تفسير الطبري تفسير الصفحة 89 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 89
090
088
 الآية : 66
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ أَنّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوَاْ أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ مّا فَعَلُوهُ إِلاّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ وَلَوْ أَنّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لّهُمْ وَأَشَدّ تَثْبِيتاً }..
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {وَلَوْ أنّا كَتَبْنا عَلَيْكُمْ أن اقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ}: ولو أنا فرضنا على هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك المحتكمين إلى الطاغوت أن يقتلوا أنفسهم, وأمرناهم بذلك, أو أن يخرجوا من ديارهم مهاجرين منها إلى دار أخرى سواها ما فعلوه, يقول: ما قتلوا أنفسهم بأيديهم, ولا هاجروا من ديارهم فيخرجوا عنها إلى الله ورسوله طاعة لله ولرسوله, إلا قليل منهم.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
7920ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى: {وَلَوْ أنّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أنِ اقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ} هم يهود ـ يعني: والعرب كما أمر أصحاب موسى عليه السلام.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: {وَلَوْ أنّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أنِ اقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ أوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ} كما أمر أصحاب موسى أن يقتل بعضهم بعضا بالخناجر لم يفعلوا إلا قليل منهم.
7921ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: {وَلَوْ أنّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أنِ اقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ أوِ اخْرُجُوا مِنْ دِياركُمْ ما فَعَلُوهُ إلاّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ} افتخر ثابت بن قيس بن شماس ورجل من يهود, فقال اليهودي: والله لقد كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم, فقتلنا أنفسنا! فقال ثابت: والله لو كتب علينا أن اقتلوا أنفسكم لقتلنا أنفسنا! فأنزل الله في هذا: {وَلَوْ أنّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْرا لَهُمْ وأشَدّ تَثْبِيت}.
7922ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو زهير, عن إسماعيل, عن أبي إسحاق السبيعي, قال: لما نزلت: {وَلَوْ أنّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أنِ اقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ أوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إلاّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ} قال رجل: لو أمرنا لفعلنا, والحمد لله الذي عافانا! فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم, فقال: «إنّ مِنْ أُمّتِي لَرِجالاً الإيمَانُ أثْبَتُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الجِبالِ الرّوَاسِي».
واختلف أهل العربية في وجه الرفع في قوله: {إلاّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ} فكان بعض نحويـي البصرة يزعم أنه رفع «قليل» لأنه جعل بدلاً من الأسماء المضمرة في قوله: {ما فَعَلُوهُ} لأن الفعل لهم. وقال بعض نحويـي الكوفة: إنما رفع على نية التكرير, كأن معناه: ما فعلوه ما فعله إلا قليل منهم, كما قال عمرو بن معد يكرب:
وكُلّ أخٍ مُفارِقُهُ أخُوهُلَعَمْرُ أبيكَ إلاّ الفَرْقَدَانَ
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: رفع «القليل» بالمعنى الذي دلّ عليه قوله: {ما فَعَلُوهُ إلاّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ} وذلك أن معنى الكلام: ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعله إلا قليل منهم. فقيل: «ما فعلوه» على الخبر عن الذين مضى ذكرهم في قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ}, ثم استثنى القليل, فرُفع بالمعنى الذي ذكرنا, إذ كان الفعل منفيّا عنه. وهي في مصاحف أهل الشام: «ما فَعَلُوهُ إلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ». وإذا قرىء كذلك, فلا مردّ به على قارئه في إعرابه, لأنه المعروف في كلام العرب, إذ كان الفعل مشغولاً بما فيه كناية من قد جرى ذكره, ثم استثني منهم القليل.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ أنّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْرا لَهُمْ وأشَدّ تَثْبِيت}.
يعني جلّ ثناؤه بذلك: ولو أن هؤلاء المنافقين الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وهم يتحاكمون إلى الطاغوت, ويصدّون عنك صدودا, {فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ} يعني: ما يذكرون به من طاعة الله والانتهاء إلى أمره, {لَكَانَ خَيْرا لهم} في عاجل دنياهم وآجل معادهم, {وأشَدّ تَثْبِيت} وأثبت لهم في أمورهم, وأقوم لهم عليها. وذلك أن المنافق يعمل على شكّ, فعمله يذهب باطلاً, وغناؤه يضمحلّ فيصير هباء, وهو بشكه يعمل على وناء وضعف, ولو عمل على بصيرة لاكتسب بعمله أجرا ولكان له عند الله ذخرا وكان على عمله الذي يعمل أقوى لنفسه وأشدّ تثبيتا لإيمانه بوعد الله على طاعته وعمله الذي يعمله. ولذلك قال من قال: معنى قوله: {وأشَدّ تَثْبِيت}: تصديقا. كما:
7923ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: {لَكانَ خَيْرا لَهُمْ وأشَدّ تَثْبِيت} قال: تصديقا, لأنه إذا كان مصدّقا كان لنفسه أشدّ تثبيتا ولعزمه فيه أشدّ تصحيحا.
وهو نظير قوله جلّ ثناؤه: {وَمَثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضَاةِ اللّهِ وَتَثْبِيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ} وقد أتينا على بيان ذلك في موضعه بما فيه كفاية من إعادته.
الآية : 67-68
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذاً لاَتَيْنَاهُمْ مّن لّدُنّـآ أَجْراً عَظِيماً * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مّسْتَقِيماً }..
يعني بذلك جلّ ثناؤه: {ولَوْ أنّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْرا لَهُمْ} لإيتائنا إياهم على فعلهم ما وعظوا به من طاعتنا والانتهاء إلى أمرنا {أَجْر} يعني: جزاء وثوابا عظيما, وأشدّ تثبيتا لعزائمهم وآرائهم, وأقوى لهم على أعمالهم لهدايتنا إياهم صراطا مستقيما, يعني: طريقا لا اعوجاج فيه, وهو دين الله القويم الذي اختاره لعباده وشرعه لهم, وذلك الإسلام. ومعنى قوله: {وَلَهَدَيْناهُمْ} ولوفقناهم للصراط المستقيم. ثم ذكر جلّ ثناؤه ما وعد أهل طاعته وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام من الكرامة الدائمة لديه والمنازل الرفيعة عنده. فقال: وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ وَالرّسُولَ فَأُولَئكَ مَعَ الّذِينَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ والشّهَداءِ وَالصّالِحينَ}... الاَية.
الآية : 69-70
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرّسُولَ فَأُوْلَـَئِكَ مَعَ الّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مّنَ النّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشّهَدَآءِ وَالصّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـَئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَىَ بِاللّهِ عَلِيماً }..
يعني بذلك جلّ ثناؤه: ومن يطع الله والرسول بالتسليم لأمرهما, وإخلاص الرضا بحكمهما, والانتهاء إلى أمرهما, والانزجار عما نهيا عنه من معصية الله, فهو مع الذين أنعم الله عليهم بهدايته والتوفيق لطاعته في الدنيا من أنبيائه وفي الاَخرة إذا دخل الجنة. {والصّدّيقِينَ} وهم جمع صدّيق.
واختلف في معنى الصدّيقين, فقال بعضهم: الصدّيقون: تُبّاعُ الأنبياء الذين صدّقوهم واتبعوا منهاجهم بعدهم حتى لحقوا بهم. فكأن «الصدّيق فعيل» على مذهب قائلي هذه المقالة من الصدق, كما يقال رجل سكّير من السكر, إذا كان مدمنا على ذلك, وشِرّيب وخِمّير.
وقال آخرون: بل هو فعيل من الصدقة. وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو تأويل من قال ذلك¹ وهو ما:
7924ـ حدثنا به سفيان بن وكيع, قال: حدثنا خالد بن مخلد, عن موسى بن يعقوب, قال: أخبرتني عمتي قريبة بنت عبد الله بن وهب بن زمعة, عن أمها كريمة بنت المقداد, عن ضباعة بنت الزبير, وكانت تحت المقداد عن المقداد, قال: قلت للنبيّ صلى الله عليه وسلم: شيء سمعته منكْ شككت فيه! قال: «إذَا شَكّ أَحَدُكُمْ فِي الأمْرِ فَلْيَسأَلْني عنه!» قال: قلت قولك في أزواجك: إني لأرجو لهنّ من بعدي الصدّيقين؟ قال: «مَنْ تَعْنُونَ الصّدّيقين؟» قلت: أولادنا الذين يهلكون صغارا. قال: «لا, وَلِكنِ الصّدّيقين هُمُ المُصَدّقُونَ».
وهذا خبر لو كان إسناده صحيحا لم نستجز أن نعدوه إلى غيره, ولو كان في إسناده بعض ما فيه. فإذ كان ذلك كذلك, فالذي هو أولى بالصدّيق أن يكون معناه المصدّق قوله بفعله, إذ كان الفعيل في كلام العرب إنما يأتي إذا كان مأخوذا من الفعل بمعنى المبالغة, إما في المدح وإما في الذمّ, ومنه قوله جلّ ثناؤه في صفة مريم: {وأمّهُ صِدّيقَةٌ}. وإذا كان معنى ذلك ما وصفنا, كان داخلاً من كان موصوفا بما قلنا في صفة المتصدّقين والمصدّقين¹ {والشّهَدَاءِ} وهم جمع شهيد: وهو المقتول في سبيل الله, سمي بذلك لقيامه بشهادة الحقّ في جنب الله حتى قتل. {والصّالِحِينَ} وهم جمع صالح: وهو كلّ من صلحت سريرته وعلانتيه.
وأما قوله جلّ ثناؤه: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيق} فإنه يعني: وحسن هؤلاء الذين نعتهم ووصفهم رفقاء في الجنة. والرفيق في لفظ الواحد بمعنى الجميع, كما قال الشاعر:
نَصَبْنَ الهَوَى ثُمّ ارْتَمَيْنَ قُلوبَنابأسْهُمِ أعْدَاءٍ وَهُن صَدِيقُ
بمعنى: وهنّ صدائق. وأما نصيب «الرفيق» فإن أهل العربية مختلفون فيه, فكان بعض نحويـي البصرة يرى أنه منصوب على الحال, ويقول: هو كقول الرجل: كرم زيد رجلاً, ويعدل به عن معنى: نعم الرجل, ويقول: إنّ نعم لا تقع إلى على اسم فيه ألف ولام أو على نكرة. وكان بعض نحويـي الكوفة يرى أنه منصوب على التفسير وينكر أن يكون حالاً, ويستشهد على ذلك بأن العرب تقول: كرم زيد من رجل, وحسن أولئك من رفقاء¹ وأن دخول «مِن» دلالة على أن الرفيق مفسره. قال: وقد حكي عن العرب: نعمتم رجالاً, فدلّ على أن ذلك نظير قوله: وحَسنُتم رفقاء. وهذا القول أولى بالصواب للعلة التي ذكرنا لقائليه. وقد ذكر أن هذه الاَية نزلت لأن قوما حزنوا على فقد رسول الله صلى الله عليه وسلم حذرا أن لا يروه في الاَخرة. ذكر الرواية بذلك:
7925ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب القمي, عن جعفر بن أبي المغيرة, عن سعيد بن جبير, قال: جاء رجل من الأنصار إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو محزون, فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «يا فُلانُ مالي أرَاكَ مَحْزُونا»؟ قال: يا نبيّ الله شيء فكرت فيه. فقال: «ما هُوَ؟» قال: نحن نغدو عليك ونروح, ننظر في وجهك ونجالسك, غدا ترفع مع النبيين فلا تصل إليك! فلم يردّ النبيّ صلى الله عليه وسلم شيئا. فأتاه جبريل عليه السلام بهذه الاَية: {وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ وَالرّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الّذِينَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النّبِيّينَ وَالصّديقِينَ وَالشّهَدَاءِ وَالصّالِحينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقا قال: فبعث إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم فبشّره.
7926ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن أبي الضحى, عن مسروق, قال: قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ما ينبغي لنا أن نفارقك في الدنيا, فإنك لو قد متّ رُفعت فوقنا فلم نرك! فأنزل الله: {وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ وَالرّسُولَ}... الاَية.
7927ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللّه وَالرّسُلَ فَأُولَئِكَ مَعَ الّذِينَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النّبِيّينَ} ذكر لنا أن رجالاً قالوا: هذا نبيّ الله نراه في الدنيا, فأما في الاَخرة فيرفع فلا نراه! فأنزل الله: {وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ وَالرّسُولَ}... إلى قوله: {رَفِيق}.
7928ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: {وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ وَالرّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الّذِينَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ}... الاَية, قال: قال ناس من الأنصار: يا رسول الله, إذا أدخلك الله الجنة فكنت في أعلاها ونحن نشتاق إليك, فكيف نصنع؟ فأنزل الله: {وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ وَالرّسُولَ}.
7929ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, قوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ والرّسُولَ}... الاَية, قال: إن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم قالوا: قد علمنا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم له فضل على من آمن به في درجات الجنة ممن اتبعه وصدّقه, فكيف لهم إذا اجتمعوا في الجنة أن يرى بعضهم بعضا؟ فأنزل الله في ذلك فقال: إن الأعلين ينحدرون إلى من هم أسفل فيجتمعون في رياضها, فيذكرون ما أنعم الله عليهم, ويُثْنون عليه, وينزل لهم أهل الدرجات, فيسعون عليهم بما يشتهون وما يدّعون به, فهم في روضة يحبرون ويتنعمون فيه.
وأما قوله: {ذَلِكَ الفَضْلُ مِنَ اللّهَ} فإنه يقول: كون من أطاع الله والرسول مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين, {الفَضْلُ مِنَ الله} يقول ذلك عطاء الله إياهم وفضله عليهم, لا باستجابهم ذلك لسابقة سبقت لهم.
فإن قال قائل: أو ليس بالطاعة وصلوا إلى ما وصلوا إليه من فضله؟ قيل له: إنهم لم يطيعوه في الدنيا إلا بفضله الذي تفضل به عليهم فهداهم به لطاعته, فكل ذلك فضل منه تعالى ذكره.
وقوله: {وكَفَى باللّهِ عَلِيم} يقول: وحسب العباد بالله الذي خلقهم عليما بطاعة المطيع منهم ومعصية العاصي, فإنه لا يَخْفَى عليه شيء من ذلك ولكنه يحصيه عليهم ويحفظه حتى يجازي جميعهم, فيجزي المحسن منهم بالإحسان, والمسيء منهم بالإساءة, ويعفو عمن شاء من أهل التوحيد.
الآية : 71
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُواْ جَمِيعاً }..
يعني بقوله جلّ ثناؤه: {يا أيّها الذين آمَنُو} صدّقوا الله ورسوله, {خُذُوا حِذْرَكُمْ}: خذوا جُنتكم وأسلحتكم التي تتقون بها من عدوّكم لغزوهم وحربهم. {فانْفِرُو} إليهم {ثُباتٍ} وهي جمع ثبة, والثبة: العصبة¹ ومعنى الكلام: فانفروا إلى عدوّكم جماعة بعد جماعة متسلحين, ومن الثّبة قول زهير:
وَقدْ أغْدُوا على ثُبَةٍ كِرَامٍنَشاوَى وَاجِدينَ لِمَا نَشاءُ
وقد تجمع الثبة على ثُبِين.
{أوِ انْفِرُوا جَمِيع} يقول: أو انفروا جميعا مع نبيكم صلى الله عليه وسلم لقتالهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
7930ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: حدثني معاوية, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: {خُذُوا حِذْرَكُمْ فانْفِرُوا ثُباتٍ} يقول: عصبا, يعني: سرايا متفرّقين, {أوِ انْفِرُوا جَمِيعا يعني كلكم.
7931ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: {فانْفِرُوا ثُباتٍ} قال: فرقا قليلاً قليلاً.
7932ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {فانْفِرُوا ثُباتٍ} قال: الثبات: الفرق.
حدثنا الحسين بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, مثله.
7933ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: {فانْفِرُوا ثُباتٍ} فهي العصبة, وهي الثبة. {أوِ انْفِرُوا جَمِيع} مع النبيّ صلى الله عليه وسلم.
7934ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ, يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: {فانْفِرُوا ثُباتٍ} يعني: عصبا متفرّقين.
الآية : 72
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنّ مِنْكُمْ لَمَن لّيُبَطّئَنّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مّعَهُمْ شَهِيداً }..
وهذا نعت من الله تعالى ذكره للمنافقين, نعتهم لنبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه ووصفهم بصفتهم, فقال: {وإنّ مِنْكُمْ} أيها المؤمنون, يعني: من عدادكم وقومكم ومن يتشبه بكم ويظهر أنه من أهل دعوتكم وملتكم, وهو منافق يبطىء من أطاعه منكم عن جهاد عدوّكم وقتالهم إذا أنتم نفرتم إليهم. {فإنْ أصَابَتْكُمْ مُصِيَبةٌ} يقول: فإن أصابتكم هزيمة, أو نالكم قتل أو جراح من عدوّكم, قال: قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيدا, فيصيبني جراح أو ألم أو قتل, وسرّه تخلفه عنكم شماتة بكم, لأنه من أهل الشكّ في وعد الله الذي وعد المؤمنين على ما نالهم في سبيله من الأجر والثواب وفي وعيده, فهو غير راج ثوابا ولا خائف عقابا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
7935ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: {وَإنّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطّئَنّ فَإنْ أصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ}... إلى قوله: {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أجْرا عَظِيم} ما بين ذلك في المنافقين.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
7936ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {وَإنّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطّئَنّ} عن الجهاد والغزو في سبيل الله. {فَإنْ أصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قال قَدْ أنْعَمَ اللّهُ عليّ إذْ لَمْ أكُنْ مَعَهُمْ شَهِيد} قال: هذا قول مكذّبٍ.
7937ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا حجاج, قال: قال ابن جريج: المنافق يبطىء المسلمين عن الجهاد في سبيل الله, قال الله: {فَإنْ أصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} قال: بقتل العدوّ من المسلمين, {قَالَ قَدْ أنْعَمَ اللّهُ عَليّ إذْ لَمْ أكُنْ مَعَهُمْ شَهِيد} قال: هذا قول الشامت.
7938ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: {فَإنْ أصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} قال: هزيمة.
ودخلت اللام في قوله {لَمَنْ} وفتحت لأنها اللام التي تدخل توكيدا للخبر مع «إن», كقول القائل: إن في الدار لمن يكرمك, وأما اللام الثانية التي في: {لَيُبَطّـَئَنّ} فدخلت لجواب القسم, كأن معنى الكلام: وإن منكم أيها القوم لمن والله لبطئن.
الآية : 73
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله لَيَقُولَنّ كَأَن لّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدّةٌ يَلَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً }..
يقول جلّ ثناؤه: {وَلَئِنْ أصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللّهِ}: ولئن أظفركم الله بعدوّكم, فأصبتم منهم غنيمة¹ {لَيَقُولَنّ} هذا المبطىء المسلمين عن الجهاد معكم في سبيل الله المنافق {كأنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَودّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأفُوزَ} بما أصيب معهم من الغنيمة {فَوْزا عَظِيم}. وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن هؤلاء المنافقين أن شهودهم الحرب مع المسلمين إن شهدوها لطلب الغنيمة, وإن تخلفوا عنها فللشكّ الذي في قوبلهم, وأنهم لا يرجون لحضورها ثوابا ولا يخافون بالتخلف عنها من الله عقابا. وكان قتادة وابن جريج يقولان: إنما قال من قال من المنافقين إذا كان الظفر للمسلمين: يا ليتني كنت معهم, حسدا منهم لهم.
7939ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {وَلَئِنْ أصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللّهِ لَيَقُولَنّ كأنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فأفُوزَ فَوْزا عَظِيم} قال: قول حاسد.
7940ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قوله: {وَلَئِنْ أصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللّهِ} قال: ظهور المسلمين على عدوّهم, فأصابوا الغنيمة {لَيَقُولَنّ} {يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأفُوزَ فَوْزا عَظِيم} قال: قول الحاسد.
الآية : 74
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا بِالاَخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً }..
وهذا حضّ من الله المؤمنين على جهاد عدوّه من أهل الكفر به على أحايينهم غالبين كانوا أو مغلوبين, والتهاون بأحوال المنافقين في جهاد من جاهدوا من المشركين, وقع جهادهم إياهم مغلوبين كانوا أو غالبين¹ منزلة من الله رفيعة. يقول الله لهم جلّ ثناؤه: {فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ} يعني: في دين الله والدعاء إليه والدخول فيما أمر به أهل الكفر به, {الّذِينَ يَشْرُونَ الحَياةَ الدّنْيا بالاَخِرَةِ} يعني: الذين يبيعون حياتهم الدنيا بثواب الاَخرة وما وعد الله أهل طاعته فيها. وبيعهم إياها بها, إنفاقهم أموالهم في طلب رضا الله, كجهاد من أمر بجهاده من أعدائه وأعداء دينه, وبذلهم مهجهم له في ذلك. أخبر جلّ ثناؤه بما لهم في ذلك إذا فعلوه, فقال: {وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيْقْتَلْ أوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أجْرا عَظِيم} يقول: ومن يقاتل في طلب إقامة دين الله وإعلاء كلمة الله أعداء الله, فيقتل, يقول: فيقتله أعداء الله أو يغلبهم, فيظفر بهم¹ {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أجْرا عَظِيم} يقول: فسوف نعطيه في الاَخرة ثوابا وأجرا عظيما. وليس لما سمي جلّ ثناؤه عظيما مقدار يعرف مبلغه عباد الله. وقد دللنا على أن الأغلب على معنى «شريت» في كلام العرب «بعت» بما أغنى. وقد:
7941ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: {فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يَشْرُونَ الحَياةَ الدّنْيا بالاَخِرَةِ} يقول: يبيعون الحياة الدنيا بالاَخرة.
7942ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: {يَشْرُونَ الحَيَاةَ الدّنْيَا بالاَخِرَةِ} فيشري: يبيع, ويشري: يأخذ, وإن الحمقى باعوا الدنيا بالاَخرة