تفسير الطبري تفسير الصفحة 8 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 8
009
007
 الآية : 49
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِذْ نَجّيْنَاكُم مّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلآءٌ مّن رّبّكُمْ عَظِيمٌ }
أما تأويـل قوله: وإذْ نَـجّيْناكُمْ فإنه عطف علـى قوله: يا بَنِـي إسْرَائِيـلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِـيَ فكأنه قال: اذكروا نعمتـي التـي أنعمت علـيكم, واذكروا إنعامنا علـيكم إذ نـجيناكم من آل فرعون بإنـجائنا لكم منهم.
وأما آل فرعون فإنهم أهل دينه وقومه وأشياعه. وأصل «آل» أهل, أبدلت الهاء همزة, كما قالوا ماه, فأبدلوا الهاء همزة, فإذا صغروه قالوا مُوَيه, فردّوا الهاء فـي التصغير وأخرجوه علـى أصله. وكذلك إذا صغروا آل, قالوا: أهيـل. وقد حُكي سماعا من العرب فـي تصغير آل: أويـل. وقد يقال: فلان من آل النساء, يراد به أنه منهن خـلق, ويقال ذلك أيضا بـمعنى أنه يريدهنّ ويهواهن, كما قال الشاعر:
فإنّكَ مِنْ آلِ النّساءِ وَإِنّـمَايَكُنّ لأدْنى لا وِصَالَ لِغَائِبِ
وأحسن أماكن «آل» أن ينطق به مع الأسماء الـمشهورة, مثل قولهم: آل النبـي مـحمد صلى الله عليه وسلم وآل علـيّ, وآل عبـاس, وآل عقـيـل. وغير مستـحسن استعماله مع الـمـجهول, وفـي أسماء الأرضين وما أشبه ذلك غير حسن عند أهل العلـم بلسان العرب أن يقال: رأيت آل الرجل, ورآنـي آل الـمرأة, ولا رأيت آل البصرة, وآل الكوفة. وقد ذكر عن بعض العرب سماعا أنها تقول: رأيت آل مكة وآل الـمدينة, ولـيس ذلك فـي كلامهم بـالـمستعمل الفـاشي. وأما فرعون فإنه يقال: إنه اسم كانت ملوك العمالقة بـمصر تسمّى به, كما كانت ملوك الروم يُسمّي بعضهم قـيصر وبعضهم هرقل, وكما كانت ملوك فـارس تُسمى الأكاسرة واحدهم كسرى, وملوك الـيـمن تسمى التبـابعة واحدهم تبع. وأما فرعون موسى الذي أخبر الله تعالـى عن بنـي إسرائيـل أنه نـجاهم منه فإنه يقال: إن اسمه الولـيد بن مصعب بن الريان, وكذلك ذكر مـحمد بن إسحاق أنه بلغه عن اسمه.
622ـ حدثنا بذلك مـحمد بن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: أن اسمه الولـيد بن مصعب بن الريان.
وإنـما جاز أن يقال: وَإِذْ نَـجّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ والـخطاب به لـمن لـم يدرك فرعون ولا الـمنـجين منه, لأن الـمخاطبـين بذلك كانوا أبناء من نـجاهم من فرعون وقومه, فأضاف ما كان من نعمه علـى آبـائهم إلـيهم, وكذلك ما كان من كفران آبـائهم علـى وجه الإضافة, كما يقول القائل لاَخر: فعلنا بكم كذا, وفعلنا بكم كذا, وقتلناكم وسبـيناكم, والـمخبر إما أن يكون يعنـي قومه وعشيرته بذلك أو أهل بلده ووطنه كان الـمقول له ذلك أدرك ما فعل بهم من ذلك أو لـم يدركه, كما قال الأخطل يهاجي جرير بن عطية:
وَلَقَدْ سَمَا لَكُمْ الهُذَيْـلُ فنالَكُمْبإرَابَ حَيْثُ يُقْسَمّـمُ الأنْفـالا
فـي فَـيْـلَقٍ يَدْعو الأرَاقمَ لـمْ تكُنْفرْسَانُهُ عُزْلاً وَلا أكْفَـالا
ولـم يـلق جرير هذيلاً ولا أدركه, ولا أدرك إراب ولا شهده. ولكنه لـما كان يوما من أيام قوم الأخطل علـى قوم جرير, أضاف الـخطاب إلـيه وإلـى قومه, فكذلك خطاب الله عزّ وجلّ من خاطبه بقوله: وَإِذْ نَـجّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ لـما كان فعله ما فعل من ذلك بقوم من خاطبه بـالآية وآبـائهم, أضاف فعله ذلك الذي فعله بآبـائهم إلـى الـمخاطبـين بـالآية وقومهم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: يَسُومُونُكُمْ سُوءَ العَذَاب.
وفـي قوله: يَسُومُونَكُمْ وجهان من التأويـل, أحدهما: أن يكون خبرا مستأنفـا عن فعل فرعون ببنـي إسرائيـل, فـيكون معناه حينئذٍ: واذكروا نعمتـي علـيكم إذ نـجّيتكم من آل فرعون, وكانوا من قبل يسومونكم سوء العذاب. وإذا كان ذلك تأويـله كان موضع «يسومونكم» رفعا. والوجه الثانـي: أن يكون «يسومونكم» حالاً, فـيكون تأويـله حينئذٍ: وإذْ نـجيناكم من آل فرعون سائميكم سوء العذاب, فـيكون حالاً من آل فرعون.
وأما تأويـل قوله: يَسُومُونَكُمْ فإنه يوردونكم, ويذيقونكم, ويُولونكم, يقال منه: سامه خطة ضيـم: إذا أولاه ذلك وأذاقه, كما قال الشاعر:
إنْ سِيـمَ خَسْفـا وَجْهُهُ تَرَبّدَا
فأما تأويـل قوله: سُوءَ العَذَابِ فإنه يعنـي: ما ساءهم من العذاب. وقد قال بعضهم: أشدّ العذاب ولو كان ذلك معناه لقـيـل: أسوأ العذاب.
فإن قال لنا قائل: وما ذلك العذاب الذي كانوا يسومونهم الذي كان يسوءهم؟ قـيـل: هو ما وصفه الله تعالـى فـي كتابه فقال: يُذَبّحُونَ أبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَـحْيُونَ نِساءَكُمْ. وقد قال مـحمد بن إسحاق فـي ذلك ما:
623ـ حدثنا به ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: أخبرنا ابن إسحاق, قال: كان فرعون يعذّب بنـي إسرائيـل فـيجعلهم خدما وخولاً, وصنّفهم فـي أعماله, فصنفٌ يبنون, وصنف يزرعون له, فهم فـي أعماله, ومن لـم يكن منهم فـي صنعة من عمله فعلـيه الـجزية, فسامهم كما قال الله عزّ وجل: سُوءَ العَذَابِ.
وقال السدي: جعلهم فـي الأعمال القذرة, وجعل يقتل أبناءهم, ويستـحيـي نساءهم.
624ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط عن السدي.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: يُذَبّحُونَ أبْناءَكُمْ وَيَسْتَـحْيُونَ نِساءَكُمْ.
قال أبو جعفر: وأضاف الله جل ثناؤه ما كان من فعل آل فرعون ببنـي إسرائيـل من سَوْمهم إياهم سوء العذاب وذبحهم أبناءهم واستـحيائهم نساءهم دون فرعون, وإن كان فعلهم ما فعلوا من ذلك كان بقوّة فرعون وعن أمره, لـمبـاشرتهم ذلك بأنفسهم. فبـين بذلك أن كل مبـاشر قتل نفس أو تعذيب حيّ بنفسه وإن كان عن أمر غيره, ففـاعله الـمتولـي ذلك هو الـمستـحق إضافة ذلك إلـيه, وإن كان الاَمر قاهرا الفـاعل الـمأمور بذلك سلطانا كان الاَمر أو لصّا خاربـا أو متغلبـا ف.اجرا, كما أضاف جل ثناؤه ذبح أبناء بنـي إسرائيـل واستـحياء نسائهم إلـى آل فرعون دون فرعون, وإن كانوا بقوّة فرعون وأمره إياهم بذلك فعلوا ما فعلوا مع غلبته إياهم وقهره لهم. فكذلك كل قاتل نفسا بأمر غيره ظلـما فهو الـمقتول عندنا به قصاصا, وإن كان قتله إياها بإكراه غيره له علـى قتله.
وأما تأويـل ذبحهم أبناء بنـي إسرائيـل, واستـحيائهم نساءهم, فإنه كان فـيـما ذكر لنا عن ابن عبـاس وغيره كالذي:
625ـ حدثنا به العبـاس بن الولـيد الاَملـي وتـميـم بن الـمنتصر الواسطي, قالا: حدثنا يزيد بن هارون, قال: أخبرنا الأصبغ بن زيد, قال: حدثنا القاسم بن أيوب, قال: حدثنا سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, قال: تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيـم خـلـيـله أن يجعل فـي ذرّيته أنبـياء وملوكا وائتـمروا, وأجمعوا أمرهم علـى أن يبعث رجالاً معهم الشّفـارَ, يطوفون فـي بنـي إسرائيـل, فلا يجدون مولودا ذكرا إلا ذبحوه, ففعلوا. فلـما رأوا أن الكبـار من بنـي إسرائيـل يـموتون بآجالهم, وأن الصغار يذبحون, قال: توشكون أن تُفنوا بنـي إسرائيـل فتصيروا إلـى أن تبـاشروا من الأعمال والـخدمة ما كانوا يكفونكم, فـاقتلوا عاما كل مولود ذكر فتقلّ أبناؤهم ودعوا عاما. فحملت أمّ موسى بهارون فـي العام الذي لا يذبح فـيه الغلـمان, فولدته علانـية أمه, حتـى إذا كان القابل حملت بـموسى.
626ـ وقد حدثنا عبد الكريـم بن الهيثم, قال: حدثنا إبراهيـم بن بشار الرمادي, قال: حدثنا سفـيان بن عيـينة, قال: حدثنا أبو سعيد, عن عكرمة, عن ابن عبـاس, قال: قالت الكهنة لفرعون: إنه يولد فـي هذه العام مولود يذهب بـملكك. قال: فجعل فرعون علـى كل ألف امرأة مائة رجل, وعلـى كل مائة عشرة, وعلـى كل عشرة رجلاً فقال: انظروا كل امرأة حامل فـي الـمدينة, فإذا وضعت حملها فـانظروا إلـيه, فإن كان ذكرا فـاذبحوه, وإن كان أنثى فخـلّوا عنها. وذلك قوله: يُذَبّحُونَ أبْناءَكُمْ وَيَسْتَـحْيُونَ نِساءَكُمْ وفِـي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبّكُمْ عَظِيـمٌ.
627ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية فـي قوله: وَإِذْ نَـجّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونُكُمْ سُوءَ العَذَابِ قال: إن فرعون ملكهم أربعمائة سنة, فقالت الكهنة: إنه سيولد العام بـمصر غلام يكون هلاكك علـى يديه. فبعث فـي أهل مصر نساء قوابل, فإذا ولدت امرأة غلاما أتـى به فرعون فقتله ويستـحيـي الـجواري.
628ـ وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحق بن الـحجاج, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع بن أنس فـي قوله: وَإِذْ نَـجّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ الآية, قال: إن فرعون ملكهم أربعمائة سنة, وإنه أتاه آت, فقال: إنه سينشأ فـي مصر غلام من بنـي إسرائيـل فـيظهر علـيك ويكون هلاكك علـى يديه. فبعث فـي مصر نساء. فذكر نـحو حديث آدم.
629ـ وحدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط بن نصر عن السدي, قال: كان من شأن فرعون أنه رأى فـي منامه أن نارا أقبلت من بـيت الـمقدس حتـى اشتـملت علـى بـيوت مصر, فأحرقت القبط وتركت بنـي إسرائيـل وأخربت بـيوت مصر, فدعا السحرة والكهنة والعافة والقافة والـحازَة, فسألهم عن رؤياه, فقالوا له: يخرج من هذا البلد الذي جاء بنو إسرائيـل منه يعنون بـيت الـمقدس رجل يكون علـى وجهه هلاك مصر. فأمر ببنـي إسرائيـل أن لا يولد لهم غلام إلا ذبحوه, ولا تولد لهم جارية إلا تركت. وقال للقبط: انظروا مـملوكيكم الذين يعملون خارجا فأدخـلوهم, واجعلوا بنـي إسرائيـل يـلون تلك الأعمال القذرة. فجعل بنـي إسرائيـل فـي أعمال غلـمانهم, وأدخـلوا غلـمانهم فذلك حين يقول الله تبـارك وتعالـى: إِنّ فِرْعَوْنَ عَلا فِـي الأرْضِ يقول: تـجبر فـي الأرض: وجعل أهلها شِيَعا, يعنـي بنـي إسرائيـل, حين جعلهم فـي الأعمال القذرة, يستضعفُ طائِفَةً منهم يُذَبّحُ أبْنَاءَهُمْ. فجعل لا يولد لبنـي إسرائيـل مولود إلا ذبح فلا يكبر الصغير. وقذف الله فـي مشيخة بنـي إسرائيـل الـموت, فأسرع فـيهم. فدخـل رءوس القبط علـى فرعون, فكلـموه, فقالوا: إن هؤلاء قد وقع فـيهم الـموت, فـيوشك أن يقع العمل علـى غلـماننا بذبح أبنائهم فلا تبلغ الصغار وتفنى الكبـار, فلو أنك كنت تبقـي من أولادهم فأمر أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة. فلـما كان فـي السنة التـي لا يذبحون فـيها ولد هارون, فترك فلـما كان فـي السنة التـي يذبحون فـيها حملت بـموسى.
630ـ حدثنا مـحمد بن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: ذكر لـي أنه لـما تقارب زمان موسى أتـى منـجمو فرعون وحُزَاتُه إلـيه, فقالوا له: تعلّـم أنا نـجد فـي علـمنا أن مولودا من بنـي إسرائيـل قد أظلك زمانه الذي يولد فـيه, يسلبك ملكك ويغلبك علـى سلطانك, ويخرجك من أرضك, ويبدّل دينك. فلـما قالوا له ذلك, أمر بقتل كل مولود يولد من بنـي إسرائيـل من الغلـمان, وأمر بـالنساء يستـحيـين. فجمع القوابل من نساء مـملكته, فقال لهن: لا يسقطن علـى أيديكن غلام من بنـي إسرائيـل إلا قتلتُنّه. فكنّ يفعلن ذلك, وكان يذبح من فوق ذلك من الغلـمان, ويأمر بـالـحبـالـى فـيعذّبن حتـى يطرحن ما فـي بطونهن.
631ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن مـحمد بن إسحاق, عن عبد الله بن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قال: لقد ذكر أنه كان لـيأمر بـالقصب فـيشقّ حتـى يجعل أمثال الشّفـار, ثم يصف بعضه إلـى بعض, ثم يؤتـي بـالـحبـالـى من بنـي إسرائيـل, فـيوقـفن علـيه فـيحزّ أقدامهن, حتـى إن الـمرأة منهن لتـمصَعُ بولدها فـيقع من بـين رجلـيها, فتظلّ تطؤه تتقـي به حدّ القصب عن رجلها لـما بلغ من جهدها. حتـى أسرف فـي ذلك وكاد يفنـيهم, فقـيـل له: أفنـيت الناس وقطعت النسل, وإنهم خَوَلُك وعمالك. فأمر أن يقتل الغلـمان عاما ويستـحيوا عاما. فولد هارون فـي السنة التـي يستـحيا فـيها الغلـمان, وولد موسى فـي السنة التـي فـيها يقتلون.
قال أبو جعفر: والذي قاله من ذكرنا قوله من أهل العلـم كان ذبح آل فرعون أبناء بنـي إسرائيـل واستـحياؤهم نساءهم, فتأويـل قوله إذا علـى ما تأوّله الذين ذكرنا قولهم: ويستـحيون نساءكم: يستبقونهن فلا يقتلونهن.
وقد يجب علـى تأويـل من قال بـالقول الذي ذكرنا عن ابن عبـاس وأبـي العالـية والربـيع بن أنس والسدي فـي تأويـل قوله: ويَسْتَـحْيُونَ نِساءَكُمْ: أنه تركهم الإناث من القتل عند ولادتهن إياهن أن يكون جائزا أن تسمى الطفلة من الإناث فـي حال صبـاها وبعد ولادها امرأة, والصبـايا الصغار وهن أطفـال: نساء, لأنهم تأوّلوا قول الله جل وعزّ: وَيَسْتَـحْيُونَ نِسَاءَكُمْ: يستبقون الإناث من الولدان عند الولادة فلا يقتلونهن.
وقد أنكر ذلك من قولهم ابن جريج, فقال بـما:
632ـ حدثنا به القاسم بن الـحسن, قال: حدثنا الـحسين بن داود, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج قوله: وَيَسْتَـحْيُونَ نِسَاءَكُمْ قال: يسترقّون نساءكم.
فحاد ابن جريج بقوله هذا عما قاله من ذكرنا قوله فـي قوله: وَيَسْتَـحْيُونَ نِسَاءَكُمْ إنه استـحياء الصبـايا الأطفـال, قال: إذ لـم نـجدهن يـلزمهن اسم نساء. ثم دخـل فـيـما هو أعظم مـما أنكر بتأويـله «ويستـحيون» يسترقّون, وذلك تأويـل غير موجود فـي لغة عربـية ولا عجمية, وذلك أن الاستـحياء إنـما هو استفعالٌ من الـحياة نظير الاستبقاء من البقاء والاستسقاء من السقـي, وهو معنى من الاسترقاق بـمعزل.
وقد قال آخرون: قوله يُذَبّحونَ أبْناءَكُمْ بـمعنى يذبحون رجالكم آبـاء أبنائكم. وأنكروا أن يكون الـمذبوحون الأطفـال, وقد قرن بهم النساء. فقالوا: فـي إخبـار الله جل ثناؤه إن الـمستـحين هم النساء الدلالة الواضحة علـى أن الذين كانوا يذبحون هم الرجال دون الصبـيان, لأن الـمذبحين لو كانوا هم الأطفـال لوجب أن يكون الـمستـحيون هم الصبـايا. قالوا: وفـي إخبـار الله عزّ وجل أنهم النساء ما يبـين أن الـمذبحين هم الرجال. وقد أغفل قائلوا هذه الـمقالة مع خروجهم من تأويـل أهل التأويـل من الصحابة والتابعين موضع الصواب, وذلك أن الله جل ثناؤه قد أخبر عن وحيه إلـى أمّ موسى أنه أمرها أن ترضع موسى, فإذا خافت علـيه أن تلقـيه فـي التابوت ثم تلقـيه فـي الـيـم. فمعلوم بذلك أن القوم لو كانوا إنـما يقتلون الرجال ويتركون النساء لـم يكن بأمّ موسى حاجة إلـى إلقاء موسى فـي الـيـمّ, أو لو أن موسى كان رجلاً لـم تـجعله أمه فـي التابوت ولكن ذلك عندنا علـى ما تأوّله ابن عبـاس ومن حكينا قوله قبل من ذبح آل فرعون الصبـيان وتركهم من القتل الصبـايا.
وإنـما قـيـل: وَيَسْتَـحْيُونَ نِسَاءَكُمْ إذ كان الصبـايا داخلات مع أمهاتهن, وأمهاتهن لا شك نساء فـي الاستـحياء, لأنهم لـم يكونوا يقتلون صغار النساء ولا كبـارهن, فقـيـل: وَيَسْتَـحْيُونَ نِساءَكُمْ يعنـي بذلك الوالدات والـمولودات كما يقال: قد أقبل الرجال وإن كان فـيهم صبـيان, فكذلك قوله: وَيَسْتَـحْيُونَ نِساءَكُمْ. وأما من الذكور فإنه لـما لـم يكن يذبح إلا الـمولودون قـيـل: يذبحون أبناءكم, ولـم يقل يذبحون رجالكم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وفِـي ذَلِكُمْ بَلاءٌ منْ رَبّكُمْ عَظِيـمٌ.
أما قوله: وفِـي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبّكُمْ عَظِيـمٌ فإنه يعنـي: وفـي الذي فعلنا بكم من إنـجائنا إياكم مـما كنتـم فـيه من عذاب آل فرعون إياكم علـى ما وصفت بلاء لكم من ربكم عظيـم. ويعنـي بقوله بلاء: نعمة. كما:
633ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: حدثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس قوله: بَلاءٌ مِنْ رَبّكُمْ عَظِيـمٌ قال: نعمة.
634ـ وحدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي فـي قوله: وفـي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبّكُمْ عَظِيـمٌ أما البلاء: فـالنعمة.
635ـ وحدثنا سفـيان, قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, عن رجل, عن مـجاهد: وفِـي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبّكُمْ عَظِيـمٌ قال: نعمة من ربكم عظيـمة.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثل حديث سفـيان.
636ـ حدثنـي القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاح, عن ابن جريج: وَفِـي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبّكُمْ عَظِيـمٌ قال: نعمة عظيـمة.
وأصل البلاء فـي كلام العرب: الاختبـار والامتـحان, ثم يستعمل فـي الـخير والشرّ, لأن الامتـحان والاختبـار قد يكون بـالـخير كما يكون بـالشرّ, كما قال الله جل ثناؤه: وَبَلَوْناهُمْ بـالـحَسَناتِ وَالسّيّئات لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ يقول: اختبرناهم, وكما قال جل ذكره: وَنَبْلُوكُمْ بـالشّرّ والـخَيْرِ فِتْنَةً. ثم تسمي العرب الـخير بلاء والشرّ بلاء, غير أن الأكثر فـي الشرّ أن يقال: بلوته أبلوه بلاء, وفـي الـخير: أبلـيته أبلـيه إبلاءً وبلاءً ومن ذلك قول زهير بن أبـي سلـمى:
جَزَى اللّهُ بـالإحْسانِ ما فَعَلا بكُمْوأبلاهُما خَيْرَ البَلاءِ الّذِي يَبْلُو
فجمع بـين اللغتـين لأنه أراد: فأنعم الله علـيهما خير النعم التـي يختبر بها عبـاده.
الآية : 50
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ }
أما تأويـل قوله: وَإذْ فَرَقْنا بكُمُ فإنه عطف علـى: وَإذْ نَـجّيْناكُمْ بـمعنى: واذكروا نعمتـي التـي أنعمت علـيكم, واذكروا إذ نـجيناكم من آل فرعون, وإذ فرقنا بكم البحر. ومعنى قوله: فَرَقْنا بِكُمْ: فصلنا بكم البحر, لأنهم كانوا اثنـي عشر سبطا, ففرق البحر اثنـي عشر طريقا, فسلك كل سبط منهم طريقا منها. فذلك فرق الله بهم جل ثناؤه البحر, وفصله بهم بتفريقهم فـي طريق الاثنـي عشر. كما:
637ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط بن نصر, عن السدي: لـما أتـى موسى البحر كناه أبـا خالد, وضربه فـانفلق فكان كل فرق كالطود العظيـم, فدخـلت بنو إسرائيـل, وكان فـي البحر اثنا عشر طريقا فـي كل طريق سبط.
وقد قال بعض نـحويـي البصرة: معنى قوله: وَإذْ فَرَقْنا بِكُمُ البَحْرَ فرقنا بـينكم وبـين الـماء: يريد بذلك: فصلنا بـينكم وبـينه وحجزناه حيث مررتـم به. وذلك خلاف ما فـي ظاهر التلاوة لأن الله جل ثناؤه إنـما أخبر أنه فرق البحر بـالقوم, ولـم يخبر أنه فرق بـين القوم وبـين البحر, فـيكون التأويـل ما قاله قائلوا هذه الـمقالة, وفرقه البحر بـالقوم, إنـما هو تفريقه البحر بهم علـى ما وصفنا من افتراق سبـيـله بهم علـى ما جاءت به الاَثار.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فأنْـجَيْناكُمْ وأغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وأنْتُـمْ تَنْظُرُونَ.
قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وكيف غرق الله جل ثناؤه آل فرعون, ونَـجّى بنـي إسرائيـل؟ قـيـل له: كما:
638ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن كعب القرظي, عن عبد الله بن شداد بن الهاد, قال: لقد ذكر لـي أنه خرج فرعون فـي طلب موسى علـى سبعين ألفـا من دُهْم الـخيـل سوى ما فـي جنده من شُهْبِ الـخيـل وخرج موسى, حتـى إذا قابله البحر ولـم يكن له عنه منصرف, طلع فرعون فـي جنده من خـلفهم, فلـما تراءى الـجمعان قال أصحاب موسى إنّا لَـمُدْرَكُونَ قال موسى: كَلاّ إنّ مَعِي رَبـي سَيَهْدِينِ أي للنـجاة, وقد وعدنـي ذلك ولا خـلف لوعده.
639ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: حدثنـي ابن إسحاق, قال: أوحى الله إلـى البحر فـيـما ذكر إذا ضربك موسى بعصاه فـانفلقْ له, قال: فبـات البحر يضرب بعضه بعضا فَرَقا من الله وانتظار أمره, فأوحى الله جل وعزّ إلـى موسى: أنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ البَحْرَ فضربه بها وفـيها سلطان الله الذي أعطاه, فـانْفَلَقَ فَكانَ كُلّ فِرْقٍ كالطّوْدِ العَظِيـمِ أي كالـجبل علـى يبس من الأرض. يقول الله لـموسى: اضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقا فـي البَحْرِ يَبَسا لاَ تَـخافُ دَرَكا وَلا تَـخْشَى فلـما استقرّ له البحر علـى طريق قائمة يَبَسٍ سلك فـيه موسى ببنـي إسرائيـل, وأتبعه فرعون بجنوده.
762وحدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: حدثنـي مـحمد بن إسحاق, عن مـحمد بن كعب القرظي, عن عبد الله بن شداد بن الهاد اللـيثـي, قال: حدثت أنه لـما دخـل بنو إسرائيـل البحر, فلـم يبق منهم أحد, أقبل فرعون وهو علـى حصان له من الـخيـل حتـى وقـف علـى شفـير البحر, وهو قائم علـى حاله, فهاب الـحصان أن ينفذه فعرض له جبريـل علـى فرس أنثى وَدِيق, فقرّبها منه فشمها الفحل, فلـما شمها قدّمها, فتقدم معها الـحصان علـيه فرعون, فلـما رأى جند فرعون فرعونَ قد دخـل دخـلوا معه وجبريـل أمامه, وهم يتبعون فرعون وميكائيـل علـى فرس من خـلف القوم يسوقهم, يقول: الـحقوا بصاحبكم. حتـى إذا فصل جبريـل من البحر لـيس أمامه أحد, ووقـف ميكائيـل علـى ناحيته الأخرى ولـيس خـلفه أحد, طبق علـيهم البحر, ونادى فرعون حين رأى من سلطان الله عزّ وجلّ وقدرته ما رأى وعرف ذلته وخذلته نفسه: آمَنْتُ أنّهُ لاَ إلَهَ إِلاّ الّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيـلَ وأنا مِنَ الـمُسْلِـمِينَ.
640ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن أبـي إسحاق الهمدانـي, عن عمرو بن ميـمون الأودي فـي قوله: وَإذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البَحْرَ فَأنْـجَيْنَاكُمْ وأغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وأنْتُـمْ تَنْظُرُونَ قال: لـما خرج موسى ببنـي إسرائيـل بلغ ذلك فرعون, فقال: لا تتبعوهم حتـى يصيح الديك. قال: فوالله ما صاح لـيـلتئذ ديك حتـى أصبحوا فدعا بشاة فذبحت, ثم قال: لا أفرغ من كبدها حتـى يجتـمع إلـيّ ستـمائة ألف من القبط. فلـم يفرغ من كبدها حتـى اجتـمع إلـيه ستـمائة ألف من القبط. ثم سار, فلـما أتـى موسى البحر, قال له رجل من أصحابه يقال له يوشع بن نون: أين أمرك ربك يا موسى؟ قال: أمامك يشير إلـى البحر. فأقحم يوشك فرسه فـي البحر حتـى بلغ الغمر, فذهب به ثم رجع, فقال: أين أمرك ربك يا موسى؟ فوالله ما كذبت ولا كذبت ففعل ذلك ثلاث مرات, ثم أوحى الله جل ثناؤه إلـى موسى: أنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ البَحْر فـانْفَلَقَ فَكانَ كُل فِرْقٍ كالطّوْدِ العَظِيـم يقول: مثل جبل. قال: ثم سار موسى ومن معه وأتبعهم فرعون فـي طريقهم, حتـى إذا تتاموا فـيه أطبقه الله علـيهم, فلذلك قال: وأغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وأنْتُـمْ تَنْظُرُونَ قال معمر: قال قتادة: كان مع موسى ستـمائة ألف, وأتبعه فرعون علـى ألف ألف ومائة ألف حصان.
641ـ وحدثنـي عبد الكريـم بن الهيثم, قال: حدثنا إبراهيـم بن بشار الرمادي, قال: حدثنا سفـيان, قال: حدثنا أبو سعيد, عن عكرمة, عن ابن عبـاس, قال: أوحى الله جل وعز إلـى موسى أنْ أسْرِ بعِبـادِي لَـيْلاً إنّكُمْ مُتّبَعُونَ قال: فسرى موسى ببنـي إسرائيـل لـيلاً, فأتبعهم فرعون فـي ألف ألف حصان سوى الإناث وكان موسى فـي ستـمائة ألف, فلـما عاينهم فرعون قال: إنّ هؤلاءِ لِشَرْذِمَةٌ قَلِـيـلُونَ وإنّهُمْ لَنا لَغَائِظُونَ وإنّا لَـجَمِيعٌ حَذِرُونَ. فسرى موسى ببنـي إسرائيـل حتـى هجموا علـى البحر, فـالتفتوا فإذا هم برَهْج دوابّ فرعون فقالوا: يا موسى أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أنْ تأتِـيَنَا ومِن بعدِ ما جِئْتَنا هذا البحر أمامنا, وهذا فرعون قد رهقنا بـمن معه. قال عَسَى رَبّكُمْ أنْ يُهْلِكَ عَدُوّكُمْ وَيَسْتَـخْـلِفَكم فِـي الأرْضِ فَـيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ. قال: فأوحى الله جل ثناؤه إلـى موسى أنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ البحر وأوحى إلـى البحر: أن اسمع لـموسى وأطع إذا ضربك. قال: فبـات البحر له أفكل يعنـي له رعدة لا يدرى من أيّ جوانبه يضربه, قال: فقال يوشع لـموسى: بـماذا أمرت؟ قال: أمرت أن أضرب البحر. قال: فـاضربه قال: فضرب موسى البحر بعصاه, فـانفلق, فكان فـيه اثنا عشر طريقا, كل طريق كالطود العظيـم, فكان لكل سبط منهم طريق يأخذون فـيه. فلـما أخذوا فـي الطريق, قال بعضهم لبعض: ما لنا لا نرى أصحابنا؟ قالوا لـموسى: أين أصحابنا لا نراهم؟ قال: سيروا فإنهم علـى طريق مثل طريقكم. قالوا: لا نرضى حتـى نراهم قال سفـيان, قال عمار الدهنـي: قال موسى: اللهمّ أعنـي علـى أخلاقهم السيئة. قال: فأوحى الله إلـيه: أن قل بعصاك هكذا وأومأ إبراهيـم بـيده يديرها علـى البحر قال موسى بعصاه علـى الـحيطان هكذا, فصار فـيها كُوًى ينظر بعضهم إلـى بعض, قال سفـيان: قال أبو سعيد, عن عكرمة, عن ابن عبـاس: فساروا حتـى خرجوا من البحر, فلـما جاز آخر قوم موسى هجم فرعون علـى البحر هو وأصحابه, وكان فرعون علـى فرس أدهم ذَنُوب حصان. فلـما هجم علـى البحر هاب الـحصان أن يقتـحم فـي البحر, فتـمثل له جبريـل علـى فرس أنثى وَدِيق. فلـما رآها الـحصان تقحّم خـلفها, وقـيـل لـموسى: اترك البحر رَهْوا قال: طرقا علـى حاله قال: ودخـل فرعون وقومه فـي البحر, فلـما دخـل آخر قوم فرعون وجاز آخر قوم موسى أطبق البحر علـى فرعون وقومه فأغرقوا.
642ـ حدثنا موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط بن نصر, عن السدي: أن الله أمر موسى أن يخرج ببنـي إسرائيـل, فقال: أسْرِ بِعِبَـادِي لَـيْلاً إنّكُمْ مُتَبّعُونَ فخرج موسى وهارون فـي قومهما, وأُلقـي علـى القبط الـموت فمات كل بكر رجل. فأصبحوا يدفنونهم, فشغلوا عن طلبهم حتـى طلعت الشمس, فذلك حين يقول الله جل ثناؤه: فأتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِـينَ فكان موسى علـى ساقة بنـي إسرائيـل, وكان هارون أمامهم يقدُمُهم. فقال الـمؤمن لـموسى: يا نبـيّ الله, أين أمرت؟ قال: البحر. فأراد أن يقتـحم, فمنعه موسى. وخرج موسى فـي ستـمائة ألف وعشرين ألف مقاتل, لا يعدّون ابنَ العشرين لصغره ولا ابن الستـين لكبره, وإنـما عدوّا ما بـين ذلك سوى الذرية. وتبعهم فرعون وعلـى مقدمته هامان فـي ألف ألف وسبعمائة ألف حصان لـيس فـيها ما ذبـانه, يعنـي الأنثى وذلك حين يقول الله جل ثناؤه: فأرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِـي الـمَدَائِنِ حاشِرِينَ إنّ هَؤُلاَءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِـيـلُونَ يعنـي بنـي إسرائيـل. فتقدم هارون, فضرب البحر, فأبى البحر أن ينفتـح, وقال: من هذا الـجبـار الذي يضربنـي؟ حتـى أتاه موسى, فكناه أبـا خالد وضربه فـانفلق فكانَ كلّ فِرْقٍ كالطّوْدِ العَظِيـم يقول: كالـجبل العظيـم. فدخـلت بنو إسرائيـل. وكان فـي البحر اثنا عشر طريقا, فـي كل طريق سبط, وكانت الطرق انفلقت بجدران, فقال كل سبط: قد قتل أصحابنا: فلـما رأى ذلك موسى, دعا الله, فجعلها لهم قناطر كهيئة الطّيقان. فنظر آخرهم إلـى أولهم, حتـى خرجوا جميعا. ثم دنا فرعون وأصحابه, فلـما نظر فرعون إلـى البحر منفلقا, قال: ألا ترون البحر فرق منـي قد انفتـح لـي حتـى أدرك أعدائي فأقتلهم؟ فذلك حين يقول الله جل ثناؤه: وأزْلَفْنا ثَمّ الاَخرِينَ يقول: قرّبنا ثم الاَخرين يعنـي آل فرعون. فلـما قام فرعون علـى أفواه الطرق أبت خيـله أن تقتـحم, فنزل جبريـل علـى ماذبـانه, فشامّ الـحصان ريح الـماذبـانه, فـاقتـحم فـي أثرها, حتـى إذا همّ أولهم أن يخرج ودخـل آخرهم, أمر البحر أن يأخذهم, فـالتطم علـيهم.
643ـ وحدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: لـما أخذ علـيهم فرعون الأرض إلـى البحر قال لهم فرعون: قولوا لهم يدخـلون البحر إن كانوا صادقـين. فلـما رآهم أصحاب موسى, قالوا: إنّا لَـمُدْرَكُونَ قال كَلاّ إنّ مَعِي رَبـي سَيَهْدِينِ فقال موسى للبحر: ألست تعلـم أنـي رسول الله؟ قال: بلـى. قال: وتعلـم أن هؤلاء عبـاد من عبـاد الله أمرنـي أن آتـي بهم؟ قال: بلـى. قال: أتعلـم أن هذا عدوّ الله؟ قال: بلـى. قال: فـانفرقْ لـي طريقا ولـمن معي. قال: يا موسى, إنـما أنا عبد مـملوك لـيس لـي أمر إلا أن يأمرنـي الله تعالـى. فأوحى الله عزّ وجل إلـى البحر: إذا ضربك موسى بعصاه فـانفرق, وأوحى إلـى موسى أن يضرب البحر, وقرأ قول الله تعالـى: فـاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقا فـي البَحْرِ يَبَسا لاَ تَـخافُ دَرَكا وَلا تَـخْشَى وقرأ قوله: وَاتْرُكِ البَحْرَ رَهْوا سَهَلاً لـيس فـيه تعدّ. فـانفرق اثنتـي عشرة فرقة, فسلك كل سبط فـي طريق. قال: فقالوا لفرعون: إنهم قد دخـلوا البحر. قال: ادخـلوا علـيهم, قال: وجبريـل فـي آخر بنـي إسرائيـل يقول لهم: لـيـلـحق آخركم أولكم. وفـي أول آل فرعون, يقول لهم: رويدا يـلـحق آخركم أولكم. فجعل كل سبط فـي البحر يقولون للسبط الذين دخـلوا قبلهم: قد هلكوا. فلـما دخـل ذلك قلوبهم, أوحى الله جلّ وعزّ إلـى البحر, فجعل لهم قناطر ينظر هؤلاء إلـى هؤلاء, حتـى إذا خرج آخر هؤلاء ودخـل آخر هؤلاء أمر الله البحر فأطبق علـى هؤلاء.
ويعنـي بقوله: وأنْتُـمْ تَنْظُرُونَ أي تنظرون إلـى فَرْقِ الله لكم البحر وإهلاكه آل فرعون فـي الـموضع الذي نـجاكم فـيه, وإلـى عظيـم سلطانه فـي الذي أراكم من طاعة البحر إياه من مصيره رُكاما فَلِقا كهيئة الأطواد الشامخة غير زائل عن حدّه, انقـيادا لأمر الله وإذعانا لطاعته, وهو سائل ذائب قبل ذلك. يوقـفهم بذلك جل ذكره علـى موضع حججه علـيهم, ويذكرهم آلاءه عند أوائلهم, ويحذرهم فـي تكذيبهم نبـينا مـحمدا صلى الله عليه وسلم أن يحلّ بهم ما حلّ بفرعون وآله فـي تكذيبهم موسى صلى الله عليه وسلم.
وقد زعم بعض أهل العربـية أن معنى قوله: وأنْتُـمْ تَنْظُرُونَ كمعنى قول القائل: «ضُربت وأهلك ينظرون, فما أتوك ولا أعانوك» بـمعنى: وهم قريب بـمرأى ومسمع, وكقول الله تعالـى: ألَـمْ تَرَ إلـى رَبّكَ كَيْفَ مَدّ الظّلّ ولـيس هناك رؤية, إنـما هو علـم. والذي دعاه إلـى هذا التأويـل أنه وجه قوله: وأنْتُـمْ تَنْظُرُونَ: أي وأنتـم تنظرون إلـى غرق فرعون. فقال: قد كانوا فـي شغل من أن ينظروا مـما اكتنفهم من البحر إلـى فرعون وغرقه. ولـيس التأويـل الذي تأوله تأويـل الكلام, إنـما التأويـل: وأنتـم تنظرون إلـى فرق الله البحر لكم علـى ما قد وصفنا آنفـا, والتطام أمواج البحر بآل فرعون فـي الـموضع الذي صير لكم فـي البحر طريقا يبسا, وذلك كان لا شك نظر عيان لا نظر علـم كما ظنه قائل هذا القول الذي حكينا قوله.
الآية : 51
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمّ اتّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ }
اختلفت القراء فـي قراءة ذلك, فقرأ بعضهم: وَاعَدْنا بـمعنى أن الله تعالـى واعد موسى ملاقاة الطور لـمناجاته, فكانت الـمواعدة من الله لـموسى, ومن موسى لربه. وكان من حجتهم علـى اختـيارهم قراءة وَاعَدْنا علـى «وعدنا» أن قالوا: كل إيعاد كان بـين اثنـين للالتقاء أو الاجتـماع, فكل واحد منهما مواعد صاحبه ذلك, فلذلك زعموا أنه وجب أن يقضي لقراءة من قرأ: واعدنا بـالاختـيار علـى قراءة من قرأ «وعدنا».
وقرأ بعضهم: «وعَدْنا» بـمعنى أن الله الواعد موسى, والـمنفرد بـالوعد دونه. وكان من حجتهم فـي اختـيارهم ذلك, أن قالوا: إنـما تكون الـمواعدة بـين البشر, فأما الله جل ثناؤه فإنه الـمنفرد بـالوعد والوعيد فـي كل خير وشرّ. قالوا: وبذلك جاء التنزيـل فـي القرآن كله, فقال جل ثناؤه: إنّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الـحَقّ وقال: وَإذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إحْدَى الطّائِفَتَـيْنِ أنها لَكُمْ قالوا: فكذلك الواجب أن يكون هو الـمنفرد بـالوعد فـي قوله: «وإذْ وَعَدْنا مُوسَى».
والصواب عندنا فـي ذلك من القول, أنهما قراءتان قد جاءت بهما الأمة وقرأت بهما القراء, ولـيس فـي القراءة بإحداهما إبطال معنى الأخرى, وإن كان فـي إحداهما زيادة معنى علـى الأخرى من جهة الظاهر والتلاوة. فأما من جهة الـمفهوم بهما فهما متفقتان, وذلك أن من أخبر عن شخص أنه وعد غيره اللقاء بـموضع من الـمواضع, فمعلوم أن الـموعود ذلك واعد صاحبه من لقائه بذلك الـمكان, مثل الذي وعده من ذلك صاحبه إذا كان وعده ما وعده إياه من ذلك عن اتفـاق منهما علـيه. ومعلوم أن موسى صلوات الله علـيه لـم يَعِدْه ربه الطور إلا عن رضا موسى بذلك, إذ كان موسى غير مشكوك فـيه أنه كان بكل ما أمر الله به راضيا, وإلـى مـحبته فـيه مسارعا. ومعقول أن الله تعالـى لـم يعد موسى ذلك إلا وموسى إلـيه مستـجيب. وإذ كان ذلك كذلك, فمعلوم أن الله عزّ ذكره قد كان وعد موسى الطور, ووعده موسى اللقاء, وكان الله عزّ ذكره لـموسى واعدا ومواعدا له الـمناجاة علـى الطور, وكان موسى واعدا لربه مواعدا له اللقاء. فبأيّ القراءتـين من «وعد» و«واعد» قرأ القارىء, فهو الـحقّ فـي ذلك من جهة التأويـل واللغة, مصيب لـما وصفنا من العلل قبل. ولا معنى لقول القائل: إنـما تكون الـمواعدة بـين البشر, وأن الله بـالوعد والوعيد منفرد فـي كل خير وشرّ وذلك أن انفراد الله بـالوعد والوعيد فـي الثواب والعقاب والـخير والشرّ والنفع والضرّ الذي هو بـيده وإلـيه دون سائر خـلقه, لا يحيـل الكلام الـجاري بـين الناس فـي استعمالهم إياه عن وجوهه ولا يغيره عن معانـيه. والـجاري بـين الناس من الكلام الـمفهوم ما وصفنا من أن كل إيعاد كان بـين اثنـين فهو وعد من كل واحد منهما صاحبه ومواعدة بـينهما, وأن كل واحد منهما واعد صاحبه مواعد, وأن الوعد الذي يكون به الإنفراد من الواعد دون الـموعود إنـما هو ما كان بـمعنى الوعد الذي هو خلاف الوعيد.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: مُوسَى.
وموسى فـيـما بلغنا بـالقبطية كلـمتان, يعنـي بهما: ماء وشجر, فمو: هو الـماء, وسا: هو الشجر. وإنـما سُمي بذلك فـيـما بلغنا, لأن أمه لـما جعلته فـي التابوت حين خافت علـيه من فرعون وألقته فـي الـيـم كما أوحى الله إلـيها وقـيـل: إن الـيـم الذي ألقته فـيه هو النـيـل دفعته أمواج الـيـم, حتـى أدخـلته بـين أشجار عند بـيت فرعون, فخرج جواري آسية امرأة فرعون يغتسلن, فوجدن التابوت, فأخذنه, فسُمي بـاسم الـمكان الذي أصيب فـيه. وكان ذلك الـمكان فـيه ماء وشجر, فقـيـل: موسى ماء وشجر: كذلك:
644ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, عن أسبـاط بن نصر, عن السدي.
وهو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب إسرائيـل الله بن إسحاق ذبـيح الله ابن إبراهيـم خـلـيـل الله, فـيـما زعم ابن إسحاق.
645ـ حدثنـي بذلك ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة بن الفضل عنه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: أرْبَعِينَ لَـيْـلَةً.
ومعنى ذلك وَإذْ وَاعَدْنا مُوسى أرْبَعِينَ لَـيْـلَةً بتـمامها, فـالأربعون لـيـلة كلها داخـلة فـي الـميعاد.
وقد زعم بعض نـحويـي البصرة أن معناه: وإذْ واعدنا موسى انقضاء أربعين لـيـلة أي رأس الأربعين, ومثل ذلك بقوله: واسألِ القَرْيَةَ وبقولهم الـيوم أربعون منذ خرج فلان, والـيوم يومان, أي الـيوم تـمام يومين وتـمام أربعين. وذلك خلاف ما جاءت به الرواية عن أهل التأويـل وخلاف ظاهر التلاوة, فأما ظاهر التلاوة, فإن الله جل ثناؤه قد أخبر أنه واعد موسى أربعين لـيـلة, فلـيس لأحد إحالة ظاهر خبره إلـى بـاطن بغير برهان دالّ علـى صحته. وأما أهل التأويـل فإنهم قالوا فـي ذلك ما أنا ذاكره, وهو ما:
646ـ حدثنـي به الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع بن أنس, عن أبـي العالـية قوله: وَإذْ وَاعَدْنا مُوسَى أرْبَعِينَ لَـيْـلَةً قالَ: يعنـي ذا القعدة وعشرا من ذي الـحجة. وذلك حين خـلف موسى أصحابه, واستـخـلف علـيهم هارون, فمكث علـى الطور أربعين لـيـلة, وأنزل علـيه التوراة فـي الألواح, وكانت الألواح من زبرجد. فقرّبه الربّ إلـيه نـجيّا, وكلـمه, وسمع صريف القلـم. وبلغنا أنه لـم يحدث حدثا فـي الأربعين لـيـلة حتـى هبط من الطور.
وحدثت عن عمار بن الـحسن, حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, بنـحوه.
647ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة بن الفضل, عن ابن إسحاق, قال: وعد الله موسى حين أهلك فرعون وقومه, ونـجاه وقومه ثلاثـين لـيـلة, ثم أتـمها بعشر, فتـمّ ميقات ربه أربعين لـيـلة, تلقاه ربه فـيها بـما شاء. واستـخـلف موسى هارون علـى بنـي إسرائيـل, وقال: إنـي متعجل إلـى ربـي فـاخـلفنـي فـي قومي ولا تتبع سبـيـل الـمفسدين فخرج موسى إلـى ربه متعجلاً للقائه شوقا إلـيه, وأقام هارون فـي بنـي إسرائيـل ومعه السامريّ يسير بهم علـى أثر موسى لـيـلـحقهم به.
648ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط عن السدي, قال: انطلق موسى واستـخـلف هارون علـى بنـي إسرائيـل, وواعدهم ثلاثـين لـيـلة وأتـمها الله بعشر.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: ثُمّ اتّـخَذْتُـمُ العِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأنْتُـمْ ظالِـمُونَ.
وتأويـل قوله: ثُمّ اتّـخَذْتُـمُ العجْلَ منْ بَعْدِهِ ثم اتـخذتـم فـي أيام مواعدة موسى العجل إلها من بعد أن فـارقكم موسى متوجها إلـى الـموعد. والهاء فـي قوله «من بعده» عائدة علـى ذكر موسى. فأخبر جل ثناؤه الـمخالفـين نبـينا صلى الله عليه وسلم من يهود بنـي إسرائيـل الـمكذّبـين به الـمخاطبـين بهذه الآية, عن فعل آبـائهم وأسلافهم وتكذيبهم رسلهم وخلافهم أنبـياءهم, مع تتابع نعمه علـيهم وسبوغ آلائه لديهم, معرّفهم بذلك أنهم من خلافهم مـحمدا صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم به وجحودهم لرسالته, مع علـمهم بصدقه علـى مثل منهاج آبـائه وأسلافهم, ومـحذّرهم من نزول سطوته بهم بـمقامهم علـى ذلك من تكذيبهم ما نزل بأوائلهم الـمكذّبـين بـالرسل من الـمسخ واللعن وأنواع النقمات.
وكان سبب اتـخاذهم العجل ما:
649ـ حدثنـي به عبد الكريـم بن الهيثم, قال: حدثنا إبراهيـم بن بشار الرمادي, قال: حدثنا سفـيان بن عيـينة, قال: حدثنا أبو سعيد, عن عكرمة, عن ابن عبـاس, قال: لـما هجم فرعون علـى البحر هو وأصحابه, وكان فرعون علـى فرس أدهم ذنوب حصان فلـما هجم علـى البحر هاب الـحصان أن يقتـحم فـي البحر, فتـمثل له جبريـل علـى فرس أنثى وديق, فلـما رآها الـحصان تقحّم خـلفها. قال: وعرف السامريّ جبريـل لأن أمه حين خافت أن يذبح خـلفته فـي غار وأطبقت علـيه, فكان جبريـل يأتـيه فـيغذوه بأصابعه, فـيجد فـي بعض أصابعه لبنا, وفـي الأخرى عسلاً, وفـي الأخرى سمنا. فلـم يزل يغذوه حتـى نشأ, فلـما عاينه فـي البحر عرفه, فقبض قبضة من أثر فرسه. قال: أخذ من تـحت الـحافر قبضة. قال سفـيان: فكان ابن مسعود يقرؤها: «فقبضت قبضة من أثر فرس الرسول». قال أبو سعيد, قال عكرمة, عن ابن عبـاس: وألقـي فـي رُوع السامري أنك لا تلقـيها علـى شيء فتقول كن كذا وكذا إلا كان. فلـم تزل القبضة معه فـي يده حتـى جاوز البحر. فلـما جاوز موسى وبنو إسرائيـل البحر, وأغرق الله آل فرعون, قال موسى لأخيه هارون: اخْـلُفْنِـي فِـي قَوْمِي وأصْلِـحْ ومضى موسى لـموعد ربه. قال: وكان مع بنـي إسرائيـل حلـيّ من حلـيّ آل فرعون قد تعوّروه, فكأنهم تأثموا منه, فأخرجوه لتنزل النار فتأكله, فلـما جمعوه, قال السامريّ بـالقبضة التـي كانت فـي يده هكذا, فقذفها فـيه وأومأ ابن إسحاق بـيده هكذا وقال: كن عجلاً جسدا له خوار فصار عجلاً جسدا له خوار. وكان يدخـل الريح فـي دبره ويخرج من فـيه يسمع له صوت, فقال: هذا إلهكم وإله موسى. فعكفوا علـى العجل يعبدونه, فقال هارون: يا قَوْمِ إنّـمَا فُتِنْتُـمْ بِهِ وإنّ رَبّكُمْ الرّحْمَنُ فـاتّبِعُونِـي وأطِيعُوا أمْرِي قالُوا لَنْ نَبْرَح عَلَـيْهِ عاكِفـينَ حتـى يَرْجَعَ إلَـيْنَا مُوسَى.
650ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط بن نصر, عن السدي: لـما أمر الله موسى أن يخرج ببنـي إسرائيـل يعنـي من أرض مصر أمر موسى بنـي إسرائيـل أن يخرجوا وأمرهم أن يستعيروا الـحلـيّ من القبط. فلـما نـجّى الله موسى ومن معه من بنـي إسرائيـل من البحر, وغرق آل فرعون, أتـى جبريـل إلـى موسى يذهب به إلـى الله, فأقبل علـى فرس فرآه السامري, فأنكره, وقال: إنه فرس الـحياة. فقال حين رآه: إن لهذا لشأنا. فأخذ من تربة الـحافر حافر الفرس. فـانطلق موسى, واستـخـلف هارون علـى بنـي إسرائيـل, وواعدهم ثلاثـين لـيـلة, وأتـمها الله بعشر. فقال لهم هارون: يا بنـي إسرائيـل إن الغنـيـمة لا تـحل لكم, وإن حلـيّ القبط إنـما هو غنـيـمة, فـاجمعوها جميعا, واحفروا لها حفرة فـادفنوها, فإن جاء موسى فأحلها أخذتـموها, وإلا كان شيئا لـم تأكلوه. فجمعوا ذلك الـحلـيّ فـي تلك الـحفرة, وجاء السامريّ بتلك القبضة, فقذفها, فأخرج الله من الـحلـيّ عجلاً جسدا له خوار. وعدّت بنو إسرائيـل موعد موسى, فعدّوا اللـيـلة يوما والـيوم يوما, فلـما كان تـمام العشرين خرج لهم العجل فلـما رأوه قال لهم السامري: هَذَا إلهُكُمْ وَإلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ يقول: ترك موسى إلهه ههنا وذهب يطلبه. فعكفوا علـيه يعبدونه. وكان يخور ويـمشي, فقال لهم هارون: يا بنـي إسرائيـل إنّـمَا فُتِنْتُـمْ بِهِ يقول: إنـما ابتلـيتـم به يقول: بـالعجل وإن ربكم الرحمن. فأقام هارون ومن معه من بنـي إسرائيـل لا يقاتلونهم. وانطلق موسى إلـى إلهه يكلـمه, فلـما كلـمه قال له: وما أعجلَكَ عَنْ قَوْمكَ يا موسَى قالَ هُمْ أُولاءِ علـى أثَرِي وعَجِلْتُ إلَـيْكَ رَبـي لِتَرْضَى قال فإنّا قَدْ فَتَنّا قَوْمَكَ منْ بَعْدِكَ وأضَلّهُمُ السّامِري فأخبره خبرهم. قال موسى: يا ربّ هذا السامري أمرهم أن يتـخذوا العجل, أرأيت الروح من نفخها فـيه؟ قال الرب: أنا. قال: ربّ أنت إذا أضللتهم.
651ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة عن ابن إسحاق, قال: كان فـيـما ذكر لـي أن موسى قال لبنـي إسرائيـل فـيـما أمره الله عزّ وجلّ به: استعيروا منهم يعنـي من آل فرعون الأمتعة والـحلـيّ والثـياب, فإنـي منفلكم أموالهم مع هلاكهم. فلـما أذن فرعون فـي الناس, كان مـما يحرّض به علـى بنـي إسرائيـل أن قال: حين سار ولـم يرضوا أن يخرجوا بأنفسهم حتـى ذهبوا بأموالكم معهم.
652ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: حدثنـي مـحمد بن إسحاق, عن حكيـم بن جبـير, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, قال: كان السامري رجلاً من أهل بـاجَرْما, وكان من قوم يعبدون البقر, وكان حبّ عبـادة البقر فـي نفسه, وكان قد أظهر الإسلام فـي بنـي إسرائيـل. فلـما فضل هارون فـي بنـي إسرائيـل وفضل موسى إلـى ربه, قال لهم هارون: أنتـم قد حملتـم أوزارا من زينة القوم آل فرعون وأمتعة وحلـيّا, فتطهروا منها, فإنها نـجس. وأوقد لهم نارا, فقال: اقذفوا ما كان معكم من ذلك فـيها قالوا: نعم. فجعلوا يأتون بـما كان معهم من تلك الأمتعة وذلك الـحلـيّ, فـيقذفون به فـيها, حتـى إذا تكسر الـحلـيّ فـيها ورأى السامريّ أثر فرس جبريـل أخذ ترابـا من أثر حافره, ثم أقبل إلـى النار فقال لهارون: يا نبـيّ الله ألقـي ما فـي يدي؟ قال: نعم. ولا يظنّ هارون إلا أنه كبعض ما جاء به غيره من ذلك الـحلـيّ والأمتعة. فقذفه فـيها فقال: كن عجلاً جسدا له خوار فكان للبلاء والفتنة, فقال: هَذَا إلهُكُمْ وَإلَهُ مُوسَى فعكفوا علـيه, وأحبوه حبـا لـم يحبوا مثله شيئا قط. يقول الله عز وجل: فَنَسِيَ أي ترك ما كان علـيه من الإسلام, يعنـي السامري, أفَلا يَرَوْنَ أنْ لا يَرْجعُ إلَـيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَـمْلِكُ لَهُمْ ضَرّا وَلا نَفْعا وكان اسم السامري موسى بن ظفر, وقع فـي أرض مصر, فدخـل فـي بنـي إسرائيـل. فلـما رأى هارون ما وقعوا فـيه: قالَ يا قَوْمِ إنّـمَا فُتِنْتُـمْ بِهِ وَإنّ رَبّكُمُ الرّحْمَنُ فـاتّبِعُونِـي وأطِيعُوا أمْرِي قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَـيْهِ عَاكِفِـينَ حتـى يَرْجِعَ إلَـيْنَا مُوسَى فأقام هارون فـيـمن معه من الـمسلـمين مـمن لـم يفتتن, وأقام من يعبد العجل علـى عبـادة العجل. وتـخوّف هارون إن سار بـمن معه من الـمسلـمين أن يقول له موسى: فَرّقْتَ بَـيْنَ بَنِـي إسْرَائِيـلَ وَلَـمْ تَرْقُبْ قَوْلِـي وكان له هائبـا مطيعا.
653ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: لـما أنـجى الله عز وجل بنـي إسرائيـل من فرعون, وأغرق فرعون ومن معه, قال موسى لأخيه هارون: اخْـلُفْنِـي فِـي قَوْمِي وأصْلِـحْ وَلا تَتّبِعْ سَبِـيـلَ الـمُفْسِدِينَ قال: لـما خرج موسى وأمر هارون بـما أمره به, وخرج موسى متعجلاً مسرورا إلـى الله. قد عرف موسى أن الـمرء إذا نـجح فـي حاجة سيده كان يسرّه أن يتعجل إلـيه. قال: وكان حين خرجوا استعاروا حلـيا وثـيابـا من آل فرعون, فقال لهم هارون: إن هذه الثـياب والـحلـيّ لا تـحلّ لكم, فـاجمعوا نارا, فألقوه فـيها فأحرقوه قال: فجمعوا نارا. قال: وكان السامري قد نظر إلـى أثر دابة جبريـل, وكان جبريـل علـى فرس أنثى, وكان السامري فـي قوم موسى. قال: فنظر إلـى أثره فقبض منه قبضة, فـيبست علـيها يده فلـما ألقـى قوم موسى الـحلـيّ فـي النار, وألقـى السامري معهم القبضة, صوّر الله جل وعز ذلك لهم عجلاً ذهبـا, فدخـلته الريح, فكان له خوارٌ, فقالوا: ما هذا؟ فقال: السامري الـخبـيث: هذَا إلهُكُمْ وَإلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ... الآية, إلـى قوله: حتـى يَرْجِعَ إلَـيْنَا مُوسَى قال: حتـى إذا أتـى موسى الـموعد, قال الله: ما أعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسَى قالَ هُمْ أُولاَءِ علـى أثَرِي فقرأ حتـى بلغ: أفَطالَ عَلَـيْكُمُ العَهْدُ.
654ـ حدثنا القاسم بن الـحسن, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد فـي قوله: ثمّ اتّـخَذْتُـمْ العِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ قال: العجل حَسِيـل البقرة. قال: حلـيّ استعاروه من آل فرعون, فقال لهم هارون: أخرجوه فتطهروا منه وأحرقوه وكان السامري قد أخذ قبضة من أثر فرس جبريـل, فطرحه فـيه فـانسبك, وكان له كالـجوف تهوي فـيه الرياح.
655ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية, قال: إنـما سمي العجل, لأنهم عَجِلُوا فـاتـخذوه قبل أن يأتـيهم موسى.
حدثنـي مـحمد بن عمرو البـاهلـي, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنـي عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد بنـحو حديث القاسم, عن الـحسن.
حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, بنـحوه.
وتأويـل قوله وأنْتُـمْ ظالِـمُونَ يعنـي وأنتـم واضعوا العبـادة فـي غير موضعها لأن العبـادة لا تنبغي إلا لله عز وجل وعبدتـم أنتـم العجل ظلـما منكم ووضعا للعبـادة فـي غير موضعها. وقد دللنا فـي غير هذا الـموضع مـما مضى من كتابنا أن أصل كل ظلـم وضع الشيء فـي غير موضعه, فأغنى ذلك عن إعادته فـي هذا الـموضع.
الآية : 52
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{ثُمّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ }
وتأويـل قوله: ثُمّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلكَ يقول: تركنا معاجلتكم بـالعقوبة من بعد ذلك, أي من بعد اتـخاذكم العجل إلها. كما:
656ـ حدثنـي به الـمثنى بن إبراهيـم قال: حدثنا آدم العسقلانـي, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: ثُمّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ يعنـي من بعد ما اتـخذتـم العجل.
وأما تأويـل قوله: لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ فإنه يعنـي به: لتشكروا. ومعنى «لعل» فـي هذا الـموضع معنى «كي», وقد بـينت فـيـما مضى قبل أن أحد معانـي «لعل» «كي» بـما فـيه الكفـاية عن إعادته فـي هذا الـموضع. فمعنى الكلام إذا: ثم عفونا عنكم من بعد اتـخاذكم العجل إلها لتشكرونـي علـى عفوي عنكم, إذ كان العفو يوجب الشكر علـى أهل اللبّ والعقل.
الآية : 53
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ }
يعنـي بقوله: وَإذْ آتَـيْنَا مُوسَى الكِتابَ واذكروا أيضا إذ آتـينا موسى الكتاب والفرقان. ويعنـي بـالكتاب: التوراة, وبـالفرقان: الفصل بـين الـحقّ والبـاطل. كما:
657ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا آدم قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع بن أنس, عن أبـي العالـية, فـي قوله: وَإذْ آتَـيْنَا مُوسَى الكِتابَ والفُرْقانَ قال: فرق به بـين الـحقّ والبـاطل.
658ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو البـاهلـي, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: وَإذْ آتَـيْنَا مُوسَى الكِتابَ وَالفُرْقانَ قال: الكتاب: هو الفرقان, فرقان بـين الـحق والبـاطل.
حدثنـي الـمثنى قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد مثله.
وحدثنـي القاسم بن الـحسن, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد قوله: وَإذْ آتَـيْنَا مُوسَى الكِتابَ وَالفُرْقان قال: الكتاب: هو الفرقان, فرق بـين الـحقّ والبـاطل.
659ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج, قال: وقال ابن عبـاس: الفرقان: جماع اسم التوراة والإنـجيـل والزبور والفرقان.
وقال ابن زيد فـي ذلك بـما:
660ـ حدثنـي به يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: سألته, يعنـي ابن زيد, عن قول الله عز وجل: وَإذْ آتَـيْنَا مُوسى الكتابَ والفُرْقانَ فقال: أما الفرقان الذي قال الله جل وعز: يَوْمَ الفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَـى الـجَمْعانِ فذلك يوم بدر, يوم فرق الله بـين الـحق والبـاطل, والقضاءُ الذي فرق به بـين الـحق والبـاطل. قال: فكذلك أعطى الله موسى الفرقان, فرق الله بـينهم, وسلـمه الله وأنـجاه فرق بـينهم بـالنصر, فكما جعل الله ذلك بـين مـحمد والـمشركين, فكذلك جعله بـين موسى وفرعون.
قال أبو جعفر: وأولـى هذين التأويـلـين بتأويـل الآية ما رُوي عن ابن عبـاس وأبـي العالـية ومـجاهد, من أن الفرقان الذي ذكر الله أنه آتاه موسى فـي هذا الـموضع هو الكتاب الذي فرق به بـين الـحقّ والبـاطل, وهو نعت للتوراة وصفة لها. فـيكون تأويـل الآية حينئذ: وإذ آتـينا موسى التوراة التـي كتبناها له فـي الألواح, وفرقنا بها بـين الـحقّ والبـاطل. فـيكون الكتاب نعتا للتوراة أقـيـم مقامها استغناءً به عن ذكر التوراة, ثم عطف علـيه بـالفرقان, إذ كان من نعتها. وقد بـينا معنى الكتاب فـيـما مضى من كتابنا هذا, وأنه بـمعنى الـمكتوب. وإنـما قلنا هذا التأويـل أولـى بـالآية وإن كان مـحتـملاً غيره من التأويـل, لأن الذي قبله ذكر الكتاب, وأن معنى الفرقان الفصل, وقد دللنا علـى ذلك فـيـما مضى من كتابنا هذا, فإلـحاقه إذ كان كذلك بصفة ما ولـيه أَوْلـى من إلـحاقه بصفة ما بعد منه.
وأما تأويـل قوله: لَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ فنظير تأويـل قوله تعالـى: لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ ومعناه لتهتدوا. وكأنه قال: واذكروا أيضا إذ آتـينا موسى التوراة التـي تفرق بـين الـحقّ والبـاطل لتهتدوا بها وتتبعوا الـحقّ الذي فـيها لأنـي جعلتها كذلك هدى لـمن اهتدى بها واتبع ما فـيها.
الآية : 54
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَإِذْ قَالَ مُوسَىَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوَاْ إِلَىَ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوَاْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنّهُ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ }
وتأويـل ذلك: واذكروا أيضا إذ قال موسى لقومه من بنـي إسرائيـل: يا قوم إنكم ظلـمتـم أنفسكم. وظلـمهم إياها كان فعلهم بها ما لـم يكن لهم أن يفعلوه بها مـما أوجب لهم العقوبة من الله تعالـى, وكذلك كل فـاعل فعلاً يستوجب به العقوبة من الله تعالـى فهو ظالـم لنفسه بإيجابه العقوبة لها من الله تعالـى. وكان الفعل الذي فعلوه فظلـموا به أنفسهم, هو ما أخبر الله عنهم من ارتدادهم بـاتـخاذهم العجل ربـا بعد فراق موسى إياهم, ثم أمرهم موسى بـالـمراجعة من ذنبهم والإنابة إلـى الله من ردّتهم بـالتوبة إلـيه, والتسلـيـم لطاعته فـيـما أمرهم به وأخبرهم أن توبتهم من الذنب الذي ركبوه قتلهم أنفسهم. وقد دللنا فـيـما مضى علـى أن معنى التوبة: الأوبة مـما يكرهه الله إلـى ما يرضاه من طاعته. فـاستـجاب القوم لـما أمرهم به موسى من التوبة مـما ركبوا من ذنوبهم إلـى ربهم علـى ما أمرهم به. كما:
661ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن أبـي إسحاق, عن أبـي عبد الرحمن, أنه قال فـي هذه الآية: فـاقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ قال: عمدوا إلـى الـخناجر, فجعل يطعن بعضهم بعضا.
662ـ حدثنـي عبـاس بن مـحمد, قال: حدثنا حجاج بن مـحمد, قال ابن جريج, أخبرنـي القاسم بن أبـي بزة أنه سمع سعيد بن جبـير ومـجاهدا قالا: قام بعضهم إلـى بعض بـالـخناجر يقتل بعضهم بعضا لا يحنّ رجل علـى رجل قريب ولا بعيد, حتـى ألوى موسى بثوبه, فطرحوا ما بأيديهم, فتكشف عن سبعين ألف قتـيـل, وإن الله أوحى إلـى موسى أن حسبـي قد اكتفـيت, فذلك حين ألوى بثوبه.
663ـ حدثنـي عبد الكريـم بن الهيثم, قال: حدثنا إبراهيـم بن بشار, قال: حدثنا سفـيان بن عيـينة, قال: قال أبو سعيد, عن عكرمة, عن ابن عبـاس, قال: قال موسى لقومه: تُوبُوا إلـى بـارِئكُمْ فَـاقْتُلُوا أنفُسكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِندَ بـارِئِكُمْ فتَابَ علَـيكُمْ إنّهُ هُوَ التّوّابُ الرّحِيـمُ قال: أمر موسى قومه عن أمر ربه عزّ وجلّ أن يقتلوا أنفسهم, قال: فـاختبأ الذين عكفوا علـى العجل فجلسوا, وقام الذين لـم يعكفوا علـى العجل وأخذوا الـخناجر بأيديهم وأصابتهم ظلـمة شديدة, فجعل يقتل بعضهم بعضا. فـانـجلت الظلـمة عنهم, وقد أجْلَوْا عن سبعين ألف قتـيـل, كل من قتل منهم كانت له توبة, وكل من بقـي كانت له توبة.
664ـ وحدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي, قال: لـما رجع موسى إلـى قومه قال يا قَوْمِ ألـمْ يَعِدْكُمْ رَبكُمْ وعْدا حَسَنا إلـى قوله: فَكَذَلِكَ ألْقَـى السّامِرِيّ فألْقَـى مُوسَى الألْوَاحَ وأخَذَ برأسِ أخيهِ يَجُرّهُ إلَـيْهِ قالَ يا ابْنَ أُمّ لا تأخُذْ بِلِـحْيَتِـي وَلا بِرأسِي إنـي خَشِيتُ أنْ تَقُول فَرّقْت بـينَ بَنِـي إسْرائِيـلَ ولَـمْ تَرْقُبْ قَوْلِـي فترك هارون ومال إلـى السامري, فقال ما خَطْبُكَ يا سامِرِيّ إلـى قوله: ثُمّ لَنَنْسِفَنّهُ فـي الـيَـمّ نَسْفـا. ثم أخذه فذبحه, ثم حرّقه بـالـمبرد, ثم ذراه فـي الـيـم, فلـم يبق بحر يجري يومئذ إلا وقع فـيه شيء منه. ثم قال لهم موسى: اشربوا منه فشربوا, فمن كان يحبه خرج علـى شاربـيه الذهب, فذلك حين يقول: واشْرِبُوا فـي قُلُوبِهِمْ العِجْلَ بِكُفْرِهِمْ. فلـما سقط فـي أيدي بنـي إسرائيـل حين جاء موسى, وَرَأوْا أنهُمْ قَدْ ضَلّوا قالُوا لَئِنْ لـمْ يَرْحَمْنا ربّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنّ مِن الـخاسِرِينَ فأبى الله أن يقبل توبة بنـي إسرائيـل إلا بـالـحال التـي كرهوا أن يقاتلوهم حين عبدوا العجل, فقال لهم موسى: يا قَوْمِ إنّكُمْ ظَلَـمْتُـمْ أنْفُسَكُمْ بـاتّـخَاذِكُمُ العِجْلَ فَتُوبُوا إلـى بـارِئِكُمْ فـاقْتُلوا أنْفُسَكُمْ قال: فصفوا صفّـين ثم اجتلدوا بـالسيوف. فـاجتلد الذين عبدوه والذين لـم يعبدوه بـالسيوف, فكان من قتل من الفريقـين شهيدا, حتـى كثر القتل حتـى كادوا أن يهلكوا حتـى قتل بـينهم سبعون ألفـا, وحتـى دعا موسى وهارون: ربنا هلكت بنو إسرائيـل, ربنا البقـية البقـية فأمرهم أن يضعوا السلاح, وتاب علـيهم. فكان من قتل شهيدا, ومن بقـي كان مكفرا عنه. فذلك قوله: فتَاب عَلَـيْكُمْ إنّهُ هُو التّوّابُ الرحِيـمُ.
665ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو البـاهلـي, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله تعالـى: بـاتّـخَاذِكُمُ العِجْلَ قال: كان موسى أمر قومه عن أمر ربه أن يقتل بعضهم بعضا بـالـخناجر, فجعل الرجل يقتل أبـاه ويقتل ولده, فتاب الله علـيهم.
666ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية فـي قوله: وإذْ قال مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إنّكُمْ ظَلَـمْتُـمْ أنْفُسَكُمْ الآية. قال: فصاروا صفـين, فجعل يقتل بعضهم بعضا, فبلغ القتلـى ما شاء الله, ثم قـيـل لهم: قد تـيب علـى القاتل والـمقتول.
667ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: حدثنـي اللـيث, قال: حدثنـي عقـيـل, عن ابن شهاب, قال: لـما أمرت بنو إسرائيـل بقتل أنفسها برزوا ومعهم موسى, فتضاربوا بـالسيوف, وتطاعنوا بـالـخناجر, وموسى رافع يديه. حتـى إذا فتر أتاه بعضهم قالوا: يا نبـيّ الله ادع الله لنا وأخذوا بعضديه يشدّون يديه, فلـم يزل أمرهم علـى ذلك حتـى إذا قبل الله توبتهم قبض أيدي بعضهم عن بعض, فألقوا السلاح. وحزن موسى وبنو إسرائيـل للذي كان من القتل فـيهم, فأوحى الله جل ثناؤه إلـى موسى: لا يحزنك, أما من قتل منكم فحيّ عندي يرزق, وأما من بقـي فقد قبلت توبته. فسرّ بذلك موسى وبنو إسرائيـل.
668ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن الزهري وقتادة فـي قوله: فـاقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ قال: قاموا صفـين فقتل بعضهم بعضا حتـى قـيـل لهم كفوا. قال قتادة: كانت شهادة للـمقتول وتوبة للـحيّ.
669ـ حدثنا القاسم بن الـحسن, قال: حدثنا الـحسين بن داود, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال لـي عطاء: سمعت عبـيد بن عمير يقول: قام بعضهم إلـى بعض يقتل بعضهم بعضا, ما يتوقـى الرجل أخاه ولا أبـاه ولا ابنه ولا أحدا حتـى نزلت التوبة.
قال ابن جريج, وقال ابن عبـاس: بلغ قتلاهم سبعين ألفـا, ثم رفع الله عزّ وجل عنهم القتل, وتاب علـيهم. قال ابن جريج: قاموا صفـين, فـاقتتلوا بـينهم, فجعل الله القتل لـمن قتل منهم شهادة, وكانت توبة لـمن بقـي. وكان قتل بعضهم بعضا أن الله علـم أن ناسا منهم علـموا أن العجل بـاطل فلـم يـمنعهم أن ينكروا علـيهم إلا مخافة القتال, فلذلك أمر أن يقتل بعضهم بعضا.
670ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: لـما رجع موسى إلـى قومه, وأحرق العجل وذراه فـي الـيـم خرج إلـى ربه بـمن اختار من قومه, فأخذتهم الصاعقة, ثم بعثوا. سأل موسى ربه التوبة لبنـي إسرائيـل من عبـادة العجل, فقال: لا, إلا أن يقتلوا أنفسهم. قال: فبلغنـي أنهم قالوا لـموسى: نصبر لأمر الله, فأمر موسى من لـم يكن عبد العجل أن يقتل من عبده, فجلسوا بـالأفنـية وأصلت علـيهم القوم السيوف, فجعلوا يقتلونهم, وبكى موسى وبَهَش إلـيه النساء والصبـيان يطلبون العفو عنهم, فتاب علـيهم وعفـا عنهم, وأمر موسى أن ترفع عنهم السيوف.
671ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: لـما رجع موسى إلـى قومه, وكانوا سبعون رجلاً قد اعتزلوا مع هارون العجل لـم يعبدوه. فقال لهم موسى: انطلقوا إلـى موعد ربكم, فقالوا: يا موسى أما من توبة؟ قال: بلـى فـاقْتُلُوا أنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ حَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بـارِئِكُمْ فَتابَ عَلَـيْكُمْ الآية.... فـاخترطوا السيوف والـجِرَزة والـخناجر والسكاكين. قال: وبعث علـيهم ضبـابة, قال: فجعلوا يتلامسون بـالأيدي, ويقتل بعضهم بعضا. قال: ويـلقـى الرجل أبـاه وأخاه فـيقتله ولا يدري, ويتنادون فـيها: رحم الله عبدا صبر حتـى يبلغ الله رضاه. وقرأ قول الله جل ثناؤه: وآتَـيْناهُمْ مِنَ الاَياتِ ما فِـيهِ بَلاءٌ مُبِـينٌ. قال: فقتلاهم شهداء, وتـيب علـى أحيائهم. وقرأ: فَتابَ عَلَـيْكُمْ إنّهُ هُوَ التّوّابُ الرّحِيـم.
فـالذي ذكرنا عمن روينا عنه الأخبـار التـي رويناها كان توبة القوم من الذنب الذي أتوه فـيـما بـينهم وبـين ربهم بعبـادتهم العجل مع ندمهم علـى ما سلف منهم من ذلك.
وأما معنى قوله: فَتُوبُوا إلـى بـارِئِكُمْ فإنه يعنـي به: ارجعوا إلـى طاعة خالقكم وإلـى ما يرضيه عنكم. كما:
672ـ حدثنـي به الـمثنى بن إبراهيـم قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: فَتُوبُوا إلـى بـارِئِكُمْ أي إلـى خالقكم. وهو من برأ الله الـخـلق يبرؤه فهو بـارىء. والبريّة: الـخـلق, وهي فعيـلة بـمعنى مفعولة, غير أنها لا تهمز كما لا يهمز ملك, وهو من «لأك», لكنه جرى بترك الهمزة, كذلك قال نابغة بنـي ذبـيان:
إلاّ سُلَـيْـمانَ إذْ قالَ الـمَلِـيكُ لَهُقُمْ فـي البَرِيّةِ فـاحْدُدْها عَنِ الفَندِ
وقد قـيـل: إن البرية إنـما لـم تهمز لأنها فعيـلة من البَرَى, والبَرَى: التراب. فكأن تأويـله علـى قول من تأوله كذلك أنه مخـلوق من التراب. وقال بعضهم: إنـما أخذت البرية من قولك بريت العود, فلذلك لـم يهمز.
قال أبو جعفر: وترك الهمز من بـارئكم جائز, والإبدال منها جائز, فإذ كان ذلك جائزا فـي بـاريكم فغير مستنكر أن تكون البرية من برى الله الـخـلق بترك الهمزة.
وأما قوله: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بـارِئِكُمْ فإنه يعنـي بذلك توبتكم بقتلكم أنفسكم وطاعتكم ربكم خير لكم عند بـارئكم لأنكم تنـجون بذلك من عقاب الله فـي الاَخرة علـى ذنبكم, وتستوجبون به الثواب منه. وقوله: فتَاب عَلَـيْكُمْ أي بـما فعلتـم مـما أمركم به من قتل بعضكم بعضا. وهذا من الـمـحذوف الذي استغنـي بـالظاهر منه عن الـمتروك, لأن معنى الكلام: فتوبوا إلـى بـارئكم, فـاقتلوا أنفسكم, ذلكم خير لكم عند بـارئكم, فتبتـم فتاب علـيكم. فترك ذكر قوله «فتبتـم» إذْ كان فـي قوله: فتَابَ عَلَـيْكُمْ دلالة بـينة علـى اقتضاء الكلام فتبتـم. ويعنـي بقوله: فَتابَ عَلَـيْكُمْ رجع لكم ربكم إلـى ما أحببتـم من العفو عن ذنوبكم, وعظيـم ما ركبتـم, والصفح عن جرمكم إنّهُ هُوَ التّوّابُ الرّحِيـمُ يعنـي الراجع لـمن أناب إلـيه بطاعته إلـى ما يحبّ من العفو عنه. ويعنـي بـالرحيـم: العائد إلـيه برحمته الـمنـجية من عقوبته.
الآية : 55
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَىَ لَن نّؤْمِنَ لَكَ حَتّىَ نَرَى اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ }
وتأويـل ذلك: واذكروا أيضا إذ قلتـم: يا موسى لن نصدّقك ولن نقرّ بـما جئتنا به حتـى نرى الله جهرة عيانا, برفع الساتر بـيننا وبـينه, وكشف الغطاء دوننا ودونه حتـى ننظر إلـيه بأبصارنا, كما تُـجهر الركِيّة, وذلك إذا كان ماؤها قد غطاه الطين, فنفـى ما قد غطاه حتـى ظهر الـماء وصَفَـا, يقال منه: قد جهرت الركية أجهرها جهرا وجهرة ولذلك قـيـل: قد جهر فلان بهذا الأمر مـجاهرة وجهارا: إذا أظهره لرأي العين وأعلنه, كما قال الفرزدق بن غالب:
من اللاّئي يَضِلّ الألفُ منْهُمِسَحّا مِنْ مَخافَتِهِ جِهارا
673ـ وكما حدثنا به القاسم بن الـحسن, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عبـاس: حتـى نَرى اللّهَ جَهْرَةً قال: علانـية.
674ـ وحدثت, عن عمارة بن الـحسن قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه عن الربـيع: حتّـى نَرى اللّهَ جَهْرَةً يقول: عيانا.
675ـ وحدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: حتّـى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً: حتـى يطلع إلـينا.
676ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: حتّـى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً: أي عيانا.
فذكرهم بذلك جل ذكره اختلاف آبـائهم وسوء استقامة أسلافهم لأنبـيائهم, مع كثرة معاينتهم من آيات الله جل وعزّ وعِبَره ما تثلـج بأقلها الصدور, وتطمئنّ بـالتصديق معها النفوس وذلك مع تتابع الـحجج علـيه, وسبوغ النعم من الله لديهم. وهم مع ذلك مرّة يسألون نبـيهم أن يجعل لهم إلها غير الله ومرة يعبدون العجل من دون الله, ومرة يقولون لا نصدقك حتـى نرى الله جهرة, وأخرى يقولون له إذا دعوا إلـى القتال: فـاذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقاتِلا إنّا هَهُنا قاعِدُونَ ومرة يقال لهم: قُولُوا حِطّة وادْخُـلُوا البـابَ سُجّدا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَاياكُمْ فـيقولون: حنطة فـي شعيرة, ويدخـلون البـاب من قبل أستاههم, مع غير ذلك من أفعالهم التـي آذوا بها نبـيهم علـيه السلام التـي يكثر إحصاؤها. فأعلـم ربنا تبـارك وتعالـى ذكره الذين خاطبهم بهذه الاَيات من يهود بنـي إسرائيـل الذين كانوا بـين ظهرانـي مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم لن يعدوا أن يكونوا فـي تكذيبهم مـحمدا صلى الله عليه وسلم, وجحودهم نبوّته, وتركهم الإقرار به وبـما جاء به, مع علـمهم به ومعرفتهم بحقـيقة أمره كأسلافهم وآبـائهم الذين فصل علـيهم قصصهم فـي ارتدادهم عن دينهم مرة بعد أخرى, وتوثبهم علـى نبـيهم موسى صلوات الله وسلامه علـيه تارة بعد أخرى, مع عظيـم بلاء الله جل وعزّ عندهم وسبوغ آلائه علـيهم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فأخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ وأنْتُـمْ تَنْظُرُونَ.
اختلف أهل التأويـل فـي صفة الصاعقة التـي أخذتهم. فقال بعضهم بـما:
677ـ حدثنا به الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: فَأخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ قال: ماتوا.
678ـ وحدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: فأخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ قال: سمعوا صوتا فصعقوا. يقول: فماتوا. وقال آخرون: بـما:
679ـ حدثنـي موسى بن هارون الهمدانـي, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: فأخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ والصاعقة: نار.
وقال آخرون بـما:
680ـ حدثنا به ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: أخذتهم الرجفة وهي الصاعقة فماتوا جميعا. وأصل الصاعقة: كل أمر هائل رآه أو عاينه أو أصابه حتـى يصير من هوله وعظيـم شأنه إلـى هلاك وعطب, وإلـى ذهاب عقل وغُمور فهم, أو فقد بعض آلات الـجسم, صوتا كان ذلك, أو نارا, أو زلزلة, أو رَجْفـا. ومـما يدل علـى أنه قد يكون مصعوقا وهو حيّ غير ميت, قول الله عزّ وجل: وَخَرّ مُوسَى صَعِقا يعنـي مغشيّا علـيه. ومنه قول جرير بن عطية:
وهَلْ كان الفَرَزْذَقُ غَيْرَ قِرْدٍأصَابَتْهُ الصّواعِقُ فـاسْتَدَارَا
فقد علـم أن موسى لـم يكن حين غشي علـيه وصعق ميتا لأن الله جل وعزّ أخبر عنه أنه لـما أفـاق قال: تُبْتُ إلـيك ولا شبه جرير الفرزدق وهو حيّ بـالقرد ميتا, ولكن معنى ذلك ما وصفنا.
ويعنـي بقوله: وأنْتُـمْ تَنْظُرُونَ: وأنتـم تنظرون إلـى الصاعقة التـي أصابتكم, يقول: أخذتكم الصاعقة عيانا جهارا وأنتـم تنظرون إلـيها.
الآية : 56
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{ثُمّ بَعَثْنَاكُم مّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ }
يعنـي بقوله: ثُمّ بَعَثْنَاكُمْ ثم أحيـيناكم. وأصل البعث: إثارة الشيء من مـحله, ومنه قـيـل: بعث فلان راحلته: إذا أثارها من مبركها للسير, كما قال الشاعر:
فأبْعَثُهااَوهِيّ صَنـيعُ حَوْلٍحول كركنِ الرّعْنِ ذِعْلِبَةً وَقَاحَا
والرعن: منقطع أنف الـجبل, والذعلبة: الـخفـيفة, والوقاح, الشديدة الـحافر أو الـخفّ. ومن ذلك قـيـل: بعثت فلانا لـحاجتـي: إذا أقمته من مكانه الذي هو فـيه للتوجه فـيها. ومن ذلك قـيـل لـيوم القـيامة: يوم البعث, لأنه يوم يثار الناس فـيه من قبورهم لـموقـف الـحساب.
ويعنـي بقوله: مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ من بعد موتكم بـالصاعقة التـي أهلكتكم.
وقوله: لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ يقول: فعلنا بكم ذلك لتشكرونـي علـى ما أولـيتكم من نعمتـي علـيكم بإحيائي إياكم استبقاء منـي لكم لتراجعوا التوبة من عظيـم ذنبكم بعد إحلالـي العقوبة بكم بـالصاعقة التـي أحللتها بكم, فأماتتكم بعظيـم خطئكم الذي كان منكم فـيـما بـينكم وبـين ربكم. وهذا القول علـى تأويـل من تأوّل قوله قول ثُمّ بَعَثْنَاكُمْ ثم أحيـيناكم.
وقال آخرون: معنى قوله: ثُمّ بَعَثْنَاكُمْ أي بعثناكم أنبـياء.
681ـ حدثنـي بذلك موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي.
قال أبو جعفر: وتأويـل الكلام علـى ما تأوله السدي: فأخذتكم الصاعقة, ثم أحيـيناكم من بعد موتكم, وأنتـم تنظرون إلـى إحيائنا إياكم من بعد موتكم, ثم بعثناكم أنبـياء لعلكم تشركون. وزعم السدي أن ذلك من الـمقدم الذي معناه التأخير, والـمؤخر الذي معناه التقديـم.
682ـ حدثنا بذلك موسى, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي. وهذا تأويـل يدل ظاهر التلاوة علـى خلافه مع إجماع أهل التأويـل علـى تـخطئته. والواجب علـى تأويـل السدي الذي حكيناه عنه أن يكون معنى قوله: لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ تشكرونـي علـى تصيـيري إياكم أنبـياء.
وكان سبب قـيـلهم لـموسى ما أخبر الله جل وعزّ عنهم أنهم قالوا له من قولهم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حتـى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً, ما:
683ـ حدثنا به مـحمد بن حميد, قال: حدثنا سلـمة بن الفضل, عن مـحمد بن إسحاق, قال: لـما رجع موسى إلـى قومه, ورأى ما هم فـيه من عبـادة العجل, وقال لأخيه وللسامري ما قال, وحرّق العجل وذراه فـي الـيـم اختار موسى منهم سبعين رجلاً الـخيّر فـالـخيرُ, وقال: انطلقوا إلـى الله عزّ وجل, فتوبوا إلـيه مـما صنعتـم وسلوه التوبة علـى من تركتـم وراءكم من قومكم, صوموا وتطهروا وطهروا ثـيابكم فخرج بهم إلـى طور سيناء لـميقات وقته له ربه, وكان لا يأتـيه إلا بإذن منه وعلـم. فقال له السبعون فـيـما ذكر لـي حين صنعوا ما أمرهم به وخرجوا للقاء الله: يا موسى اطلب لنا إلـى ربك لنسمع كلام ربنا فقال: أفعل. فلـما دنا موسى من الـجبل وقع علـيه الغمام حتـى تغشى الـجبل كله, ودنا موسى فدخـل فـيه, وقال للقوم: ادنوا. وكان موسى إذا كلـمه ربه وقع علـى جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بنـي آدم أن ينظر إلـيه, فضرب دونه الـحجاب. ودنا القوم حتـى إذا دخـلوا فـي الغمام وقعوا سجودا, فسمعوه وهو يكلـم موسى يأمره وينهاه: افعل ولا تفعل. فلـما فرغ من أمره وانكشف عن موسى الغمام فأقبل إلـيهم فقالوا لـموسى: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّـى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً فأخَذَتْهُمْ الرّجْفَةُ وهي الصاعقة فماتوا جميعا. وقام موسى يناشد ربه ويدعوه, ويرغب إلـيه ويقول: ربّ لوْ شئتَ أهلكتهمْ مِن قبلُ وإيّايَ قد سفهوا, أفتهلك من ورائي من بنـي إسرائيـل بـما تفعل السفهاء منا؟ أي أن هذا لهم هلاك, اخترت منهم سبعين رجلاً, الـخيّر فـالـخيّر ارجع إلـيهم, ولـيس معي منهم رجل واحد, فما الذي يصدّقونـي به أو يأمنونـي علـيه بعد هذا؟ إنّا هُدنا إلـيكَ. فلـم يزل موسى يناشد ربه عز وجل ويطلب إلـيه, حتـى ردّ إلـيهم أرواحهم, فطلب إلـيه التوبة لبنـي إسرائيـل من عبـادة العجل, فقال: لا, إلا أن يقتلوا أنفسهم.
684ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط بن نصر, عن السدي: لـما تابت بنو إسرائيـل من عبـادة العجل, وتاب الله علـيهم بقتل بعضهم بعضا كما أمرهم به, أمر الله تعالـى موسى أن يأتـيه فـي ناس من بنـي إسرائيـل يعتذرون إلـيه من عبـادة العجل, ووعدهم موعدا, فـاختار موسى من قومه سبعين رجلاً علـى عينه, ثم ذهب بهم لـيعتذروا. فلـما أتوا ذلك الـمكان قالوُا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتـى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً فإنك قد كلـمته فأرناه. فأخذتهم الصاعقة فماتوا, فقام موسى يبكي, ويدعو الله ويقول: ربّ ماذا أقول لبنـي إسرائيـل إذا أتـيتهم وقد أهلكت خيارهم رَبّ لو شِئْتَ أهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإيّايَ أتُهْلِكُنا بِـما فَعَلَ السّفَهاءُ مِنّا. فأوحى الله إلـى موسى إن هؤلاء السبعين مـمن اتـخذ العجل, فذلك حين يقول موسى: إنْ هِيَ إلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلّ بِها مَنْ تَشاءُ وتَهْدِي مَنْ تَشاءُ... إنّا هُدْنا إلَـيْكَ وذلك قوله: وَإذْ قُلْتُـمْ يا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتـى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً فَأخَذَتْكُمْ الصّاعِقَةُ. ثُم إن الله جل ثناؤه أحياهم, فقاموا وعاشوا رجلاً رجلاً ينظر بعضهم إلـى بعض كيف يحيون, فقالوا: يا موسى أنت تدعو الله فلا تسأله شيئا إلا أعطاك, فـادعه يجعلنا أنبـياء فدعا الله تعالـى, فجعلهم أنبـياء, فذلك قوله: ثُمّ بَعَثْنَاكُمْ منْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ ولكنه قدّم حرفـا وأخر حرفـا.
685ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, قال لهم موسى لـما رجع من عند ربه بـالألواح, قد كتب فـيها التوراة فوجدهم يعبدون العجل, فأمرهم بقتل أنفسهم, ففعلوا, فتاب الله علـيهم, فقال: إن هذه الألواح فـيها كتاب الله فـيه أمره الذي أمركم به, ونهيه الذي نهاكم عنه. فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت؟ لا والله حتـى نرى الله جهرة, حتـى يطلع الله علـينا فـيقول: هذا كتابـي فخذوه فماله لا يكلـمنا كما يكلـمك أنت يا موسى؟ فـيقول: هذا كتابـي فخذوه؟ وقرأ قول الله تعالـى: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتـى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً قال: فجاءت غضبة من الله عز وجل, فجاءتهم صاعقة بعد التوبة, فصعقتهم فماتوا أجمعون. قال: ثم أحياهم الله من بعد موتهم, وقرأ قول الله تعالـى: ثُمّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله فقالوا لا, فقال: أيّ شيء أصابكم؟ قالوا: أصابنا أنا متنا ثم حيـينا. قال: خذوا كتاب الله قالوا لا. فبعث الله تعالـى ملائكة, فنتقت الـجبل فوقهم.
686ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: فأخَذَتْكُمْ الصّاعِقَةُ وأنْتُـمْ تَنْظُرُونَ ثُمّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ قال: أخذتهم الصاعقة, ثم بعثهم الله تعالـى لـيكملوا بقـية آجالهم.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع بن أنس فـي قوله: فأخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ قال: هم السبعون الذين اختارهم موسى فساروا معه. قال: فسمعوا كلاما, فقالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتـى نَرى اللّهَ جَهْرَةً قال: فسمعوا صوتا فصعقوا. يقول: ماتوا. فذلك قوله: ثُمّ بَعَثْنَاكُمْ منْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ فَبُعِثُوا من بعد موتهم لأن موتهم ذاك كان عقوبة لهم, فبعثوا لبقـية آجالهم.
فهذا ما روي فـي السبب الذي من أجله قالوا لـموسى: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتـى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً ولا خبر عندنا بصحة شيء مـما قاله من ذكرنا قوله فـي سبب قـيـلهم ذلك لـموسى تقوم به حجة فتسلـم لهم. وجائز أن يكون ذلك بعض ما قالوه, فإذا كان لا خبر بذلك تقوم به حجة, فـالصواب من القول فـيه أن يقال: إن الله جل ثناؤه قد أخبر عن قوم موسى أنهم قالوا له: يا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حتّـى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً كما أخبر عنهم أنهم قالوه. وإنـما أخبر الله عزّ وجلّ بذلك عنهم الذين خوطبوا بهذه الاَيات توبـيخا لهم فـي كفرهم بـمـحمد صلى الله عليه وسلم, وقد قامت حجته علـى من احتـج به علـيه, ولا حاجة لـمن انتهت إلـيه إلـى معرفة السبب الداعي لهم إلـى قـيـل ذلك. وقد قال الذين أخبرنا عنهم الأقوال التـي ذكرناها, وجائز أن يكون بعضها حقا كما قال.
الآية : 57
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَظَلّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنّ وَالسّلْوَىَ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـَكِن كَانُوَاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }
وَظَلّلْنا عَلَـيْكُمْ عطف علـى قوله: ثُمّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ فتأويـل الآية: ثم بعثناكم من بعد موتكم, وظللنا علـيكم الغمام, وعدد علـيهم سائر ما أنعم به علـيهم لعلكم تشكرون. والغمام جمع غمامة كما السحاب جمع سحابة, والغمام هو ما غمّ السماء فألبسها من سحاب وقتام وغير ذلك مـما يسترها عن أعين الناظرين, وكل مغطّى فإن العرب تسميه مغموما. وقد قـيـل: إن الغمام التـي ظللها الله علـى بنـي إسرائيـل لـم تكن سحابـا.
687ـ حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفـيان, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد قوله: وَظَلّلْنا عَلَـيْكُمْ الغَمامَ قال: لـيس بـالسحاب.
وحدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد قوله: وَظَلّلْنَا عَلَـيْكُمْ الغَمامَ قال: لـيس بـالسحاب هو الغمام الذي يأتـي الله فـيه يوم القـيامة لـم يكن إلا لهم.
وحدثنـي مـحمد بن عمرو البـاهلـي, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله جل ثناؤه: وَظَلّلْنا عَلَـيْكُمْ الغَمامَ قال: هو بـمنزلة السحاب.
688ـ وحدثنـي القاسم بن الـحسن, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج عن ابن جريج, قال: قال ابن عبـاس: وَظَلّلْنا عَلَـيْكُمْ الغَمامَ قال: هو غمام أبرد من هذا وأطيب, وهو الذي يأتـي الله عز وجل فـيه يوم القـيامة فـي قوله: فـي ظلل من الغمام, وهو الذي جاءت فـيه الـملائكة يوم بدر. قال ابن عبـاس: وكان معهم فـي التـيه. وإذ كان معنى الغمام ما وصفنا مـما غمّ السماء من شيء فغطى وجهها عن الناظر إلـيها, فلـيس الذي ظلله الله عز وجل علـى بنـي إسرائيـل فوصفه بأنه كان غماما بأولـى بوصفه إياه بذلك أن يكون سحابـا منه بأن يكون غير ذلك مـما ألبس وجه السماء من شيء, وقد قـيـل: إنه ما ابـيضّ من السحاب.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَأَنْزَلْنا عَلَـيْكُمْ الـمَنّ.
اختلف أهل التأويـل فـي صفة الـمنّ. فقال بعضهم بـما:
689ـ حدثنـي به مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله عز وجل: وَأنْزَلْنا عَلَـيْكُمْ الـمَنّ قال: الـمن: صمغة.
حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
690ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أنا عبد الرزاق, قال: أنا معمر, عن قتادة فـي قوله: وَأنْزَلْنا عَلَـيْكُمْ الـمَنّ وَالسّلْوَى يقول: كان الـمنّ ينزل علـيهم مثل الثلـج.
وقال آخرون: هو شراب. ذكر من قال ذلك:
691ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع بن أنس, قال: الـمنّ: شراب كان ينزل علـيهم مثل العسل, فـيـمزجونه بـالـماء, ثم يشربونه.
وقال آخرون: الـمن: عسل. ذكر من قال ذلك:
692ـ حدثنا يونس بن عبد الأعلـى, أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: الـمنّ: عسل كان ينزل لهم من السماء.
693ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا إسرائيـل, عن جابر, عن عامر, قال: عسلكم هذا جزء من سبعين جزءا من الـمنّ.
وقال آخرون: الـمنّ: خبز الرقاق. ذكر من قال ذلك:
694ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا إسماعيـل بن عبد الكريـم, قال: حدثنـي عبد الصمد, قال: سمعت وهبـا وسئل ما الـمنّ, قال: خبز الرقاق, مثل الذرة, ومثل النّقْـي.
وقال آخرون: الـمنّ: الترنـجبـين. ذكر من قال ذلك:
695ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: الـمنّ كان يسقط علـى شجر الترنـجبـين.
وقال آخرون: الـمنّ هو الذي يسقط علـى الشجر الذي تأكله الناس. ذكر من قال ذلك:
696ـ حدثنـي القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عبـاس: كان الـمنّ ينزل علـى شجرهم فـيغدون علـيه فـيأكلون منه ما شاءوا.
697ـ وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا الـحمانـي, قال: حدثنا شريك, عن مـجالد. عن عامر فـي قوله: وأنْزلْنا عَلَـيْكُمْ الـمَنّ قال: الـمنّ: الذي يقع علـى الشجر.
وحدثت عن الـمنـجاب بن الـحارث, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس فـي قوله: الـمنّ قال: الـمن: الذي يسقط من السماء علـى الشجر فتأكله الناس.
حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري, قال: حدثنا شريك, عن مـجالد, عن عامر, قال: الـمنّ: هذا الذي يقع علـى الشجر. وقد قـيـل إن الـمنّ: هو الترنـجبـين.
وقال بعضهم: الـمنّ: هو الذي يسقط علـى الثمام والعُشَر, وهو حلو كالعسل, وإياه عنى الأعشى ميـمون بن قـيس بقوله:
لَوْ أُطْعِمُوا الـمَنّ وَالسّلْوَى مكانَهُمُما أبْصَرَ النّاسُ طُعْما فِـيهمُ نَـجَعا
وتظاهرت الأخبـار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الكمأةُ مِنَ الـمَنّ, وَمأُوها شِفـاءٌ للْعَيْنِ». وقال بعضهم: الـمنّ: شراب حلو كانوا يطبخونه فـيشربونه. وأما أمية بن أبـي الصلت فإنه جعله فـي شعره عسلاً, فقال يصف أمرهم فـي التـيه وما رزقوا فـيه:
فَرأى اللّهُ أنّهُمْ بِـمَضيعٍلا بِذِي مَزْرَعٍ وَلا مَثْمُورَا
فنساها عَلَـيْهِمُ غَادِياتٍومَرَى مُزْنَهُمْ خَلايا وخُورَا
عَسَلاً ناطِفـا ومَاءً فُرَاتاوَحَلـيبـا ذَا بَهْجَةٍ مَـمْرُورَا
الـمـمرور: الصافـي من اللبن, فجعل الـمنّ الذي كان ينزل علـيهم عسلاً ناطفـا, والناطف: هو القاطر.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَالسّلْوَى والسلوى: اسم طائر يشبه السمانَـي, واحده وجماعه بلفظ واحد, كذلك السمانَـي لفظ جماعها وواحدها سواء. وقد قـيـل: إن واحدة السلوى سلواة. ذكر من قال ذلك:
698ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنـي عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرة الهمدانـي, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم: السلوى: طير يشبه السمانَـي.
699ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي, قال: كان طيرا أكبر من السمانـي.
700ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, قال: السلوى: طائر كانت تـحشرها علـيهم الريح الـجنوب.
701ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد قال: السلوى: طائر.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: السلوى: طير.
702ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا إسماعيـل بن عبد الكريـم, قال: حدثنـي عبد الصمد, قال: سمعت وهبـا وسئل: ما السلوى؟ فقال: طير سمين مثل الـحمام.
703ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: السلوى: طير.
704ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع بن أنس: السلوى: كان طيرا يأتـيهم مثل السمانـي.
705ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا الـحمانـي, قال: حدثنا شريك, عن مـجالد, عن عامر, قال: السلوى: السمانـي.
706ـ حدثت عن الـمنـجاب, قال: حدثنا بشر, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس, قال: السلوى: هو السمانـي.
حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: أخبرنا أبو أحمد, قال: حدثنا شريك, عن مـجالد, عن عامر, قال: السلوى: السمانـي.
707ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو عامر, قال: حدثنا قرة, عن الضحاك, قال: السمانَى هو السلوى.
فإن قال قائل: وما سبب تظلـيـل الله جل ثناؤه الغمام وإنزاله الـمنّ والسلوى علـى هؤلاء القوم؟ قـيـل: قد اختلف أهل العلـم فـي ذلك, ونـحن ذاكرون ما حضرنا منه.
708ـ فحدثنا موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط بن نصر, عن السدي: لـما تاب الله علـى قوم موسى وأحيا السبعين الذين اختارهم موسى بعد ما أماتهم, أمرهم الله بـالـمسير إلـى أريحا, وهي أرض بـيت الـمقدس. فساروا حتـى إذا كانوا قريبـا منها بعث موسى اثنـي عشر نقـيبـا. وكان من أمرهم وأمر الـجبـارين, وأمر قوم موسى ما قد قصّ الله فـي كتابه, فقال قوم موسى لـموسى: اذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقاتِلا إنّا هَهُنَا قَاعِدُونَ فغضب موسى, فدعا علـيهم قال: رَبّ إنـي لا أمْلِكُ إِلاّ نَفْسِي وأخِي فَـافْرُقْ بَـيْنَنَا وَبَـيْنَ القَوْمِ الفـاسِقِـينَ فكانت عجلة من موسى عجلها فقال الله تعالـى: إِنّهَا مُـحَرّمَةٌ عَلَـيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَة يَتِـيهُونَ فِـي الأرْضِ. فلـما ضرب علـيهم التـيه ندم موسى, وأتاه قومه الذين كانوا معه يطيعونه, فقالوا له: ما صنعت بنا يا موسى؟ فلـما ندم أوحى الله إلـيه أنْ لا تأسَ علـى القَوْمِ الفـاسقِـينَ أي لا تـحزن علـى القوم الذين سميتهم فـاسقـين. فلـم يحزن. فقالوا: يا موسى كيف لنا بـماء ههنا, أين الطعام؟ فأنزل الله علـيهم الـمنّ, فكان يسقط علـى شجر الترنـجبـين, والسلوى: وهو طير يشبه السمانـي, فكان يأتـي أحدهم, فـينظر إلـى الطير إن كان سمينا ذبحه, وإلا أرسله, فإذا سمن أتاه. فقالوا: هذا الطعام, فأين الشراب؟ فأمر موسى فضرب بعصاه الـحجر, فـانفجرت منه اثنتا عشرة عينا, فشرب كل سبط من عين, فقالوا: هذا الطعام والشراب, فأين الظلّ؟ فظلل علـيهم الغمام, فقالوا: هذا الظلّ فأين اللبـاس؟ فكانت ثـيابهم تطول معهم كما تطول الصبـيان, ولا يتـخرّق لهم ثوب, فذلك قوله: وَظَلّلْنَا عَلَـيْكُمْ الغَمَامَ وأنْزَلْنا عَلَـيْكُمْ الـمَنّ وَالسّلْوَى وقوله: وَإِذْ اسْتَسْقَـى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الـحَجَرَ فَـانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنا قَدْ عَلِـمَ كلّ أُناسِ مَشْرَبَهُمْ.
709ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: لـما تاب الله عز وجل علـى بنـي إسرائيـل وأمر موسى أن يرفع عنهم السيف من عبـادة العجل, أمر موسى أن يسير بهم إلـى الأرض الـمقدسة, وقال: إننـي قد كتبتها لكم دارا وقرارا ومنزلاً, فـاخرج إلـيها وجاهد من فـيها من العدوّ فإنـي ناصركم علـيهم فسار بهم موسى إلـى الأرض الـمقدسة بأمر الله عزّ وجل, حتـى إذا نزل التـيه بـين مصر والشام وهي أرض لـيس فـيها خَمَر ولا ظلّ, دعا موسى ربه حين آذاهم الـحر, فظلل علـيهم بـالغمام, ودعا لهم بـالرزق, فأنزل الله لهم الـمنّ والسلوى.
710ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع بن أنس. وحدثت عن عمار بن الـحسن, حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع قوله: وَظَلّلْنَا عَلَـيْكُمْ الغَمامَ قال: ظلل علـيهم الغمام فـي التـيه: تاهوا فـي خمسة فراسخ أو ستة, كلـما أصبحوا ساروا غادين, فأمسوا فإذا هم فـي مكانهم الذي ارتـحلوا منه, فكانوا كذلك حتـى مرّت أربعون سنة. قال: وهم فـي ذلك ينزل علـيهم الـمنّ والسلوى ولا تبلـى ثـيابهم, ومعهم حجر من حجارة الطور يحملونه معهم, فإذا نزلوا ضربه موسى بعصاه, فـانفجرت منه اثنتا عشرة عينا.
711ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا إسماعيـل بن عبد الكريـم, قال: حدثنـي عبد الصمد, قال: سمعت وهبـا يقول: إن بنـي إسرائيـل لـما حرّم الله علـيهم أن يدخـلوا الأرض الـمقدسة أربعين سنة يتـيهون فـي الأرض شكوا إلـى موسى, فقالوا: ما نأكل؟ فقال: إن الله سيأتـيكم بـما تأكلون. قالوا: من أين لنا إلا أن يـمطر علـينا خبزا؟ قال: إن الله عز وجل سينزل علـيكم خبزا مخبوزا. فكان ينزل علـيهم الـمنّ. سئل وهب: ما الـمنّ؟ قال: خبز الرقاق مثل الذرة أو مثل النقـي قالوا: وما نأتدم, وهل بدّ لنا من لـحم؟ قال: فإن الله يأتـيكم به. فقالوا: من أين لنا إلا أن تأتـينا به الريح؟ قال: فإن الريح تأتـيكم به, وكانت الريح تأتـيهم بـالسلوى فسئل وهب: ما السلوى؟ قال: طير سمين مثل الـحمام كانت تأتـيهم فـيأخذون منه من السبت إلـى السبت قالوا: فما نلبس؟ قال: لا يخـلق لأحد منكم ثوب أربعين سنة. قالوا: فما نـحتذي؟ قال: لا ينقطع لأحدكم شسع أربعين سنة, قالوا: فإن فـينا أولادا فما نكسوهم؟ قال: ثوب الصغير يشب معه. قالوا: فمن أين لنا الـماء؟ قال: يأتـيكم به الله. قالوا: فمن أين؟ إلا أن يخرج لنا من الـحجر. فأمر الله تبـارك وتعالـى موسى أن يضرب بعصاه الـحجر. قالوا: فبـم نبصر؟ تغشانا الظلـمة. فضرب لهم عمود من نور فـي وسط عسكرهم أضاء عسكرهم كله, قالوا: فبـم نستظل؟ فإن الشمس علـينا شديدة قال: يظلكم الله بـالغمام.
حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال ابن زيد, فذكر نـحو حديث موسى بن هارون عن عمرو بن حماد, عن أسبـاط, عن السدي.
712ـ حدثنـي القاسم بن الـحسن, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج, قال: عبد الله بن عبـاس: خـلق لهم فـي التـيه ثـياب لا تـخـلق ولا تدرن. قال: وقال ابن جريج: إن أخذ الرجل من الـمنّ والسلوى فوق طعام يوم فسد, إلا أنهم كانوا يأخذون فـي يوم الـجمعة طعام يوم السبت فلا يصبح فـاسدا.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: كُلُوا مِنْ طَيّبـات ما رزَقْنَاكُمْ.
وهذا مـما استغنـي بدلالة ظاهره علـى ما ترك منه, وذلك أن تأويـل الآية: وظللنا علـيكم الغمام, وأنزلنا علـيكم الـمن والسلوى, وقلنا لكم: كلوا من طيبـات ما رزقناكم. فترك ذكر قوله: «وقلنا لكم...» لـما بـينا من دلالة الظاهر فـي الـخطاب علـيه. وعنى جل ذكره بقوله: كُلُوا مِنْ طَيّبـاتِ مَا رزَقْنَاكُمْ كلوا من مشتهيات رزقنا الذي رزقناكموه. وقد قـيـل عنى بقوله: مِنْ طَيبَـاتِ ما رَزَقْنَاكُمْ من حلاله الذي أبحناه لكم, فجعلناه لكم رزقا. والأول من القولـين أولـى بـالتأويـل لأنه وصف ما كان القوم فـيه من هنـيء العيش الذي أعطاهم, فوصف ذلك بـالطيب الذي هو بـمعنى اللذّة أحرى من وصفه بأنه حلال مبـاح. و«ما» التـي مع «رزقناكم» بـمعنى «الذي» كأنه قـيـل: كلوا من طيبـات الرزق الذي رزقناكموه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: ومَا ظَلَـمُونا وَلَكِنْ كانُوا أنْفُسَهُمْ يَظْلِـمُونَ.
وهذا أيضا من الذي استغنـي بدلالة ظاهره علـى ما ترك منه. وذلك أن معنى الكلام: كلوا من طيبـات ما رزقناكم, فخالفوا ما أمرناهم به, وعصوا ربهم ثم رسولنا إلـيهم, وما ظلـمونا. فـاكتفـى بـما ظهر عما ترك. وقوله: وَما ظَلَـمُونَا يقول: وما ظلـمونا بفعلهم ذلك ومعصيتهم, وَلَكِنْ كانُوا أنْفُسَهُمْ يَظْلِـمُونَ. ويعنـي بقوله: وَمَا ظَلَـمُونَا: وما وضعوا فعلهم ذلك وعصيانهم إيانا موضع مضرّة علـينا ومنقصة لنا, ولكنهم وضعوه من أنفسهم موضع مضرّة علـيها ومنقصة لها. كما:
713ـ حدثت عن الـمنـجاب, قال: حدثنا بشر, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس: وَما ظَلَـمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أنْفُسَهُمْ يَظْلِـمُونَ قال: يضرّون. وقد دللنا فـيـما مضى علـى أن أصل الظلـم وضع الشيء فـي غير موضعه بـما فـيه الكفـاية, فأغنى ذلك عن إعادته. وكذلك ربنا جل ذكره لا تضرّه معصية عاص, ولا يتـحيف خزائنه ظلـم ظالـم, ولا تنفعه طاعة مطيع, ولا يزيد فـي ملكه عدل عادل بل نفسه يظلـم الظالـم, وحظها يبخس العاصي, وإياها ينفع الـمطيع, وحظها يصيب العادل