطاع أن يغلب الشرّ بـالـخير فلـيفعل, ولا قوّة إلا بـالله, فنعمت والله يا ابن آدم الـجرعة تـجترعها من صبر وأنت مغيظ وأنت مظلوم.
6341ـ حدثنـي موسى بن عبد الرحمن, قال: حدثنا مـحمد بن بشر, قال: حدثنا مـحرز أبو رجاء, عن الـحسن, قال: يقال يوم القـيامة: لـيقم من كان له علـى الله أجر! فما يقوم إلا إنسان عفـا. ثم قرأ هذه الاَية: {وَالعَافِـينَ عَنِ النّاسِ واللّهُ يُحِبّ الـمُـحْسِنِـينَ}.
6342ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا داود بن قـيس, عن زيد بن أسلـم, عن رجل من أهل الشام يقال له عبد الـجلـيـل, عن عمّ له, عن أبـي هريرة فـي قوله: {وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ} أن النبـي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ كَظَمَ غَيْظا وَهُوَ يَقْدِرُ علـى إنْفَـاذِهِ مَلأَهُ اللّهُ أمْنا وإيـمانا».
6343ـ حدثنـي مـحمد بن سعد قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: {وَالكَاظِمِينَ الغَيُظَ}... إلـى الاَية: {واللّهُ يُحِبّ الـمُـحْسِنِـينَ}, فـالكاظمين الغيظ كقوله: {وإذَا مَا غَضِبُوا هُمُ يَغْفِرُونَ}¹ يغضبون فـي الأمر لو وقعوا به كان حراما فـيغفرون ويعفون, يـلتـمسون بذلك وجه الله¹ {وَالعَافِـينَ عَنِ النّاسِ} كقوله: {وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسّعَةِ}... إلـى: {ألاَ تُـحِبّونَ أن يَغْفِرَ اللّهُ لَكُمْ} يقول: لا تقسموا علـى أن لا تعطوهم من النفقة شيئا واعفوا واصفحوا.
الآية : 135
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَالّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوَاْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذّنُوبَ إِلاّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرّواْ عَلَىَ مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }
يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَـاحِشَةً}: أن الـجنة التـي وصف صفتها أعدت للـمتقـين, الـمنفقـين فـي السرّاء والضرّاء, والذين إذا فعلوا فـاحشة وجميع هذه النعوت من صفة الـمتقـين الذين قال تعالـى ذكره: {وَجَنّةٍ عَرْضُها السّمَوَاتُ والأرْضُ أُعِدّتْ للْـمُتَقِـينَ}. كما
6344ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا جعفر بن سلـيـمان, عن ثابت البنانـي, قال: سمعت الـحسن قرأ هذه الاَية: {الّذِينَ يُنْفِقُونَ فِـي السّرّاءِ وَالضّرّاءِ وَالكاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعافِـينَ عَنِ النّاسِ وَاللّهُ يُحِبّ الـمُـحْسِنِـينَ}, ثم قرأ: {وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فـاحِشَةً أوْ ظَلَـمُوا أنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّهَ فَـاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ}... إلـى {أجْرُ العامِلِـينَ} فقال: إن هذين النعتـين لنعت رجل واحد.
6345ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن مـجاهد: {وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَـاحِشَةً أوْ ظَلَـمُوا أنْفُسَهُمْ} قال: هذان ذنبـان: الفـاحشة ذنب, وظلـموا أنفسهم ذنب.
وأما الفـاحشة فهي صفة لـمتروك, ومعنى الكلام: والذين إذا فعلوا فعلة فـاحشة. ومعنى الفـاحشة: الفعلة القبـيحة الـخارجة عما أذن الله عزّ وجلّ فـيه. وأصل الفحش القبح والـخروج عن الـحدّ والـمقدار فـي كل شيء, ومنه قـيـل للطويـل الـمفرط الطول: إنه لفـاحش الطول, يراد به: قبـيح الطول, خارج عن الـمقدار الـمستـحسن¹ ومنه قـيـل للكلام القبـيح غير القصد: كلام فـاحش, وقـيـل للـمتكلـم به: أفحش فـي كلامه: إذا نطق بفحش. وقـيـل: إن الفـاحشة فـي هذا الـموضع معنّـي بها الزنا. ذكر من قال ذلك:
6346ـ حدثنا العبـاس بن عبد العظيـم, قال: حدثنا حبـان, قال: حدثنا حماد, عن ثابت, عن جابر: {وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَـاحِشَةً} قال: زنى القوم وربّ الكعبة.
6347ـ حدثنا مـحمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَـاحِشَةً} أما الفـاحشة: فـالزنا.
وقوله: {أوْ ظَلَـمُوا أنْفُسَهُمْ} يعنـي به: فعلوا بأنفسهم غير الذي كان ينبغي لهم أن يفعلوا بها. والذي فعلوا من ذلك ركوبهم من معصية الله ما أوجبوا لها به عقوبته. كما
6348ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, عن منصور, عن إبراهيـم, قوله: {وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَـاحِشَةً أوْ ظَلَـمُوا أنْفُسَهُمْ} قال: الظلـم من الفـاحشة, والفـاحشة من الظلـم.
وقوله: {ذَكَرُوا اللّهَ} يعنـي بذلك ذكروا وعيد الله علـى ما أتوا من معصيتهم إياه. {فـاسْتَغْفِرُوا لِذُنُوبِهِمْ} يقول: فسألوا ربهم أن يستر علـيهم ذنوبهم بصفحه لهم عن العقوبة علـيها. {وَمَنْ يَغْفِرُ الذّنُوبَ إلاّ اللّهُ} يقول: وهل يغفر الذنوب: أي يعفو عن راكبها فـيسترها علـيه إلا الله؟ {وَلَـمْ يُصِرّوا علـى ما فَعَلُو} يقول: ولـم يقـيـموا علـى ذنوبهم التـي أتوها, ومعصيتهم التـي ركبوها {وَهُمْ يَعْلَـمُونَ} يقول: لـم يقـيـموا علـى ذنوبهم عامدين للـمقام علـيها, وهم يعلـمون أن الله قد تقدّم بـالنهي عنها, وأوعد علـيها العقوبة, من ركبها. وذكر أن هذه الاَية أنزلت خصوصا بتـخفـيفها ويسرها أُمّتَنا مـما كانت بنو إسرائيـل مـمتـحنة به من عظيـم البلاء فـي ذنوبها.
6349ـ حدثنـي القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن عطاء بن أبـي ربـاح: أنهم قالوا: يا نبـي الله, بنو إسرائيـل أكرم علـى الله منا, كانوا إذا أذنب أحدهم أصبحت كفـارة ذنبه مكتوبة فـي عتبة بـابه: اجدع أذنك, أجدع أنفك, افعل! فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فنزلت: {وَسارِعُوا إلـى مَغْفِزَةٍ مِنَ رَبّكُمْ وَجَنّةٍ عَرْضُها السّمَوَاتُ والأرْض أُعِدّتْ للْـمُتّقِـينَ}... إلـى قوله: {وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَـاحِشَةً أوْ ظَلَـمُوا أنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّهَ فـاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ}, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرٍ مِنَ ذَلِكَ؟» فقرأ هؤلاء الاَيات.
6350ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي عمر أبـي خـلـيفة العبديّ, قال: حدثنا علـيّ بن زيد بن جدعان, قال: قال ابن مسعود: كانت بنو إسرائيـل إذا أذنبوا, أصبح مكتوبا علـى بـابه الذنب وكفـارته, فأعطينا خيرا من ذلك هذه الاَية.
6351ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيـى بن واضح, قال: حدثنا جعفر بن سلـيـمان, عن ثابت البنانـي, قال: لـما نزلت: {وَمَنْ يَعْمَلْ سَواءً أوْ يَظْلِـمْ نَفْسَهُ} بكى إبلـيس فزعا من هذه الاَية.
حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا جعفر بن سلـيـمان, عن ثابت البنانـي, قال: بلغنـي أن إبلـيس حين نزلت هذه الاَية: {وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَـاحِشَةً أوْ ظَلَـمُوا أنْفُسَهُمْ} بكى.
6352ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, قال: سمعت عثمان مولـى آل أبـي عقـيـل الثقـفـي, قال: سمعت علـيّ بن ربـيعة, يحدث عن رجل من فزارة يقال له أسماء أو ابن أسماء, عن علـيّ, قال: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا, نفعنـي الله بـما شاء أن ينفعنـي, فحدثنـي أو بكر ـ وصدق أبو بكر ـ عن النبـي صلى الله عليه وسلم, قال: «ما مِنْ عَبْدٍ» قال شعبة: وأحسبه قال «مُسْلِـمٍ يُذْنِبُ ذَنْبا ثم يَتَوضّأُ ثم يُصّلّـي ركْعَتَـيْنِ, ثم يَسْتَغْفِرُ الله لِذَلِكَ الذّنْبِ...» وقال شعبة: وقرأ إحدى هاتـين الاَيتـين: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} {وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَـاحِشَةً أوْ ظَلَـمُوا أنْفُسَهُمْ}.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, وحدثنا الفضل بن إسحاق, قال: حدثنا وكيع, عن مسعر وسفـيان, عن عثمان بن الـمغيرة الثقـفـي, عن علـيّ بن ربـيعة الوالبـي, عن أسماء بن الـحكم الفزاري, عن علـيّ بن أبـي طالب قال: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا نفعنـي الله بـما شاء منه, وإذا حدثنـي عنه غيره, استـحلفته, فإذا حلف لـي صدقته¹ وحدثنـي أبو بكر وصدق أبو بكر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما مِنْ رَجُلٍ يَذْنِبُ ذَنْبا ثُمّ يَتَوَضّأُ, ثُمّ يُصَلّـي», قال أحدهما: «رَكْعَتَـيْنِ» وقال الاَخر: «ثُمّ يُصَلّـي وَيَسْتَغْفِرُ اللّهُ إلاّ غَفَرَ لَهُ».
حدثنا الزبـير بن بكار, قال: ثنـي سعد بن أبـي سعيد الـمقبري, عن أخيه, عن جده عن علـيّ بن أبـي طالب أنه قال: ما حدثنـي أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سألته أن يقسم لـي بـالله لهو سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أبـا بكر, فإنه كان لا يكذب. قال علـيّ رضي الله عنه: فحدثنـي أبو بكر, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما مِنْ عَبْدٍ يُذْنِبُ ذَنْبا ثُمّ يَقُومُ عِنْدَ ذِكْرِ ذَنْبِهِ فَـيَتَوَضّأُ ثُمّ يُصَلّـي رَكْعَتَـيْنِ, وَيَسْتَغْفِرُ اللّهَ مِنْ ذَنْبِهِ ذَلِكَ إلاّ غَفَرهُ اللّهُ لَهُ».
وأما قوله {ذَكَرُوا اللّهَ فـاسْتَغْفرُوا لِذُنُوبِهِمْ} فإنه كما بـينا تأويـله¹ وبنـحو ذلك كان أهل التأويـل يقولون.
6353ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, حدثنا ابن إسحاق: {وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَـاحِشَةً}: أي إن أتوا فـاحشة {أوْ ظَلَـمُوا أنْفُسَهُمْ} بـمعصية ذكروا نهي الله عنها, وما حرّم الله عنها, فـاستغفروا لها, وعرفوا أنه لا يغفر الذنوب إلا هو.
وأما قوله: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذّنُوبَ إلاّ اللّهُ} فإن اسم الله مرفوع, ولا جحد قبله, وإنـما يرفع ما بعده إلا بـاتبـاعه ما قبله إذا كان نكرة ومعه جحد, كقول القائل: ما فـي الدار أحد إلا أخوك¹ فأما إذا قـيـل: قام القوم إلا أبـاك, فإن وجه الكلام فـي الأب النصب. و «مَنْ» بصلته فـي قوله: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذّنْوبَ إلاّ اللّهُ} معرفة فإن ذلك إنـما جاء رفعا, لأن معنى الكلام: وهل يغفر الذنوب أحد, أو ما يغفر الذنوب أحد إلا الله, فرفع ما بعد إلا من الله علـى تأويـل الكلام, لا علـى لفظه.
وأما قوله: {وَلَـمْ يُصِرّوا علـى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَـمُونَ} فإن أهل التأويـل اختلفوا فـي تأويـل الإصرار ومعنى الكلـمة¹ فقال بعضهم: معنى ذلك: لـم يثبتوا علـى ما أتوا من الذنوب, ولـم يقـيـموا علـيه, ولكنهم تابوا واستغفروا, كما وصفهم الله به. ذكر من قال ذلك:
6354ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {وَلَـمْ يُصِرّوا عَلـى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَـمُونَ} فإياكم والإصرار, فإنـما هلك الـمصرّون الـماضون قُدُما, لا ينهاهم مخافة الله عن حرام حرّمه الله علـيهم, ولا يتوبون من ذنب أصابوه, حتـى أتاهم الـموت وهم علـى ذلك.
حدثنا الـحسن بن يحيـى قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: {وَلَـمْ يِصِرّوا علـى مَا فعَلُوا وَهُمْ يَعْلَـمُونَ} قال: قُدُما قُدُما فـي معاصي الله, لا ينهاهم مخافة الله حتـى جاءهم أمر الله.
6355ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {لا يَصِرّوا علـى ما فَعَلُوا وَهُم يَعْلَـمُونَ}: أي لـم يقـيـموا علـى معصيتـي, كفعل من أشرك بـي فـيـما عملوا به من كفر بـي.
وقال آخرون: معنى ذلك: لـم يواقعوا الذنب إذا هموا به. ذكر من قال ذلك:
6356ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن الـحسن فـي قوله: {ولَـمْ يُصِرّوا علـى ما فَعَلُو} قال: إتـيان العبد ذنبـا إصرارا حتـى يتوب.
6357ـ حدثنـي مـحمد عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله عزّ وجلّ: {وَلَـمْ يُصِرّوا علـى ما فَعَلُو} قالوا: لـم يواقعوا.
وقال آخرون: معنى الإصرار: السكوت علـى الذنب, وترك الاستغفـار. ذكر من قال ذلك:
6358ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {ولـم يُصِرّوا علـى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَـمُونَ}: أما يصرّوا: فـيسكتوا ولا يستغفروا.
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب عندنا قول من قال: الإصرار الإقامة علـى الذنب عامدا, أو ترك التوبة منه. ولا معنى لقول من قال: الإصرار علـى الذنب: هو مواقعته¹ لأن الله عزّ وجلّ مدح بترك الإصرار علـى الذنب مواقع الذنب, فقال: {وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَـاحِشَةً أوْ ظَلَـمُوا أنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّهَ فـاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذّنُوبَ إلاّ اللّهُ ولَـمْ يُصِرّوا علـى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَـمُونَ}¹ ولو كان الـمواقع الذنب مصرا بـمواقعته إياه, لـم يكن للاستغفـار وجه مفهوم, لأن الاستغفـار من الذنب إنـما هو التوبة منه والندم, ولا يعرف للاستغفـار من ذنب لـم يواقعه صاحبه وجه. وقد رُوي عن النبـي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما أصَرّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وإنْ عادَ فِـي الـيَوْمِ سَبْعِينَ مَرّةً».
6359ـ حدثنـي بذلك الـحسين بن يزيد السبـيعي, قال: حدثنا عبد الـحميد الـحمانـي, عن عثمان بن واقد, عن أبـي نصيرة, عن مولـى لأبـي بكر, عن أبـي بكر, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلو كان مواقع الذنب مصرّا, لـم يكن لقوله «ما أصَرّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وإنْ عادَ فِـي الـيَوْمِ سَبْعِينَ مَرّةً» معنى, لأن مواقعة الذنب, إذا كانت هي الإصرار, فلا يزيـل الاسم الذي لزمه معنى غيره, كما لا يزيـل عن الزانـي اسم زان, وعن القاتل اسم قاتل توبته منه, ولا معنى غيرها, وقد أبـان هذا الـخبر أن الـمستغفر من ذنبه غير مصرّ علـيه, فمعلوم بذلك أن الإصرار غير الـموقعة, وأنه الـمقام علـيه علـى ما قلنا قبل.
واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قولهم: {وَهْمْ يَعْلَـمُونَ} فقال بعضهم: معناه: وهم يعلـمون أنهم قد أذنبوا. ذكر من قال ذلك:
6360ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: أما {وَهُمْ يَعْلَـمُونَ}: فـيعلـمون أنهم قد أذنبوا, ثم أقاموا فلـم يستغفروا.
وقال آخرون: معنى ذلك: وهم يعلـمون أن الذي أتوا معصية الله. ذكر من قال ذلك:
6361ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {وَهُمْ يَعْلَـمُونَ} قال: يعلـمون ما حرمت علـيهم من عبـادة غيري.
قال أبو جعفر: وقد تقدم بـياننا أولـى ذلك بـالصواب.
الآية : 136
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أُوْلَـَئِكَ جَزَآؤُهُمْ مّغْفِرَةٌ مّن رّبّهِمْ وَجَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ }
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: أولئك الذين ذكر أنه أعدّ لهم الـجنة التـي عرضها السموات والأرض من الـمتقـين, ووصفهم به, ثم قال: هؤلاء الذين هذه صفتهم {جَزَاؤُهُمْ} يعنـي ثوابهم من أعمالهم التـي وصفهم تعالـى ذكره أنهم عملوها, {مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبّهِمْ} يقول: عفو لهم من الله عن عقوبتهم علـى ما سلف من ذنوبهم, ولهم علـى ما أطاعوا الله فـيه من أعمالهم بـالـحسن منها جنات, وهي البساتـين {تَـجْري مِنْ تَـحْتها الأنْهارُ} يقول: تـجري خلال أشجارها الأنهار, وفـي أسافلها جزاء لهم علـى صالـح أعمالهم, {خَالِدينَ فـيه} يعنـي دائمي الـمقام فـي هذه الـجنات التـي وصفها, {ونِعْمَ أجْرُ العَامِلـينَ} يعنـي ونعم جزاء العاملـين لله الـجنات التـي وصفها كما:
6362ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {أُولَئِكَ جَزَاؤْهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبّهِمْ وَجَنّاتٌ تَـجْري مِنْ تَـحْتِهَا الأنْهَارُ خالِدِينَ فِـيها وَنِعْمَ أجْرُ العامِلِـينَ}: أي ثواب الـمطيعين.
الآية : 137
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذّبِينَ }
يعنـي بقوله تعالـى ذكره: {قَدْ خَـلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} مضت وسلفت منـي فـيـمن كان قبلكم يا معشر أصحاب مـحمد وأهل الإيـمان به, من نـحو قوم عاد وثمود, وقوم هود, وقوم لوط وغيرهم من سُلاف الأمـم قبلكم سنن, يعنـي ثلاث سير بها فـيهم وفـيـمن كذبوا به من أنبـيائهم الذين أرسلوا إلـيهم, بإمهالـي أهل التكذيب بهم, واستدراجي إياهم, حتـى بلغ الكتاب فـيهم أجله الذي أجلته لإدالة أنبـيائهم وأهل الإيـمان بهم علـيهم, ثم أحللت بهم عقوبتـي, ونزلت بساحتهم نقمتـي, فتركتهم لـمن بعدهم أمثالاً وعبرا. {فَسِيرُوا فِـي الأرْضِ فـانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الـمُكَذّبِـينَ} يقول: فسيروا أيها الظانون أن إدالتـي من أدلت من أهل الشرك يوم أُحد علـى مـحمد وأصحابه لغير استدراج منـي لـمن أشرك بـي, وكفر برسلـي, وخالف أمري فـي ديار الأمـم الذين كانوا قبلكم, مـمن كان علـى مثل الذي علـيه هؤلاء الـمكذّبون برسولـي, والـجاحدون وحدانـيتـي, فـانظروا كيف كان عاقبة تكذيبهم أنبـيائي, وما الذي آل إلـيه عن خلافهم أمري, وإنكارهم وحدانـيتـي, فتعلـموا عند ذلك أن إدالتـي من أدلت من الـمشركين علـى نبـي مـحمد وأصحابه بأحد, إنـما هي استدراج وإمهال, لـيبلغ الكتاب أجله الذي أجلت لهم, ثم إما أن يئول حالهم إلـى مثل ما آل إلـيه حال الأمـم الذين سلفوا قبلهم من تعجيـل العقوبة علـيهم, أو ينـيبوا إلـى طاعتـي واتبـاع رسولـي.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك, قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
6363ـ حدثنا مـحمد بن سنان, قال: حدثنا أبو بكر, قال: حدثنا عبـاد, عن الـحسن فـي قوله: {قَدْ خَـلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِـي الأرْضِ فـانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عَاقِبَةُ الـمُكَذّبـين} فقال: ألـم تسيروا فـي الأرض, فتنظروا كيف عذّب الله قوم نوح, وقوم لوط, وقوم صالـح, والأمـم التـي عذب الله عزّ وجلّ؟
6364ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: {قَدْ خَـلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} يقول: فـي الكفـار والـمؤمنـين, والـخير والشر.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: {قَدْ خَـلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} فـي الـمؤمنـين والكفـار.
6365ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: استقبل ذكر الـمصيبة التـي نزلت بهم ـ يعنـي بـالـمسلـمين يوم أحد ـ والبلاء الذي أصابهم, والتـمـحيص لـما كان فـيهم, واتـخاذه الشهداء منهم, فقال تعزية لهم, وتعريفا لهم فـيـما صنعوا وما هو صانع بهم: {قَدْ خَـلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فـي الأرْضِ فـانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عاقِبَةُ الـمُكذّبِـينَ} أي قد مضت منـي وقائع نقمة فـي أهل التكذيب لرسلـي والشرك بـي: عاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين, فسيروا فـي الأرض تروا مُثلات قد مضت فـيهم, ولـمن كان علـى مثل ما هم علـيه من ذلك منـي, وإن أمكنت لهم: أي لئلا يظنوا أن نقمتـي انقطعت عن عدوّهم وعدّوي للدولة التـي أدلتها علـيكم بها¹ لأبتلـيكم بذلك, لأعلـم ما عندكم.
6366ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {قَدْ خَـلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فـي الأرْضِ فـانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الـمُكذّبِـينَ} يقول: متعهم فـي الدنـيا قلـيلاً, ثم صيرهم إلـى النار.
وأما السنن, فإنها جمع سُنّة, والسنّة, هي الـمثال الـمتبع, والإمام الـموتـمّ به, يقال منه: سنّ فلان فـينا سنة خمسة, وسنّ سنة سيئة: إذا عمل عملاً اتبع علـيه من خير وشرّ, ومنه قول لبـيد ابن ربـيعة:
مِنْ مَعْشَرٍ سَنّتْ لَهُمْ آبـاؤُهُمْولِكُلّ قَوْمٍ سُنّةٌ وإمامُها
وقول سلـيـمان بن قَتّة:
وإنّ الأُلَـى بـالطّفّ منْ آلِ هاشمٍتَآسَوْا فَسَنّوا للْكِرَامِ التّآسيا
وقال ابن زيد فـي ذلك ما:
6367ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: {قَدْ خَـلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} قال: أمثال.
الآية : 138
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {هَـَذَا بَيَانٌ لّلنّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لّلْمُتّقِينَ }
اختلف أهل التأويـل فـي الـمعن الذي أشير إلـيه بهذا, فقال بعضهم: عَنَى بقوله هذا: القرآن. ذكر من قال ذلك:
6368ـ حدثنا مـحمد بن سنان, قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي, قال: ثنا: عبـاد, عن الـحسن فـي قوله: {هَذَا بَـيانٌ للنّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ للْـمُتّقِـينَ} قال: هذا القرآن.
6369ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة. قوله: {هَذَا بَـيانٌ للنّاسِ} وهو هذا القرآن جعله الله بـيانا للناس عامة, وهدى وموعظة للـمتقـين خصوصا.
6370ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, قال فـي قوله: {هَذَا بَـيانٌ للنّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ للْـمُتّقِـينَ} خاصة.
6371ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا سويد, قال: حدثنا ابن الـمبـارك, عن ابن جريج فـي قوله: {هَذَا بَـيانٌ للنّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ للْـمُتّقِـينَ} خاصة.
وقال آخرون: إنـما أشير بقوله هذا إلـى قوله: {قَدْ خَـلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِـي الأرْضِ فـانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الـمُكَذّبِـينَ} ثم قال: هذا الذي عرفتكم يا معشر أصحاب مـحمد بـيان للناس. ذكر من قال ذلك:
6372ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق بذلك.
وأولـى القولـين فـي ذلك عندي بـالصواب, قول من قال: قوله هذا إشارة إلـى ما تقدّم هذه الاَية من تذكير الله جلّ ثناؤه الـمؤمنـين, وتعريفهم حدوده, وحضهم علـى لزوم طاعته, والصبر علـى جهاد أعدائه وأعدائهم, لأن قوله هذا إشارة إلـى حاضر, إما مرئي, وإما مسموع, وهو فـي هذا الـموضع إلـى حاضر مسموع من الاَيات الـمتقدمة. فمعنى الكلام: هذا الذي أوضحت لكم وعرّفتكموه, بـيان للناس¹ يعنـي بـالبـيان: الشرح والتفسير. كما
6373ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {هَذَا بَـيانٌ للنّاسِ} أي هذا تفسير للناس إن قبلوه.
6374ـ حدثنا أحمد بن حازم والـمثنى, قالا: حدثنا أبو نعيـم, قال: حدثنا سفـيان, عن بـيان, عن الشعبـي: {هَذَا بَـيانٌ للنّاسِ} قال: من العَمَى.
حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوري, عن الشعبـي, مثله.
وأما قوله: {وهُدًى وَمَوْعِظَةٌ} فإنه يعنـي بـالهدى: الدلالة علـى سبـيـل الـحقّ ومنهج الدين, وبـالـموعظة: التذكرة للصواب والرشاد. كما:
6375ـ حدثنا أحمد بن حازم والـمثنى, قالا: حدثنا أبو نعيـم, قال: حدثنا سفـيان, عن بـيان, عن الشعبـي: {وَهُدًى} قال: من الضلالة, {وَمَوْعِظَةٌ} من الـجهل.
حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوري, عن بـيان, عن الشعبـي مثله.
6376ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {للْـمُتّقِـينَ}: أي لـمن أطاعنـي وعرف أمري.
الآية : 139
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مّؤْمِنِينَ }
وهذا من الله تعالـى ذكره تعزية لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم علـى ما أصابهم من الـجراح والقتل بـأُحد, قال: ولا تهنوا ولا تـحزنوا يا أصحاب مـحمد, يعنـي ولا تضعفوا بـالذي نالكم من عدوّكم بـأُحد من القتل والقروح, عن جهاد عدوكم وحربهم, من قول القائل: وهن فلان فـي هذا الأمر فهو يهن وهنا: {وَلا تَـحْزَنُو}: ولا تأسوا فتـجزعوا علـى ما أصابكم من الـمصيبة يومئذ, فإنكم أنتـم الأعلون, يعنـي الظاهرون علـيهم, ولكم العقبى فـي الظفر والنصرة علـيهم, يقول: إن كنتـم مؤمنـين, يقول: إن كنتـم مصدّقـي فـي نبـيـي مـحمد صلى الله عليه وسلم فـيـما يعدكم, وفـيـما ينبئكم من الـخبر عما يئول إلـيه أمركم وأمرهم. كما:
6377ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: أخبرنا ابن الـمبـارك, عن يونس, عن الزهري, قال: كثر فـي أصحاب مـحمد صلى الله عليه وسلم القتل والـجراح, حتـى خـلص إلـى كل امرىء منهم الـيأس, فأنزل الله عزّ وجلّ القرآن, فآسى فـيه الـمؤمنـين بأحسن ما آسى به قوما من الـمسلـمين كانوا قبلهم من الأمـم الـماضية فقال: {وَلاَ تَهْنُوا وَلا تَـحْزَنُوا وأنتُـمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْنُـمْ مُوءْمِنِـينَ} إلـى قوله: {لَبَرَزَ الّذِينَ كُتِبَ عَلَـيْهِمُ القَتْلُ إلـى مَضَاجِعِهِمْ}.
6378ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {وَلاَ تَهْنُوا وَلا تَـحْزَنُوا وأنتُـمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْتُـمْ مُوءْمِنِـينَ}: يعزّي أصحاب مـحمد صلى الله عليه وسلم كما تسمعون, ويحثهم علـى قتال عدوّهم, وينهاهم عن العجز والوهن فـي طلب عدوّهم فـي سبـيـل الله.
6379ـ حدثنـي مـحمد بن سنان, قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي, قال: حدثنا عبـاد, عن الـحسن, فـي قوله: {وَلاَ تَهْنُوا وَلا تَـحْزَنُوا وأنتُـمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْتُـمْ مُوءْمِنِـينَ} قال: يأمر مـحمدا يقول: ولا تهنوا أن تـمضوا فـي سبـيـل الله.
6380ـ حدثنا مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله عزّ وجلّ: {وَلاَ تَهْنُو}: ولا تضعفوا.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
6381ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, فـي قوله: {وَلاَ تَهْنُوا وَلا تَـحْزَنُو} يقول: ولا تضعفوا.
6382ـ حدثنـي القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج: {وَلاَ تَهْنُو} قال ابن جريج: ولا تضعفوا فـي أمر عدوكم, {وَلا تَـحْزَنُوا وأنتُـمُ الأعْلَوْنَ} قال: انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي الشعب, فقالوا: ما فعل فلان؟ ما فعل فلان؟ فنعى بعضهم بعضا, وتـحدثوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل, فكانوا فـي همّ وحزن. فبـينـما هم كذلك, إذ علا خالد بن الولـيد الـجبل بخيـل الـمشركين فوقهم وهم أسفل فـي الشعب¹ فلـما رأوا النبـي صلى الله عليه وسلم فرحوا, وقال النبـي صلى الله عليه وسلم: «اللّهُمّ لا قُوّةَ لَنا إلاّ بِكَ, ولَـيْسَ يَعْبُدُكَ بِهَذِهِ البَلْدَةِ غَيْرُ هَولاءِ النّفَرِ». قال: وثاب نفر من الـمسلـمين رماة, فصعدوا, فرموا خيـل الـمشركين حتـى هزمهم الله, وعلا الـمسلـمون الـجبل¹ فذلك قوله: {وأنتُـمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْتُـمْ مُوءْمِنِـينَ}.
6383ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {وَلاَ تَهْنُو} أي لا تضعفوا, {وَلا تَـحْزَنُو} ولا تأسوا علـى ما أصابكم, {وأنتُـمُ الأعْلَوْنَ} أي لكم تكون العاقبة والظهور, {إنْ كُنْتُـمْ مُوءْمِنِـينَ}: إن كنتـم صدقتـم نبـيـي بـما جاءكم به عنـي.
6384ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قال: أقبل خالد بن الولـيد يريد أن يعلو علـيهم الـجبل, فقال النبـي صلى الله عليه وسلم: «اللّهُمّ لا يَعْلُونَ عَلَـيْنَا!» فأنزل الله عزّ وجلّ: {وَلاَ تَهْنُوا وَلا تَـحْزَنُوا وأنتُـمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْتُـمْ مُوءْمِنِـينَ}.
الآية : 140
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ وَيَتّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الظّالِمِينَ }
اختلف القراء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قراء أهل الـحجاز والـمدينة والبصرة: {إنْ يَـمسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} كلاهما بفتـح القاف, بـمعنى: إن يـمسسكم القتل والـجراح يا معشر أصحاب مـحمد, فقد مسّ القوم من أعدائكم من الـمشركين قرح قتل وجراح مثله. وقرأ عامة قراء الكوفة: «إنْ يَـمسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ».
وأولـى القراءتـين بـالصواب, قراءة من قرأ: {إنْ يَـمسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} بفتـح القاف فـي الـحرفـين لإجماع أهل التأويـل علـى أن معناه القتل والـجراح, فذلك يدلّ علـى أن القراءة هي الفتـح. وكان بعض أهل العربـية يزعم أن القَرْح والقُرْح لغتان بـمعنى واحد, والـمعروف عند أهل العلـم بكلام العرب ما قلنا. ذكر من قال: إن القرح الـجراح والقتل:
6385ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: {إنْ يَـمسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} قال: جراح وقتل.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
6386ـ حدثنـي مـحمد بن سنان, قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي, عن عبـاد, عن الـحسن, فـي قوله: {إنْ يَـمسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} قال: إن يقتلوا منكم يوم أُحد, فقد قتلتـم منهم يوم بدر.
6387ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {إنْ يَـمسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ}. والقرح: الـجراحة, وذاكم يوم أُحد, فشا فـي أصحاب نبـي الله صلى الله عليه وسلم يومئذ القتل والـجراحة, فأخبرهم الله عزّ وجلّ أن القوم قد أصابهم من ذلك مثل الذي أصابكم, وأن الذي أصابكم عقوبة.
6388ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: {إنْ يَـمسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} قال: ذلك يوم أُحد, فشا فـي الـمسلـمين الـجراح, وفشا فـيهم القتل, فذلك قوله: {إنْ يَـمسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} يقول: إن كان أصابكم قرح فقد أصاب عدوكم مثله, يعزّي أصحاب مـحمد صلى الله عليه وسلم ويحثهم علـى القتال.
6389ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: {إنْ يَـمسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} والقرح: هي الـجراحات.
6390ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {إنْ يَـمسَسْكُمْ قَرْحٌ} أي جراح, {فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ}: أي جراح مثلها.
6391ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا حفص بن عمر, قال: حدثنا الـحكم بن أبـان, عن عكرمة, عن ابن عبـاس, قال: نام الـمسلـمون وبهم الكلوم ـ يعنـي يوم أُحد ـ قال عكرمة: وفـيهم أنزلت: {إنْ يَـمسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلكَ الأيّامُ نُداوِلِهَا بـينَ الناسِ} وفـيهم أنزلت: {إنْ تَكُونُوا تَأْلَـمُونَ فإنّهُمْ يأْلَـمُونَ كَما تَأْلَـمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لا يَرْجُونَ}.
وأما تأويـل قوله: {إنْ يَـمسَسْكُمْ قَرْحٌ} فإنه: إن يصبكم. كما:
6392ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: حدثنا عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: {إن يـمْسَسْكُم}: إن يصبكم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَتِلكَ الأيّامُ نُدَاوِلهَا بَـيْنَ النّاسِ}.
يعنـي تعالـى ذكره (بقوله): {وتِلْكَ الأيّامُ نُدَاوِلُها بَـيْنَ النّاسِ} أيام بدر وأُحد, ويعنـي بقوله: {نُدَاوِلُهَا بَـيْنَ النّاسِ}: نـجعلها دولاً بـين الناس مصرفة, ويعنـي بـالناس: الـمسلـمين والـمشركين. وذلك أن الله عزّ وجلّ أدال الـمسلـمين من الـمشركين ببدر, فقتلوا منهم سبعين, وأسروا سبعين, وأدال الـمشركين من الـمسلـمين بـأُحد, فقتلوا منهم سبعين سوى من جرحوا منهم, يقال منه: أدال الله فلانا من فلان فهو يديـله منه إدالة إذا ظفر به فـانتصر منه مـما كان نال منه الـمدال منه.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
6393ـ حدثنـي مـحمد بن سنان, قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي, عن عبـاد, عن الـحسن: {وَتِلْكَ الأيّامُ نُدَاوِلُهَا بَـيْنَ النّاسِ} قال: جعل الله الأيام دولاً, أدال الكفـار يوم أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
6394ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {وَتِلْكَ الأيّامُ نُدَاوِلُهَا بَـيْنَ الناسِ}: إنه والله لولا الدول ما أوذي الـمؤمنون, ولكن قد يدال للكافر من الـمؤمن, ويبتلـى الـمؤمن بـالكافر لـيعلـم الله من يطيعه مـمن يعصيه ويعلـم الصادق من الكاذب.
6395ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, قوله: {وَتِلْكَ الأيّامُ نُدَاوِلُهَا بَـيْنَ الناسِ} فأظهر الله عزّ وجلّ نبـيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه علـى الـمشركين يوم بدر, وأظهر علـيهم عدوّهم يوم أُحد. وقد يدال الكافر من الـمؤمن, ويبتلـى الـمؤمن بـالكافر, لـيعلـم الله من يطيعه مـمن يعصيه ويعلـم الصادق من الكاذب, وأما من ابتلـي منهم من الـمسلـمين يوم أُحد, فكان عقوبة بـمعصيتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
6396ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: {وَتِلْكَ الأيّامُ نُدَاوِلُهَا بَـيْنَ الناسِ}: يوما لكم, ويوما علـيكم.
6397ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج: قال ابن عبـاس: {نُدَاوِلُهَا بَـيْنَ الناسِ} قال: أدال الـمشركين علـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم يوم أُحد.
6398ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: حدثنا أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قوله: {وَتِلْكَ الأيّامُ نُدَاوِلُهَا بَـيْنَ الناسِ} فإنه كان يوم أُحد بـيوم بدر, قتل الـمؤمنون يوم أُحد, اتـخذ الله منهم شهداء, وغلب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر الـمشركين, فجعل له الدولة علـيهم.
6399ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا حفص بن عمر, قال: حدثنا الـحكم بن أبـان, عن عكرمة, عن ابن عبـاس, قال: لـما كان قتال أُحد, وأصاب الـمسلـمين ما أصاب, صعد النبـيّ صلى الله عليه وسلم الـجبل, فجاء أبو سفـيان, فقال: يا مـحمد, يا مـحمد, ألا تـخرج, ألا تـخرج؟ الـحرب سجال, يوم لنا, ويوم لكم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «أَجِيبُوهُ!» فقالوا: لا سواء لا سواء, قتلانا فـي الـجنة, وقتلاكم فـي النار. فقال أبو سفـيان: لنا عزّى, ولا عزّى لكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قُولُوا: اللّهُ مَوْلانا وَلا مَوْلَـى لَكُمْ». فقال أبو سفـيان: اعل هبل! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم, «قُولُوا: اللّهُ أعلَـى وأجَلّ». فقال أبو سفـيان: موعدكم وموعدنا بدر الصغرى. قال عكرمة: وفـيهم أنزلت: {وَتِلْكَ الأيّامُ نُدَاوِلُهَا بَـيْنَ الناسِ}.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: حدثنا ابن الـمبـارك. عن ابن جريج. عن ابن عبـاس, فـي قوله: {وَتِلْكَ الأيامُ نُداوِلُهَا بَـيْنَ النّاسِ}: فإنه أدال علـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم يوم أحد.
6400ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {وَتِلَكَ الأيّامُ نُدَاوِلُهَ بَـيَنَ النّاسِ}: أي نصرفها للناس بـالبلاء والتـمـحيص.
6401ـ حدثنـي إبراهيـم بن عبد الله, أخبرنا عبد الله بن عبد الوهاب الـحجبـي, قال: حدثنا حماد بن زيد, عن ابن عون, عن مـحمد فـي قول الله: {وَتِلْكَ الأيّامُ نُدَاوِلُهَا بَـيْنَ الناسِ} قال: يعنـي الأمراء.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلـيَعْلَـمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَتّـخذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللّهُ لا يُحبّ الظّالِـمينَ}.
يعنـي بذلك تعالـى ذكره: ولـيعلـم الله الذين آمنوا ويتـخذ منكم شهداء نداولها بـين الناس. ولو لـم يكن فـي الكلام واو لكان قوله: «لـيعلـم» متصلاً بـما قبله, وكان: وتلك الأيام نداولها بـين الناس لـيعلـم الله الذين آمنوا. ولكن لـما دخـلت الواو فـيه آذنت بأن الكلام متصل بـما قبلها, وأن بعدها خبرا مطلوبـا للام التـي فـي قوله: «ولـيعلـم», متعلقة به.
فإن قال قائل: وكيف قـيـل: {وَلـيَعْلَـمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُو} معرفة, وأنت لا تستـجيز فـي الكلام: قد سألت فعلـمت عبد الله, وأنت تريد: علـمت شخصه, إلا أن تريد: علـمت صفته وما هو؟ قـيـل: إن ذلك إنـما جاز مع الذين, لأن فـي «الذين» تأويـل «مَنْ» و«أيّ», وكذلك جائز مثله فـي الألف واللام, كما قال تعالـى ذكره: {فَلَـيَعْلَـمَنّ اللّهُ الّذِينَ صَدَقُوا وَلَـيَعْلَـمَنّ الكاذِبِـينَ} لأن فـي الألف واللام من تأويـل «أيّ», و«من» مثل الذي فـي «الذي». ولو جعل مع الاسم الـمعرفة اسم فـيه دلالة علـى «أيّ» جاز, كما يقال: سألت لأعلـم عبد الله من عمرو, ويراد بذلك: لأعرف هذا من هذا.
فتأويـل الكلام: ولـيعلـم الله الذين آمنوا منكم أيها القوم من الذين نافقوا منكم, نداول بـين الناس, فـاستغنى بقوله: {وَلـيَعْلَـمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا منكم} عن ذكر قوله: {مِنَ الّذِينَ نافَقُو} لدلالة الكلام علـيه, إذ كان فـي قوله: {الّذِينَ آمَنُو} تأويـل «أيّ» علـى ما وصفنا. فكأنه قـيـل: ولـيعلـم الله أيكم الـمؤمن, كما قال جل ثناؤه: {لنَعْلَـمَ أيّ الـحِزْبَـيْنِ أحْصَى} غير أن الألف واللام والذي ومِن, إذا وضعت مع العلـم موضع أيّ نصبت بوقوع العلـم علـيه, كما قـيـل: ولـيعلـمنّ الكاذبـين, فأما «أيّ» فإنها ترفع.
وأما قوله: {وَيَتّـخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ} فإنه يعنـي: ولـيعلـم الله الذين آمنوا, ولـيتـخذ منكم شهداء: أي لـيكرم منكم بـالشهادة من أراد أن يكرمه بها. والشهداء جمع شهيد¹ كما:
6402ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {وَلـيَعْلَـمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَتّـخذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ} أي لـيـميز بـين الـمؤمنـين والـمنافقـين, ولـيكرم من أكرم من أهل الإيـمان بـالشهادة.
6403ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: أخبرنا ابن الـمبـارك قراءة علـى ابن جريج فـي قوله: {وَلـيَعْلَـمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَتّـخذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ} قال: فإن الـمسلـمين كانوا يسألون ربهم: ربنا أرنا يوما كيوم بدر, نقاتل فـيه الـمشركين, ونُبْلـيكَ فـيه خيرا, ونلتـمس فـيه الشهادة! فلقوا الـمشركين يوم أُحد, فـاتـخذ منهم شهداء.
6404ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {وَلـيَعْلَـمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَتّـخذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ} فكرّم الله أولـياءه بـالشهادة بأيدي عدوّهم, ثم تصير حواصل الأمور وعواقبها لأهل طاعة الله.
6405ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج: {وَلـيَعْلَـمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَتّـخذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ} قال: قال ابن عبـاس: كانوا يسألون الشهادة, فلقوا الـمشركين يوم أُحد, فـاتـخذ منهم شهداء.
6406ـ حدثت عن الـحسين بن الفرج, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {وَلـيَعْلَـمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَتّـخذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ} كان الـمسلـمون يسألون ربهم أن يريهم يوما كيوم بدر, يبلون فـيه خيرا, ويرزقون فـيه الشهادة, ويرزقون الـجنة والـحياة والرزق. فلقـي الـمسلـمون يوم أُحد فـاتـخذ الله منهم شهداء, وهم الذين ذكرهم الله عزّ وجلّ, فقال: {وَلا تَقُولُوا لِـمَنْ يُقتَلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ أمْوَاتٌ}... الاَية.
وأما قوله: {وَاللّهُ لا يُحِبّ الظالِـمِينَ} فإنه يعنـي به: الذين ظلـموا أنفسهم بـمعصيتهم ربهم. كما:
6407ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {وَاللّهُ لا يُحِبّ الظّالِـمِينَ}: أي الـمنافقـين الذي يظهرون بألسنتهم الطاعة, وقلوبهم مصرّة علـى الـمعصية