تفسير الطبري تفسير الصفحة 106 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 106
107
105
 الآية : 176
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِن امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لّمْ يَكُنْ لّهَآ وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثّلُثَانِ مِمّا تَرَكَ وَإِن كَانُوَاْ إِخْوَةً رّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الاُنثَيَيْنِ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلّواْ وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }..
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: يَسْتَفْتُونَكَ يسألونك يا مـحمد أن تفتـيهم فـي الكلالة. وقد بـينا معنى الكلالة فـيـما مضى بـالشواهد الدالة علـى صحته, وقد ذكرنا اختلاف الـمختلفـين فـيه فأغنى ذلك عن إعادته, وبـينا أن الكلالة عندنا ما عدا الولد والوالد. إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَـيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فلَها نِصْفُ ما تَرَكَ يعنـي بقوله: إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ: إن إنسان من الناس مات. كما:
8627ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدّي: إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ يقول: مات.
لَـيْسَ لَهُ وَلَدٌ ذكر ولا أنثى وَلَهُ أُخْتٌ يعنـي: وللـميت أخت لأبـيه وأمه, أو لأبـيه. فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ يقول: فلأخته التـي تركها بعده بـالصفة التـي وصفنا نصف تركته ميراثا عنه دون سائر عصبته, وما بقـي فلعصبته.
وذُكر أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هَمّهُم شأن الكلالة, فأنزل الله تبـارك وتعالـى فـيها هذه الاَية. ذكر من قال ذلك:
8628ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِـيكُمْ فِـي الكَلالَةِ فسألوا عنها نبـيّ الله, فأنزل الله فـي ذلك القرآن: إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَـيْسَ لَهُ وَلَدٌ فقرأ حتـى بلغ: وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِـيـمٌ. قال: وذكر لنا أن أبـا بكر الصدّيق رضي الله عنه قال فـي خطبته: ألا إن الاَية التـي أنزل الله فـي أوّل سورة النساء فـي شأن الفرائض أنزلها الله فـي الولد والوالد, والاَية الثانـية أنزلها فـي الزوج والزوجة والإخوة من الأم, والاَية التـي ختـم بها سورة النساء أنزلها فـي الإخوة والأخوات من الأب والأم, والاَية التـي ختـم بها سورة الأنفـال أنزلها فـي أُوِلـى الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلـى بِبَعْضٍ فِـي كِتابِ اللّهِ مـما جرّت الرحم من العَصَبة.
8629ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا جرير, عن الشيبـانـي, عن عمرو بن مرّة, عن سعيد بن الـمسيب, قال: سأل عمر بن الـخطاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم عن الكلالة, فقال: «ألَـيْسَ قَدْ بَـيّنَ اللّهُ ذَلِكَ؟» قال فنزلت: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِـيكُمْ فِـي الكَلالَةِ.
8630ـ حدثنا مؤمل بن هشام أبو هشام, قال: حدثنا إسماعيـل بن إبراهيـم, عن هشام الدّستوائيّ, قال: حدثنا أبو الزبـير, عن جابر بن عبد الله, قال: اشتكيت وعندي تسع أخوات لـي أو سبع أبو جعفر الذي يشكّ فدخـل علـيّ النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فنفخ وجهي, فأفقت وقلت: يا رسول الله, ألا أوصي لأخواتـي بـالثلث؟ قال: «أحْسَنُ», قلت: الشطر؟ قال: «أحْسَنُ». ثم خرج وتركنـي, ثم رجع إلـيّ فقال: «يا جابِرُ إنّـي لا أُرَاكَ مَيّتا مِنْ وَجَعِكَ هَذَا, وَإنّ اللّهَ قَدْ أنْزَلَ فِـي الّذِي لاِءَخَوَاتِكَ فَجَعَلَ لَهُنّ الثّلُثَـيْنِ». قال: فكان جابر يقول: أنزلت هذه الاَية فـيّ: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِـيكُمْ فِـي الكَلالَةِ.
حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا ابن أبـي عديّ, عن هشام, يعنـي الدّستوائيّ, عن أبـي الزبـير, عن جابر, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم, مثله.
8631ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا سفـيان بن عيـينة, عن ابن الـمنكدر, عن جابر بن عبد الله, قال: مرضت فأتانـي النبـيّ صلى الله عليه وسلم يعودنـي هو وأبو بكر, وهما ماشيان, فوجدونـي قد أغمى علـيّ, فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صبّ علـيّ من وَضوئه, فأفقت, فقلت: يا رسول الله كيف أقضي فـي مالـي, أو كيف أصنع فـي مالـي؟ وكان له تسع أخوات ولـم يكن له والد ولا ولد. قال: فلـم يجبنـي شيئا حتـى نزلت آية الـميراث: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِـيكُمْ فِـي الكَلالَةِ... إلـى آخر السورة. قال ابن الـمنكدر: قال جابر: إنـما أنزلت هذه الاَية فـيّ.
وكان بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن هذه الاَية هي آخر آية أنزلت من القرآن. ذكر من قال ذلك:
8632ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا الـحسين بن واقد, عن أبـي إسحاق, عن البراء بن عازب, قال: سمعته يقول: إن آخر آية نزلت من القرآن: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِـيكُمْ فِـي الكَلالَةِ.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن ابن أبـي خالد, عن أبـي إسحاق, عن البراء, قال: آخر آية نزلت من القرآن: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِـيكُمْ فِـي الكَلالَةِ.
حدثنا مـحمد بن خـلف, قال: حدثنا عبد الصمد بن النعمان, قال: حدثنا مالك بن مِغْول, عن أبـي السّفَر, عن البراء, قال: آخر آية نزلت من القرآن: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِـيكُمْ فِـي الكَلالَةِ.
8633ـ حدثنا هارون بن إسحاق الهمدانـيّ, قال: حدثنا مصعب بن الـمقدام, قال: حدثنا إسرائيـل, عن أبـي إسحاق, عن البراء, قال: آخر سورة نزلت كاملة براءة, وآخر آية نزلت خاتـمة سورة النساء: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِـيكُمْ فِـي الكَلالَةِ.
واختلف فـي الـمكان الذي نزلت فـيه الاَية, فقال جابر بن عبد الله: نزلت فـي الـمدينة. وقد ذكرت الرواية بذلك عنه فـيـما مضى بعضها فـي أوّل السورة عند فـاتـحة آية الـمواريث, وبعضها فـي مبتدإ الإخبـار عن السبب الذي نزلت فـيه هذه الاَية.
وقال آخرون: بل أنزلت فـي مسير كان فـيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. ذكر من قال ذلك:
8634ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا مـحمد بن حميد, عن معمر, عن أيوب, عن ابن سيرين, قال: نزلت: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِـيكُمْ فِـي الكَلالَةِ والنبـيّ فـي مسير له, وإلـى جنبه حذيفة بن الـيـمان, فبلّغها النبـيّ صلى الله عليه وسلم حذيفة, وبلّغها حذيفة عمر بن الـخطاب وهو يسير خـلفه. فلـما استـخـلف عمر سأل عنها حذيفة, ورجا أن يكون عنده تفسيرها, فقال له حذيفة: والله إنك لعاجز إن ظننت أن إمارتك تـحملنـي أن أحدثك فـيها بـما لـم أحدثك يومئذ فقال عمر: لـم أرد هذا رحمك الله.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن أيوب, عن ابن سيرين بنـحوه, إلا أنه قال فـي حديثه: فقال له حذيفة: والله إنك لأحمق إن ظننت.
حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا ابن عُلَـية, قال: حدثنا ابن عون, عن مـحمد بن سيرين, قال: كانوا فـي مسير ورأس راحلة حذيفة. قال: ونزلت: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِـيكُمْ فِـي الكَلالَةِ فلقّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة, فلقاها حذيفة عمر. فلـما كان بعد ذلك سأل عمر عنها حذيفة, فقال: والله إنك لأحمق إن كنت ظننت أنه لقّانـيها رسول الله فلقـيتكها كما لقانـيها, والله لاأزيدك علـيها شيئا أبدا قال: وكان عمر يقول: اللهمّ إن كنت بـينتها له, فإنها لـم تبـين لـي.
واختلف عن عمر فـي الكلالة, فرُوي عنه أنه قال فـيها عند وفـاته: هو من لا ولد له ولا والد. وقد ذكرنا الرواية عنه بذلك فـيـما مضى فـي أول هذه السورة فـي آية الـميراث. ورُوي عنه أنه قال قبل وفـاته: هو ما خلا الأب. ذكر من قال ذلك:
8635ـ حدثنا الـحسن بن عرفة, قال: حدثنا شبـابة, قال: حدثنا شعبة, عن قتادة, عن سالـم بن أبـي الـجعد, عن مَعْدان بن أبـي طلـحة الـيعمريّ, قال: قال عمر بن الـخطاب: ما أغلظ لـي رسول الله صلى الله عليه وسلم, أو ما نازعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي شيء ما نازعته فـي آية الكلالة, حتـى ضرب صدري, وقال: «يَكْفِـيكَ مِنْها آيَةُ الصّيْفِ الّتـي أُنْزِلَتْ فـي آخِرِ سُوَرةِ النّسَاءِ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِـيكُمْ فِـي الكَلالَةِ» وسأقضي فـيها بقضاء يعلـمه من يقرأ ومن لا يقرأ: هو ما خلا الأب كذا حسب قال ابن عرفة قال شبـابة: الشكّ من شعبة.
ورُوي عنه أنه قال: إنـي لأستـحيـي أن أخالف فـيه أبـا بكر. وكان أبو بكر يقول: هو ما خلا الولد والوالد, وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه فـيـما مضى فـي أوّل السورة. ورُوي عنه أنه قال عند وفـاته: قد كنت كتبت فـي الكلالة كتابـا وكنت أستـخير الله فـيه, وقد رأيت أن أترككم علـى ما كنتـم علـيه. وأنه كان يتـمنى فـي حياته أن يكون له بها علـم. ذكر من قال ذلك:
8636ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا مـحمد بن حميد الـمعمري, عن معمر, عن الزهري, عن سعيد بن الـمسيب: أن عمر بن الـخطاب كتب فـي الـجَدّ والكلالة كتابـا, فمكث يستـخير الله فـيه, يقول: اللهمّ إن علـمت فـيه خيرا فأمضه حتـى إذا طُعِنَ دعا بـالكتاب فمـحي, فلـم يدر أحد ما كتب فـيه, فقال: إنـي كنت كتبت فـي الـجدّ والكلالة كتابـا وكنت أستـخير الله فـيه, فرأيت أن أترككم علـى ما كنتـم علـيه.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر عن الزهري, عن سعيد بن الـمسيب, عن عمر, بنـحوه.
8637ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, قال: حدثنا عمرو بن مرّة, عن مرّة الهمدانـيّ, قال: قال عمر: ثلاث لأن يكون النبـيّ صلى الله عليه وسلم بَـيّنَهنّ لنا أحبّ إلـيّ من الدنـيا وما فـيها: الكلالة, والـخلافة, وأبواب الربـا.
8638ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثام, قال: حدثنا الأعمش, قال: سمعتهم يذكرون, ولا أرى إبراهيـم إلا فـيهم, عن عمر قال: لأن أكون أعلـم الكلالة أحبّ ألـيّ من أن يكون لـي مثل جزية قصور الروم.
8639ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثام, قال: حدثنا الأعمس, عن قـيس بن مسلـم, عن طارق بن شهاب, قال: أخذ عمر كتفـا, وجمع أصحاب مـحمد صلى الله عليه وسلم, ثم قال: لأقضينّ فـي الكلالة قضاء تـحدّث به النساء فـي خدورهنّ فخرجت حينئذ حية من البـيت, فتفرّقوا, فقال: لو أراد الله أن يتـمّ هذا الأمر لأتـمه.
8640ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا ابن علـية, قال: حدثنا أبو حيان, قال: ثنـي الشعبـيّ, عن ابن عمر, قال: سمعت عمر بن الـخطاب يخطب علـى منبر الـمدينة, فقال: أيها الناس: ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لـم يفـارقنا حتـى يعهد إلـينا فـيهنّ عهدا يُنتهَى إلـيه: الـجدّ, والكلالة, وأبواب الربـا.
حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن عُلَـية, عن سعيد بن أبـي عَروبة, عن قتادة, عن سالـم بن أبـي الـجعد, عن معدان بن أبـي طلـحة, أن عمر بن الـخطاب, قال: ما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء أكثر مـما سألت عن الكلالة, حتـى طعن بأصبعه فـي صدري, وقال: «تَكْفِـيكَ آيَةُ الصّيْفِ التـي فـي آخِرِ سُوَرةِ النّساء».
حدثنا إبراهيـم بن سعيد الـجوهري, قال: حدثنا عبد الله بن بكر السهميّ, عن سعيد, عن قتادة, عن سالـم بن أبـي الـجعد, عن معدان, عن عمر, قال: لـم أدع شيئا أهمّ عندي من أمر الكلالة, فما أغلظ لـي رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي شيء ما أغلظ لـي فـيها, حتـى طعن بأصبعه فـي صدري, أو قال فـي جنبـي, فقال: «تَكْفِـيكَ الاَيةُ الّتـي أُنْزِلَتْ فـي آخِرِ النّسَاءِ».
حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا ابن عديّ, عن سعيد, عن قتادة, عن سالـم بن أبـي الـجعد, عن معدان بن أبـي طلـحة, أن عمر بن الـخطاب خطب الناس يوم الـجمعة, فقال: إنـي والله ما أدع بعدي شيئا هو أهمّ إلـيّ من أمر الكلالة, وقد سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فما أغلظ لـي فـي شيء ما أغلظ لـي فـيها, حتـى طعن فـي نـحري وقال: «تَكْفِـيكَ آيَةُ الصّيْفِ الّتـي أُنْزِلَتْ فـي آخِرِ سُورَةِ النّساءِ», وإن أعش أقض فـيها بقضية لا يختلف فـيها أحد قرأ القرآن.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا يحيى بن سعيد, قال: حدثنا هشام, عن قتادة, عن سالـم بن أبـي الـجعد, عن معدان بن أبـي طلـحة, عن عمر بن الـخطاب, بنـحوه.
8641ـ حدثنا مـحمد بن علـيّ بن الـحسن بن شقـيق, قال: سمعت أبـي يقول: أخبرنا أبو حمزة, عن جابر, عن الـحسن بن مسروق, عن أبـيه, قال: سألت عمر وهو يخطب الناس عن ذي قرابة لـي ورث كلالة, فقال: الكلالة, الكلالة, الكلالة وأخذ بلـحيته, ثم قال: والله لأن أعلـمها أحبّ إلـيّ من أن يكون لـي ما علـى الأرض من شيء, سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: «ألـم تسمع الاَية التـي أنزلت فـي الصيف؟» فأعادها ثلاث مرّات.
8642ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو أسامة, عن زكريا, عن أبـي إسحاق, عن أبـي سلـمة, قال: جاء رجل إلـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فسأله عن الكلالة, فقال: «ألَـمْ تَسْمَعِ الاَيَةَ الّتِـي أُنْزِلَتْ فِـي الصّيْفِ, وَإنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً»... إلـى آخر الاَية.
8643ـ حدثنـي مـحمد بن خـلف, قال: حدثنا إسحاق بن عيسى, قال: حدثنا ابن لهيعة, عن يزيد بن أبـي حبـيب, عن أبـي الـخير: أن رجلاً سأل عقبة عن الكلالة, فقال: ألا تعجبون من هذا؟ يسألنـي عن الكلالة, وما عضل بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء ما أعضلت بهم الكلالة
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فما وجه قوله جلّ ثناؤه: إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَـيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ ولقد علـمت اتفـاق جميع أهل القبلة ما خلا ابن عبـاس وابن الزبـير, علـى أن الـميت لو ترك ابنة وأختا, أن لابنته النصف, وما بقـي فلأخته إذا كانت أخته لأبـيه وأمه أو لأبـيه؟ وأين ذلك من قوله: إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَـيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وقد ورّثوها النصف مع الولد؟ قـيـل: إن الأمر فـي ذلك بخلاف ما ذهبت إلـيه, إنـما جعل الله جلّ ثناؤه بقوله: إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَـيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ إذا لـم يكن للـميت ولد ذكر ولا أنثى وكان موروثا كلالة, النصف من تركته فريضة لها مسماة فأما إذا كان للـميت ولد أنثى فهي مع عصبة يصير لها ما كان يصير للعصبة غيرها لو لـم تكن, وذلك غير مـحدود بحدّ, ولا مفروض لها فرض سهام أهل الـميراث بـميراثهم عن ميتهم. ولـم يقل الله فـي كتابه: فإن كان له ولد فلا شيء لأخته معه, فـيكون لـما رُوي عن ابن عبـاس وابن الزبـير فـي ذلك وجه يوجه إلـيه, وإنـما بـين جلّ ثناؤه مبلغ حقها إذا ورث الـميت كلالة وترك بـيان مالها من حقّ إذا لـم يورث كلالة فـي كتابه وبـينه بوحيه علـى لسانه رسوله صلى الله عليه وسلم, فجعلها عصبة مع إناث ولد الـميت, وذلك معنى غير معنى وراثتها الـميت إذا كان موروثا كلالة.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَهُوَ يَرِثُها إنْ لَـمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ.
يعنـي جلّ ثناؤه بذلك: وأخو الـمرأة يرثها إن ماتت قبله إذا وُرثت كلالة ولـم يكن لها ولد ولا والد.
القول فـي تأويـل قوله: فإنْ كانَتا اثْنَتَـيْنِ فَلَهُما الثّلُثانِ مِـمّا تَرَكَ وَإنْ كانُوا إخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فللذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأُنْثَـيَـيْنِ.
يعنـي جلّ ثناؤه بقوله: فإنْ كانَتا اثْنَتَـيْنِ: فإن كانت الـمتروكة من الأخوات لأبـيه وأمه أو لأبـيه اثنتـين, فلهما ثلثا ما ترك أخوهما الـميت إذا لـم يكن له ولد وورث كلالة. وَإنْ كانُوا إخْوَةً يعنـي: وإن كان الـمتروكون من إخوته رجالاً ونساء. فللذّكَرِ منهم بـميراثهم عنه من تركته مِثْلَ حَظّ الأُنْثَـيَـيْنِ يعنـي: مثل نصيب اثنتـين من أخواته, وذلك إذا ورث كلالة, والإخوة والأخوات إخوته وأخواته لأبـيه وأمه, أو لأبـيه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: يُبَـيّنُ اللّهُ لَكُمْ أنْ تَضِلّوا.
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: يبـين الله لكم قسمة مواريثكم, وحكم الكلالة, وكيف فرائضهم أنْ تَضِلّوا بـمعنى: لئلا تضلوا فـي أمر الـمواريث وقسمتها: أي لئلا تـجوروا عن الـحقّ فـي ذلك, وتـخطئوا الـحكم فـيه, فتضلوا عن قصد السبـيـل. كما:
8644ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قوله: يُبَـيّنُ اللّهُ لَكُمْ أنْ تَضِلّوا قال: فـي شأن الـمواريث.
8645ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا مـحمد بن حميد الـمعمري, وحدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق قالا جميعا: أخبرنا معمر, عن أيوب, عن ابن سيرين, قال: كان عمر إذا قرأ: يُبَـيّنُ اللّهُ لَكُمْ أنْ تَضِلّوا قال: اللهمّ من بـينتَ له الكلالة فلـم تبـيّن لـي.
قال أبو جعفر: وموضع «أن» فـي قوله: يُبَـيّنُ اللّهُ لَكُمْ أنْ تَضِلّوا نصب فـي قول بعض أهل العربـية لاتصالها بـالفعل, وفـي قول بعضهم خفض, بـمعنى: يبـين الله لكم بأن لا تضلوا, ولئلا تضلوا وأسقطت «لا» من اللفظ وهي مطلوبة فـي الـمعنى, لدلالة الكلام علـيها, والعرب تفعل ذلك, تقول: جئتك أن تلومنـي, بـمعنى: جئتك أن لا تلومنـي, كما قال القطاميّ فـي صفة ناقة:
رأيْنا ما يَرَى البُصَرَاءُ فِـيهافَآلَـيْنا عَلَـيْها أنْ تُبـاعَا
بـمعنى: ألا تبـاع.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَاللّهُ بِكُلّ شَيّءٍ عَلِـيـمٌ.
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: وَاللّهُ بكُلّ شَيْءٍ من مصالـح عبـاده فـي قسمة مواريثهم وغيرها وجميع الأشياء عَلِـيـمٌ يقول: هو بذلك كله ذو علـم.
آخر تفسير سورة النساء, والـحمد لله ربّ العالـمين.

نهاية تفسير الإمام الطبرى لسورة النساء

سورة المائدة
سورة الـمائدة مدنـية
وآياتها عشرون ومائة
بسم الله الرحمَن الرحيـم
الآية : 1
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعَامِ إِلاّ مَا يُتْلَىَ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلّي الصّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ }..
يعنـي جلّ ثناؤه بقوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أوْفُوا: يا أيها الذين أقرّوا بوحدانـية الله وأذعنوا له بـالعبودية, وسلـموا له الألوهية, وصدّقوا رسوله مـحمدا صلى الله عليه وسلم فـي نبوّته وفـيـما جاءهم به من عند ربهم من شرائع دينه, أوْفُوا بـالعُقُودِ يعنـي: أوفوا بـالعهود التـي عاهدتـموها ربكم والعقود التـي عاقدتـموها إياه, وأوجبتـم بها علـى أنفسكم حقوقا وألزمتـم أنفسكم بها لله فروضا, فأتـموها بـالوفـاء والكمال والتـمام منكم لله بـما ألزمكم بها, ولـمن عاقدتـموه منكم بـما أوجبتـموه له بها علـى أنفسكم, ولا تنكثوها فتنقضوها بعد توكيدها.
واختلف أهل التأويـل فـي العقود التـي أمر الله جلّ ثناؤه بـالوفـاء بها بهذه الاَية, بعد إجماع جميعهم علـى أن معنى العقود: العهود فقال بعضهم: هي العقول التـي كان أهل الـجاهلـية عاقد بعضهم بعضا علـى النصرة والـمؤازرة والـمظاهرة علـى من حاول ظلـمه أو بغاه سوءا, وذلك هو معنى الـحلف الذي كانوا يتعاقدونه بـينهم. ذكر من قال ذلك: معنى العقود العهود:
8646ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ, عن ابن عبـاس قوله: أوْفُوا بـالعُقُودِ يعنـي: بـالعهود.
8647ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله جلّ وعزّ: أوْفُوا بـالعُقُودِ قال: العهود.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
حدثنا سفـيان, قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, عن رجل, عن مـجاهد مثله.
8648ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عبـيد الله, عن أبـي جعفر الرازيّ, عن الربـيع بن أنس, قال: جلسنا إلـى مطرف بن الشّخّير وعنده رجل يحدثهم, فقال: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أوْفُوا بـالعُقُودِ قال: هي العهود.
حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: أوْفُوا بـالعُقُودِ قال: العهود.
8649ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو خالد الأحمر, عن جويبر, عن الضحاك: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أوْفُوا بـالعُقُودِ قال: هي العهود.
حُدثت عن الـحسين بن الفرج, قال: سمعت أبـا معاذ, يقول: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول: أوْفُوا بـالعُقُودِ بـالعهود.
8650ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, عن معمر, عن قتادة فـي قوله: أوْفُوا بـالعُقُودِ قال: بـالعهود.
8651ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: أوْفُوا بـالعُقُودِ قال: هي العهود.
8652ـ حدثنـي الـحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: سمعت الثوري يقول: أوْفُوا بـالعُقُودِ قال: بـالعهود.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, مثله.
قال أبو جعفر: والعقود: جمع عقد, وأصل العقد: عقد الشيء بغيره, وهو وصله به, كما تعقد الـحبل بـالـحبل: إذا وُصِل به شدّا, يقال منه: عقد فلان بـينه وبـين فلان عقدا فهو يعقده, ومنه قول الـحطيئة:
قَوْمٌ إذَا عَقَدُوا عَقْدا لـجارِهِمُشَدّوا العِناجَ وشَدّوا فوْقَهُ الكَرَبـا
وذلك إذا واثقه علـى أمر, وعاهده علـيه عهدا بـالوفـاء له بـما عاقده علـيه, من أمان وذمة, أو نصرة, أو نكاح, أو بـيع, أو شركة, أو غير ذلك من العقود.
ذكر من قال الـمعنى الذي ذكرنا عمن قاله فـي الـمراد من قوله: أوْفُوا بـالعُقُودِ.
8653ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة فـي قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أوْفُوا بـالعُقُودِ أي بعقد الـجاهلـية. ذكر لنا أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «أوْفُوا بعَقْدِ الـجاهِلِـيّةِ, وَلا تُـحْدِثُوا عَقْدا فـي الإسْلامِ». وذكر لنا أن فرات بن حيان العجلـيّ سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حلف الـجاهلـية, فقال نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم: «لعَلّكَ تَسألُ عَنْ حِلْفِ لْـخَمٍ وَتْـيـمِ اللّهِ؟» فقال: نعم يا نبـيّ الله, قال: «لا يَزِيدُهُ الإسْلامُ إلاّ شِدّةً».
8654ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: حدثنا معمر, عن قتادة: أوْفُوا بـالعُقُودِ قال: عقود الـجاهلـية: الـحلف.
وقال آخرون: بل هي الـحلف التـي أخذ الله علـى عبـاده بـالإيـمان به وطاعته فـيـما أحلّ لهم وحرم علـيهم. ذكر من قال ذلك:
8655ـ حدثنـي الـمثنى, قال: أخبرنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس, قوله: أوْفُوا بـالعُقُودِ يعنـي: ما أُحِلّ, وما حرّم, وما فُرض, وما حدّ فـي القرآن كله, فلا تغدروا ولا تنكُثُو ثم شدّد ذلك فقال: وَالّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أمَرَ اللّهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ... إلـى قوله: سُوءُ الدّارِ.
8656ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: أوْفُوا بـالعُقُودِ ما عقد الله علـى العبـاد مـما أحلّ لهم وحرّم علـيهم.
وقال آخرون: بل هي العقود التـي يتعاقدها الناس بـينهم ويعقدها الـمرء علـى نفسه. ذكر من قال ذلك:
8657ـ حدثنا سفـيان بن وكيع, قال: ثنـي أبـي, عن موسى بن عبـيدة, عن أخيه عبد الله بن عبـيدة, قال: العقود خمس: عُقدة الإيـمان, وعقدة النكاح, وعقدة العهد, وعقدة البـيع, وعقدة الـحِلف.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا وكيع. عن موسى بن عبـيدة, عن مـحمد بن كعب القُرَظِيّ أو عن أخيه عبد الله بن عبـيدة, نـحوه.
حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أوْفُوا بـالعُقُودِ قال: عقد العهد وعقد الـيـمين, وعقد الـحلف, وعقد الشركة, وعقد النكاح. قال: هذه العقود خمس.
8658ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عتبة بن سعيد الـحمصي, قال: حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلـم, قال: حدثنا أبـي فـي قول الله جلّ وعزّ: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أوْفُوا بـالعُقُودِ قال: العقود خمس: عقدة النكاح, وعقد الشركة, وعقد الـيـمين, وعقدة العهد, وعقدة الـحلف.
وقال آخرون: بل هذه الاَية أمر من الله تعالـى لأهل الكتاب بـالوفـاء بـما أخذ به ميثاقهم من العمل بـما فـي التوراة والإنـجيـل فـي تصديق مـحمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به من عند الله. ذكر من قال ذلك:
8659ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج: أوْفُوا بـالعُقُودِ قال: العهود التـي أخذها الله علـى أهل الكتاب أن يعملوا بـما جاءهم.
8660ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي اللـيث, قال: ثنـي يونس, قال: قال مـحمد بن مسلـم. قرأت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتب لعمرو بن حزم حين بعثه إلـى نـجران, فكان الكتاب عند أبـي بكر بن حزم, فـيه: هذا بـيان من الله ورسوله يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أوْفُوا بـالعُقُودِ. فكتب الاَيات منها, حتـى بلغ: إنّ اللّهَ سَرِيعُ الـحِسابِ.
وأولـى الأقوال فـي ذلك عندنا بـالصواب ما قاله ابن عبـاس, وأن معناه: أوفوا يا أيها الذين آمنوا بعقود الله التـي أوجبها علـيكم وعقدها, فـيـما أحلّ لكم وحرّم علـيكم, وألزمكم فرضه, وبـين لكم حدوده.
وأنـما قلنا ذلك أولـى بـالصواب من غيره من الأقوال, لأن الله جلّ وعزّ أتبع ذلك البـيان عما أحلّ لعبـاده وحرّم علـيهم وما أوجب علـيهم من فرائضه, فكان معلوما بذلك أن قوله: أوْفُوا بـالعُقُودِ أمر منه عبـاده بـالعمل بـما ألزمهم من فرائضه وعقوده عقـيب ذلك, ونهي منه لهم عن نقض ما عقده علـيهم منه, مع أن قوله: أوْفُوا بـالعُقُودِ أمر منه بـالوفـاء بكلّ عقد أذن فـيه, فغير جائز أن يخصّ منه شيء حتـى تقوم حجة بخصوص شيء منه يجب التسلـيـم لها. فإذ كان الأمر فـي ذلك كما وصفنا, فلا معنى لقول من وجّه ذلك إلـى معنى الأمر بـالوفـاء ببعض العقود التـي أمر الله بـالوفـاء بها دون بعض.
وأما قوله: أوْفُوا فإن للعرب فـيه لغتـين: إحداهما: «أوفوا» من قول القائل: أوفـيت لفلان بعهده أو فـي له به والأخرى من قولهم: وَفَـيْتُ له بعهده أفـي. والإيفـاء بـالعهد: إتـمامه علـى ما عُقد علـيه من شروطه الـجائزة.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيـمَةُ الأنْعامِ.
اختلف أهل التأويـل فـي بهيـمة الأنعام التـي ذكر الله عزّ ذكره فـي هذه الاَية أنه أحلها لنا, فقال بعضهم: هي الأنعام كلها. ذكر من قال ذلك:
8661ـ حدثنا سفـيان بن وكيع, قال: حدثنا عبد الأعلـى, عن عوف, عن الـحسن, قال: بهيـمة الأنعام: هي الإبل والبقر والغنـم.
8662ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيـمَةُ الأنْعامِ قال: الأنعام كلها.
8663ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا ابن مفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيـمَةُ الأنْعامِ قال: الأنعام كلها.
8664ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع بن أنس فـي قوله: أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيـمَةُ الأنْعامِ قال: الأنعام كلها.
8665ـ حُدثت عن الـحسين بن الفرج, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: بَهِيـمَةُ الأنْعامِ: هي الأنعام.
وقال آخرون: بل عنـي بقوله: أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيـمَةُ الأنْعامِ: أجنة الأنعام التـي توجد فـي بطون أمهاتها إذا نُـحِرت أو ذبحت ميتة. ذكر من قال ذلك:
8666ـ حدثنـي الـحرث بن مـحمد, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: أخبرنا أبو عبد الرحمن الفزاري, عن عطية العوفـيّ, عن ابن عمر فـي قوله: أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيـمَةُ الأنْعامِ قال: ما فـي بطونها. قال: قلت: إن خرج ميتا آكلُه؟ قال: نعم.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا يحيى بن زكريا, عن إدريس الأودي, عن عطية, عن ابن عمر نـحوه, وزاد فـيه, قال: نعم, هو بـمنزلة رِئتها وكبدها.
8667ـ حدثنا ابن حميد وابن وكيع, قالا: حدثنا جرير, عن قابوس, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قال: الـجنـين من بهيـمة الأنعام فكلوه.
8668ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن مِسْعر وسفـيان, عن قابوس, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: أن بقرة نُـحِرت, فوجد فـي بطنها جنـين, فأخذ ابن عبـاس بذَنَب الـجنـين, فقال: هذا من بهيـمة الأنعام التـي أحلت لكم.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن يـمان, عن سفـيان, عن قابوس, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قال: هو من بهيـمة الأنعام.
8669ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو عاصم ومؤمّل, قالا: حدثنا سفـيان, عن قابوس, عن أبـيه, قال: ذبحنا بقرة, فإذا فـي بطنها جنـين, فسألنا ابن عبـاس, فقال: هذه بهيـمة الأنعام.
وأولـى القولـين بـالصواب فـي ذلك قول من قال: عَنَى بقوله: أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيـمَةُ الأنْعامِ: الأنعام كلها, أجِنَتّها وسِخالها وكبـارها, لأن العرب لا تـمتنع من تسمية جميع ذلك بهيـمة وبهائم, ولـم يخصص الله منها شيئا دون شيء, فذلك علـى عمومه وظاهره حتـى تأتـي حجة بخصوصه يجب التسلـيـم لها. وأما النعم فإنها عند العرب: أسم للإبل والبقر والغنـم خاصة, كما قال جلّ ثناؤه: والأنْعامَ خَـلَقَها لَكُمْ فِـيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ ثم قال: والـخَيْـلَ وَالبِغالَ والـحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً ففصل جنس النعم من غيرها من أجناس الـحيوان. وأما بهائمها فإنها أولادها. وإنـما قلنا: يـلزم الكبـار منها اسم بهيـمة كما يـلزم الصغار, لأن معنى قول القائل: بهيـمة الأنعام, نظير قوله: ولد الأنعام فلـما كان لا يسقط معنى الولادة عنه بعد الكبر, فكذلك لا يسقط عنه اسم البهيـمة بعد الكبر. وقد قال قوم: بهيـمة الأنعام: وحشيها كالظبـاء وبقر الوحش والـحمر.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: إلاّ ما يُتْلَـى عَلَـيْكُمْ.
اختلف أهل التأويـل فـي الذي عناه الله بقوله: إلاّ ما يُتْلَـى عَلَـيْكُمْ فقال بعضهم: عنى الله بذلك: أحلت لكم أولاد الإبل والبقر والغنـم, إلا ما بـين الله لكم فـيـما يتلـى علـيكم بقوله: حُرّمَتْ عَلَـيْكُمُ الـمَيْتَةُ وَالدّمُ... الاَية. ذكر من قال ذلك:
8670ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: بَهِيـمَةُ الإنْعامِ إلاّ ما يُتْلَـى عَلَـيْكُمْ: إلا الـميتة وما ذكر معها.
8671ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيـمَةُ الأنْعامِ إلاّ ما يُتْلَـى عَلَـيْكُمْ: أي من الـميتة التـي نهى الله عنها وقدّم فـيها.
8672ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة: إلاّ ما يُتْلَـى عَلَـيْكُمْ قال: إلا الـميتة, وما لـم يذكر اسم الله علـيه.
8673ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: إلاّ ما يُتْلَـى عَلَـيْكُمْ: الـميتة, والدم, ولـحم الـخنزير.
8674ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس: أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيـمَةُ الأنْعامِ إلاّ ما يُتْلَـى عَلَـيْكُمْ: الـميتة ولـحم الـخنزير.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس: أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيـمَةُ الأنْعامِ إلاّ ما يُتْلَـى عَلَـيْكُمْ: هي الـميتة والدم ولـحم الـخنزير, وما أهلّ لغير الله به.
وقال آخرون: بل الذي استثنى الله بقوله: إلاّ ما يُتْلَـى عَلَـيْكُمْ الـخنزير. ذكر من قال ذلك:
8675ـ حدثنـي عبد الله بن داود, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس: إلاّ ما يُتْلَـى عَلَـيْكُمْ قال: الـخنزير.
8676ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: إلاّ ما يُتْلَـى عَلَـيْكُمْ يعنـي: الـخنزير.
وأولـى التأويـلـين فـي ذلك بـالصواب تأويـل من قال: عنـي بذلك: إلا ما يتلـى علـيكم من تـحريـم الله ما حرّم علـيكم بقوله: حُرّمَتْ عَلَـيْكُمُ الـمَيْتَةُ... الاَية, لأن الله عزّ وجلّ استثنى مـما أبـاح لعبـاده من بهيـمة الأنعام ما حرّم علـيهم منها, والذي حرّم علـيهم منها ما بـينه فـي قوله: حُرّمَتْ عَلَـيْكُمُ الـمَيْتَةُ وَالدّمُ ولَـحْمُ الـخِنْزِيرِ وإن كان حرّمه الله علـينا فلـيس من بهيـمة الأنعام فـيستثنى منها, فـاستثناء ما حرّم علـينا مـما دخـل فـي جملة ما قبل الاستثناء أشبه من استثناء ما حرّم مـما لـم يدخـل فـي جملة ما قبل الاستثناء.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: غيرَ مُـحِلّـى الصّيْدِ وأنْتُـمْ حُرُمٌ إنّ اللّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ.
اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك, فقال بعضهم: معنى ذلك: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بـالعقود غير مـحلـى الصيد وأنتـم حرم, أحلت لكم بهيـمة الأنعام. فلذلك علـى قولهم من الـمؤخر الذي معناه التقديـم, ف «غير» منصوب علـى قول قائلـي هذه الـمقالة علـى الـحال مـما فـي قوله: «أوفوا», من ذكر الذين آمنوا. وتأويـل الكلام علـى مذهبهم: أوفوا أيها الـمؤمنون بعقود الله التـي عقدها علـيكم فـي كتابه, لا مـحلـين الصيد وأنتـم حرم.
وقال آخرون: معنى ذلك: أحلت لكم بهيـمة الأنعام الوحشية من الظبـاء والبقر والـحمر, غير مـحلـي الصيد: غير مستـحلـي اصطيادها, وأنتـم حرم, إلا ما يتلـى علـيكم. ف «غير» علـى قول هؤلاء منصوب علـى الـحال من الكاف والـميـم اللتـين فـي قوله: «لَكُمْ» بتأويـل: أحلت لكم أيها الذين آمنوا بهيـمة الأنعام, لا مستـحّلـي اصطيادها فـي حال إحرامكم.
وقال آخرون: معنى ذلك: أحلت لكم بهيـمة الأنعام كلها, إلا ما يتلـى علـيكم, إلا ما كان منها وحشيا, فإنه صيد فلا يحلّ لكم وأنتـم حرم. فكأنّ من قال ذلك, وجه الكلام إلـى معنى: أحلت لكم بهيـمة الأنعام كلها, إلا ما يتلـى علـيكم, إلا ما يُبـيّن لكم من وحشيها, غير مستـحلـي اصطيادها فـي حال إحرامكم, فتكون «غير» منصوبة علـى قولهم علـى الـحال من الكاف والـميـم فـي قوله: إلاّ ما يُتْلَـى عَلَـيْكُمْ. ذكر من قال ذلك:
8677ـ حدثنا سفـيان بن وكيع, قال: حدثنا عبـيد الله, عن أبـي جعفر الرازي, عن الربـيع بن أنس, قال: جلسنا إلـى مُطَرّفَ بن الشّخّير وعنده رجل, فحدثهم فقال: أحلت لكم بهيـمة الأنعام صيدا, غير مـحلـي الصيد وأنتـم حرم, فهو علـيكم حرام. يعنـي: بقر الوحش والظبـاء وأشبـاهه.
8678ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع بن أنس فـي قوله: أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيـمَةُ الأنْعامِ إلاّ ما يُتْلَـى عَلَـيْكُمْ غيرَ مُـحِلّـي الصّيْدِ وأنْتُـمْ حُرُمٌ قال: الأنعام كلها حِلّ إلا ما كان منها وحشيّا, فإنه صيد, فلا يحلّ إذا كان مـحرِما.
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب علـى ما تظاهر به تأويـل أهل التأويـل فـي قوله: أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيـمَةُ الأنْعامِ من أنها الأنعام وأجنتها وسخالها, وعلـى دلالة ظاهر التنزيـل قول من قال: معنى ذلك: أوفوا بـالعقود غير مـحلـي الصيد وأنتـم حرم, فقد أحلت لكم بهيـمة الأنعام فـي حال إحرامكم أو غيرها من أحوالكم, إلا ما يتلـى علـيكم تـحريـمه من الـميتة منها والدم وما أهلّ لغير الله به. وذلك أن قوله: إلاّ ما يُتْلَـى عَلَـيْكُمْ لو كان معناه: إلا الصيد, لقـيـل: إلا ما يتلـى علـيكم من الصيد غير مـحلـيه, وفـي ترك الله وصْل قوله: إلاّ ما يُتْلَـى عَلَـيْكُمْ بـما ذكرت, وإظهار ذكر الصيد فـي قوله: غيرَ مُـحِلّـي الصّيْدِ أوضح الدلـيـل علـى أن قوله: إلاّ ما يُتْلَـى عَلَـيْكُمْ خبر متناهيةٌ قصته, وأن معنى قوله: غيرَ مُـحِلّـي الصّيْدِ منفصل منه. وكذلك لو كان قوله: أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيـمَةُ الأنْعامِ مقصودا به قصد الوحش, لـم يكن أيضا لإعادة ذكر الصيد لفـي قوله: غيرَ مُـحِلّـي الصّيْدِ وجه وقد مضى ذكره قبل, ولقـيـل: أحلت لكم بهيـمة الأنعام, إلا ما يتلـى علـيكم, غير مـحلـيه وأنتـم حرم. وفـي أظهاره ذكر الصيد فـي قوله: غيرَ مُـحِلّـي الصّيْدِ أبـين الدلالة علـى صحة ما قلنا فـي معنى ذلك.
فإن قال قائل: فإن العرب ربـما أظهرت ذكر الشيء بـاسمه وقد جرى ذكره بـاسمه؟ قـيـل: ذلك من فعلها ضرورة شعر, ولـيس ذلك بـالفصيح الـمستعمل من كلامهم, وتوجيه كلام الله إلـى الأفصح من لغات من نزل كلامه بلغته أولـى ما وجد إلـى ذلك سبـيـل من صرفه إلـى غير ذلك.
فمعنى الكلام إذن: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بعقود الله التـي عقد علـيكم, مـما حرّم وأحلّ, لا مـحلـين الصيد فـي حَرمكم, ففـيـما أحلّ لكم من بهيـمة الأنعام الـمذكّاة دون ميتتها متسع لكم ومستغنى عن الصيد فـي حال إحرامكم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: إنّ اللّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيد.
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: إن الله يقضي فـي خـلقه ما يشاء من تـحلـيـل ما أراد تـحلـيـله, وتـحريـم ما أراد تـحريـمه, وإيجاب ما شاء إيجابه علـيهم, وغير ذلك من أحكامه وقضاياه, فأوفوا أيها الـمؤمنون له بـما عقد علـيكم من تـحلـيـل ما أحلّ لكم وتـحريـم ما حرّم علـيكم, وغير ذلك من عقوده فلا تنكُثُوها ولا تنقضوها. كما:
8679ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: إنّ اللّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ: إن الله يحكم ما أراد فـي خـلقه, وبـين لعبـاده, وفرض فرائضه, وحدّ حدوده, وأمر بطاعته, ونَهَى عن معصيته.
الآية : 2
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلآ آمّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّن رّبّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرّ وَالتّقْوَىَ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ }..
اختلف أهل التأويـل فـي معنى قول الله: لا تُـحِلّوا شَعائِرَ اللّهِ فقال بعضهم: معناه: لا تـحلوا حُرُمات الله, ولا تتعدّوا حدوده. كأنهم وجهوا الشعائر إلـى الـمعالـم, وتأوّلوا لا تـحلوا شعائر الله: معالـم حدود الله, وأمره, ونهيه, وفرائضه. ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عبد الوهاب الثقـفـي, قال: حدثنا حبـيب الـمعلـم, عن عطاء أنه سئل عن شعائر الله, فقال: حرمات الله: اجتناب سخط الله, واتبـاع طاعته, فذلك شعائر الله.
وقال آخرون: معنى قوله: لا تُـحِلّوا حَرَمَ الله. فكأنهم وجهوا معنى قوله: شَعائِرَ اللّهِ: أي معالـم حَرَم الله من البلاد. ذكر من قال ذلك:
8680ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُـحِلّوا شَعائِرَ اللّهِ قال: أما شعائر الله: فحُرَم الله.
وقال آخرون: معنى ذلك: لا تـحلوا مناسك الـحجّ فتضيعوها. وكأنهم وجهوا تأويـل ذلك إلـى: لا تـحلوا معالـم حدود الله التـي حدّها لكم فـي حجكم. ذكر من قال ذلك:
8681ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج, قال ابن عبـاس: لا تُـحِلّوا شَعائِرَ اللّهِ قال: مناسك الـحجّ.
8682ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: حدثنا معاوية, عن علـيّ ابن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس, قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُـحِلّوا شَعائِرَ اللّهِ قال: كان الـمشركون يحجون البـيت الـحرام, ويهُدون الهدايا, ويعظمون حرمة الـمشاعر, ويتـجرون فـي حجهم, فأراد الـمسلـمون أن يُغيروا علـيهم, فقال الله عزّ وجلّ: لا تُـحِلّوا شَعائِرَ اللّهِ.
8683ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: شَعائِرَ اللّهِ: الصفـا والـمروة, والهدي, والبدن, كل هذا من شعائر الله.
حدثنـي الـمثنى, قال: ثنـي أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
وقال آخرون: معنى ذلك: لا تـحلوا ما حرّم الله علـيكم فـي حال إحرامكم. ذكر من قال ذلك:
8684ـ حدثنا مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: لا تُـحِلّوا شَعائِرَ اللّهِ قال: شعائر الله: ما نهى الله عنه أن تصيبه وأنت مـحرم.
وكأنّ الذين قالوا هذه الـمقالة, وجهوا تأويـل ذلك إلـى: لا تـحلوا معالـم حدود الله التـي حرّمها علـيكم فـي إحرامكم.
وأولـى التأويلات بقوله: لا تُـحِلّوا شَعائِرَ اللّهِ قول عطاء الذي ذكرناه من توجيهه معنى ذلك إلـى: لا تـحلوا حُرُمات الله, ولا تضيعوا فرائضه, لأن الشعائر جمع شعيرة, والشعيرة: فعيـلة من قول القائل: قد شعر فلان بهذا الأمر: إذا علـم به, فـالشعائر: الـمعالـم من ذلك. وإذا كان ذلك كذلك, كان معنى الكلام: لا تستـحلوا أيها الذين آمنوا معالـم الله, فـيدخـل فـي ذلك معالـم الله كلها فـي مناسك الـحجّ, من تـحريـم ما حرم الله إصابته فـيها علـى الـمـحرم, وتضيـيع ما نهى عن تضيـيعه فـيها, وفـيـما حرم من استـحلال حرمات حرمه, وغير ذلك من حدوده وفرائضه وحلاله وحرامه, لأن كل ذلك من معالـمه وشعائره التـي جعلها أمارات بـين الـحقّ والبـاطل, يُعلـم بها حلاله وحرامه وأمره ونهيه.
وإنـما قلنا ذلك القول أولـى بتأويـل قوله تعالـى: لا تُـحِلّوا شَعائِرَ اللّهِ لأن الله نهى عن استـحلال شعائره ومعالـم حدوده, وإحلالها نهيا عامّا من غير اختصاص شيء من ذلك دون شيء, فلـم يجز لأحد أن يوجه معنى ذلك إلـى الـخصوص إلا بحجة يجب التسلـيـم لها, ولا حجة بذلك كذلك.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلا الشّهْرَ الـحَرَامَ.
يعنـي جلّ ثناؤه بقوله: وَلا الشّهْرَ الـحَرَامَ: ولا تستـحلوا الشهر الـحرام بقتالكم به أعداءكم من الـمشركين, وهو كقوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الـحَرَامِ قِتالٍ فِـيهِ قُلْ قِتالٌ فِـيهِ كَبِـيرٌ.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال ابن عبـاس وغيره. ذكر من قال ذلك:
8685ـ حدثنـي مـحمدقال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: وَلا الشّهْرَ الـحَرَامَ يعنـي: لا تستـحلوا قتالاً فـيه.
8686ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, قال: كان الـمشرك يومئذ لا يُصَدّ عن البـيت, فأمروا أن لا يقاتَلوا فـي الشهر الـحرام ولا عند البـيت.
وأما الشهر الـحرام الذي عناه الله بقوله: وَلا الشّهْرَ الـحَرَامَ فرجب مضر, وهو شهر كانت مضر تـحرّم فـيه القتال. وقد قـيـل: هو فـي هذا الـموضع ذو القَعدة. ذكر من قال ذلك:
8687ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة, قال: هو ذو القعدة.
وقد بـينا الدلالة علـى صحة ما قلنا فـي ذلك فـيـما مضى, وذلك فـي تأويـل قوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الـحَرَامِ قِتالٍ فِـيهِ.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلا الهَدْيَ وَلا القَلائِدَ.
أما الهدي: فهو ما أهداه الـمرء من بعير أو بقرة أو شاة أو غير ذلك إلـى بـيت الله, تقرّبـا به إلـى الله وطلب ثوابه. يقول الله عزّ وجلّ: فلا تستـحلوا ذلك فتغضِبوا أهله علـيه, ولا تـحولوا بـينهم وبـين ما أهدوا من ذلك أن يبلغوا به الـمـحلّ الذي جعله الله مَـحِله من كعبته. وقد رُوي عن ابن عبـاس أن الهدي إنـما يكون هديا ما لـم يقلّد.
8688ـ حدثنـي بذلك مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: وَلا الهَدْيَ قال: الهدي ما لـم يقلد, وقد جعل علـى نفسه أن يهديه ويقلده.
وأما قوله: وَلا القَلائِدَ فإنه يعنـي: ولا تـحلوا أيضا القلائد.
ثم اختلف أهل التأويـل فـي القلائد التـي نهى الله عزّ وجلّ عن إحلالها, فقال بعضهم: عنى بـالقلائد: قلائد الهدي وقالوا: إنـما أراد الله بقوله: وَلا الهَدْيَ وَلا القَلائِدَ: ولا تـحلوا الهدايا الـمقلدات منها وغير الـمقلدات فقوله: وَلا الهَدْيَ ما لـم يقلد من الهدايا, وَلا القَلائِدَ الـمقلد منها. قالوا: ودلّ بقوله: وَلا القَلائِدَ علـى معنى ما أراد من النهي عن استـحلال الهدايا الـمقلدة. ذكر من قال ذلك:
8689ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قوله: وَلا القَلائِدَ القلائد: مقلدات الهدي, وإذا قلد الرجل هديه فقد أحرم, فإن فعل ذلك وعلـيه قميصه فلـيخـلعه.
وقال آخرون: يعنـي ذلك: القلائد التـي كان الـمشركون يتقلدونها إذا أرادوا الـحجّ مقبلـين إلـى مكة من لـحاء السّمُر, وإذا خرجوا منها إلـى منازلهم منصرفـين منها, من الشّعر. ذكر من قال ذلك:
8690ـ حدثنـي الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة: لا تُـحِلّوا شَعائِرَ اللّهِ وَلا الشّهْرَ الـحَرَامَ قال: كان الرجل فـي الـجاهلـية إذا خرج من بـيته يريد الـحجّ تقلد من السّمُر فلـم يعرض له أحد, فإذا رجع تقلد قلادة شعر فلـم يعرض له أحد.
وقال آخرون: بل كان الرجل منهم يتقلد إذا أراد الـخروج من الـحرم أو خرج من لـحاء شجر الـحرم فـيأمن بذلك من سائر قبـائل العرب أن يعرضوا له بسوء. ذكر من قال ذلك:
8691ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن مالك بن مغول, عن عطاء: وَلا القَلائِدَ قال: كانوا يتقلدون من لـحاء شجر الـحرم, يأمنون بذلك إذا خرجوا من الـحرم, فنزلت: لا تُـحِلّوا شَعائِرَ اللّهِ... الاَية, وَلا الهَدْيَ وَلا القَلائِدَ.
8692ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وَلا القَلائِدَ قال: القلائد: اللـحاء فـي رقاب الناس والبهائم أمنٌ لهم.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
8693ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قوله: وَلا الهَدْيَ وَلا القَلائِدَ قال: إن العرب كانوا يتقلدون من لـحاء شجر مكة, فـيقـيـم الرجل بـمكانه, حتـى إذا انقضت الأشهر الـحرم فأراد أن يرجع إلـى أهله قلد نفسه وناقته من لـحاء الشجر, فـيأمن حتـى يأتـي أهله.
8694ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال ابن زيد فـي قوله: وَلا القَلائِدَ قال: القلائد: كان الرجل يأخذ لـحاء شجرة من شجر الـحرم فـيتقلدها, ثم يذهب حيث شاء, فـيأمن بذلك, فذلك القلائد.
وقال آخرون: إنـما نهى الله الـمؤمنـين بقوله: وَلا القَلائِدَ أن ينزعوا شيئا من شجر الـحرم فـيتقلّدوه كما كان الـمشركون يفعلون فـي جاهلـيتهم. ذكر من قال ذلك:
8695ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن عبد الـملك, عن عطاء فـي قوله: وَلا الهَدْيَ وَلا القَلائِدَ كان الـمشركون يأخذون من شجر مكة من لـحاء السّمُر, فـيتقلدونها, فـيأمنون بها من الناس, فنهى الله أن يُنزع شجرها فـيُتقلد.
8696ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عبـيد الله, عن أبـي جعفر الرازي, عن الربـيع بن أنس, قال: جلسنا إلـى مطرف بن الشخير, وعنده رجل, فحدثهم فـي قوله: وَلا القَلائِدَ قال: كان الـمشركون يأخذون من شجر مكة من لـحاء السّمُر فـيتقلدون, فـيأمنون بها فـي الناس, فنهى الله عزّ ذكره أن ينزل شجرها فـيتقلد.
والذي هو أولـى بتأويـل قوله: وَلا القَلائِدَ إذ كانت معطوفة علـى أوّل الكلام, ولـم يكن فـي الكلام ما يدلّ علـى انقطاعها عن أوله, ولا أنه عنى بها النهى عن التقلد أو اتـخاذ القلائد من شيء أن يكون معناه: ولا تـحلوا القلائد. فإذا كان ذلك بتأويـله أولـى, فمعلوم أنه نهي من الله جلّ ذكره عن استـحلال حرمة الـمقلد هديا كان ذلك أو إنسانا, دون حرمة القلادة وأن الله عزّ ذكره إنـما دلّ بتـحريـمه حرمة القلادة علـى ما ذكرنا من حرمة الـمقلد, فـاجتزأ بذكره القلائد من ذكر الـمقلد, إذ كان مفهوما عند الـمخاطبـين بذلك معنى ما أريد به.
فمعنى الاَية إذ كان الأمر علـى ما وصفنا: يا أيها الذين آمنوا لا تـحلوا شعائر الله, ولا الشهر الـحرام, ولا الهدي, ولا الـمقلد بقسميه بقلائد الـحرم.
وقد ذكر بعض الشعراء فـي شعره, ما ذكرنا عمن تأوّل القلائد أنها قلائد لـحاء شجر الـحرم الذي كان أهل الـجاهلـية يتقلدونه, فقال وهو يعيب رجلـين قتلا رجلـين كانا تقلدا ذلك:
أَلـمْ تَقْتُلا الـحِرْجَيْنِ إذْ أعْوَرَاكمايُـمِرّانِ بـالأيْدِي اللّـحاءَ الـمُضَفّرَا
والـحِرجان: الـمقتولان كذلك. ومعنى قوله: أعوراكما: أمكناكما من عورتهما.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلا آمّينَ البَـيْتَ الـحَرَامَ.
يعنـي بقوله عزّ ذكرهوَلا آمّينَ البَـيْتَ الـحَرَامَ: ولا تـحلوا قاصدين البـيت الـحرام العامدية, تقول منه: أمـمت كذا: إذا قصدته وعَمَدته, وبعضهم يقول: يَـمَـمْتُه, كما قال الشاعر:
إنّـي كَذاك إذَا ما ساءَنِـي بَلَدٌيَـمَـمْتُ صدْرَ بَعِيرِي غيرَهُ بَلَدَا
والبـيت الـحرام: بـيت الله الذي بـمكة وقد بـينت فـيـما مضى لـم قـيـل له الـحرام. يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبّهِمْ يعنـي: يـلتـمسون أربـاحا فـي تـجارتهم من الله. وَرِضْوَانا يقول: وأن يرضى الله عنهم بنُسُكهم. وقد قـيـل: إن هذه الاَية نزلت فـي رجل من بنـي ربـيعة يقال له الـحُطَم. ذكر من قال ذلك:
8697ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: أقبل الـحُطَم بن هند البكريّ, ثم أحد بنـي قـيس بن ثعلبة, حتـى أتـي النبـيّ صلى الله عليه وسلم وحده, وخـلّف خيـله خارجة من الـمدينة, فدعاه فقال: إلامَ تدعو؟ فأخبره, وقد كان النبـيّ صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «يَدْخُـلُ الـيَوْمَ عَلَـيْكُمْ رَجُلٌ مِنْ رَبِـيَعةَ, يَتَكَلّـمُ بلسَانِ شَيْطَانٍ». فلـما أخبره النبـيّ صلى الله عليه وسلم قال: انظروا لعّلـي أُسلـم, ولـي من أشاوره. فخرج من عنده, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ دَخَـلَ بِوَجْهِ كافِرٍ, وَخَرَجَ بعَقِبِ غادِرٍ». فمرّ بسرح من سرح الـمدينة, فساقه, فـانطلق به وهو يرتـجز:
قَدْ لَفّها اللّـيْـلُ بسَوّاقٍ حُطَمْلَـيْسَ بِرَاعِي إبِلٍ وَلا غَنَـمٍ
وَلا بِجَزّارٍ عَلـى ظَهْرِ الوَضَمْبـاتُوا نِـياما وَابْنُ هِنْدٍ لَـمْ يَنَـمْ
بـاتَ يُقاسِيها غُلامٌ كالزّلَـمْخَدَلّـجُ السّاقَـيْنِ مَـمْسُوحُ القَدَمْ
ثم أقبل من عام قابل حاجّا قد قلد وأهدى, فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إلـيه, فنزلت هذه الاَية, حتـى بلغ: وَلا آمّينَ البَـيْتَ الـحَرَامَ قال له ناس من أصحابه: يا رسول الله خـلّ بـيننا وبـينه, فإنه صاحبنا قال: «إنّهُ قَدْ قَلّدَ». قالوا: إنـما هي شيء كنا نصنعه فـي الـجاهلـية. فأبى علـيهم, فنزلت هذه الاَية.
8698ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة, قال: قدم الـحطم أخو بنـي ضبـيعة بن ثعلبة البكري الـمدينة فـي عير له يحمل طعاما, فبـاعه. ثم دخـل علـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فبـايعه, وأسلـم. فلـما ولـى خارجا نظر إلـيه, فقال لـمن عنده: «لَقَدْ دَخَـلَ علـيّ بوَجْهِ فَـاجِرِ ووَلّـى بقَـفَـا غاَدِرٍ». فلـما قدم الـيـمامة ارتدّ عن الإسلام, وخرج فـي عير له تـحمل الطعام فـي ذي القعدة, يريد مكة فلـما سمع به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, تهيأ للـخروج إلـيه نفر من الـمهاجرين والأنصار لـيقتطعوه فـي عيره, فأنزل الله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُـحِلّوا شعَائِرَ اللّهِ... الاَية, فـانتهى القوم. قال ابن جريج: قوله: وَلا آمّينَ البَـيْتَ الـحَرَامَ قال: ينهى عن الـحجاج أن تقطع سبلهم. قال: وذلك أن الـحطم قدم علـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم لـيرتاد وينظر, فقال: إنـي داعية قومي, فـاعرض علـيّ ما تقول قال له: «أدْعُوكَ إلـى الله أنْ تَعْبُدَهُ ولا تُشْرِكَ به شَيْئا, وتُقِـيـمَ الصّلاةَ, وتُؤْتـي الزّكَاةَ, وتَصُومَ شَهْرَ رَمَضَان, وتَـحُجّ البَـيْتَ». قال: الـحطم: فـي أمرك هذا غلظة, أرجع إلـى قومي فأذكر لهم ما ذكرت, فإن قبلوه أقبلت معهم, وإن أدبروا كنت معهم. قال له: «ارْجِعْ» فلـما خرج, قال: «لَقَدْ دَخَـلَ عَلـيّ بَوجْهِ كَافِرٍ وخَرَجَ مِنْ عِنْدي بُعْقَبـي غَادِرٍ, وما الرّجُلُ بـمُسْلِـمٍ». فمرّ علـى سرح لأهل الـمدينة, فـانطلق به فطلبه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, ففـاتهم. وقدم الـيـمامة, وحضر الـحجّ, فجهز خارجا, وكان عظيـم التـجارة, فـاستأذنوا أن يتلقوه ويأخذوا ما معه, فأنزل الله عزّ وجلّ: لا تُـحِلّوا شَعائِرَ اللّهِ وَلا الشّهْرَ الـحَرَامَ وَلا الهَدْيَ وَلا القَلائِدَ وَلا آمّينَ البَـيْتَ الـحَرَامَ.
8699ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَلا آمّينَ البَـيْتَ الـحَرَامَ... الاَية, قال: هذا يوم الفتـح جاء ناس يأمّون البـيت من الـمشركين, يُهلّون بعمرة, فقال الـمسلـمون: يا رسول الله إنـما هؤلاء مشركون, فمثل هؤلاء فلن ندعهم إلا أن نغير علـيهم فنزل القرآن: وَلا آمّينَ البَـيْتَ الـحَرَامَ.
8700ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: وَلا آمّينَ البَـيْتَ الـحَرَامَ يقول: من توجّهَ حاجّا.
8701ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: أخبرنا هشيـم, عن جويبر, عن الضحاك فـي قوله: وَلا آمّينَ البَـيْتَ الـحَرَامَ يعنـي: الـحاج.
8702ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عبـيد الله بن موسى, عن أبـي جعفر الرازي, عن الربـيع بن أنس, قال: جلسنا إلـى مطرف بن الشخير وعنده رجل, فحدثهم فقال: وَلا آمّينَ البَـيْتَ الـحَرَامَ قال: الذين يريدون البـيت.
ثم اختلف أهل العلـم فـيـما نسخ من هذه الاَية بعد إجماعهم علـى أن منها منسوخا, فقال بعضهم: نسخ جميعها. ذكر من قال ذلك:
8703ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا جرير, عن بـيان, عن عام, قال: لـم ينسخ من الـمائدة إلا هذه الاَية لا تُـحِلّوا شَعائِرَ اللّهِ وَلا الشّهْرَ الـحَرَامَ وَلا الهَدْيَ وَلا القَلائِدَ.
8704ـ حدثنا ابن وجيع, قال: حدثنا يزيد بن هارون, عن سفـيان بن حسين, عن الـحكم, عن مـجاهد: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُـحِلّوا شعَائِرَ اللّهِ نسختها: فـاقْتُلُوا الـمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُـمُوهُمْ.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوري, عن بـيان, عن الشعبـيّ, قال: لـم ينسخ من سورة الـمائدة غير هذه الاَية: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُـحِلّوا شَعائِرَ اللّهِ.
8705ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: لا تُـحِلّوا شَعائِرَ اللّهِ وَلا الشّهْرَ الـحَرَامَ... الاَية, قال: منسوخ. قال: كان الـمشركون يومئذ لا يصدّ عن البـيت, فأمروا أن لا يقاتلوا فـي الأشهر الـحرم ولا عند البـيت, فنسخها قوله: فـاقْتُلُوا الـمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُـموهُمْ.
8706ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو معاوية, عن جويبر, عن الضحاك: لا تُـحِلّوا شَعائِرَ اللّهِ... إلـى قوله: وَلا آمّينَ البَـيْتَ الـحَرَامَ قال: نسختها براءة: فـاقْتُلُوا الـمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُـموهُمْ.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: حدثنا هشيـم, عن الضحاك, مثله.
حدثنا ابن حميد وابن وكيع, قالا: حدثنا جرير, عن منصور, عن حبـيب بن أبـي ثابت: لا تُـحلّوا شَعائِرِ اللّهِ ولا الشّهْرَ الـحَرَامَ وَلا الهَدْيَ وَلا القَلائِد قال: هذا شيء نهي عنه, فترك كما هو.
8707ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُـحِلّوا شَعائِرَ وَلا الشّهْرَ الـحَرامَ وَلا الهَدْيَ وَلا القَلائِدَ وَلا آمّينَ البَـيْتَ الـحَرَامَ قال: هذا كله منسوخ, نسخ هذا أمره بجهادهم كافة.
وقال آخرون: الذي نَسخَ من هذه الاَية, قوله: وَلا الشّهْرَ الـحَرَامَ وَلا الهَدْيَ وَلا القَلائِدَ وَلا آمّينَ البَـيْتَ الـحَرَامَ. ذكر من قال ذلك:
8708ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عبدة بن سلـيـمان, قال: قرأت علـى ابن أبـي عروبة, فقال: هكذا سمعته من قتادة نسخ من الـمائدة: آمّينَ البَـيْتَ الـحَرَامَ نسختها براءة, قال الله: فـاقْتُلُوا الـمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُـمُوهُمْ, وقال: ما كان للْـمُشْرِكِينَ أنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللّهِ شاهِدِينَ عَلـى أنْفُسِهِمْ بـالكُفْرِ, وقال: إنّـما الـمُشْرِكُونَ نَـجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الـمَسْجِدَ الـحَرَامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا وهو العام الذي حجّ فـيه أبو بكر, فنادى فـيه بـالأذان.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا الـحجاج بن الـمنهال, قال: حدثنا همام بن يحيى, عن قتادة, قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُـحِلّوا شَعائِرَ اللّهِ... الاَية, قال: فنسخ منها: آمّينَ البَـيْتَ الـحَرَامَ نسختها براءة, فقال: فـاقْتُلُوا الـمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُـمُوهُمْ, فذكر نـحو حديث عبدة.
8709ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: نزل فـي شأن الـحُطَم: وَلا الهَدْيَ وَلا القَلائِدَ وَلا آميّنَ البَـيْتَ الـحَرَامَ ثم نسخه الله فقال: اقْتُلوهُمْ حَيْثُ ثَقِـفْتُـمُوهُمْ.
8710ـ حدثنـي حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: لا تُـحِلّوا شَعائرَ اللّهِ... إلـى قوله: وَلا آميّنَ البَـيْتَ جميعا, فنهى الله الـمؤمنـين أن يـمنعوا أحدا أن يحجّ البـيت أو يعرضوا له من مؤمن أو كافر, ثم أنزل الله بعد هذا: إنّـما الـمُشْرِكُونَ نَـجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الـمَسْجِدَ الـحَرَامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا, وقال: ما كانَ للْـمُشْرِكِينَ أنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللّهِ, وقال: إنّـما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بـاللّهِ وَالـيَوْمِ الاَخِرِ فنفـي الـمشركين من الـمسجد الـحرام.
8711ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: لا تُـحِلّوا شَعائِرَ اللّهِ وَلا الشّهْرَ الـحَرَامَ... الاَية, قال: منسوخ, كان الرجل فـي الـجاهلـية إذا خرج من بـيته يريد الـحجّ, تقلد من السّمُر فلـم يعرض له أحد, وإذا رجع تقلد قلادة شعر فلـم يعرض له أحد, وكان الـمشرك يومئذ لا يُصَدّ عن البـيت, وأمروا أن لا يقاتلوا فـي الأشهر الـحُرم ولا عند البـيت, فنسخها قوله: فـاقْتُلُوا الـمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُـمُوهُمْ.
وقال آخرون: لـم ينسخ من ذلك شيء إلا القلائد التـي كانت فـي الـجاهلـية يتقلدونها من لـحاء الشجر. ذكر من قال ذلك:
8712ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: لا تُـحِلّوا شعَائِرَ اللّهِ وَلا الشّهْرَ الـحَرَامَ... الاَية, قال أصحاب مـحمد صلى الله عليه وسلم: هذا كله من عمل الـجاهلـية, فعله وإقامته, فحرّم الله ذلك كله بـالإسلام, إلا لـحِاء القلائد, فترك ذلك. وَلا آمّينَ البَـيْتَ الـحَرَامَ فحرّم الله علـى كل أحد إخافَتَهم.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصحة, قول من قال: نسخ الله من هذه الاَية قوله: وَلا الشّهْرَ الـحَرَامَ وَلا الهَدْيَ وَلا القَلائِدَ وَلا آميّنَ البَـيْتَ الـحَرَامَ لإجماع الـجميع علـى أن الله قد أحلّ قتال أهل الشرك فـي الأشهر الـحُرم وغيرها من شهور السنة كلها, وكذلك أجمعوا علـى أن الـمشرك لو قلد عنقه أو ذراعيه لـحاء جميع أشجار الـحرم لـم يكن ذلك له أمانا من القتل إذا لـم يكن تقدم له عَقْد ذمة من الـمسلـمين أو أمان. وقد بـينا فـيـما مضى معنى القلائد فـي غير هذا الـموضع.
وأما قوله: وَلا أمّينَ البَـيْتَ الـحَرَامَ فإنه مـحتـمل ظاهره: ولا تُـحِلّوا حرمة آمين البـيت الـحرام من أهل الشرك والإسلام, لعموم جميع من أمّ البـيت. وإذا احتـمل ذلك, فكان أهل الشرك داخـلـين فـي جملتهم, فلا شكّ أن قوله: فـاقْتُلُوا الـمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُـمُوهُمْ ناسخ له, لأنه غير جائز اجتـماع الأمر بقتلهم وترك قتلهم وترك قتلهم فـي حال واحدة ووقت واحد. وفـي إجماع الـجميع علـى أن حكم الله فـي أهل الـحرب من الـمشركين قتلهم, أمّوا البـيت الـحرام أو البـيت الـمقدس فـي أشهر الـحرم وغيرها, ما يعلـم أن الـمنع من قتلهم إذا أمّوا البـيت الـحرام منسوخ, ومـحتـمل أيضا: ولا آمين البـيت الـحرام من أهل الشرك, وأكثر أهل التأويـل علـى ذلك. وإن كان عُنِى بذلك الـمشركون من أهل الـحرب, فهو أيضا لا شكّ منسوخ. وإذ كان ذلك كذلك وكان لا اختلاف فـي ذلك بـينهم ظاهر, وكان ما كان مستفـيضا فـيهم ظاهر الـحجة, فـالواجب وإن احتـمل ذلك معنى غير الذي قالوا, التسلـيـم لـما استفـاض بصحته نقلهم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبّهِمْ وَرِضْوَانا.
يعنـي بقوله: يَبْتَغُونَ: يطلبون ويـلتـمسون. والفضل: الإربـاح فـي التـجارة والرضوان: رضا الله عنهم, فلا يحلّ بهم من العقوبة فـي الدنـيا ما أحلّ بغيرهم من الأمـم فـي عاجل دنـياهم بحجهم بـيته.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
8713ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: حدثنا معمر, عن قتادة فـي قوله: يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبّهِمْ وَرِضْوَانا قال: هم الـمشركون يـلتـمسون فضل الله ورضوانه فـيـما يصلـح لهم دنـياهم.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عبدة بن سلـيـمان, قال: قرأت علـى ابن أبـي عروبة, فقال: هكذا سمعته من قتادة فـي قوله: يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبّهِمْ وَرِضْوَانا والفضل والرضوان: اللذان يبتغون أن يصلـح معايشهم فـي الدنـيا, وأن لا يعجل لهم العقوبة فـيها.
8714ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس: يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبّهِمْ وَرِضْوَانا يعنـي: أنهم يترضون الله بحجهم.
8715ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عبـيد الله, عن أبـي جعفر الرازي, عن الربـيع بن أنس, قال: جلسنا إلـى مطرف بن الشخير, وعنده رجل, فحدثهم فـي قوله: يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبّهِمْ وَرِضْوَانا قال: التـجارة فـي الـحجّ, والرضوان فـي الـحجّ.
8716ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن أبـي أميـمة, قال: قال ابن عمر فـي الرجل يحجّ, ويحمل معه متاعا, قال: لا بأس به. وتلا هذه الاَية: يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبّهِمْ وَرِضْوَانا.
8717ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبّهِمْ وَرِضْوَانا قال: يبتغون الأجر والتـجارة.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَإذَا حَلَلْتُـمْ فـاصْطادُوا.
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: وإذَا حَلَلْتُـمْ فـاصْطادُوا الصيد الذي نهيتكم أن تُـحلوه وأنتـم حرُمُ, يقول: فلا حرج علـيكم فـي اصطياده واصطادوا إن شئتـم حينئذ, لأن الـمعنى الذي من أَجله كنت حرّمته علـيكم فـي حال إحرامكم قد زال.
وبـما قلنا فـي ذلك قال جميع أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
8718ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا هشيـم, قال: حدثنا حصين, عن مـجاهد, أنه قال: هي رخصة. يعنـي قوله: وَإذَا حَلَلْتُـمْ فـاصْطادُوا.
8719ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو خالد الأحمر, عن حجاج, عن القاسم, عن مـجاهد, قال: خمس فـي كتاب الله رخصة, ولـيست بعَزْمة, فذكر: وَإذَا حَلَلْتُـمْ فـاصْطادُوا قال: من شاء فعل, ومن شاء لـم يفعل.
8720ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو خالد, عن حجاج, عن عطاء, مثله.
8721ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, عن حصين, عن مـجاهد: وَإذَا حَلَلْتُـمْ فـاصْطادُوا قال: إذا حلّ, فإن شاء صاد, وإن شاء لـم يصطد.
8722ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن إدريس, عن ابن جريج, عن رجل, عن مـجاهد: أنه كان لا يرى الأكل من هَدْى الـمتعة واجبـا, وكان يتأوّل هذه الاَية: وَإذَا حَلَلْتُـمْ فـاصْطادُوا: فإذَا قُضِيَتِ الصّلاةُ فـانْتَشرُوا فِـي الأرْضِ.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلا يَجْرِمَنّكُمْ.
يعنـي جلّ ثناؤه بقوله: وَلا يجْرِمَنّكُمْ ولا يحملنكم. كما:
8723ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: وَلا يجْرِمَنّكُمْ شَنآنُ قَوْمٍ يقول: لا يحملنكم شنآن قوم.
8724ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَلا يَجْرِمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْم أي لا يحملنكم.
وأما أهل الـمعرفة بـاللغة, فإنهم اختلفوا فـي تأويـلها, فقال بعض البصريـين: معنى قوله: وَلا يَجْرِمَنّكُمْ: لا يحقنّ لكم لأن قوله: لا جَرَمَ أنْ لَهُمِ النّار: هو حقّ أن لهم النار. وقال بعض الكوفـيـين معناه: لا يحملنكم. وقال: يقال: جرمنى فلان علـى أن صنعت كذا وكذا: أي حملنـي علـيه. واحتـجّ جميعهم ببـيت الشاعر:
وَلَقَدْ طَعَنْتَ أبـا عُيَـيْنَةَ طَعْنَةًجَرَمَتْ فَزَارَةَ بعدَها أنْ يغْضَبوا
فتأوّل ذلك كل فريق منهم علـى الـمعنى الذي تأوّله من القرآن, فقال الذين قالوا: لا يَجْرِمَنّكُمْ: لا يحقن لكم معنى قول الشاعر: جرمت فزارةَ: أحقت الطعنة لفزارة الغضب. وقال الذين قالوا معناه: لا يحملنكم: معناه فـي البـيت: «جرمت فزارة أن يغضبوا»: حملت فزارة علـى أن يغضبوا. وقال آخر من الكوفـيـين: معنى قوله: لا يَجْرِمَنّكُمْ: لا يكسبنكم شنآن قوم. وتأويـل قائل هذا القول قول الشاعر فـي البـيت: «جرمت فزارةُ»: كسبت فزارة أن يغضبوا. قال: وسمعت العرب تقول: فلان جريـمة أهله, بـمعنى: كاسبهم, وخرج يجرمهم: يكسبهم. وهذه الأقوال التـي حكيناها عمن حكيناها عنه متقاربة الـمعنى وذلك أن من حمل رجلاً علـى بغض رجل فقد أكسبه بغضه, ومن أكسبه بغضه فقد أحقه له.
فإذا كان ذلك كذلك, فـالذي هو أحسن فـي الإبـانة عن معنى الـحرف, ما قاله ابن عبـاس وقتادة, وذلك توجيهما معنى قوله: وَلا يَجْرِمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْم: ولا يحملنكم شنآن قوم علـى العدوان.
واختلفت القراء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قراء الأمصار: وَلا يَجْرِمَنّكُم بفتـح الـياء من: جرمته أجْرِمُه. وقرأ ذلك بعض قراء الكوفـيـين, وهو يحيى بـين وثاب والأعمش, ما:
8725ـ حدثنا ابن حميد وابن وكيع, قالا: حدثنا جرير, عن الأعمش, أنه قرأ: «وَلا يُجْرِمَنّكُمْ» مرتفعة الـياء من أجرمته أجرمه وهو يُجْرمنـي.
والذي هو أولـى بـالصواب من القراءتـين, قراءة من قرأ ذلك: وَلا يَجْرِمَنّكُمْ بفتـح الـياء, لاستفـاضة القراءة بذلك فـي قرّاء الأمصار وشذوذ ما خالفها, وأنها اللغة الـمعروفة السائرة فـي العرب, وإن كان مسموعا من بعضها: أجرم يُجْرم, علـى شذوذه, وقراءة القرآن بأفصح اللغات أولـى وأحقّ منها بغير ذلك ومن لغة من قال: جَرَمْتُ, قول الشاعر:
يا أيّها الـمُشْتَكي عُكْلاً وَما جرَمَتْإلـى القبـائلِ منْ قَتْلٍ وَإبآسُ
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: شَنَآنُ قَوْمٍ.
اختلفت القراء فـي قراءة ذلك, فقرأه بعضهم: شَنَآنُ بتـحريك الشين والنون إلـى الفتـح, بـمعنى: بغض قوم توجيها منهم ذلك إلـى الـمصدر الذي يأتـي علـى فَعَلان نظير الطّيَران, والنّسَلان, والعَسَلان, والرّمَلان. وقرأ ذلك آخرون: شَنْآنُ قَوْمٍ بتسكين النون وفتـح الشين, بـمعنى الاسم توجيها منهم معناه إلـى: لا يحملنكم بغض قوم, فـيخرج شنآن علـى تقدير فعلان, لأن فَعَلَ منه علـى فَعِلَ, كما يقال: سكران من سكر, وعطشان من عطش, وما أشبه ذلك من الأسماء.
والذي هو أولـى القراءتـين فـي ذلك بـالصواب, قراءة من قرأ: شَنَآن بفتـح النون مـحرّكة, لشائع تأويـل أهل التأويـل علـى أن معناه: بغض قوم, وتوجيههم ذلك إلـى معنى الـمصدر دون معنى الاسم. وإذ كان ذلك موجها إلـى معنى الـمصدر, فـالفصيح من كلام العرب فـيـما جاء من الـمصادر علـى الفعلان بفتـح الفـاء تـحريك ثانـيه دون تسكينه, كما وصفت من قولهم: الدّرَجان, والرّمَلان من دَرَجَ وَرَمَل, فكذلك الشنآن من شَنِئة أشنؤه شَنَآنا. ومن العرب من يقول: شَنَان علـى تقدير فَعَال, ولا أعلـم قارئا قرأ ذلك كذلك, ومن ذلك قول الشاعر:
ومَا العَيْشُ إلاّ ما يَـلَذّ ويُشْتَهَىوَإنْ لامَ فـيهِ ذُو الشنّانِ وَفَنّدَا
وهذا فـي لغة من ترك الهمز من الشنآن, فصار علـى تقدير فَعَال وهو فـي الأصل فَعَلان.
ذكر من قال من أهل التأويـل: شَنَآنُ قَوْمٍ: بغض قوم.
8726ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: وَلا يَجْرِمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ: لا يحملنكم بُغض قوم.
وحدثنـي به الـمثنى مرّة أخرى بإسناده, عن ابن عبـاس, فقال: لا يحملنكم عداوة قوم أن تعتدوا.
8727ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَلا يَجْرِمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ: لا يجرمنكم بغض قوم.
8728ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَلا يَجْرِمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ قال: بغضاؤهم أن تعتدوا.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: أنْ صَدّوكُمْ عنْ الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ أنْ تَعْتَدُوا.
اختلفت القراء فـي قراءة ذلك, فقرأه بعض أهل الـمدينة وعامة قرّاء الكوفـيـين: أَنْ صَدّوكُمْ بفتـح الألف من «أَن» بـمعنى: لا يجرمنكم بغض قوم بصدّهم إياكم عن الـمسجد الـحرام أن تعتدوا. وكان بعض قرّاء الـحجاز والبصرة يقرأ ذلك: وَلا يَجْرِمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ إنْ صَدّوكُمْ بكسر الألف من «إن» بـمعنى: ولا يجرمنكم شنآن قوم إن هم أحدثوا لكم صدّا عن الـمسجد الـحرام, أن تعتدوا. فزعموا أنها فـي قراءة ابن مسعود: إنْ يَصُدّكُمْ فقراءة ذلك كذلك اعتبـارا بقراءته.
والصواب من القول فـي ذلك عندي, أنهما قراءتان معروفتان مشهورتان فـي قراءة الأمصار, صحيح معنى كلّ واحدة منهما. وذلك أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم صدّ عن البـيت هو وأصحابه يوم الـحديبـية, وأنزلت علـيه سورة الـمائدة بعد ذلك. فمن قرأ: أنْ صَدّوكُمْ بفتـح الألف من «أن» فمعناه: لا يحملنكم بغض قوم أنها الناس من أجل أن صدوكم يوم الـحديبـية عن الـمسجد الـحرام, أن تعتدوا علـيهم. ومن قرأ: إنْ صَدّوكُمْ بكسر الألف, فمعناه: لا يجرمنكم شنآن قوم إن صَدوكم عن الـمسجد الـحرام إذا أردتـم دخوله, لأن الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من قريش يوم فتـح مكة قد حاولوا صَدّهم عن الـمسجد الـحرام قبل أن يكون ذلك من الصّادّين. غير أن الأمر وإن كان كما وصفت, فإن قراءة ذلك بفتـح الألف أبـين معنى, لأن هذه السورة لا تَدَافُع بـين أهل العلـم فـي أنها نزلت بعد يوم الـحُدَيْبِـيَة. وإذ كان ذلك كذلك, فـالصدّ قد كان تقدّم من الـمشركين, فنهى الله الـمؤمنـين عن الاعتداء علـى الصادين من أجل صدّهم إياهم عن الـمسجد الـحرام, وأما قوله: أنْ تَعْتَدُوا فإنه يعنـي: أن تـجاوزا الـحدّ الذي حدّه الله لكم فـي أمرهم. فتأويـل الاَية إذن: ولا يحملنكم بُغض قوم لأن صدوكم عن الـمسجد الـحرام أيها الـمؤمنون أن تعتدوا حكم الله فـيهم فتـجاوزوه إلـى ما نهاكم عنه, ولكن الزموا طاعة الله فـيـما أحببتـم وكرهتـم. وذُكِر أنها نزلت فـي النهي عن الطلب بذحول الـجاهلـية. ذكر من قال ذلك:
8729ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: أنْ تَعْتَدُوا رجل مؤمن من حلفـاء مـحمد, قَتَل حلـيفـا لأبـي سفـيان من هُذَيب يوم الفتـح بعرفة, لأنه كان يقتل حلفـاء مـحمد, فقال مـحمد صلى الله عليه وسلم: «لَعَنَ اللهُ مَنْ قَتَل بِذَحْلِ الـجاهِلِـيّةِ».
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله. وقال آخرون: هذا منسوخ. ذكر من قال ذلك:
8730ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَلا يَجْرِمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أنْ تَعْتَدُوا قال: بَغْضاؤهم, حتـى تأتوا ما لا يحلّ لكم. وقرأ أنْ صَدّوكُمْ عَنِ الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ أنْ تَعْتَدُوا وتعاونوا, قال: هذا كله قد نسخ, نسخه الـجهاد.
وأولـى القولـيبن فـي ذلك بـالصواب قول مـجاهد: إنه غير منسوخ لاحتـماله أن تعتدوا الـحقّ فـيـما أمرتكم به. وإذا احتـمل ذلك, لـم يجزأن يقال: هو منسوخ, إلاّ بحجة يجب التسلـيـم لها.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَتَعاوَنُوا علـى البِرّ وَالتّقْوَى وَلا تَعاوَنُوا علـى الإثْمِ وَالعُدْوَانِ.
يعنـي جلّ ثناؤه بقوله: وَتَعاوَنُووا علـى البِرّ وَالتّقْوَى ولـيعن بعضكم أيها الـمؤمنون بعضا علـى البرّ, وهو العمل بـما أمر الله بـالعمل به والتّقْوَى: هو اتقاء ما أمر الله بـاتقائه واجتنابه من معاصيه. وقوله: وَلا تَعاوَنُوا علـى الإثْمِ وَالعُدْوَان يعنـي: ولا يُعِن بعضكم بعضا علـى الإثم, يعنـي: علـى ترك ما أمركم الله بفعله. والعُدْوَانِ يقول: ولا علـى أن تتـجاوزا ما حدّ الله لكم فـي دينكم, وفرض لكم فـي أنفسكم وفـي غيركم. وإنـما معنى الكلام: ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن الـمسجد الـحرام أن تعتدوا, ولكن لـيعن بعضكم بعضا بـالأمر بـالانتهاء إلـى ما حدّه الله لكم فـي القوم الذين صدّوكم عن الـمسجد الـحرام وفـي غيرهم, والانتهاء عما نهاكم الله أن تأتوا فـيهم وفـي غيرهم وفـي سائر ما نهاكم عنه, ولا يعن بعضكم بعضا علـى خلاف ذلك. وبـما قلنا فـي البرّ والتقوى قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
8731ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: وتَعَاوَنُوا علـى البِرّ والتّقْوَى البرّ: ما أُمرتَ به, والتقوى: ما نُهيتَ عنه.
8732ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, عن أبـي العالـية فـي قوله: وتَعَاوَنُوا علـى البِرّ والتّقْوَى قال: البرّ: ما أُمرت به, والتقوى: ما نُهيتَ عنه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَاتّقُوا اللّهَ إنّ اللّهَ شَدِيدُ العِقابِ.
وهذا وعيد من الله جلّ ثناؤه وتهديد لـمن اعتدى حدّه وتـجاوز أمره. يقول عزّ ذكره: وَاتّقُوا اللّهَ يعنـي: واحذروا الله أيها الـمؤمنون أن تلقوه فـي معادكم وقد اعتديتـم حدّه فـيـما حدّ لكم وخالفتـم أمره فـيـما أمركم به أن نهيه فـيـما نهاكم عنه, فتستوجبوا عقابه وتستـحقوا ألـيـم عذابه ثم وصف عقابه بـالشدة, فقال عزّ ذكره: إن الله شديد عقابه لـمن عاقبه من خـلقه, لأنها نار لا يُطْفأ حرّها, ولا يَخْمُد جمرها, ولا يسكن لهبها. نعوذ بـالله منها ومن عمل يقرّبنا منها