تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 8 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 8

007

وقوله: 49- "إذ نجيناكم" متعلق بقوله: "اذكروا" والنجاة: النجوة من الأرض وهي ما ارتفع منها، ثم سمي كل فائز ناجياً. وآل فرعون: قومه، وأصل آل أهل بدليل تصغيره على أهيل، وقيل غير ذلك، وهو يضاف إلى ذوي الخطر. قال الأخفش: إنما يقال في الرئيس الأعظم نحو آل محمد. ولا يضاف إلى البلدان فلا يقال من آل المدينة. وقال الأخفش: قد سمعناه في البلدان قالوا آل المدينة. واختلفوا هل يضاف إلى المضمر أم لا، فمنعه قوم وسوغه آخرون وهو الحق، ومنه قول عبد المطلب: ‌وانصر على آل الصليـ ـب وعابديه اليوم آلك‌ وفرعون: قيل هو اسم ذلك الملك بعينه- وقيل إنه اسم لكل ملك من ملوك العمالقة كما يسمى من ملك الفرس كسرى، ومن ملك الروم قيصر، ومن ملك الحبشة النجاشي. واسم فرعون موسى المذكور هنا: قابوس في قول أهل الكتاب. وقال وهب: اسمه الوليد بن مصعب بن الريان. قال المسعودي: لا يعرف لفرعون تفسير بالعربية. وقال الجوهري: إن كل عات يقال له فرعون، وقد تفرعن وهو ذو فرعنة: أي دهاء ومكر. وقال في الكشاف: تفرعن فلان: إذا عتا وتجبر. ومعنى قوله: "يسومونكم" يولونكم، قاله أبو عبيدة، وقيل: يذيقونكم ويلزمونكم إياه، وأصل السوم الدوام، ومنه سائمة الغنم لمداومتها الرعي، ويقال: سامه خطة خسف: إذا أولاه إياها. وقال في الكشاف: أصله من سام السلعة إذا طلبها، كأنه بمعنى يبغونكم سوء العذاب ويريدونكم عليه انتهى. وسوء العذاب: أشده، وهو صفة مصدر محذوف: أي يسومونكم سوماً سوء العذاب، ويجوز أن يكون مفعولاً ثانياً، وهذه الجملة في محل رفع على أنها خبر لمبتدأ مقدر، ويجوز أن يكون في محل نصب على الحال: أي سائمين لكم. وقوله: "يذبحون" وما بعده بدل من قوله: "يسومونكم" وقال الفراء: إنه تفسير لما قبله وقرأه الجماعة بالتشديد، وقرأ ابن محيصن بالتخفيف. والذبح في الأصل: الشق، وهو فري أوداج المذبوح. والمراد بقوله تعالى: "ويستحيون نساءكم" يتركونهن أحياء ليستخدموهن ويمتهنوهن، وإنما أمر بذبح الأبناء واستحياء البنات لأن الكهنة أخبروه بأنه يولد مولود يكون هلاكه على يده، وعبر عن البنات باسم النساء لأنه جنس يصدق على البنات. وقالت طائفة: أنه أمر بذبح الرجال واستدلوا بقوله: "نساءكم" والأول أصح بشهادة السبب، ولا يخفى ما في قتل الأبناء واستحياء البنات للخدمة ونحوها من إنزال الذل بهم وإلصاق الإهانة الشديدة بجميعهم لما في ذلك من العار . والإشارة بقوله : " وفي ذلكم "إلى جملة الأمر. والبلاء يطلق تارة على الخير، وتارة على الشر، فإن أريد به هنا الشر كانت الإشارة بقوله: "وفي ذلكم بلاء" إلى ما حل بهم من النقمة بالذبح ونحوه، وإن من تفضيلهم على العالمين. وقد اختلف السلف ومن بعدهم في مرجع الإشارة، فرجح الجمهور الأول، ورجح الآخرون الآخر. قال ابن جرير: وأكثر ما يقال في الشر بلوته أبلوه بلاءً، وفي الخير أبليه إبلاءً وبلاءً، قال زهير: جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو قال: فجمع بين اللغتين لأنه أراد فأنعم عليهما خير النعم التي يختبر بها عباده.
وقوله: 50- "وإذ فرقنا" متعلق بما تقدم من قوله: "اذكروا" وفرقنا: فلقنا، وأصل الفرق الفصل، ومنه فرق الشعر، وقرأ الزهري فرقنا بالتشديد، والباء في قوله: "بكم" قيل: هي بمعنى اللام: أي لكم، وقيل: هي الباء السببية: أي فرقناه بسببكم، وقيل: إن الجار والمجرور في محل الحال: أي فرقناه متلبساً بكم، والمراد ها هنا أن فرق البحر كان بهم: أي بسبب دخولهم فيه: أي لما صاروا بين الماءين صار الفرق بهم. وأصل البحر في اللغة: الاتساع، أطلق على البحر الذي هو مقابل البر لما فيه من الاتساع بالنسبة إلى النهر والخليج، ويطلق على الماء المالح، ومنه أبحر الماء: إذا ملح، قال نصيب: وقد عاد ماء الأرض بحراً فزادني إلى مرضي أن أبحر المشرب العذب وقوله: "فأنجيناكم" أي أخرجناكم منه: "وأغرقنا آل فرعون" فيه. وقوله: "وأنتم تنظرون" في محل نصب على الحال: أي حال كونكم ناظرين إليهم بأبصاركم، وقيل معناه: وأنتم تنظرون: أي ينظر بعضكم إلى البعض الآخر من السالكين في البحر، وقيل: نظروا إلى أنفسهم ينجون وإلى آل فرعون يغرقون. والمراد بآل فرعون هنا هو وقومه وأتباعه. وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب أنه كان إذا تلا "اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم" قال: مضى القوم، وإنما يعني به أنتم. وأخرج ابن جرير عن سفيان بن عيينة قال في قوله: "اذكروا نعمتي" هي أيادي الله وأيامه. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال: نعمة الله التي أنعم بها على بني إسرائيل فيما سمى وفيما سوى ذلك، فجر لهم الحجر وأنزل عليهم المن والسلوى وأنجاهم من عبودية آل فرعون. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة في قوله: "وأني فضلتكم على العالمين" قال: فضلوا على العالم الذي كانوا فيه، ولكل زمان عالم. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير عن أبي العالية في قوله: "فضلتكم على العالمين" قال: بما أعطوا من الملك والرسل والكتب على من كان في ذلك الزمان فإن لكل زمان عالماً. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "لا تجزي نفس عن نفس شيئاً" قال: لا تغني نفس مؤمنة عن نفس كافرة من المنفعة شيئاً. وأخرج ابن جرير عن عمرو بن قيس الملائي عن رجل من بني أمية من أهل الشام أحسن الثناء عليه قال: "قيل: يا رسول الله ما العدل؟ قال: العدل الفدية". وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس نحوه. قال ابن أبي حاتم وروي عن أبي مالك والحسن وسعيد بن جبير وقتادة والربيع بن أنس نحو ذلك. وأخرج عبد الرزاق عن علي في تفسير الصرف والعدل قال: التطوع والفريضة. قال ابن كثير: وهذا القول غريب ههنا، والقول الأول أظهر في تفسير هذه الآية. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: قالت الكهنة لفرعون إنه يولد في هذا العام مولود يذهب بملكه، فيجعل فرعون على كل ألف امرأة مائة رجل، وعلى كل مائة عشرة، وعلى كل عشر رجلاً، فقال: انظروا كل امرأة حامل في المدينة، فإذا وضعت حملها فإن كان ذكراً فاذبحوه، وإن كان أنثى فخلوا عنها، وذلك قوله: "يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم" وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: "يسومونكم سوء العذاب" قال: إن فرعون ملكهم أربعمائة سنة. فقالت له الكهنة: إنه سيولد العام بمصر غلام يكون هلاكك على يديه، فبعث في أهل مصر نساء قوابل، فإذا ولدت امرأة غلاماً أتي به فرعون فقتله، ويستحيي الجواري. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "بلاء من ربكم عظيم" يقول: نقمة. وأخرج وكيع عن مجاهد نحوه. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: "وإذ فرقنا بكم البحر" فقال: إي والله لفرق البحر بينهم حتى صار طريقاً يبساً يمشون فيه، فأنجاهم الله وأغرق آل فرعون عدوهم. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس قال: "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فرأى اليهود يصومون يوم عاشوراء فقال: ما هذا اليوم؟ قالوا: هذا يوم صالح نجى الله فيه بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحن أحق بموسى منكم، فصامه وأمر بصومه". وقد أخرج الطبراني وأبو نعيم في الحلية عن سعيد بن جبير أن هرقل كتب إلى معاوية يسأله عن أمور، منها عن البقعة التي لم تصبها الشمس إلا ساعة، فكتب معاوية إلى ابن عباس فأجابه عن تلك الأمور وقال: وأما البقعة التي لم تصبها الشمس إلا ساعة من نهار: فالبحر الذي أفرج عن بني إسرائيل. ولعله سيأتي إن شاء الله تعالى زيادة على ما هنا عند تفسير قوله تعالى: "أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم".
قرأ أبو عمرو 51- "وعدنا" بغير ألف، ورجحه أبو عبيدة وأنكر واعدنا قال: لأن المواعدة إنما تكون من البشر، فأما من الله فإنما هو التفرد بالوعد على هذا وجدنا القرآن كقوله "وعدكم وعد الحق" وقوله: "وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين" ومثله، قال أبو حاتم ومكي، وإنما قالوا هكذا نظراً إلى أصل المفاعلة أنها تفيد الاشتراك في أصل الفعل وتكون من كل واحد من المتواعدين ونحوهما، ولكنها قد تأتي للواحد في كلام العرب كما في قولهم: داويت العليل، وعاقبت اللص، وطارقت النعل، وذلك كثير في كلامهم. وقرأه الجمهور واعدنا قال النحاس: وهي أجود وأحسن وليس قوله: "وعد الله الذين آمنوا" من هذا في شيء، لأن واعدنا موسى إنما هو من باب الموافاة، وليس هو من الوعد والوعيد في شيء، وإنما هو من قولك: موعدك يوم الجمعة، وموعدك موضع كذا، والفصيح في هذا أن يقال: واعدته. قال الزجاج: واعدنا بالألف ها هنا جيد، لأن الطاعة في القبول بمنزلة المواعدة، فمن الله سبحانه وعد ومن موسى قبول. قوله: "أربعين ليلة" قال الزجاج: التقدير تمام أربعين ليلة، وهي عند أكثر المفسرين ذو القعدة وعشر من ذي الحجة، وإنما خص الليالي بالذكر دون الأيام لأن الليلة أسبق من اليوم فهي قبله في الرتبة. ومعنى قوله: "ثم اتخذتم العجل" أي جعلتم العجل إلهاً من بعده: أي من بعد مضي موسى إلى الطور. وقد ذكر بعض المفسرين أنهم عدوا عشرين يوماً وعشرين ليلة. وقالوا: قد اختلف موعده فاتخذوا العجل، وهذا غير بعيد منهم، فقد كانوا يسلكون طرائق من التعنت خارجة عن قوانين العقل مخالفة لما يخاطبون به بل ويشاهدونه بأبصارهم، فلا يقال كيف تعدون الأيام والليالي على تلك الصفة، وقد صرح لهم في الوعد بأنها أربعون ليلة، وإنما سماهم ظالمين لأنهم أشركوا بالله وخالفوا موعد نبيهم عليه السلام، والجملة في موضع نصب على الحال.
وقوله: 52- "من بعد ذلك" أي من بعد عبادتكم العجل، وسمي العجل عجلاً لاستعجالهم عبادته كذا قيل، وليس بشيء لأن العرب تطلق هذا الاسم على ولد البقر. وقد كان جعله لهم السامري على صورة العجل. وقوله: "لعلكم تشكرون" أي لكي تشكروا ما أنعم الله به عليكم من العفو عن ذنبكم العظيم الذي وقعتم فيه. وأصل الشكر في اللغة: الظهور من قولهم دابة شكور إذا ظهر عليها من السمن فوق ما تعطى من العلف. قال الجوهري الشكر: الثناء على المحسن بما أولاك من المعروف، يقال: شكرته وشكرت له، وباللام أفصح، وقد تقدم معناه، والشكران خلاف الكفران.
53- " وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون " والكتاب: التوراة بالإجماع من المفسرين. واختلفوا في الفرقان، وقال الفراء وقطرب: المعنى آتينا موسى التوراة ومحمداً الفرقان. وقد قيل: إن هذا غلط أوقعهما فيه أن الفرقان مختص بالقرآن وليس كذلك، فقد قال الله تعالى: "ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان" وقال الزجاج: إن الفرقان هو الكتاب أعيد ذكره تأكيداً. وحكي نحوه عن الفراء، ومنه قول عنترة: حييت من طلل تقادم عهده أقوى وأقفر بعد أم الهيثم وقيل: إن الواو صلة، والمعنى: آتينا موسى الكتاب الفرقان، والواو قد تزاد في النعوت كقول الشاعر: إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم وقيل المعنى: أن ذلك المنزل جامع بين كونه كتاباً وفارقاً بين الحق والباطل، وهو كقوله: "ثم آتينا موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن وتفصيلاً لكل شيء" وقيل الفرقان: الفرق بينهم وبين قوم فرعون، أنجى هؤلاء. وقال ابن زيد: الفرقان: انفراق البحر، وقيل الفرقان: الفرج من الكرب، وقيل: إنه الحجة والبيان بالآيات التي أعطاه الله من العصا واليد وغيرهما، وهذا أولى وأرجح ويكون العطف على بابه كأنه قال: آتينا موسى التوراة والآيات التي أرسلناه بها معجزة له.
قوله: 54- "يا قوم" القوم يطلق تارة على الرجال دون النساء، ومنه قول زهير: وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء ومنه قوله تعالى: "لا يسخر قوم من قوم"، ثم قال: "ولا نساء من نساء"، ومنه: "ولوطاً إذ قال لقومه" أراد الرجال، وقد يطلق على الجميع كقوله تعالى: "إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه" والمراد هنا بالقوم عبدة العجل. والبارئ الخالق، وقيل: إن البارئ هنا إشارة إلى عظيم جرمهم: أي فتوبوا إلى الذي خلقكم وقد عبدتم معه غيره. والفاء في قوله: "فتوبوا" للسببية: أي لتسبب التوبة عن الظلم، وفي قوله: "فاقتلوا" للتعقيب: أي اجعلوا القتل متعقباً للتوبة. قال القرطبي: وأجمعوا على أنه لم يؤمر كل واحد من عبدة العجل بأن يقتل نفسه بيده، قيل: قاموا صفين وقتل بعضهم بعضاً، وقيل: وقف الذين عبدوا العجل ودخل الذين لم يعبدوه عليهم بالسلاح فقتلوهم. وقوله: "فتاب عليكم" قيل: في الكلام حذف: أي فقتلتم نفسكم فتاب عليكم: أي على الباقين منكم. وقيل: هو جواب شرط محذوف كأنه قال: فإن فعلتم فقد تاب عليكم. وأما ما قاله صاحب الكشاف: من أنه يجوز أن يكون خطاباً من الله لهم على طريقة الإلتفات فيكون التقدير: ففعلتم ما أمركم به موسى فتاب عليكم بارئكم، فهو بعيد جداً كما لا يخفى. وقد أخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله: "أربعين ليلة" قال: ذا العقدة وعشراً من ذي الحجة. وقد أخرج ابن جرير عنه في قوله: "من بعد ذلك" قال: من بعد ما اتخذتم العجل. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله: "وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان" قال: الكتاب هو الفرقان، فرق بين الحق والباطل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال: الفرقان جماع اسم التوراة والإنجيل والزبور والقرآن. وأخرج ابن جرير عنه قال: أمر موسى قومه عن أمر ربه أن يقتلوا أنفسهم، واختبأ الذين عكفوا على العجل فجلسوا، وقام الذين لم يعكفوا على العجل فأخذوا الخناجر بأيديهم وأصابتهم ظلمة شديدة فجعل يقتل بعضهم بعضاً، فانجلت الظلمة عنهم عن سبعين ألف قتيل، كل من قتل منهم كانت له توبة، وكل من بقي كانت له توبة. وأخرج ابن أبي حاتم عن علي قال: قالوا لموسى ما توبتنا؟ قال: يقتل بعضكم بعضاً، فأخذوا السكاكين فجعل الرجل يقتل أخاه وأباه وابنه لا يبالي من قتل حتى قتل منهم سبعون ألفاً، فأوحى الله إلى موسى: مرهم فليرفعوا أيديهم، وقد غفر لمن قتل وتيب على من بقي. وقد أخرج عبد بن حميد عن قتادة، وأخرج أحمد في الزهد وابن جرير عن الزهري نحواً مما سبق. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: "إلى بارئكم" قال: خالقكم.
قوله: 55- "وإذ قلتم" هذه الجملة معطوفة على التي قبلها، وظاهر السياق أن القائلين هذه المقالة هم قوم موسى- وقيل: هم السبعون الذين اختارهم. وذلك أنهم لما سمعوا كلام الله قالوا بعد ذلك هذه المقالة فأرسل الله عليهم ناراً فأحرقتهم. ثم دعا موسى ربه فأحياهم كما قال تعالى هنا: "ثم بعثناكم من بعد موتكم" وسيأتي ذلك في الأعراف إن شاء الله. والجهرة: المعاينة، وأصلها الظهور، ومنه الجهر بالقراءة والمجاهرة بالمعاصي، ورأيت الأمر جهرة وجهاراً: أي غير مستتر بشيء، وهي مصدر واقع موقع الحال. وقرأ ابن عباس جهرة بفتح الهاء وهي لغتان مثل زهرة وزهرة، ويحتمل أن يكون على هذه القراءة جمع جاهر. والصاعقة قد تقدم تفسيرها، وقرأ عمر وعثمان وعلي الصعقة وهي قراءة ابن محيصن، والمراد بأخذ الصاعقة إصابتها إياهم. "وأنتم تنظرون" في محل نصب على الحال، والمراد من هذا النظر الكائن منهم أنهم نظروا أوائل الصاعقة النازلة بهم الواقعة عليهم لا آخرها الذي ماتوا عنده، وقيل: المراد بالصاعقة الموت، واستدل عليه بقوله: "ثم بعثناكم من بعد موتكم" ولا موجب للمصير إلى هذا التفسير، لأن المصعوق قد يموت كما في هذه الآية، وقد يخشى عليه ثم يفيق كما في قوله تعالى: "وخر موسى صعقاً فلما أفاق" ومما يوجب ذلك قوله: "وأنتم تنظرون" فإنها لو كانت الصاعقة عبارة عن الموت لم يكن لهذه الجملة كبير معنى، بل قد يقال إنه لا يصح أن تنظروا الموت النازل بهم إلا أن يكون المراد نظر الأسباب المؤثرة للموت.
والمراد بقوله: 56- "ثم بعثناكم" الإحياء لهم لوقوعه بعد الموت، وأصل البعث الإثارة للشيء من محله، يقال: بعثت الناقة: أي أثرها، ومنه قول امرئ القيس: وإخوان صدق قد بعثت بسحرة فقاموا جميعاً بين غاث ونشوان وقول عنترة: وصحابة شم الأنوف بعثتهم ليلا وقد مال الكرى بطلاها وإنما عوقبوا بأخذ الصاعقة لهم لأنهم طلبوا ما لم يأذن الله به من رؤيته في الدنيا. وقد ذهبت المعتزلة ومن تابعهم إلى إنكار الرؤية في الدنيا والآخرة، وذهب من عداهم إلى جوازها في الدنيا والآخرة ووقوعها في الآخرة. وقد تواترت الأحاديث الصحيحة بأن العباد يرون ربهم في الآخرة، وهي قطيعة الدلالة لا ينبغي لمنصف أن يتمسك في مقابلها بتلك القواعد الكلامية التي جاء بها قدماء المعتزلة، وزعموا أن العقل قد حكم بها دعوى مبينة على شفا جرف هار، وقواعد لا يغتر بها إلا من لا يحظ من العلم النافع بنصيب، وسيأتيك إن شاء الله بيان ما تمسكوا به من الأدلة القرآنية، وكلها خارج عن محل النزاع بعيد من موضع الحجة، وليس هذا موضع المقال في هذه المسألة.
قوله: 57- "وظللنا عليكم الغمام" أي: فعلناه كالظلة. والغمام جمع غمامة كسحابة وسحاب، قاله الأخفش. قال الفراء: ويجوز غمائم. وقد ذكر المفسرون أن هذا جرى في التيه بين مصر والشام لما امتنعوا من دخول مدينة الجبارين. والمن: قيل هو الترنجين. قال النحاس: هو بتشديد الراء وإسكان النون، ويقال: الطرنجين بالطاء، وعلى هذا أكثر المفسرين، وهو طل ينزل من السماء على شجر أو حجر ويحلو وينعقد عسلاً ويجف جفاف الصمغ، ذكر معناه في القاموس، وقيل: إن المن العسل، وقيل: الشراب حلو، وقيل: خبز الرقاق، وقيل: إنه مصدر يعم جميع ما من الله به على عباده من غير تعب ولا زرع، ومنه ما ثبت في صحيح البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن الكمأة من المن الذي أنزل على موسى". وقد ثبت مثله من حديث أبي هريرة عند أحمد والترمذي، ومن حديث جابر وأبي سعيد وابن عباس عند النسائي والسلوى: قيل هو السماني، كحباري طائر يذبحونه فيأكلونه. قال ابن عطية: السلوى طير بإجماع المفسرين، وقد غلط الهذلي فقال: وقاسمهما بالله جهداً لأنتما ألذ من السلوى إذا ما أشورها ظن أن السلوى العسل. قال القرطبي: ما ادعاه من الإجماع لا يصح. وقد قال المؤرخ أحد علماء اللغة والتفسير: إنه العسل. واستدل ببيت الهذلي، وذكر أنه كذلك بلغة كنانة، وأنشد: لو شربت السلوى ما سلوت ما بي غنا عنك وإن غنيب وقال الجوهري: والسلوى العسل. قال الأخفش: السلوى لا واحد له من لفظه مثل الخير والشر، وهو يشبه أن يكون واحده سلوى. وقال الخليل: واحده سلواة، وأنشد: وإني لتعروني لذكراك سلوة كما انتفض السلواة من سلكه القطر وقال الكسائي: السلوى واحدة وجمعه سلاوى. وقوله: "كلوا" أي قلنا لهم كلوا، وفي الكلام حذف، والتقدير: قلنا كلوا فعصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر فطلموا أنفسهم وما ظلمونا، فحذف هذا لدلالة "ولكن كانوا أنفسهم يظلمون" عليه، وتقديم الأنفس هنا يفيد الاختصاص. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "حتى نرى الله جهرة" قال: علانية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أنس قال: هم السبعون الذين اختارهم موسى "فأخذتكم الصاعقة" قال: ماتوا "ثم بعثناكم من بعد موتكم" قال: فبعثوا من بعد الموت ليستوفوا آجالهم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله: "ثم بعثناكم" نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "وظللنا عليكم الغمام" قال: غمام أبرد من هذا وأطيب، وهو الذي يأتي الله في يوم القيامة، وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر وكان معهم في التيه. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وظللنا عليكم الغمام" قال: كان هذا الغمام في البرية ظلل عليهم الغمام من الشمس، وأطعمهم المن والسلوى حين برزوا إلى البرية، فكان المن يسقط عليهم في محلتهم سقوط الثلج أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، يسقط عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، فيأخذ الرجل قدر ما يكفيه يومه ذلك، فإن تعدى ذلك فسد ما يبقى عنده، لأنه كان يوم عيد لا يشخص فيه لأمر المعيشة ولا لطلبة شيء، وهذا كله في البرية. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: المن شيء أنزل الله عليهم مثل الطل، والسلوى طير أكبر من العصفور. وأخرج وكيع وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: المن صمغة، والسلوى طائر. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال: قالوا يا موسى كيف لنا بما ها هنا أين الطعام؟ فأنزل الله عليهم المن فكان يسقط على الشجرة الترنجين. وأخرجوا عن وهب أنه سئل ما المن؟ قال: خبز الرقاق مثل الذرة أو مثل النقي. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس قال: المن شراب كان ينزل عليهم مثل العسل، فيمزجونه بالماء ثم يشربونه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان المن ينزل عليهم بالليل على الأشجار فيغدون إليه فيأكلون منه ما شاءوا- والسلوى طائر يشبه السماني كانوا يأكلون منه ما شاءوا. وأخرج ابن جرير عنه نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في السلوى مثله. وقد روي نحو ذلك عن جماعة من التابعين ومن بعدهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وما ظلمونا" قال: نحن أعز من أن نظلم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ولكن كانوا أنفسهم يظلمون" قال: يضرون.
قال جمهور المفسرين: القرية هي بيت المقدس، وقيل: إنها أريحاء قرية من قرى بيت المقدس، وقيل: من قرى الشام. وقوله: 58- "كلوا" أمر إباحة- "رغداً" كثيراً واسعاً، وهو نعت لمصدر محذوف: أي أكلاً رغداً، ويجوز أن يكون في موضع الحال، وقد تقدم تفسيره. والباب الذي أمروا بدخوله هو باب في بيت المقدس يعرف اليوم بباب حطة، وقيل: هو باب القبة التي كان يصلي إليها موسى وبنو إسرائيل. والسجود قد تقدم تفسيره وقيل: هو هنا الانحناء، وقيل: التواضع والخضوع، واستدلوا على ذلك بأنه لو كان المراد بالسجود الحقيقي الذي هو وضع الجبهة على الأرض لامتنع الدخول المأمور به، لأنه لا يمكن الدخول حال السجود الحقيقي. وقال في الكشاف: إنهم أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب شكراً لله وتواضعاً. واعترضه أبو حيان في النهر الماد فقال: لم يؤمروا بالسجود، بل هو قيد في وقوع المأمور به وهو الدخول، والأحوال نسب تقييدية، والأوامر نسب إسنادية انتهى. ويجاب عنه بأن الأمر بالمقيد أمر بالقيد، فمن قال اخرج مسرعاً فهو آمر بالخروج على هذه الهيئة، فلو خرج غير مسرع كان عند أهل اللسان مخالفاً للأمر. ولا ينافي هذا كون الأحوال نسباً تقييدية، فإن اتصافها بكونها قيوداً مأموراً بها هو شيء زائد على مجرد التقييد، وقوله: "حطة" بالرفع في قراءة الجمهور على إضمار مبتدأ، قال الأخفش: وقرئت حطة نصباً على معنى احطط عنا ذنوبنا حطة، وقيل: معناها الاستغفار، ومنه قول الشاعر: فاز بالحطة التي أمر الله بها ذنب عبده مغفورا وقال ابن فارس في المجمل: "حطة" كلمة أمروا بها ولو قالوها لحطت أوزارهم. قال الرازي في تفسيره: أمرهم بأن يقولوا ما يدل على التوبة، وذلك لأن التوبة صفة القلب فلا يطلع الغير عليها، وإذا اشتهر وأخذ بالذنب ثم تاب بعده لزمه أن يحكي توبته لمن شاهد منه الذنب، لأن التوبة لا تتم إلا به. انتهى. وكون التوبة لا تتم إلا بذلك لا دليل عليه، بل مجرد عقد القلب عليها يكفي سواء اطلع الناس على ذنبه أم لا، وربما كان التكتم بالتوبة على وجه لا يطلع عليها إلا الله عز وجل أحب إلى الله وأقرب إلى مغفرته. وأما رفع ما عند الناس من اعتقادهم بقاءه على المعصية فذلك باب آخر. وقوله: "يغفر لكم" قرأه نافع بالياء التحتية المضمومة، وقرأه ابن عامر بالتاء الفوقية المضمومة وقرأه الباقون بالنون وهي أولى. والخطايا جمع خطيئة بالهمز، وقد تكلم علماء العربية في ذلك بما هو معروف في كتب الصرف. وقوله: "وسنزيد المحسنين" كأي نزيدهم إحساناً على إحسانهم المتقدم، وهو اسم فاعل من أحسن. وقد ثبت في الصحيح "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الإحسان فقال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".