تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 89 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 89

088

66- "لو" حرف امتناع، وأن مصدرية، أو تفسيرية، لأن "كتبنا" في معنى أمرنا. والمعنى: أن الله سبحانه لو كتب القتل والخروج من الديار على هؤلاء الموجودين من اليهود ما فعله إلا القليل منهم، أو لو كتب ذلك على المسلمين ما فعله إلا القليل منهم، والضمير في قوله "فعلوه" راجع إلى المكتوب الذي دل عليه كتبنا، أو إلى القتل والخروج المدلول عليهما بالفعلين، وتوحيد الضمير في مثل هذا قد قدمنا وجهه. قوله "إلا قليل" قرأه الجمهور بالرفع على البدل. وقرأ عبد الله بن عامر وعيسى بن عمر "إلا قليلاً" بالنصب على الاستثناء، وكذا هو في مصاحف أهل الشام، والرفع أجود عند النحاة. قوله "ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به" من اتباع الشرع والانقياد لرسول الله صلى الله عليه وسلم "لكان" ذلك "خيراً لهم" في الدنيا والآخرة، "وأشد تثبيتاً" لأقدامهم على الحق فلا يضطربون في أمر دينهم.
67- "وإذاً لآتيناهم من لدنا أجراً عظيماً" أي: وقت فعلهم لما يوعظون به.
68- "ولهديناهم صراطاً مستقيماً" لا عوج فيه ليصلوا إلى الخير الذي يناله من امتثل ما أمر به وانقاد لمن يدعوه إلى الحق.
قوله 69- "ومن يطع الله والرسول" كلام مستأنف لبيان فضل طاعة الله والرسول، والإشارة بقوله "فأولئك" إلى المطيعين كما تفيده من "مع الذين أنعم الله عليهم" بدخول الجنة، والوصول إلى ما أعد الله لهم. والصديق المبالغ في الصدق كما تفيده الصيغة، وقيل: هم فضلاء أتباع الأنبياء. والشهداء: من ثبتت لهم الشهادة، والصالحين: أهل الأعمال الصالحة. والرفيق مأخوذ من الرفق، وهو لين الجانب، والمراد به المصاحب لارتفاقك بصحبته، ومنه الرفقة لارتفاق بعضهم ببعض، وهو منتصب على التمييز أو الحال كما قال الأخفش. وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله " ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم " هم يهود كما أمر أصحاب موسى أن يقتل بعضهم بعضاً. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن سفيان أنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي نحوه. وقد روي من طرق أن جماعة من الصحابة قالوا: لما نزلت الآية لو فعل ربنا لفعلنا. أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن. وأخرجه ابن أبي حاتم عن عامر بن عبد الله بن الزبير. وأخرجه أيضاً عن شريح بن عبيد. وأخرج الطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية، والضياء المقدسي في صفة الجنة، وحسنه عن عائشة قالت:" جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: إنك لأحب إلي من نفسي، وإنك لأحب إلى من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك وعرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل جبريل بهذه الآية "ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم" الآية". وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس نحوه.
70- "ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليماً".
قوله 71- "يا أيها الذين آمنوا" هذا خطاب لخلص المؤمنين، وأمر لهم بجهاد الكفار والخروج في سبيل الله، والحذر والحذر لغتان كالمثل والمثل. قال الفراء: أكثر الكلام الحذر. والحذر مسموع أيضاً، يقال: خذ حذرك أي إحذر، وقيل معنى الآية: الأمر لهم يأخذ السلاح حذراً، لأن به الحذر. قوله "فانفروا" نفر ينفر بكسر الفاء نفيراً، ونفرت الدابة تنفر بضم الفاء نفوراً. والمعنى: انهضوا لقتال العدو. أو النفير اسم للقوم الذين ينفرون، وأصله من النفار والنفور، وهو الفزع، ومنه قوله تعالى " ولوا على أدبارهم نفورا " أي: نافرين. قوله "ثبات" جمع ثبة: أي جماعة، والمعنى: انفروا جماعات متفرقات. قوله "أو انفروا جميعاً" أي: مجتمعين جيشاً واحداً. ومعنى الآية: الأمر لهم بأن ينفروا على أحد الوصفين ليكون ذلك أشد على عدوهم وليأمنوا من أن يتخطفهم الأعداء إذا نفر كل واحد منهم وحده أو نحو ذلك، وقيل: إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى "انفروا خفافاً وثقالاً" وبقوله " إلا تنفروا يعذبكم " والصحيح أن الآيتين جميعاً محكمتان: إحداهما في الوقت الذي يحتاج فيه إلى نفور الجميع، والأخرى عند الاكتفاء بنفور البعض دون البعض.
قوله 72- "وإن منكم لمن ليبطئن" التبطئة والإبطاء التأخر، والمراد: المنافقون كانوا يقعدون عن الخروج ويقعدون غيرهم. والمعنى: أن من دخلائكم وجنسكم ومن أظهر إيمانه لكم نفاقاً من يبطئ المؤمنين ويثبطهم، واللام في قوله "لمن" لام توكيد. وفي قوله "ليبطئن" لام جواب القسم، ومن في موضع نصب وصلتها الجملة، وقرأ مجاهد والنخعي والكلبي "ليبطئن" بالتخفيف "فإن أصابتكم مصيبة" من قتل أو هزيمة أو ذهاب مال. قال هذا المنافق: قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم حتى يصيبني ما أصابهم.
73- "ولئن أصابكم فضل من" غنيمة أو فتح "ليقولن" هذا المنافق قول نادم حاسد "يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً". قوله " كأن لم تكن بينكم وبينه مودة " جملة معترضة بين الفعل الذي هو ليقولن وبين مفعوله، وهو "يا ليتني" وقيل: إن في الكلام تقديماً وتأخيراً- وقيل المعنى: ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة: أي: كأن لم يعاقدكم على الجهاد، وقيل: هو في موضع نصب على الحال. وقرأ الحسن "ليقولن" بضم اللام على معنى من. وقرأ ابن كثير وحفص بن عاصم "كأن لم تكن" بالتاء على لفظ المودة. قوله "فأفوز" بالنصب على جواب التمني. وقرأ الحسن "فأفوز" بالرفع.
قوله 74- "فليقاتل في سبيل الله" هذا أمر للمؤمنين وقدم الظرف على الفاعل للاهتمام به، "الذين يشترون" معناه يبيعون وهم المؤمنون، والفاء في قوله "فليقاتل" جواب الشرط مقدر أي: إن لم يقاتل هؤلاء المذكورون سابقاً الموصوفون بين منهم لمن ليبطئن، فليقاتل المخلصون الباذلون أنفسهم البائعون للحياة الدنيا بالآخرة، ثم وعد المقاتلين في سبيل الله بأنه سيؤتيهم أجراً عظيماً لا يقادر قدره، وذلك أنه إذا قتل فاز بالشهادة التي هي أعلى درجات الأجور، وإن غلب وظفر كان له أجر من قاتل في سبيل الله مع ما قد ناله من العلو في الدنيا والغنيمة، وظاهر هذا يقتضي التسوية بين من قتل شهيداً أو انقلب غانماً، وربما يقال إن التسوية بينهما إنما هي في إيتاء الأجر العظيم، ولا يلزم أن يكون أجرهما مستوياً، فإن كون الشيء عظيماً هو من الأمور النسبية التي يكون بعضها عظيماً بالنسبة إلى ما هو دونه وحقيراً بالنسبة إلى ما هو فوقه.