تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 96 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 96

095

قوله 106- "واستغفر الله" أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالاستغفار. قال ابن جرير: إن المعنى استغفر الله من ذنبك في خصامك للخائنين: وسيأتي بيان السبب الذي نزلت لأجله الآية، وبه يتضح المراد. وقيل المعنى: واستغفر الله للمذنبين من أمتك والمخاصمين بالباطل.
قوله 107- "ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم" أي: لا تحاجج عن الذين يخونون أنفسهم، والمجادلة مأخوذة من الجدل وهو الفتل، وقيل: مأخوذة من الجدالة وهي وجه الأرض لأن كل واحد من الخصمين يريد أن يلقي صاحبه عليها، وسمي ذلك خيانة لأنفسهم، لأن ضرر معصيتهم راجع إليهم. والخوان: كثير الخيانة، والأثيم: كثير الإثم، وعدم المحبة كناية عن البغض.
قوله 108- "يستخفون من الناس" أي: يستترون منهم كقوله "ومن هو مستخف بالليل" أي مستتر، وقيل معناه: يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله: أي لا يستترون منه أو لا يستحيون منه والحال أنه معهم في جميع أحوالهم عالم بما هم فيه فكيف يستخفون منه "إذ يبيتون" أي: يديرون الرأي بينهم، وسماه تبييتاً، لأن الغالب أن تكون إدارة الرأي بالليل "ما لا يرضى من القول" أي: من الرأي الذي أداروه بينهم، وسماه قولاً لأنه لا يحصل إلا بعد المقاولة بينهم.
قوله 109- "ها أنتم هؤلاء" يعني القوم الذين جادلوا عن صاحبهم السارق كما سيأتي، والجملة مبتدأ وخبر. قال الزجاج: "أولاء" بمعنى الذين و"جادلتم" بمعنى حاججتم "في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة" الاستفهام للإنكار والتوبيخ: أي فمن يخاصم ويجادل الله عنهم يوم القيامة عند تعذيبهم بذنوبهم؟ "أم من يكون عليهم وكيلاً" أي: مجادلاً ومخاصماً. والوكيل في الأصل: القائم بتدبير الأمور. والمعنى: من ذاك يقوم بأمرهم إذا أخذهم الله بعذابه. وقد أخرج الترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه عن قتادة بن النعمان قال كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق بشر وبشير ومبشر، وكان بشر رجلاً منافقاً يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ينحله بعض العرب ثم يقول: قال فلان كذا وكذا، قال فلان كذا وكذا، فإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الشعر قالوا: والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيث، فقال: أو كلما قال الرجال قصيدة أصموا فقالوا ابن الأبيرق قالها قال: وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة: أي حمولة من الشام من الدرمك ابتاع الرجل منها فخص نفسه، وأما العيال فإنما طعامهم التمر والشعير، فقدمت ضافطة من الشام فابتاع عمي رفاعة بن رافع حملاً من الدرمك، فجعله في مشربة، وفي المشربة سلاح له درعان وسيفاهما وما يصلحهما، فعدي عليه من تحت الليل فنقبت المشربة وأخذ الطعام والسلاح، فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي تعلم أن قد عدي علينا في ليلتنا هذه، فنقبت مشربتنا فذهب بطعامنا وسلاحنا، قال: فتحسسنا في الدار وسألنا، فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق استوقدوا ناراً في هذه الليلة ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم، قال: وكان بنو أبيرق قالوا ونحن نسأل في الدار: والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل رجلاً منا له صلاح وإسلام، فلما سمع ذلك لبيد اخترط سيفه ثم أتى بني أبيرق وقال: أنا أسرق؟ فوالله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن هذه السرقة، قالوا: إليك عنا أيها الرجل فوالله ما أنت بصاحبها، فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها، فقال لي عمي: يا أهي لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، قال قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إن أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي رفاعة بن زيد فنقبوا مشربة له وأخذوا سلاحه وطعامه فليردوا علينا سلاحنا، وأما الطعام فلا حاجة لنا فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سأنظر في ذلك، فلما سمع ذلك بنو أبيرق أتوا رجلاً منهم يقال له أسير بن عروة فكلموه في ذلك واجتمع إليه ناس من أهل الدار، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إن قتادة بن النعمان وعمه عمدوا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت، قال قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته فقال: عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير بينة ولا ثبت، قال قتادة: فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فأتاني عمي رفاعة فقال لي: يا ابن أخي ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: الله المستعان. فلم نلبث أن نزل القرآن "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً" بني أبيرق "واستغفر الله" أي: مما قلت لقتادة " إن الله كان غفورا رحيما * ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم " إلى قوله "ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً" أي: لو استغفروا الله لغفر لهم "ومن يكسب إثماً" إلى قوله "فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً" قولهم للبيد "ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك" يعني: أسير بن عروة، فلما نزل القرآن أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح فرده إلى رفاعة، قال قتادة: فلما أتيت عمي بالسلاح وكان شيخاً قد غشي في الجاهلية: أي كبر، وكنت أرى إسلامه مدخولاً فلما أتيته بالسلاح قال: يا ابن أخي هو في سبيل الله، فعرفت أن إسلامه كان صحيحاً، فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد فأنزل الله "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى" إلى قوله "ضلالاً بعيداً" فلما نزل على سلافة رماها حسان بن ثابت بأبيات من شعر فأخذت رحله فوضعته على رأسها ثم خرجت فرمت به في الأبطح، ثم قالت: أهديت لي شعر حسان ما كنت تأتيني بخير. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعلم أحداً أسنده غير محمد بن سلمة الحراني. ورواه يونس بن بكير وغير واحد عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة مرسلاً لم يذكر فيه عن أبيه عن جده. ورواه ابن أبي حاتم عن هاشم بن القاسم الحراني عن محمد بن الصانع، حدثنا أحمد بن أبي شعيب الحراني، حدثنا محمد بن سلمة فذكره بطوله. ورواه أبو الشيخ الأصبهاني في تفسيره عن محمد بن العباس بن أيوب والحسن بن يعقوب كلاهما عن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني عن محمد بن سلمة به، ثم قال في آخره: قال محمد بن سلمة: سمع مني هذا الحديث يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وإسحاق بن أبي إسرائيل. وقد رواه الحاكم في المستدرك عن أبي العباس الأصم عن أحمد بن عبد الجبار العطاردي عن يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق بمعناه أتم منه، ثم قال: هذا صحيح على شرط مسلم. وقد أخرجه ابن سعد عن محمود بن لبيد قال: غدا بشير فذكره مختصراً، وقد رويت هذه القصة مختصرة ومطولة عن جماعة من التابعين.
هذا من تمام القصة السابقة، والمراد بالسوء: القبيح الذي يسوء به 110- "أو يظلم نفسه" بفعل معصية من المعاصي أو ذنب من الذنوب التي لا تتعدى إلى غيره "ثم يستغفر الله" يطلب منه أن يغفر له ما قارفه من الذنب "يجد الله غفوراً" لذنبه "رحيماً" به، وفيه ترغيب لمن وقع منه السرق من بني أبيرق أن يتوب إلى الله ويستغفره، وأنه غفور لمن يستغفره رحيم به. وقال الضحاك: إن هذه الآية نزلت في شأن وحشي قاتل حمزة، أشرك بالله وقتل حمزة، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: هل لي من توبة؟ فنزلت. وعلى كل حال فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهي لكل عبد من عباد الله أذنب ذنباً ثم استغفر الله سبحانه.
قوله 111- "ومن يكسب إثماً" من الآثام بذنب يذنبه "فإنما يكسبه على نفسه" أي عاقبته عائدة عليه، والكسب ما يجر به الإنسان إلى نفسه نفعاً أو يدفع به ضرراً، ولهذا لا يسمى فعل الرب كسباً، قاله القرطبي.
112- "ومن يكسب خطيئة أو إثماً" قيل: هما بمعنى واحد كرر للتأكيد. وقال الطبري: إن الخطيئة تكون عن عمد وعن غير عمد، والإثم لا يكون إلا عن عمد، وقيل: الخطيئة الصغيرة، والإثم: الكبيرة. قوله "ثم يرم به بريئاً" توحيد الضمير لكون العطف بأو، أو لتغليب الإثم على الخطيئة، وقيل: إنه يرجع إلى الكسب. قوله "فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً" لما كانت الذنوب لازمة لفاعلها كانت كالثقل الذي يحمل، ومثله "وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم". والبهتان مأخوذ من البهت: وهو الكذب على البريء بما ينبهت له ويتحير منه، يقال: بهته بهتاً وبهتاناً: إذا قال عليه ما لم يقل، ويقال بهت الرجل بالكسر: إذا دهش وتحير وبهت بالضم، ومنه "فبهت الذي كفر"، والإثم المبين: الواضح.
قوله 113- "ولولا فضل الله عليك ورحمته" خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد بهذا الفضل والرحمة لرسول الله أنه نبه على الحق في قصة بني أبيرق. وقيل: المراد بهما النبوة والعصمة "لهمت طائفة منهم" أي: من الجماعة الذين عضدوا بني أبيرق كما تقدم "أن يضلوك" عن الحق "وما يضلون إلا أنفسهم" لأن وبال ذلك عائد عليهم "وما يضرونك من شيء" لأن الله سبحانه هو عاصمك من الناس، ولأنك عملت بالظاهر ولا ضرر عليك في الحكم به قبل نزول الوحي، والجار والمجرور في محل نصب على المصدرية: أي وما يضرونك شيئاً من الضرر. قوله "وأنزل الله عليك الكتاب" قيل: هذا ابتداء كلام، وقيل الواو للحال: أي وما يضرونك من شيء حال إنزال الله عليك الكتاب والحكمة، أو مع إنزال الله ذلك عليك. قوله "وعلمك ما لم تكن تعلم" معطوف على أنزل: أي علمك بالوحي ما لم تكن تعلم من قبل "وكان فضل الله عليك عظيماً" إذ لا فضل أعظم من النبوة ونزول الوحي. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله "ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه" الآية. قال: أخبر الله عباده بحلمه وعفوه وكرمه وسعة رحمته ومغفرته، فمن أذنب ذنباً صغيراً كان أو كبيراً ثم استغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً ولو كانت ذنوبه أعظم من السموات والأرض والجبال. وأخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود قال: من قرأ هاتين الآيتين من سورة النساء ثم استغفر الله غفر له " ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما " " ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول " الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله "وعلمك ما لم تكن تعلم" قال: علمه الله بيان الدنيا والآخرة بين حلاله وحرامه ليحتج بذلك على خلقه. وأخرج أيضاً عن الضحاك قال: علمه الخير والشر، وقد ورد في قبول الاستغفار، وأنه يمحو الذنب أحاديث كثيرة مدونه في كتب السنة.
النجوى: السر بين الاثنين أو الجماعة، تقول: ناجيت فلاناً مناجاة ونجاء وهم ينتجون ويتناجون، ونجوت فلاناً أنجوه نجوى: أي ناجيته، فنجوى مشتقة من نجوت الشيء أنجوه: أي خلصته وأفردته. والنجوة من الأرض المرتفع لانفراده بارتفاعه عما حوله، فالنجوى: المسارة مصدر. وقد تسمى به الجماعة كما يقال قوم عدم، قال الله تعالى "وإذ هم نجوى" فعلى الأول يكون الاستثناء منقطعاً: أي لكل من أمر بصدقة، أو متصلاً على تقدير إلا نجوى من أمر بصدقة، وعلى الثاني يكون الاستثناء متصلاً في موضع خفض على البدل من كثير: أي لا خير في كثير إلا فيمن أم بصدقة. وقد قال جماعة من المفسرين: إن النجوى كلام الجماعة المنفردة أو الاثنين سواء كان ذلك سراً أو جهراً، وبه قال الزجاج. قوله 114- "بصدقة" الظاهر أنها صدقة التطوع، وقيل إنها صدقة الفرض. والمعروف صدقة التطوع، والأول أولى. والمعروف لفظ عام يشمل جميع أنواع البر. وقال مقاتل: المعروف هنا القرض. والأول أول، ومنه قول الحطيئة: من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس ومنه الحديث: "كل معروف صدقة، وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق"، وقيل: المعروف إغاثة الملهوف. والإصلاح بين الناس عام في الدماء والأعراض والأموال، وفي كل شيء يقع التداعي فيه. قوله "ومن يفعل ذلك" إشارة إلى الأمور المذكورة، جعل مجرد الأمر بها خيراً، ثم رغب في فعلها بقوله "ومن يفعل ذلك" لأن فعلها أقرب إلى الله من مجرد الأمر بها، إذ خيرية الأمر بها إنما هي لكونه وسيلة إلى فعلها. قوله " ابتغاء مرضاة الله " علة للفعل، لأن من فعلها لغير ذلك فهو غير مستحق لهذا المدح والجزاء، بل قد يكون غير ناج من الوزر، والأعمال بالنيات.