تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 83 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 83

082

27- "والله يريد أن يتوب عليكم" هذا تأكيد لما قد فهم من قوله "ويتوب عليكم" المتقدم، وقيل: الأول معناه للإرشاد إلى الطاعات: والثاني فعل أسبابها، وقيل: إن الثاني لبيان كمال منفعة إرادته سبحانه وكمال ضرر ما يريده الذين يتبعون الشهوات، وليس المراد به مجرد إرادة التوبة حتى يكون من باب التكرير للتأكيد، قيل: هذه الإرادة منه سبحانه في جميع أحكام الشرع، وقيل: في نكاح الأمة فقط. واختلف في تعيين المتبعين للشهوات، فقيل: هم الزناة، وقيل: اليهود والنصارى، وقيل: اليهود خاصة، وقيل: هم المجوس لأنهم أرادوا أن يتبعهم المسلمون في نكاح الأخوات من الأب. والأول أولى. والميل: العدول عن طريق الاستواء. والمراد بالشهوات هنا ما حرمه الشرع ودون ما أحله، ووصف الميل بالعظم بالنسبة إلى ميل من اقترف خطيئة نادراً.
قوله 28- " يريد الله أن يخفف عنكم " بما مر من الترخيص لكم، أو بكل ما فيه تخفيف عليكم "وخلق الإنسان ضعيفاً" عاجزاً غير قادر على ملك نفسه ودفعها عن شهواتها وفاء بحق التكليف فهو محتاج من هذه الحيثية إلى التخفيف. فلهذا أراد الله سبحانه التخفيف عنه. وقد أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال: حرم من النسب سبع ومن الصهر سبع، ثم قرأ "حرمت عليكم أمهاتكم" إلى قوله "وبنات الأخت" هذا من النسب، وباقي الآية من الصهر، والسابعة "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء". وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي عن عمران بن حصين في قوله "وأمهات نسائكم" قال: هي مبهمة. وأخرج هؤلاء عن ابن عباس قال: هي مبهمة إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها أو ماتت لم تحل له أمها. وأخرج هؤلاء إلا البيهقي عن علي في الرجل يتزوج المرأة ثم يطلقها، أو ماتت قبل أن يدخل بها هل تحل له أمها؟ قال: هي بمنزلة الربيبة. وأخرج هؤلاء عن زيد بن ثابت أنه كان يقول: إذا ماتت عنده فأخذ ميراثها كره أن يخلف على أمها، وإذا طلقها قبل أن يدخل بها فلا بأس أن يتزوج أمها. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد قال في قوله "وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم" أريد بهما الدخول جميعاً. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عبد الله بن الزبير قال: الربيبة والأم سواء لا بأس بهما إذا لم يدخل بالمرأة. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم بسند صحيح عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: كانت عندي امرأة فتوفيت، وقد ولدت لي فوجدت عليها، فلقيني علي بن أبي طالب فقال: ما لك؟ فقلت: توفيت المرأة، فقال علي: لها ابنة؟ قلت: نعم وهي بالطائف، قال: كانت في حجرك؟ قلت: لا. قال: فانكحها، قلت: فأين قول الله "وربائبكم اللاتي في حجوركم"؟ قال: إنها لم تكن في حجرك. وقد قدمنا قول من قال: إنه إسناد ثابت على شرط مسلم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: الدخول الجماع. وأخرج عبد الرزاق في المصنف وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عطاء قال: كنا نتحدث أن محمداً صلى الله عليه وسلم لما نكح امرأة زيد قال المشركون بمكة في ذلك، فأنزل الله: " وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم" ونزلت " وما جعل أدعياءكم أبناءكم " ونزلت "ما كان محمد أبا أحد من رجالكم". وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله "وأن تجمعوا بين الأختين" قال: يعني في النكاح. وأخرج عبد بن حميد عنه في الآية قال: ذلك في الحرائر، فأما المماليك فلا بأس. وأخرج ابن المنذر عنه نحوه من طريق أخرى. وأخرج مالك والشافعي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن عثمان بن عفان: أن رجلاً سأله عن الأختين في ملك اليمين هل يجمع بينهما؟ قال: أحلتهما آية وحرمتهما آية، وما كنت لأصنع ذلك، فخرج من عنده، فلقي رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أراه علي بن أبي طالب، فسأله عن ذلك فقال: لو كان لي من الأمر شيء ثم وجدت أحداً فعل ذلك لجعلته نكالاً. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر والبيهقي عن علي: أنه سئل عن رجل له أمتان أختان، وطئ إحداهما وأراد أن يطأ الأخرى، فقال: لا حتى يخرجها من ملكه، وقيل: فإن زوجها عبده؟ قال: لا حتى يخرجها من ملكه. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن مسعود: أنه سئل عن الرجل يجمع بين الأختين الأمتين فكرهه، فقيل يقول الله "إلا ما ملكت أيمانكم" فقال: وبعيرك أيضاً مما ملكت يمينك. وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي من طريق أبي صالح عن علي بن أبي طالب قال في الأختين المملوكتين: أحلتهما آية وحرمتهما آية ولا آمر ولا أنهي، ولا أحل ولا أحرم، ولا أفعل أنا وأهل بيتي. وأخرج أحمد عن قيس قال: قلت لابن عباس: أيقع الرجل على المرأة وابنتها مملوكتين له؟ فقال: أحلتهما آية وحرمتهما آية، ولم أكن لأفعله. وأخرج عبد الرزاق والبيهقي عنه في الأختين من ملك اليمين: أحلتهما آية وحرمتهما آية. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبيهقي عن ابن عمر قال: إذا كان للرجل جاريتان أختان فغشي إحداهما فلا يقرب الأخرى حتى يخرج التي غشي من ملكه. وأخرج البيهقي عن مقاتل بن سليمان قال: إنما قال الله في نساء الآباء "إلا ما قد سلف" لأن العرب كانوا ينكحون نساء الآباء، ثم حرم النسب والصهر فلم يقل إلا ما قد سلف، لأن العرب كانت لا تنكح النسب والصهر. وقال في الأختين "إلا ما قد سلف" لأنهم كانوا يجمعون بينهما فحرم جمعهما جميعاً إلا ما قد سلف قبل التحريم "إن الله كان غفوراً رحيماً" لما كان من جماع الأختين قبل التحريم. وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث يوم حنين جيشاً إلى أوطاس، فلقوا عدواً فقاتلوهم، فظهروا عليهم وأصابوا لهم سبايا، فكأن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين، فأنزل الله في ذلك "والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم" يقول: إلا ما أفاء الله عليكم. وأخرج الطبراني عن ابن عباس أن ذلك سبب نزول الآية. وأخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير مثله. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي عن ابن عباس في قوله "والمحصنات من النساء" قال: كل ذات زوج إتيانها زنا إلا ما سبيت. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة والطبراني عن علي وابن مسعود في قوله "والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم" قال: على المشركات إذا سبين حلت له. وقال ابن مسعود: المشركات والمسلمات. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال: إذا بيعت الأمة ولها زوج فسيدها أحق ببضعها. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "والمحصنات من النساء" قال: ذوات الأزواج. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن أنس بن مالك مثله. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود مثله. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله "والمحصنات" قال: العفيفة العاقلة من مسلمة أو من أهل الكتاب. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه في الآية قال: لا يحل له أن يتزوج فوق الأربع، فما زاد فهو عليه حرام كأمه وأخته. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن أبي العالية في قوله "والمحصنات من النساء" قال: يقول انكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، ثم حرم ما حرم من النسب والصهر، ثم قال "والمحصنات من النساء" فرجع إلى أول السورة فقال: هن حرام أيضاً، إلا لمن نكح بصداق وسنة وشهود. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن جرير عن عبيدة قال: أحل الله لك أربعاً في أول السورة، وحرم نكاح كل محصنة بعد الأربع إلا ما ملكت يمينك. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الإحصان إحصانان: إحصان نكاح، وإحصان عفاف" فمن قرأها والمحصنات بكسر الصاد فهن العفائف، ومن قرأها والمحصنات بالفتح فهن المتزوجات. قال ابن أبي حاتم: قال أبي هذا حديث منكر. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "وأحل لكم ما وراء ذلكم" قال: ما وراء هذا النسب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال: ما دون الأربع. وأخرج ابن جرير عن عطاء قال: ما وراء ذات القرابة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله "وأحل لكم ما وراء ذلكم" قال: ما ملكت أيمانكم. وأخرج ابن أبي حاتم عن عبيدة السلماني نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله "محصنين غير مسافحين" قال: غير زانين. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "وآتوهن أجورهن" يقول: إذا تزوج الرجل منكم المرأة ثم نكحها مرة واحدة فقد وجب صداقها كله والاستمتاع هو النكاح، وهو قوله "وآتوا النساء صدقاتهن". وأخرج الطبراني والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: كانت المتعة في أول الإسلام، وكانوا يقرأون هذه الآية فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى الآية، فكان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوج بقدر ما يرى أنه يفرغ من حاجته ليحفظ متاعه ويصلح شأنه. حتى نزلت هذه الآية "حرمت عليكم أمهاتكم" فنسخت الأولى فحرمت المتعة وتصديقها من القرآن " إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم " وما سوى هذا الفرج فهو حرام. وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن الأنباري في المصاحف والحاكم وصححه أن ابن عباس قرأ فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن أبي بن كعب أنه قرأها كذلك. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد، أن هذه الآية في نكاح المتعة، وكذلك أخرج ابن جرير عن السدي والأحاديث في تحليل المتعة ثم تحريمها، وهل كان نسخها مرة أو مرتين؟ مذكورة في كتب الحديث. وقد أخرج ابن جرير في تهذيبه وابن المنذر والطبراني والبيهقي عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: ماذا صنعت ذهبت الركاب بفتياك وقالت فيها الشعراء قال: وما قالوا؟ قلت: قالوا: أقــول للشــيخ لمــا طــال مجلســه يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس هل لك في رخصة الأعطاف آنسة تكـون مثواك حتى مصــدر النـاس فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، لا والله ما بهذا أفتيت ولا هذا أردت ولا أحللتها إلا للمضطر وفي لفظ ولا أحللت منها إلا ما أحل الله من الميتة والدم ولحم الخنزير. وأخرج ابن جرير عن حضرمي أن رجالاً كانوا يفرضون المهر ثم عسى أن تدرك أحدهم العسرة، فقال الله "ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به" قال: الراضي أن يوفي لها صداقها ثم يخيرها. وأخرج ابن جرير عن زيد في الآية قال: إن وضعت لك منه شيئاً فهو سائغ. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس "ومن لم يستطع منكم طولاً" يقول: من لم يكن له سعة "أن ينكح المحصنات" يقول الحرائر: " فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات " فلينكح من إماء المؤمنين "محصنات غير مسافحات" يعني عفائف غير زواني في سر ولا علانية "ولا متخذات أخدان" يعني أخلاء "فإذا أحصن" ثم إذا تزوجت حراً ثم زنت "فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب" قال: من الجلد "ذلك لمن خشي العنت منكم" هو الزنا، فليس لأحد من الأحرار أن ينكح الأمة إلا أن لا يقدر على حرة وهو يخشى العنت "وأن تصبروا" عن نكاح الإماء "فهو خير لكم". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن مجاهد "ومن لم يستطع منكم طولاً" يعني: من لا يجد منكم غنى "أن ينكح المحصنات" يعني الحرائر فلينكح الأمة المؤمنة "وأن تصبروا" عن نكاح الإماء "خير لكم" وهو حلال. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عنه قال: مما وسع الله به على هذه الأمة نكاح الأمة النصرانية واليهودية وإن كان موسراً. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة والبيهقي عنه قال: لا يصلح نكاح إماء أهل الكتاب، لأن الله يقول "من فتياتكم المؤمنات". وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة عن الحسن "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تنكح الأمة على الحرة والحرة على الأمة، ومن وجد طولاً لحرة فلا ينكح أمة". وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي عن ابن عباس قال: لا يتزوج الحر من الإماء إلا واحدة وأخرج ابن أبي شيبة عن قتادة نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله: "والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض" يقول: أنتم إخوة بعضكم من بعض. وأخرج ابن المنذر عن السدي "فانكحوهن بإذن أهلهن" قال: بإذن مواليهن "وآتوهن أجورهن" قال: مهورهن. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: المسافحات المعلنات بالزنا، والمتخذات أخدان: ذات الخليل الواحد. قال: كان أهل الجاهلية يحرمون ما ظهر من الزنا ويستحلون ما خفي، فأنزل الله "ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن". وأخرج ابن أبي حاتم عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا أحصن" قال: إحصانها إسلامها. وقال علي: اجلدوهن. قال ابن أبي حاتم حديث منكر وقال ابن كثير في إسناده ضعيف ومبهم لم يسم، ومثله لا تقوم به حجة. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن ابن عباس قال: حد العبد يفتري على الحر أربعون. وأخرج ابن جرير عنه قال: العنت الزنا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي "ويريد الذين يتبعون الشهوات" قال: هم اليهود والنصارى. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس "ويريد الذين يتبعون الشهوات" قال: الزنا. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد "يريد الله أن يخفف عنكم" يقول: في نكاح الأمة وفي كل شيء فيه يسر. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد "يريد الله أن يخفف عنكم" قال: رخص لكم في نكاح الإماء "وخلق الإنسان ضعيفاً" قال: لو لم يرخص له فيها. وأخرج ابن جرير والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال: ثماني آيات نزلت في سورة النساء هن خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت: أولهن "يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم"، والثانية "والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً"، والثالثة "يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً"، والرابعة "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً"، والخامسة "إن الله لا يظلم مثقال ذرة" الآية، والسادسة "ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله" الآية، والسابعة "إن الله لا يغفر أن يشرك به" الآية، والثامنة " والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله " للذين عملوا من الذنوب "غفوراً رحيماً".
الباطل: ما ليس بحق، ووجوه ذلك كثيرة، ومن الباطل البيوعات التي نهى عنها الشرع. والتجارة في اللغة عبارة عن المعارضة، وهذا الاستثناء منقطع: أي لكن تجارة عن تراض منكم جائزة بينكم، أو لكن كون تجارة عن تراض منكم حلالاً لكم. وقوله 29- "عن تراض" صفة لتجارة: أي كائنة عن تراض، وإنما نص الله سبحانه على التجارة دون سائر أنواع المعاوضات لكونها أكثرها وأغلبها، وتطلق التجارة على جزاء الأعمال من الله على وجه المجاز، ومنه قوله تعالى: "هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم". وقوله "يرجون تجارة لن تبور". واختلف العلماء في التراضي، فقالت طائفة: تمامه وجوبه بافتراق الأبدان بعد عقد البيع، أو بأن يقول أحدهما لصاحبه: اختركما في الحديث الصحيح "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر". وإليه ذهب جماعة من الصحابة والتابعين، وبه قال الشافعي والثوري والأوزاعي والليث وابن عيينة وإسحاق وغيرهم. وقال مالك وأبو حنيفة: تمام البيع هو أن يعقد البيع بالألسنة فيرتفع بذلك الخيار وأجابوا عن الحديث بما لا طائل تحته. وقد قرئ تجارة بالرفع على أن كان تامة، وتجارة بالنصب على أنها ناقصة. قوله "ولا تقتلوا أنفسكم" أي: لا يقتل بعضكم أيها المسلمون بعضاً إلا بسبب أثبته الشرع، أو لا تقتلوا أنفسكم باقتراف المعاصي أو المراد النهي عن أن يقتل الإنسان نفسه حقيقة. ولا مانع من حمل الآية على جميع المعاني. ومما يدل على ذلك احتجاج عمرو بن العاص بها حين لم يغتسل بالماء البارد حين أجنب في غزاة ذات السلاسل، فقرر النبي صلى الله عليه وسلم احتجاجه وهو في مسند أحمد وسنن أبي داود وغيرهما.
قوله 30- "ومن يفعل ذلك" أي: القتل خاصة أو أكل أموال الناس ظلماً والقتل عدواناً وظلماً، وقيل: هو إشارة إلى كل ما نهي عنه في هذه السورة وقال ابن جرير: إنه عائد على ما نهي عنه من آخر وعيد وهو قوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً" لأن كل ما نهي عنه من أول السورة قرن به وعيد إلا من قوله "يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم" فإنه لا وعيد بعده إلا قوله "ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً" والعدوان: تجاوز الحد. والظلم: وضع الشيء في غير موضعه، وقيل: إن معنى العدوان والظلم واحد، وتكريره لقصد التأكيد كما في قول الشاعر: وألفى قولها كذباً ومينا وخرج بقيد العدوان والظلم ما كان من القتل بحق كالقصاص وقتل المرتد وسائر الحدود الشرعية وكذلك قتل الخطأ. قوله "فسوف نصليه" جواب الشرط: أي ندخله ناراً عظيمة "وكان ذلك" أي: إصلاؤه النار "على الله يسيراً" لأنه لا يعجزه شيء. وقرئ: نصليه بفتح النون، روي ذلك عن الأعمش والنخعي، وهو على هذه القراءة منقول من صلى، ومنه شاة مصلية.
قوله 31- "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم" أي: إن تجتنبوا كبائر الذنوب التي نهاكم الله عنها "نكفر عنكم سيئاتكم" أي: ذنوبكم التي هي صغائر، وحمل السيئات على الصغائر هنا متعين لذكر الكبائر قبلها، وجعل اجتنابها شرطاً لتكفير السيئات. وقد اختلف أهل الأصول في تحقيق معنى الكبائر ثم في عددها، فأما في تحقيقها فقيل: إن الذنوب كلها كبائر، وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها، كما يقال: الزنا صغيرة بالإضافة إلى الكفر، والقبلة المحرمة صغيرة بالإضافة إلى الزنا، وقد روي نحو هذا عن الاسفرايني والجويني والقشيري وغيرهم قالوا: والمراد بالكبائر التي يكون اجتنابها سبباً لتكفير السيئات هي الشرك، واستدلوا على ذلك بقراءة من قرأ " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه " وعلى قراءة الجمع، فالمراد أجناس الكفر، واستدلوا على ما قالوه بقوله تعالى "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" قالوا: فهذه الآية مقيدة لقوله "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه" وقال ابن عباس: الكبيرة كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب. وقال ابن مسعود: الكبائر ما نهى الله عنه في هذه السورة إلى ثلاث وثلاثين آية. وقال سعيد بن جبير: كل ذنب نسبه الله إلى النار فهو كبيرة. وقال جماعة من أهل الأصول: الكبائر كل ذنب رتب الله عليه الحد أو صرح بالوعيد فيه. وقيل غير ذلك مما لا فائدة في التطويل بذكره. وأما الاختلاف في عددها فقيل: إنها سبع، وقيل: سبعون، وقيل: سبعمائة، وقيل: غير منحصرة، ولكن بعضها أكبر من بعض، وسيأتي ما ورد في ذلك إن شاء الله. قوله "وندخلكم مدخلاً" أي: مكان دخول وهو الجنة "كريماً" أي: حسناً مرضياً، وقد قرأ أبو عمرو وابن كثير وابن عامر والكوفيون "مدخلا" بضم الميم. وقرأ أهل المدينة بفتح الميم، وكلاهما اسم مكان، ويجوز أن يكون مصدراً. وقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني، قال السيوطي بسند صحيح عن ابن مسعود في قوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل" قال: إنها محكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى يوم القيامة. وأخرج ابن جرير عن عكرمة والحسن في الآية قال: كان الرجل يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الآية، فنسخ ذلك الآية التي في النور "ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم" الآية. وأخرج ابن ماجه وابن المنذر عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما البيع عن تراض". وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي صالح وعكرمة في قوله تعالى "ولا تقتلوا أنفسكم" قالا: نهاهم عن قتل بعضهم بعضاً. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن جرير عن عطاء بن أبي رباح نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن السدي: "ولا تقتلوا أنفسكم" قال: أهل دينكم. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله "ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً" يعني: متعمداً اعتداءً بغير حق "وكان ذلك على الله يسيراً" يقول: كان عذابه على الله هيناً. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أرأيت قوله تعالى "ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً" في كل ذلك أم في قوله "ولا تقتلوا أنفسكم"؟ قال: بل في قوله "ولا تقتلوا أنفسكم". وأخرج عبد بن حميد عن أنس بن مالك قال: هان ما سألكم ربكم "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال: كل ما نهى عنه فهو كبيرة، وقد ذكرت الطرفة: يعني النظرة. وأخرج ابن جرير عنه قال: كل شيء عصي الله فيه هو كبيرة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: كل ما وعد الله عليه النار كبيرة. وأخرج ابن جرير والبيهقي في الشعب عنه قال: الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب. وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير ما قدمناه عنه. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس: أنه سئل عن الكبائر أسبع هي؟ قال: هي إلى السبعين أقرب. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه: أن رجلاً سأله كم الكبائر أسبع هي؟ قال: هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع، غير أنه لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار. وأخرج البيهقي في الشعب عنه كل ذنب أصر عليه العبد كبيرة، وليس بكبيرة ما تاب عنه العبد. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والسحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات" وثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي بكرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور، وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت". وأخرج البخاري وغيره عن ابن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين وقتل النفس شك شعبة واليمين الغموس". وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قالوا: وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه". والأحاديث في تعداد الكبائر وتعيينها كثيرة جداً، فمن رام الوقوف على ما ورد في ذلك، فعليه بكتاب الزواجر في الكبائر، فإنه قد أجمع فأوعى. واعلم أنه لا بد من تقييد ما في هذه الآية من تكفير السيئات بمجرد اجتناب الكبائر بما أخرجه النسائي وابن ماجه وابن جرير وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن أبي هريرة وأبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر ثم قال: "والذي نفسي بيده ما من عبد يصلي الصلوات الخمس ويصوم رمضان ويؤدي الزكاة ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يوم القيامة حتى إنها لتصفق، ثم تلا "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم"". وأخرج أبو عبيد في فضائله وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال: إن في سورة النساء خمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها، ولقد علمت أن العلماء إذا مروا بها يعرفونها: قوله تعالى "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه" الآية، وقوله "إن الله لا يظلم مثقال ذرة" الآية، وقوله "إن الله لا يغفر أن يشرك به" الآية، وقوله " ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك " الآية، وقوله "ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه" الآية.
قوله 32- "ولا تتمنوا" التمني نوع من الإرادة يتعلق بالمستقبل، كالتلهف نوع منها يتعلق بالماضي، وفيه النهي عن أن يتمنى الإنسان ما فضل الله به غيره من الناس عليه، فإن ذلك نوع من عدم الرضا بالقسمة التي قسمها الله بين عباده على مقتضى إرادته وحكمته البالغة، وفيه أيضاً نوع من الحسد المنهي عنه إذا صحبه إرادة زوال تلك النعمة عن الغير. وقد اختلف العلماء في الغبطة هل تجوز أم لا؟ وهي أن يتمنى أن يكون به حال مثل حال صاحبه من دون أن يتمنى زوال ذلك الحال عن صاحبه، فذهب الجمهور إلى جواز ذلك، واستدلوا بالحديث الصحيح "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الله وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار" وقد بوب عليه البخاري باب الاغتباط في العلم والحكم وعموم لفظ الآية يقتضي تحريم تمني ما وقع به التفضيل سواء كان مصحوباً بما يصير به من جنس الحسد أم لا، وما ورد في السنة من جواز ذلك في أمور معينة يكون مخصصاً لهذا العموم، وسيأتي ذكر سبب نزول الآية، ولكن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقوله "للرجال نصيب" إلخ، فيه تخصيص بعد التعميم ورجوع إلى ما يتضمنه سبب نزول الآية من أن أم سلمة قالت: يا رسول الله يغزو الرجال ولا نغزي ولا نقاتل فنستشهد، وإنما لنا نصف الميراث فنزلت. أخرجه عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي، وقد روي نحو هذا السبب من طرق بألفاظ مختلفة. والمعنى في الآية: أن الله جعل لكل من الفريقين نصيباً على حسب ما تقتضيه إرادته وحكمته، وعبر عن ذلك المجعول لكل فريق من فريقي النساء والرجال بالنصيب مما اكتسبوا على طريق الاستعارة التبعية شبه اقتضاء حال كل فريق لنصيبه باكتسابه إياه. قال قتادة: للرجال نصيب مما اكتسبوا من الثواب والعقاب وللنساء كذلك. وقال ابن عباس: المراد بذلك الميراث والاكتساب على هذا القول بمعنى ما ذكرناه. قوله "واسألوا الله من فضله" عطف على قوله "ولا تتمنوا" وتوسيط التعليل بقوله "للرجال نصيب" إلخ. بين المعطوف والمعطوف عليه لتقرير ما تضمنه النهي، وهذا الأمر يدل على وجوب سؤال الله سبحانه من فضله كما قاله جماعة من أهل العلم.
قوله 33- "ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون" أي: جعلنا لكل إنسان ورثة موالي يلون ميراثه، فلكل مفعول ثان قدم على الفعل لتأكيد الشمول، وهذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها: أي ليتبع كل أحد ما قسم الله له من الميراث، ولا يتمن ما فضل الله به غيره عليه- وقد قيل إن هذه الآية منسوخة بقوله بعدها " والذين عقدت أيمانكم " وقيل: العكس كما روى ذلك ابن جرير. وذهب الجمهور إلى أن الناسخ لقوله " والذين عقدت أيمانكم " قوله تعالى " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض " والموالي جمع مولى، وهو يطلق على المعتق والمعتق والناصر وابن العم والجار وقيل: والمراد هنا العصبة: أي ولكل جعلنا عصبة يرثون ما أبقت الفرائض. قوله " والذين عقدت أيمانكم " المراد بهم موالي الموالاة: كان الرجل من أهل الجاهلية يعاقد الرجل: أي يحالفه فيستحق من ميراثه نصيباً، ثم ثبت في صدر الإسلام بهذه الآية، ثم نسخ بقوله " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض ". وقراءة الجمهور عاقدت وروي عن حمزة أنه قرأ عقدت بتشديد القاف على التكثير: أي والذين عقدت لهم أيمانكم الحلف، أو عقدت عهودهم أيمانكم، والتقدير على قراءة الجمهور: والذين عاقدتهم أيمانكم فآتوهم نصيبهم: أي ما جعلتموه لهم بعقد الحلف.