تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 82 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 82

081

قوله 24- "والمحصنات من النساء" عطف على المحرمات المذكورات. وأصل التحصن التمنع، ومنه قوله تعالى "لتحصنكم من بأسكم" أي لتمنعكم، ومنه الحصان بكسر الحاء للفرس لأنه يمنع صاحبه من الهلاك. والحصان بفتح الحاء: المرأة العفيفة لمنعها نفسها، ومنه قول حسان: حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل والمصدر الحصانة بفتح الحاء. والمراد بالمحصنات هنا ذوات الأزواج. وقد ورد الإحصان في القرآن لمعان، هذا أحدها. والثاني يراد به الحرة، ومنه قوله تعالى "ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات" وقوله "والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم". والثالث يراد به العفيفة ومنه قوله تعالى "محصنات غير مسافحات"، "محصنين غير مسافحين". والرابع المسلمة، ومنه قوله تعالى "فإذا أحصن". وقد اختلف أهل العلم في تفسير هذه الآية، أعني قوله "والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم" فقال ابن عباس وأبو سعيد الخدري وأبو قلابة ومكحول والزهري: المراد بالمحصنات هنا: المسبيات ذوات الأزواج خاصة، أي هن محرمات علكم إلا ما ملكت أيمانكم بالسبي من أرض الحرب، فإن تلك حلال وإن كان لها زوج، وهو قول الشافعي: أي أن السباء يقطع العصمة، وبه قال ابن وهب وابن عبد الحكم وروياه عن مالك، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وأحمد وإسحاق وأبو ثور. واختلفوا في استبرائها بماذا يكون؟ كما هو مدون في كتب الفروع. وقالت طائفة: المحصنات في هذه الآية العفائف، وبه قال أبو العالية وعبيدة السلماني وطاوس وسعيد بن جبير وعطاء، ورواه عبيدة عن عمر. ومعنى الآية عندهم: كل النساء حرام إلا ما ملكت أيمانكم: أي تملكون عصمتهن بالنكاح وتملكون الرقبة بالشراء. وحكى ابن جرير الطبري أن رجلاً قال لسعيد بن جبير: أما رأيت ابن عباس حين سئل عن هذه الآية فلم يقل فيها شيئاً؟ فقال: كان ابن عباس لا يعلمها. وروى ابن جرير أيضاً عن مجاهد أنه قال: لو أعلم من يفسر لي هذه الآية لضربت إليه أكباد الإبل انتهى. ومعنى الآية والله أعلم لا سترة به. أي وحرمت عليكم المحصنات من النساء: أي المزوجات أعم من أن يكن مسلمات أو كافرات إلا ما ملكت أيمانكم منهن، أما يسبي فإنها تحل ولو كانت ذات زوج، أو بشراء فإنها تحل ولو كانت مزوجة، وينفسخ النكاح الذي كان عليها بخروجها عن ملك سيدها الذي زوجها، وسيأتي ذكر سبب نزول الآية إن شاء الله، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقد قرئ "المحصنات" بفتح الصاد وكسرها، فالفتح على أن الأزواج أحصنوهن، والكسر على أنهن أحصن فروجهن عن غير أزواجهن أو أحصن أزواجهن. قوله "كتاب الله عليكم" منصوب على المصدرية: أي كتب الله ذلك عليكم كتاباً. وقال الزجاج والكوفيون: إنه منصوب على الإغراء: أي الزموا كتاب الله، أو عليكم كتاب الله، واعترضه أبو علي الفارسي بأن الإغراء لا يجوز فيه تقديم المنصوب وهذا الاعتراض إنما يتوجه على قول من قال: إنه منصوب بعليكم المذكور في الآية، وروي عن عبيدة السلماني أنه قال: إن قوله "كتاب الله عليكم" إشارة إلى قوله تعالى "مثنى وثلاث ورباع" وهو بعيد بل هو إشارة إلى التحريم المذكور في قوله "حرمت عليكم" إلى آخر الآية. قوله "وأحل لكم ما وراء ذلكم" قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص وأحل على البناء للمجهول، وقرأ الباقون على البناء للمعلوم عطفاً على الفعل المقدر في قوله "كتاب الله عليكم" وقيل على قوله "حرمت عليكم" ولا يقدح في ذلك اختلاف الفعلين، وفيه دلالة على أنه يحل لهم نكاح ما سوى المذكورات، وهذا عام مخصوص بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها. وقد أبعد من قال: إن تحريم الجمع بين المذكورات مأخوذ من الآية هذه لأنه حرم الجمع بين الأختين، فيكون ما في معناه في حكمه، وهو الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها، وكذلك تحريم نكاح الأمة لمن يستطيع نكاح حرة كما سيأتي، فإنه يخصص هذا العموم. قوله "أن تبتغوا بأموالكم" في محل نصب على العلة: أي حرم عليكم ما حرم وأحل لكم ما أحل لأجل أن تبتغوا بأموالكم النساء الللاتي أجلهن الله لكم ولا تبتغوا بها الحرام فتذهب حال كونكم "محصنين" أي متعففين عن الزنا "غير مسافحين" أي غير زانين. والسفاح: الزنا وهو مأخوذ من سفح الماء: أي صبه وسيلانه، فكأنه سبحانه أمرهم بأن يطلبوا بأموالهم النساء على وجه النكاح، لا على وجه السفاح، وقيل إن قوله "أن تبتغوا بأموالكم" بدل من ما في قوله "ما وراء ذلكم" أي وأحل لكم الابتغاء بأموالكم. والأول أولى، وأراد سبحانه بالأموال المذكورة ما يدفعونه في مهور الحرائر وأثمان الإماء. قوله "فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن" ما موصولة فيها معنى الشرط، والفاء في قوله "فآتوهن" لتضمن الموصول معنى الشرط، والعائد محذوف: أي فآتوهن أجورهن عليه. وقد اختلف أهل العلم في معنى الآية: فقال الحسن ومجاهد وغيرهما: المعنى فما انتفعتم وتلذذتم بالجماع من النساء بالنكاح الشرعي "فآتوهن أجورهن" أي مهورهن. وقال الجمهور: إن المراد بهذه الآية نكاح المتعة الذي كان في صدر الإسلام، ويؤيد ذلك قراءة أبي بن كعب وابن عباس وسعيد بن جبير فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن ثم نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم كما صح ذلك من حديث علي قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر، وهو في الصحيحين وغيرهما، وفي صحيح مسلم من حديث سبرة بن معبد الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم فتح مكة "يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، والله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً". وفي لفظ لمسلم أن ذلك كان في حجة الوداع، فهذا هو الناسخ. وقال سعيد بن جبير: نسختها آيات الميراث إذ المتعة لا ميراث فيها. وقالت عائشة والقاسم بن محمد: تحريمها ونسخها في القرآن، وذلك قوله تعالى " والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين " وليست المنكوحة بالمتعة من أزواجهم ولا مما ملكت أيمانهم، فإن من شأن الزوجة أن ترث وتورث، وليست المستمتع بها كذلك. وقد روي عن ابن عباس أنه قال بجواز المتعة وأنها باقية لم تنسخ. وروي عنه أنه رجع عن ذلك عند أن بلغه الناسخ. وقد قال بجوازها جماعة من الروافض ولا اعتبار بأقوالهم. وقد أتعب نفسه بعض المتأخرين بتكثير الكلام على هذه المسألة وتقوية ما قاله المجوزون لها، وليس هذا المقام مقام بيان بطلان كلامه. وقد طولنا البحث ودفعنا الشبه الباطلة التي تمسك بها المجوزون لها في شرحنا للمنتقى فليرجع إليه. قوله "فريضة" منتصب على المصدرية المؤكدة أو على الحال: أي مفروضة. قوله "ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة" أي: من زيادة أو نقصان في المهر فإن ذلك سائغ عند التراضي، هذا عند من قال بأن الآية في النكاح الشرعي، وأما عند الجمهور القائلين بأنها في المتعة، فالمعنى التراضي في زيادة مدة المتعة أو نقصانها أو في زيادة ما دفعه إليها إلى مقابل الاستمتاع بها أو نقصانه.
قوله 25- "ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات" الطول: الغنى والسعة، قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والسدي وابن زيد ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وجمهور أهل العلم. ومعنى الآية: فمن لم يستطع منكم غنى وسعة في ماله يقدر بها على نكاح المحصنات المؤمنات فلينكح من فتياتكم المؤمنات، يقال: طال يطول طولاً في الإفضال والقدرة، وفلان ذو طول: أي ذو قدرة في ماله. والطول بالضم: ضد القصر. وقال قتادة والنخعي وعطاء والثوري: إن الطول الصبر. ومعنى الآية عندهم أن من كان يهوى أمة حتى صار لذلك لا يستطيع أن يتزوج غيرها، فإن له أن يتزوجها إذا لم يملك نفسه وخاف أن يبغي بها، وإن كان يجد سعة في المال لنكاح حرة. وقال أبو حنيفة وهو مروي عن مالك: إن الطول المرأة الحرة فمن كان تحته حرة لم يحل له أن ينكح الأمة، ومن لم يكن تحته حرة جاز له أن يتزوج أمة ولو كان غنياً، وبه قال أبو يوسف، واختاره ابن جرير واحتج له. والقول الأول هو المطابق لمعنى الآية، ولا يخلو ما عداه عن تكلف، فلا يجوز للرجل أن يتزوج بالأمة إلا إذا كان لا يقدر على أن يتزوج بالحرة لعدم وجود ما يحتاج إليه في نكاحها من مهر وغيره. وقد استدل بقوله: "من فتياتكم المؤمنات" على أنه لا يجوز نكاح الأمة الكتابية، وبه قال أهل الحجاز وجوزه أهل العراق، ودخلت الفاء في قوله " فمن ما ملكت أيمانكم " لتضمن المبتدأ معنى الشرط. وقوله "من فتياتكم المؤمنات" في محل نصب على الحال، فقد عرفت أنه لا يجوز للرجل الحر أن يتزوج بالمملوكة إلا بشرط عدم القدرة على الحرة. والشرط الثاني ما سيذكره الله سبحانه آخر الآية من قوله "ذلك لمن خشي العنت منكم" فلا يحل للفقير أن يتزوج بالمملوكة إلا إذا كان يخشى على نفسه العنت. والمراد هنا الأمة المملوكة للغير، وأما أمة الإنسان نفسه فقد وقع الإجماع على أنه لا يجوز له أن يتزوجها، وهي تحت ملكه لتعارض الحقوق واختلافها. والفتيات جمع فتاة، والعرب تقول للمملوك فتى وللمملوكة فتاة. وفي الحديث الصحيح "لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي، ولكن ليقل فتاي وفتاتي". قوله "والله أعلم بإيمانكم" فيه تسلية لمن ينكح الأمة إذا اجتمع فيه الشرطان المذكوران: أي كلكم بنو آدم وأكرمكم عند الله أتقاكم، فلا تستنكفوا من الزواج بالإماء عند الضرورة، فربما كان إيمان بعض الإماء أفضل من إيمان بعض الحرائر. والجملة اعتراضية. وقوله "بعضكم من بعض" مبتدأ وخبر ومعناه: أنهم متصلون في الأنساب لأنهم جميعاً بنو آدم، أو متصلون في الدين لأنهم جميعاً أهل ملة واحدة وكتابهم واحد ونبيهم واحد. والمراد بهذا توطئة نفوس العرب، لأنهم كانوا يستهجنون أولاد الإماء ويستصغرونهم ويغضون منهم "فانكحوهن بإذن أهلهن" أي بإذن المالكين لهن، لأن منافعهن لهم لا يجوز لغيرهم أن ينتفع بشيء منها إلا بإذن من هي له. قوله "وآتوهن أجورهن بالمعروف" أي: أدوا إليهن مهورهن بما هو بالمعروف في الشرع، وقد استدل بهذا من قال: إن الأمة أحق بمهرها من سيدها، وإليه ذهب مالك، وذهب الجمهور إلى أن المهر للسيد، وإنما أضافها إليهن، لأن التأدية إليهن تأدية إلى سيدهن لكونهن ماله. قوله "محصنات" أي: عفائف. وقرأ الكسائي "محصنات" بكسر الصاد في جميع القرآن إلا في قوله "والمحصنات من النساء" وقرأ الباقون بالفتح في جميع القرآن. قوله "غير مسافحات" أي غير معلنات بالزنا. والأخدان: الأخلاء، والخدن والخدين المخادن: أي المصاحب- وقيل ذات الخدن: هي التي تزني سراً، فهو مقابل للمسافحة، وهي التي تجاهر بالزنا، وقيل: المسافحة، المبذولة، وذات الخدن، التي تزني بواحد. وكانت العرب تعيب الإعلان بالزنا ولا تعيب اتخاذ الأخدان، ثم رفع الإسلام جميع ذلك، قال الله "ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن". قوله "فإذا أحصن" قرأ عاصم وحمزة والكسائي بفتح الهمزة. وقرأ الباقون بضمها، والمراد بالإحصان هنا الإسلام. روي ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وأنس والأسود بن يزيد وزر بن حبيش وسعيد بن جبير وعطاء وإبراهيم النخعي والشعبي والسدي وروي عن عمر بن الخطاب بإسناد منقطع وهو الذي نص عليه الشافعي، وبه قال الجمهور. قال ابن عباس وأبو الدرداء ومجاهد وعكرمة وطاوس وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وغيرهم: إنه التزويج. وروي عن الشافعي فعلى القول الأول لا حد على الأمة الكافرة. وعلى القول الثاني لا حد على الأمة التي لم تتزوج. وقال القاسم وسالم: إحصانها إسلامها وعفافها. وقال ابن جرير: إن معنى القراءتين مختلف، فمن قرأ أحصن بضم الهمزة فمعناه التزويج ومن قرأ بفتح الهمزة فمعناه الإسلام. وقال قوم: إن الإحصان المذكور في الآية هو التزويج، ولكن الحد واجب على الأمة المسلمة إذا زنت قبل أن تتزوج بالسنة، وبه قال الزهري. قال ابن عبد البر: ظاهر قول الله عز وجل يقتضي أنه لا حد على الأمة وإن كانت مسلمة إلا بعد التزويج، ثم جاءت السنة بجلدها وإن لم تحصن، وكان ذلك زيادة بيان. قال القرطبي: ظهر المسلم حمى لا يستباح إلا بيقين، ولا يقين مع الاختلاف لولا ما جاء في صحيح السنة من الجلد. قال ابن كثير في تفسيره: والأظهر والله أعلم أن المراد بالإحصان هنا التزويج، لأن سياق الآية يدل عليه حيث يقول سبحانه "ومن لم يستطع منكم طولاً" إلى قوله "فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب" فالسياق كله في الفتيات المؤمنات فتعين أن المراد بقوله "فإذا أحصن" أي: تزوجن كما فسره به ابن عباس ومن تبعه، قال: وعلى كل من القولين إشكال على مذهب الجمهور، لأنهم يقولون: إن الأمة إذا زنت فعليها خمسون جلدة سواء كانت مسلمة أو كافرة مزوجة أو بكراً، مع أن مفهوم الآية يقتضي أنه لا حد على غير المحصنة من الإماء. وقد اختلف أجوبتهم عن ذلك، ثم ذكر أن منهم من أجاب وهم الجمهور بتقديم منطوق الأحاديث على هذا المفهوم، ومنهم من عمل على مفهوم الآية، وقال: إذا زنت ولم تحصن فلا حد عليها وإنما تضرب تأديباً. قال: وهو المحكي عن ابن عباس وإليه ذهب طاوس وسعيد بن جبير وأبو عبيد وداود الظاهري في رواية عنه، فهؤلاء قدموا مفهوم الآية على العموم، وأجابوا عن مثل حديث أبي هريرة وزيد بن خالد في الصحيحين وغيرهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة: إذا زنت ولم تحصن، قال: إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير" بأن المراد بالجلد هنا التأديب وهو تعسف، وأيضاً قد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها. ثم إن زنت فليجلدها الحد" الحديث. ولمسلم من حديث علي قال: "يا أيها الناس أقيموا على أرقائكم الحد من أحصن ومن لم يحصن، فإن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت فأمرني أن أجلدها" الحديث. وأما ما أخرجه سعيد بن منصور وابن خزيمة والبيهقي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس على الأمة حد حتى تحصن بزوج، فإذا أحصنت بزوج فعليها نصف ما على المحصنات من العذاب" فقد قال ابن خزيمة والبيهقي: إن رفعه خطأ، والصواب وقفه. قوله "فإن أتين بفاحشة" الفاحشة هنا الزنا "فعليهن نصف ما على المحصنات" أي الحرائر الأبكار، لأن الثيب عليها الرجم وهو لا يتبعض، وقيل: المراد بالمحصنات هنا المزوجات، لأن عليهن الجلد والرجم، والرجم لا يتبعض، فصار عليهن نصف ما عليهن من الجلد. والمراد بالعذاب هنا الجلد، وإنما نقص حد الإماء عن حد الحرائر لأنهن أضعف، وقيل: لأنهن لا يصلن إلى مرادهن كما تصل الحرائر، وقيل: لأن العقوبة تجب على قدر النعمة كما في قوله تعالى "يضاعف لها العذاب ضعفين" ولم يذكر الله سبحانه في هذه الآية العبيد وهم لاحقون بالإماء بطريق القياس وكما يكون على الإماء والعبيد نصف الحد في الزنا، كذلك يكون عليهم نصف الحد في القذف والشرب، والإشارة بقوله: "ذلك لمن خشي العنت منكم" إلى نكاح الإماء. والعنت: الوقوع في الإثم، وأصله في اللغة انكسار العظم بعد الجبر، ثم استعير لكل مشقة "وأن تصبروا" عن نكاح الإماء "خير لكم" من نكاحهن: أي صبركم خير لكم لأن نكاحهن يفضي إلى إرقاق الولد والغض من النفس.
قوله 26- "يريد الله ليبين لكم" اللام هنا هي لام كي التي تعاقب أن. قال الفراء: العرب تعاقب بين لام كي وأن، فتأتي باللام التي على معنى كي في موضع أن في أردت وأمرت، فيقولون: أردت أن تفعل وأردت لتفعل، ومنه "يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم" "وأمرت لأعدل بينكم" "وأمرنا لنسلم لرب العالمين" ومنه: أريد لأنسى ذكرها فكأنما تمثل لي ليلى بكل سبيل وحكى الزجاج هذا القول وقال: لو كانت اللام بمعنى أن لدخلت عليها لام أخرى كما تقول: جئت كي تكرمني، ثم تقول: جئت لكي تكرمني، وأنشد: أردت لكيما يعلم الناس أنها سراويل قيس والوفود شهود وقيل: اللام زائدة لتأكيد معنى الاستقبال، أو لتأكيد إرادة التبيين، ومفعول يبين محذوف: أي ليبين لكم ما خفي عليكم من الخير، وقيل: مفعول يريد محذوف: أي يريد الله هذا ليبين لكم، وبه قال البصريون وهو مروي عن سيبويه، وقيل: اللام بنفسها ناصبة للفعل من غير إضمار أن، وهي وما بعدها مفعول للفعل المتقدم، وهو مثل قول الفراء السابق، وقال بعض البصريين: إن قوله "يريد" مؤول بالمصدر مرفوع بالابتداء مثل: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. ومعنى الآية: يريد الله ليبين لكم مصالح دينكم وما يحل لكم وما يحرم عليكم "ويهديكم سنن الذين من قبلكم" أي: طرقهم، وهم الأنبياء وأتباعهم لتقتدوا بهم "ويتوب عليكم" أي: ويريد أن يتوب عليكم فتوبوا إليه وتلافوا ما فرط منكم بالتوبة يغفر لكم ذنوبكم.