سورة البقرة | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير الطبري تفسير الصفحة 11 من المصحف
تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 11
012
010
الآية : 70
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبّكَ يُبَيّن لّنَا مَا هِيَ إِنّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنّآ إِن شَآءَ اللّهُ لَمُهْتَدُونَ }
قال أبو جعفر: يعنـي بقوله: قالُوا قال قوم موسى الذين أمروا بذبح البقرة لـموسى. فترك ذكر موسى وذكر عائد ذكره اكتفـاءً بـما دلّ علـيه ظاهر الكلام.
وذلك أن معنى الكلام: قالوا له: «ادع ربك», فلـم يذكر له لـما وصفنا. وقوله: يُبَـيّنْ لَنَا ما هِيَ خبر من الله عن القوم بجهلة منهم ثالثة, وذلك أنهم لو كانوا إذ أمروا بذبح البقرة ذبحوا أيتها تـيسرت مـما يقع علـيه اسم بقرة كانت عنهم مـجزئة, ولـم يكن علـيهم غيرها, لأنهم لـم يكونوا كلفوها بصفة دون صفة, فلـما سألوا بـيانها بأيّ صفة هي, فبـين لهم أنها بسنّ من الأسنان دون سنّ سائر الأسنان, فقـيـل لهم: هي عوان بـين الفـارض والبكر الضرع. فكانوا إذا بـينت لهم سنها لو ذبحوا أدنى بقرة بـالسنّ التـي بـينت لهم كانت عنهم مـجزئة, لأنهم لـم يكونوا كلفوها بغير السنّ التـي حدّت لهم, ولا كانوا حصروا علـى لون منها دون لون. فلـما أبوا إلا أن تكون معرّفة لهم بنعوتها مبـينة بحدودها التـي تفرّق بـينها وبـين سائر بهائم الأرض فشدّدوا علـى أنفسهم شدّد الله علـيهم بكثرة سؤالهم نبـيهم واختلافهم علـيه ولذلك قال نبـينا صلى الله عليه وسلم لأمته: «ذَرُونِـي ما تَرَكْتُكُمْ فَـانّـمَا أُهْلِكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤالِهِمْ وَاخْتِلافِهِمْ علـى أنْبـيائِهِمْ, فإذَا أمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأتُوهُ, وإذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَـانْتَهُوا عَنْهُ مَا اسْتَطَعْتُـمْ».
قال أبو جعفر: ولكن القوم لـما زادوا نبـيهم موسى صلى الله عليه وسلم أذى وتعنتا, زادهم الله عقوبة وتشديدا, كما:
904ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثام بن علـي, عن الأعمش, عن الـمنهال بن عمرو, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, قال: لو أخذوا أدنى بقرة اكتفوا بها لكنهم شدّدوا فشدد الله علـيهم.
905ـ حدثنا عمر بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا الـمعتـمر, قال: سمعت أيوب, عن مـحمد بن سيرين, عن عبـيدة قال: لو أنهم أخذوا أدنى بقرة لأجزأت عنهم.
906ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر عن أيوب, وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن هشام بن حسان جميعا, عن ابن سيرين, عن عبـيدة السلـمانـي, قال: سألوا وشدّدوا فشدّد الله علـيهم.
907ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا ابن عيـينة, عن عمرو بن دينار, عن عكرمة, قال: لو أخذ بنو إسرائيـل بقرة لأجزأت عنهم, ولولا قولهم: وَإِنّا إنْ شاءَ اللّهُ لـمُهْتَدُونَ لـما وجدوها.
908ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: وإذْ قالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنّ الله يأمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرة لو أخذوا بقرة ما كانت لأجزأت عنهم. قَالُوا ادْعُ لَنا رَبّكَ يُبَـيّنْ لَنَا ما هِيَ قالَ إِنّهُ يَقُولُ إِنّها بَقَرَةٌ لا فـارِضٌ وَلا بِكْرٌ قال: لو أخذوا بقرة من هذا الوصف لأجزأت عنهم. قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبّكَ يُبَـيّنْ لَنَا مَا لَوْنُها قَالَ إِنّهُ يَقُولُ إنها بَقَرَة صَفْرَاءَ فَـاقِع لَوْنُها تَسُرّ النَاظِرِينَ قال: لو أخذوا بقرة صفراء لأجزأت عنهم. قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبّك يُبَـيّنْ لنَا ما هِي قَالَ إِنّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَة لا ذَلُول تُثِـيرُ الأرْضَ وَلا تَسْقِـي الـحَرْثَ الآية.
حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد بنـحوه, وزاد فـيه, ولكنهم شددوا فشدد علـيهم.
909ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج, قال مـجاهد: لو أخذوا بقرة ما كانت أجزأت عنهم. قال ابن جريج: قال لـي عطاء: لو أخذوا أدنى بقرة كفتهم. قال ابن جريج: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنّـمَا أُمِرُوا بِأدْنَى بَقَرَة وَلَكِنّهُمْ لَـمّا شَدّدُوا علـى أنْفُسِهِمْ شَدّدَ اللّهُ عَلَـيْهِمْ وايْـمُ اللِّه لَوْ أَنّهُمْ لَـمْ يَسْتَثْنُوا لَـما بينت لَهُمْ آخِرَ الأبَدِ».
910ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية, قال: لو أن القوم حين أمروا أن يذبحوا بقرة استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها لكانت إياها, ولكنهم شددوا علـى أنفسهم فشدّد الله علـيهم, ولولا أن القوم استثنوا فقالوا: وَإِنّا إنْ شاءَ اللّهُ لَـمُهْتَدُونَ لـما هدوا إلـيها أبدا.
911ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: ذكر لنا أن نبـي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إِنّـمَا أُمِر القَوْمُ بِأدْنى بَقَرَةٍ وَلَكِنّهُمْ لَـمّا شَدّدُوا علـى أنْفُسَهُمْ شُدّدَ عَلَـيْهِمْ, وَالّذِي نَفْسُ مُـحَمّدٍ بِـيَدِهِ لَوْ لَـمْ يَسْتَثْنُوا لَـمَا بُـيّنَتْ لَهُمْ آخِرَ الأبَدِ».
حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي فـي خبر ذكره, عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, قال: لو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم ولكنهم شدّدوا وتعنتوا موسى فشدّد الله علـيهم.
حدثنا أبو كريب قال: قال أبو بكر بن عياش, قال ابن عبـاس: لو أن القوم نظروا أدنى بقرة, يعنـي بنـي إسرائيـل لأجزأت عنهم, ولكن شددوا فشدّد علـيهم, فـاشتروها بـملء جلدها دنانـير.
912ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: لو أخذوا بقرة كما أمرهم الله كفـاهم ذلك, ولكن البلاء فـي هذه الـمسائل, فقَالُوا ادْعُ لَنَا رَبّكَ يُبَـيّنْ لَنَا مَا هِيَ فشدّد علـيهم, فقال: إِنّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ لا فَـارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَـيْنَ ذلكَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبّكَ يُبَـيّنْ لَنَا مَا لَوْنُها قال إنّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَـاقِعٌ لَوْنُها تَسُرّ النّاظِرِينَ قال: وشدد علـيهم أشد من الأول فقرأ حتـى بلغ: مُسلّـمَةٌ لا شَيةَ فِـيها فأبوا أيضا. قالوا ادْعُ لَنَا رَبّكَ يُبَـيّنُ لَنَا مَا هِيَ إِنّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَـيْنَا وَإنّا إنْ شَاءَ اللّهُ لَـمُهْتَدُونَ فشدّد علـيهم فقَالَ إنّهُ يَقُولُ إنّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِـيرُ الأرْضَ وَلا تَسْقِـي الـحَرْثَ مُسْلّـمَةٌ لا شِيَةَ فِـيهَا. قال: فـاضطروا إلـى بقرة لا يُعلـم علـى صفتها غيرها, وهي صفراء, لـيس فـيها سواد ولا بـياض.
قال أبو جعفر: وهذه الأقوال التـي ذكرناها عمن ذكرناها عنه من الصحابة والتابعين والـخالفـين بعدهم من قولهم: إن بنـي إسرائيـل لو كانوا أخذوا أدنى بقرة فذبحوها أجزأت عنهم ولكنهم شدّدوا فشدّد الله علـيهم, من أوضح الدلالة علـى أن القوم كانوا يرون أن حكم الله فـيـما أمر ونهى فـي كتابه وعلـى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم علـى العموم الظاهر دون الـخصوص البـاطن, إلا أن يخصّ بعض ما عمه ظاهر التنزيـل كتاب من الله أو رسول الله, وأن التنزيـل أو الرسول إن خصّ بعض ما عمه ظاهر التنزيـل بحكم خلاف ما دل علـيه الظاهر, فـالـمخصوص من ذلك خارج من حكم الآية التـي عمت ذلك الـجنس خاصة, وسائر حكم الآية علـى العموم, علـى نـحو ما قد بـيناه فـي كتابنا كتاب «الرسالة من لطيف القول فـي البـيان عن أصول الأحكام» فـي قولنا فـي العموم والـخصوص, وموافقة قولهم فـي ذلك قولنا, ومذهبهم مذهبنا, وتـخطئتهم قول القائلـين بـالـخصوص فـي الأحكام, وشهادتهم علـى فساد قول من قال: حكم الآية الـجائية مـجيء العموم علـى العموم ما لـم يختصّ منها بعض ما عمته الآية, فإن خصّ منها بعض, فحكم الآية حينئذٍ علـى الـخصوص فـيـما خصّ منها, وسائر ذلك علـى العموم. وذلك أن جميع من ذكرنا قوله آنفـا مـمن عاب علـى بنـي إسرائيـل مسألتهم نبـيهم صلى الله عليه وسلم عن صفة البقرة التـي أمروا بذبحها وسنها وحلـيتها, رأوا أنهم كانوا فـي مسألتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم موسى ذلك مخطئين, ون خصّ منها بعض, فحكم الآية حينئذٍ علـى الـخصوص فـيـما خصّ منها, وسائر ذلك علـى العموم. وذلك أن جميع من ذكرنا قوله آنفـا مـمن عاب علـى بنـي إسرائيـل مسألتهم نبـيهم صلى الله عليه وسلم عن صفة البقرة التـي أمروا بذبحها وسنها وحلـيتها, رأوا أنهم كانوا فـي مسألتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم موسى ذلك مخطئين, ومع ذلك فأنهم إذا سألوا موسى عن سنها, فأخبرهم عنها وحصرهم منها علـى سنّ دون سنّ, ونوع دون نوع, وخصّ من جميع أنواع البقر نوعا منها, كانوا فـي مسألتهم إياه فـي الـمسألة الثانـية بعد الذي خصّ لهم من أنواع البقر من الـخطأ علـى مثل الذي كانوا علـيه من الـخطأ فـي
وقد زعم بعض من عظمت جهالته واشتدت حيرته, أن القوم إنـما سألوا موسى ما سألوا بعد أمر الله إياهم بذبح بقرة من البقر لأنهم ظنوا أنهم أمروا بذبح بقرة بعينها خصت بذلك, كما خصت عصا موسى فـي معناها, فسألوه أن يحلـيها لهم لـيعرفوها. ولو كان الـجاهل تدبر قوله هذا, لسهل علـيه ما استصعب من القول وذلك أنه استعظم من القوم مسألتهم نبـيهم ما سألوه تشددا منهم فـي دينهم, ثم أضاف إلـيهم من الأمر ما هو أعظم مـما استنكره أن يكون كان منهم, فزعم أنهم كانوا يرون أنه جائز أن يفرض الله علـيهم فرضا ويتعبدهم بعبـادة, ثم لا يبـين لهم ما يفرض علـيهم ويتعبدهم به حتـى يسألوا بـيان ذلك لهم. فأضاف إلـى الله تعالـى ذكره ما لا يجوز إضافته إلـيه, ونسب القوم من الـجهل إلـى ما لا ينسب الـمـجانـين إلـيه, فزعم أنهم كانوا يسألون ربهم أن يفرض علـيهم الفرائض. فتعوذ بـالله من الـحيرة, ونسأله التوفـيق والهداية.
وأما قوله: إِنّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَـيْنَا فإن البقر جماع بقرة. وقد قرأ بعضهم: «إن البـاقر», وذلك وإن كان فـي الكلام جائزا لـمـجيئه فـي كلام العرب وأشعارها, كما قال ميـمون بن قـيس:
وَما ذَنْبُهُ أنْ عافَتِ الـمَاءَ بـاقِرٌوَما إِنْ يَعافُ الـمَاءَ إِلاّ لِـيُضْرَبَـا
وكما قال أمية:
وَيَسُوقُونَ بـاقِرَ الطّودِ للسّهْلِ مَهازِيـلَ خَشْيَةً أنْ تَبُورَا
فغير جائزة القراءة به لـمخالفته القراءة الـجائية مـجيء الـحجة بنقل من لا يجوز علـيه فما نقلوه مـجمعين علـيه الـخطأ والسهو والكذب.
وأما تأويـل: تَشَابَهَ عَلَـيْنَا فإنه يعنـي به: التبس علـينا. والقراء مختلفة فـي تلاوته, فبعضهم كانوا يتلونه: تشابه علـينا, بتـخفـيف الشين ونصب الهاء علـى مثال تفـاعل, ويذكر الفعل وإن كان البقر جماعا, لأن من شأن العرب تذكير كل فعل جمع كانت وِحْدَانُه بـالهاء وجمعه بطرح الهاء, وتأنـيثه كما قال الله تعالـى فـي نظيره فـي التذكير: كَأنّهُمْ أعْجَازُ نَـخْـلٍ مُنْقَعِرٍ فذكر الـمنقعر وهو من صفة النـخـل لتذكير لفظ النـخـل, وقال فـي موضع آخر: كأنّهم أعْجازُ نَـخْـلٍ خاوِيَةٍ فأنث الـخاوية وهي من صفة النـخـل بـمعنى النـخـل لأنها وإن كانت فـي لفظ الواحد الـمذكر علـى ما وصفنا قبل فهي جماع نـخـلة. وكان بعضهم يتلوه: «إنّ البَقَرَ تَشّابَهُ عَلَـيْنَا» بتشديد الشين وضم الهاء, فـيؤنث الفعل بـمعنى تأنـيث البقر, كما قال: أعْجازُ نَـخْـلٍ خاوِيَةٍ ويدخـل فـي أول تشابه تاء تدل علـى تأنـيثها, ثم تدغم التاء الثانـية فـي شين تشابه لتقارب مخرجها ومخرج الشين فتصير شينا مشددة وترفع الهاء بـالاستقبـال والسلام من الـجوازم والنواصب. وكان بعضهم يتلوه: «إنّ البَقَرَ يُشابَهُ عَلَـيْنَا» فـيخرج يشابه مخرج الـخبر عن الذكر لـما ذكرنا من العلة فـي قراءة من قرأ ذلك: تشابَهَ بـالتـخفـيف, ونصب الهاء غير أنه كان يرفعه بـالـياء التـي يحدثها فـي أول تشابه التـي تأتـي بـمعنى الاستقبـال, وتدغم التاء فـي الشين كما فعله القارىء فـي تشابه بـالتاء والتشديد.
والصواب فـي ذلك من القراءة عندنا: إِنّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَـيْنَا بتـخفـيف شين تشابه ونصب هائه, بـمعنى تفـاعل, لإجماع الـحجة من القراء علـى تصويب ذلك ورفعهم ما سواه من القراءات, ولا يعترض علـى الـحجة بقول من يجوز علـيه فـيـما نقل السهو والغفلة والـخطأ.
وأما قوله: وَإنّا إنْ شاءَ اللّهُ لَـمُهْتَدُونَ فإنهم عنوا: وإنا إن شاء الله لـمبـين لنا ما التبس علـينا وتشابه من أمر البقرة التـي أمرنا بذبحها. ومعنى اهتدائهم فـي هذا الـموضع معنى تبـينهم أيّ ذلك الذي لزمهم ذبحه مـما سواه من أجناس البقر.
الآية : 71
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{قَالَ إِنّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ لاّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلّمَةٌ لاّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الاَنَ جِئْتَ بِالْحَقّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ }
وتأويـل ذلك, قال موسى: إن الله يقول: إن البقرة التـي أمرتكم بذبحها بقرة لا ذلول. ويعنـي بقوله: لا ذَلُولٌ: أي لـم يذللها العمل. فمعنى الآية: أنها بقرة لـم تذللها إثارة الأرض بأظلافها, ولا سُنِـيَ علـيها الـماء فـيسقـى علـيها الزرع, كما يقال للدابة التـي قد ذللها الركوب أو العمل: دابة ذلول بـينة الذّل, بكسر الذال, ويقال فـي مثله من بنـي آدم: رجل ذلـيـل بـين الذلّ والذلة.
913ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: إِنّهَا بَقَرَةٌ لاَ ذَلُولٌ يقول: صعبة لـم يذلها عمل, تُثِـيرُ الأرْضَ وَلاَ تَسْقِـي الـحَرْثَ.
914ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: إِنّها بَقَرَةٌ لاَ ذَلُولٌ تُثِـيرُ الأرْضَ يقول: بقرة لـيست بذلول يزرع علـيها, ولـيست تسقـي الـحرث.
915ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: إِنّها بَقَرَةٌ لاَ ذَلُولٌ أي لـم يذللها العمل, تُثِـيرُ الأرْضَ يعنـي لـيست بذلول فتثـير الأرض, وَلا تَسْقِـي الـحَرْثَ يقول: ولا تعمل فـي الـحرث.
916ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: إِنّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ يقول: لـم يذلها العمل, تُثِـيرُ الأرْضَ يقول: تثـير الأرض بأظلافها, وَلا تَسْقِـي الـحَرْثَ يقول: لا تعمل فـي الـحرث.
917ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج, قال: الأعرج: قال مـجاهد: قوله: لا ذَلُولٌ تُثِـيرُ الأرْضَ وَلا تَسْقِـي الـحَرْثَ يقول: لـيست بذلول فتفعل ذلك.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو سفـيان, عن معمر, عن قتادة: لـيست بذلول تثـير الأرض ولا تسقـي الـحرث.
ويعنـي بقوله: تُثِـيرُ الأرْضَ: تقلب الأرض للـحرث, يقال منه: أثرت الأرض أثـيرها إثارة: إذا قلبتها للزرع. وإنـما وصفها جل ثناؤه بهذه الصفة لأنها كانت فـيـما قـيـل وحشية.
918ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا جويبر, عن كثـير بن زياد, عن الـحسن قال: كانت وحشية.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: مُسَلّـمَةٌ.
ومعنى مُسَلّـمَةٌ مفعلة من السلامة, يقال منه: سلـمت تسلـم فهي مسلـمة.
ثم اختلف أهل التأويـل فـي الـمعنى الذي سلـمت منه, فوصفها الله بـالسلامة منه. فقال مـجاهد بـما:
919ـ حدثنا به مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: مُسَلّـمَةٌ يقول: مسلـمة من الشية, ولاشِيَة فِـيها لا بـياض فـيها ولا سواد.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
حدثنا القاسم قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال مـجاهد: لاشِيَةَ فِـيها قال: مسلـمة من الشية لاشِيَةَ فِـيها لا بـياض فـيها ولا سواد.
وقال آخرون: مسلـمة من العيوب. ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: مُسَلّـمَة لاشِيَة فِـيها أي مسلـمة من العيوب.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة: مُسَلّـمَةٌ يقول: لا عيب فـيها.
920ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: مُسَلّـمَةٌ يعنـي مسلـمة من العيوب.
حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع بـمثله.
921ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج: قال ابن عبـاس قوله: مُسَلّـمَةٌ لا عَوَار فـيها.
والذي قاله ابن عبـاس وأبو العالـية ومن قال بـمثل قولهما فـي تأويـل ذلك أولـى بتأويـل الآية مـما قاله مـجاهد لأن سلامتها لو كانت من سائر أنواع الألوان سوى لون جلدها, لكان فـي قوله: مُسَلّـمَة مكتفًـى عن قوله: لاشِيَةَ فِـيها. وفـي قوله: لاشِيَةَ فِـيها ما يوضح عن أن معنى قوله: مُسَلّـمَة غير معنى قوله: لاشِيَةَ فِـيها. وإذ كان ذلك كذلك, فمعنى الكلام أنه يقول: إنها بقرة لـم تذللها إثارة الأرض وقلبها للـحراثة ولا السّنُوّ علـيها للـمزارع, وهي مع ذلك صحيحة مسلـمة من العيوب.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: لاشِيَةَ فِـيها.
يعنـي بقوله: لاشِيَةَ فِـيها: لا لون فـيها يخالف لون جلدها. وأصله من وَشْي الثوب, وهو تـحسين عيوبه التـي تكون فـيه بضروب مختلفة من ألوان سَداه ولُـحمته, يقال منه: وشيت الثوب فأنا أشيه شية ووشيا. ومنه قـيـل للساعي بـالرجل إلـى السلطان أو غيره: واشٍ, لكذبه علـيه عنده وتـحسينه كذبه بـالأبـاطيـل, يقال منه: وشيت به إلـى السلطان وشاية, ومنه قول كعب بن زهير:
تَسْعَى الوُشَاةُ جَنابَـيْها وَقَوْلُهُمإنّكَ يا ابْنَ أبـي سُلْـمَى لَـمَقْتُولُ
والوشاة جمع واش: يعنـي أنهم يتقوّلون بـالأبـاطيـل, ويخبرونه أنه إن لـحق بـالنبـيّ صلى الله عليه وسلم قتله.
وقد زعم بعض أهل العربـية أن الوشي: العلامة. وذلك لا معنى له إلا أن يكون أراد بذلك تـحسين الثوب بـالأعلام, لأنه معلوم أن القائل: وشيت بفلان إلـى فلان غير جائز أن يتوهم علـيه أنه أراد: جعلت له عنده علامة. وإنـما قـيـل: لاشِيةَ فِـيها وهي من وشيت, لأن الواو لـما أسقطت من أولها أبدلت مكانها الهاء فـي آخرها, كما قـيـل: وزنته زنة, ووسيته سية, ووعدته عدة, ووديته دية. وبـمثل الذي قلنا فـي معنى قوله: لاشِيَةَ فِـيها قال أهل التأويـل.
922ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: لاشِيَةَ فِـيها أي لا بـياض فـيها.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, مثله.
923ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: لاشِيَةَ فِـيها يقول: لا بـياض فـيها.
924ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: لاشِيَةَ فِـيها أي لا بـياض فـيها ولا سواد.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
925ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن إدريس, عن أبـيه, عن عطية: لاشِيَةَ فِـيها قال: لونها واحد لـيس فـيها لون سوى لونها.
926ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: لاشِيَةَ فِـيها من بـياض ولا سواد ولا حمرة.
927ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: لاشِيَةَ فِـيها هي صفراء لـيس فـيها بـياض ولا سواد.
928ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: لاشِيَةَ فِـيها يقول: لا بـياض فـيها.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: قَالُوا الاَنَ جِئْتَ بِـالـحقّ.
اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: قَالُوا الاَنَ جِئْتَ بِـالـحَقّ فقال بعضهم: معنى ذلك: الاَن بـينت لنا الـحقّ فتبـيناه, وعرفنا أية بقرة عينت. ومـمن قال ذلك قتادة.
929ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: قَالُوا الاَنَ جِئْتَ بِـالـحَقّ أي الاَن بـينت لنا.
وقال بعضهم: ذلك خبر من الله جل ثناؤه عن القوم أنهم نسبوا نبـيّ الله موسى صلوات الله علـيه إلـى أنه لـم يكن يأتـيهم بـالـحقّ فـي أمر البقرة قبل ذلك. ومـمن رُوي عنه هذا القول عبد الرحمن بن زيد.
930ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: اضطروا إلـى بقرة لا يعلـمون علـى صفتها غيرها, وهي صفراء لـيس فـيها سواد ولا بـياض, فقالوا: هذه بقرة فلان الاَنَ جِئْتَ بـالـحَقّ وقبل ذلك والله قد جاءهم بـالـحق.
وأولـى التأويـلـين عندنا بقوله: قالُوا الاَنَ جِئْتَ بـالـحَقّ قول قتادة وهو أن تأويـله: الاَن بـينت لنا الـحق فـي أمر البقرة, فعرفنا أنها الواجب علـينا ذبحها منها لأن الله جل ثناؤه قد أخبر عنهم أنهم قد أطاعوه فذبحوها بعد قـيـلهم هذا مع غلظ مؤنة ذبحها علـيهم وثقل أمرها, فقال: فَذَبحُوها وما كادُوا يَفْعَلُونَ وإن كانوا قد قالوا بقولهم: الاَن بـينت لنا الـحق, هراء من القول, وأتوا خطأ وجهلاً من الأمر. وذلك أن نبـي الله موسى صلى الله عليه وسلم كان مبـينا لهم فـي كل مسألة سألوها إياه, وردّ رادّوه فـي أمر البقرة الـحق. وإنـما يقال: الاَن بـينت لنا الـحق لـمن لـم يكن مبـينا قبل ذلك, فأما من كان كل قـيـله فـيـما أبـان عن الله تعالـى ذكره حقا وبـيانا, فغير جائز أن يقال له فـي بعض ما أبـان عن الله فـي أمره ونهيه وأدّى عنه إلـى عبـاده من فرائضه التـي أوجبها علـيهم: الاَنَ جِئْتَ بِـالـحَقّ كأنه لـم يكن جاءهم بـالـحق قبل ذلك.
وقد كان بعض من سلف يزعم أن القوم ارتدوا عن دينهم, وكفروا بقولهم لـموسى: الاَنَ جِئْتَ بِـالـحَقّ ويزعم أنهم نفوا أن يكون موسى أتاهم بـالـحق فـي أمر البقرة قبل ذلك, وأن ذلك من فعلهم وقـيـلهم كفر. ولـيس الذي قال من ذلك عندنا كما قال لأنهم أذعنوا بـالطاعة بذبحها, وإن كان قـيـلهم الذي قالوه لـموسى جهلة منهم وهفوة من هفواتهم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَذَبحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ.
يعنـي بقوله: فَذَبحُوها فذبح قوم موسى البقرة التـي وصفها الله لهم وأمرهم بذبحها. ويعنـي بقوله: وَما كَادُوا يَفْعَلُونَ أي قاربوا أن يدعوا ذبحها, ويتركوا فرض الله علـيهم فـي ذلك.
ثم اختلف أهل التأويـل فـي السبب الذي من أجله كادوا أن يضيعوا فرض الله علـيهم فـي ذبح ما أمرهم بذبحه من ذلك. فقال بعضهم: ذلك السبب كان غلاء ثمن البقرة التـي أمروا بذبحها وبـينت لهم صفتها. ذكر من قال ذلك:
931ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا أبو معشر الـمدنـي, عن مـحمد بن كعب القرظي فـي قوله: فَذَبحُوهَا ومَا كادُوا يَفْعَلُونَ قال: لغلاء ثمنها.
حدثنا مـحمد بن عبد الله بن عبـيد الهلالـي, قال: حدثنا عبد العزيز بن الـخطاب, قال: حدثنا أبو معشر, عن مـحمد بن كعب القرظي: فَذَبحُوهَا وَما كادُوا يَفْعَلُونَ قال: من كثرة قـيـمتها.
932ـ حدثنا القاسم, قال: أخبرنا الـحسين, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد وحجاج, عن أبـي معشر, عن مـحمد بن كعب القرظي, ومـحمد بن قـيس فـي حديث فـيه طول, ذكر أن حديث بعضهم دخـل فـي حديث بعض, قوله: فَذَبحُوهَا وَما كَادُوا يَفْعَلُونَ لكثرة الثمن, أخذوها بـملء مَسْكها ذهبـا من مال الـمقتول, فكان سواء لـم يكن فـيه فضل فذبحوها.
933ـ حدثت عن الـمنـجاب, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس: فَذَبحُوهَا وَما كَادُوا يَفْعَلُونَ يقول: كادوا لا يفعلون. ولـم يكن الذي أرادوا لأنهم أرادوا أن لا يذبحوها, وكل شيء فـي القرآن «كاد» أو «كادوا» أو «لو» فإنه لا يكون, وهو مثل قوله: أكادُ أُخْفِـيها.
وقال آخرون: لـم يكادوا أن يفعلوا ذلك خوف الفضيحة إن أطلع الله علـى قاتل القتـيـل الذي اختصموا فـيه إلـى موسى.
والصواب من التأويـل عندنا, أن القوم لـم يكادوا يفعلون ما أمرهم الله به من ذبح البقرة للـخـلّتـين كلتـيهما إحداهما غلاء ثمنها مع ذكر ما لنا من صغر خطرها وقلة قـيـمتها. والأخرى خوف عظيـم الفضيحة علـى أنفسهم بإظهار الله نبـيه موسى صلوات الله علـيه وأتبـاعه علـى قاتله.
فأما غلاء ثمنها فإنه قد روى لنا فـيه ضروب من الروايات.
934ـ فحدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي, قال: اشتروها بوزنها عشر مرّات ذهبـا, فبـاعهم صاحبها إياها وأخذ ثمنها.
935ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان, قال: سمعت أيوب, عن مـحمد بن سيرين, عن عبـيدة قال: اشتروها بـملء جلدها دنانـير.
936ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قال: كانت البقرة لرجل يبرّ أمه, فرزقه الله أن جعل تلك البقرة له, فبـاعها بـملء جلدها ذهبـا.
937ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, قال: حدثنـي خالد بن يزيد, عن مـجاهد, قال: أعطوا صاحبها ملء مسكها ذهبـا فبـاعها منهم.
938ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا إسماعيـل, عن عبد الكريـم, قال: حدثنـي عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهبـا يقول: اشتروها منه علـى أن يـملئوا له جلدها دنانـير, ثم ذبحوها فعمدوا إلـى جلد البقرة فملئوه دنانـير, ثم دفعوها إلـيه.
939ـ حدثنـي مـحمد بن سعيد, قال: حدثنـي أبـي, قال: حدثنـي يحيى, قال: حدثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قال: وجدوها عند رجل يزعم أنه لـيس بـائعها بـمال أبدا, فلـم يزالوا به حتـى جعلوا له أن يسلـخوا له مسكها فـيـملئوه له دنانـير, فرضي به فأعطاهم إياها.
940ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية, قال: لـم يجدوها إلا عند عجوز, وإنها سألتهم أضعاف ثمنها, فقال لهم موسى: أعطوها رضاها وحكمها. ففعلوا, واشتروها فذبحوها.
941ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, قال: قال أيوب, عن ابن سيرين, عن عبـيدة, قال: لـم يجدوا هذه البقرة إلا عند رجل واحد, فبـاعها بوزنها ذهبـا, أو ملء مسكها ذهبـا, فذبحوها.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن هشام بن حسان, عن مـحمد بن سيرين, عن عبـيدة السلـمانـي, قال: وجدوا البقرة عند رجل, فقال: إنـي لا أبـيعها إلا بـملء جلدها ذهبـا, فـاشتروها بـملء جلدها ذهبـا.
942ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: جعلوا يزيدون صاحبها حتـى ملئوا له مسكها وهو جلدها ذهبـا.
وأما صغر خطرها وقلة قـيـمتها, فإن:
943ـ الـحسن بن يحيى حدثنا, قال: حدثنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا ابن عيـينة, قال: حدثنـي مـحمد بن سوقة, عن عكرمة, قال: ما كان ثمنها إلا ثلاثة دنانـير.
وأما ما قلنا من خوفهم الفضيحة علـى أنفسهم, فإن وهب بن منبه كان يقول: إن القوم إذْ أُمروا بذبح البقرة إنـما قالوا لـموسى: أتَتّـخِذُونا هُزُوا لعلـمهم بأنهم سيفتضحون إذا ذبحت فحادوا عن ذبحها.
944ـ حدثت بذلك عن إسماعيـل بن عبد الكريـم, عن عبد الصمد بن معقل, عن وهب بن منبه.
وكان ابن عبـاس يقول: إن القوم بعد أن أحيا الله الـميت فأخبرهم بقاتله, أنكرت قتلته قتله, فقالوا: والله ما قتلناه, بعد أن رأوا الآية والـحقّ.
945ـ حدثنـي بذلك مـحمد بن سعد, قال: حدثنـي أبـي, قال: حدثنـي عمي, قال: حدثنـي أبـي عن أبـيه, عن ابن عبـاس.
الآية : 72
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ }
يعنـي بقوله جل ثناؤه: وَإِذْ قَتَلْتُـمْ نَفْسا: واذكروا يا بنـي إسرائيـل إذ قتلتـم نفسا. والنفس التـي قتلوها هي النفس التـي ذكرنا قصتها فـي تأويـل قوله: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنّ اللّهَ يأمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً. وقوله: فـادّارأتُـمْ فِـيها يعنـي فـاختلفتـم وتنازعتـم, وإنـما هو «فتدارأتـم فـيها» علـى مثال تفـاعلتـم من الدرء, والدرء: العوج, ومنه قول أبـي النـجم العجلـي:
خَشْيَةَ طغامٍ إذَا هَمّ جسَرْيأكُلُ ذَا الدّرْءِ وَيُقْصِي منْ حَقَرْ
يعنـي ذا العوج والعُسْر. ومنه قول رؤبة بن العجاج:
أدْرَكْتُها قُدّام كلّ مِدْرَهِبـالدّفْعِ عَنّـي دَرْءَ كلّ عُنْـجُهِ
ومنه الـخبر الذي:
946ـ حدثنا به أبو كريب, قال: حدثنا مصعب بن الـمقدام, عن إسرائيـل, عن إبراهيـم بن الـمهاجر, عن مـجاهد, عن السائب, قال: جاءنـي عثمان وزهير ابنا أمية, فـاستأذنا لـي علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أعْلَـمُ بِهِ مِنْكُمَا, ألَـمْ تَكُنْ شَرِيكي فـي الـجاهِلِـيّةِ؟» قلت: نعم بأبـي أنت وأمي, فنعم الشريك كنت لا تـماري ولا تداري يعنـي بقوله: لا تداري: لا تـخالف رفـيقك وشريكك ولا تنازعه ولا تشارّه. وإنـما أصل فـادّارأتُـمْ فتدارأتـم, ولكن التاء قريبة من مخرج الدال, وذلك أن مخرج التاء من طرف اللسان وأصول الشفتـين, ومخرج الدال من طرف اللسان وأطراف الثنـيتـين, فأدغمت التاء فـي الدال فجعلت دالاً مشددة, كما قال الشاعر:
تُولـي الضّجيعَ إذَا ما اسْتافَها خَصِراعَذْبَ الـمذَاقِ إذَا ما اتّابَعَ القُبَلُ
يريد إذا ما تتابع القبل, فأدغم إحدى التاءين فـي الأخرى. فلـما أدغمت التاء فـي الدال فجعلت دالاً مثلها سكنت, فجلبوا ألفـا لـيصلوا إلـى الكلام بها, وذلك إذا كان قبله شيء لأن الإدغام لا يكون إلا وقبله شيء, ومنه قول الله جل ثناؤه: حَتّـى إذَا ادّارَكُوا فِـيهَا جَمِيعا إنـما هو تداركوا, ولكن التاء منها أدغمت فـي الدال فصارت دالاً مشددة, وجعلت فـيها ألف إذا وصلت بكلام قبلها لـيسلـم الإدغام. وإذا لـم يكن قبل ذلك ما يواصله, وابتدىء به, قـيـل: تداركوا وتثاقلوا, فأظهروا الإدغام. وقد قـيـل: يقال: ادّاركوا وادّارأوا. وقد قـيـل إن معنى قوله: فـادّارأتُـمْ فِـيها فتدافعتـم فـيها, من قول القائل: درأت هذا الأمر عنـي, ومن قول الله: وَيَدْرَأُ اعَنْها العَذَابَ بـمعنى يدفع عنها العذاب. وهذا قول قريب الـمعنى من القول الأول لأن القوم إنـما تدافعوا قتل قتـيـل, فـانتفـى كل فريق منهم أن يكون قاتله, كما قد بـينا قبل فـيـما مضى من كتابنا هذا. وبنـحو الذي قلنا فـي معنى قوله: فـادّارأتُـمْ فِـيها قال أهل التأويـل.
947ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنـي عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: فـادّارأتُـم فِـيها قال: اختلفتـم فـيها.
حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
948ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج: وَإِذْ قَتَلْتُـمْ نَفْسا فَـادّارأتُـمْ فِـيها قال بعضهم: أنتـم قتلتـموه, وقال الاَخرون: أنتـم قتلتـموه.
949ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: فـادّارأتُـمْ فِـيها قال: اختلفتـم, وهو التنازع تنازعوا فـيه. قال: قال هؤلاء: أنتـم قتلتـموه, وقال هؤلاء: لا.
وكان تدارؤهم فـي النفس التـي قتلوها. كما:
950ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قال: صاحب البقرة رجل من بنـي إسرائيـل قتله رجل فألقاه علـى بـاب ناس آخرين, فجاء أولـياء الـمقتول فـادعوا دمه عندهم فـانتفوا أو انتفلوا منه شك أبو عاصم.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد بـمثله سواء, إلا أنه قال: فـادعوا دمه عندهم, فـانتفوا ولـم يشكّ منه.
951ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: قتـيـل كان فـي بنـي إسرائيـل فقذف كل سبط منهم حتـى تفـاقم بـينهم الشرّ حتـى ترافعوا فـي ذلك إلـى نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم, فأوحى إلـى موسى أن اذبح بقرة فـاضربه ببعضها. فذكر لنا أن ولـيه الذي كان يطلب بدمه هو الذي قتله من أجل ميراث كان بـينهم.
952ـ حدثنـي ابن سعد, قال: حدثنـي عمي, قال: حدثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس فـي شأن البقرة: وذلك أن شيخا من بنـي إسرائيـل علـى عهد موسى كان مكثرا من الـمال, وكان بنو أخيه فقراء لا مال لهم, وكان الشيخ لا ولد له, وكان بنو أخيه ورثته, فقالوا: لـيت عمنا قد مات فورثنا ماله. وأنه لـما تطاول علـيهم أن لا يـموت عمهم أتاهم الشيطان, فقال: هل لكم إلـى أن تقتلوا عمكم فترثوا ماله, وتغرموا أهل الـمدينة التـي لستـم بها ديته؟ وذلك أنهما كانتا مدينتـين كانوا فـي إحداهما, فكان القتـيـل إذا قتل وطرح بـين الـمدينتـين, قـيس ما بـين القتـيـل وما بـين الـمدينتـين, فأيهما كانت أقرب إلـيه غرمت الدية. وإنهم لـما سوّل لهم الشيطان ذلك وتطاول علـيهم أن لا يـموت عمهم, عمدوا إلـيه فقتلوه, ثم عمدوا فطرحوه علـى بـاب الـمدينة التـي لـيسوا فـيها. فلـما أصبح أهل الـمدينة جاء بنو أخي الشيخ, فقالوا: عمنا قُتل علـى بـاب مدينتكم, فوالله لتغرمنّ لنا دية عمنا قال أهل الـمدينة: نقسم بـالله ما قتلنا ولا علـمنا قاتلاً ولا فتـحنا بـاب مدينتنا منذ أغلق حتـى أصبحنا وإنهم عمدوا إلـى موسى, فلـما أتوا قال بنو أخي الشيخ: عمنا وجدناه مقتولاً علـى بـاب مدينتهم, وقال أهل الـمدينة: نقسم بـالله ما قتلناه ولا فتـحنا بـاب الـمدينة من حين أغلقناه حتـى أصبحنا. وإن جبريـل جاء بأمر ربنا السميع العلـيـم إلـى موسى, فقال: قل لهم: إِنّ اللّهَ يأمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً فتضربوه ببعضها.
953ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا حسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, وحجاج عن أبـي معشر, عن مـحمد بن كعب القرظي, ومـحمد بن قـيس, دخـل حديث بعضهم فـي حديث بعض, قالوا: إن سبطا من بنـي إسرائيـل لـما رأوا كثرة شرور الناس بنوا مدينة فـاعتزلوا شرور الناس, فكانوا إذا أمسوا لـم يتركوا أحدا منهم خارجا إلا أدخـلوه, وإذا أصبحوا قام رئيسهم فنظر وتشرّف فإذا لـم ير شيئا فتـح الـمدينة فكانوا مع الناس حتـى يـمسوا. وكان رجل من بنـي إسرائيـل له مال كثـير, ولـم يكن له وارث غير ابن أخيه, فطال علـيه حياته, فقتله لـيرثه. ثم حمله فوضعه علـى بـاب الـمدينة. ثم كمن فـي مكان هو وأصحابه, قال: فتشرّف رئيس الـمدينة علـى بـاب الـمدينة فنظر فلـم ير شيئا, ففتـح البـاب, فلـما رأى القتـيـل ردّ البـاب فناداه ابن أخي الـمقتول وأصحابه: هيهات قتلتـموه ثم تردّون البـاب وكان موسى لـما رأى القتل كثـيرا فـي أصحابه بنـي إسرائيـل كان إذا رأى القتـيـل بـين ظهري القوم آخذهم, فكاد يكون بـين أخي الـمقتول وبـين أهل الـمدينة قتال حتـى لبس الفريقان السلاح, ثم كفّ بعضهم عن بعض, فأتوا موسى فذكروا له شأنهم فقالوا: يا رسول الله إن هؤلاء قتلوا قتـيلاً ثم ردوا البـاب, وقال أهل الـمدينة: يا رسول الله قد عرفت اعتزالنا الشرور وبنـينا مدينة كما رأيت نعتزل شرور الناس ما قتلنا ولا علـمنا قاتلاً. فأوحى الله تعالـى ذكره إلـيه أن يذبحوا بقرة, فقال لهم موسى: إِنّ اللّهَ يأمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً.
954ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن هشام بن حسان, عن مـحمد بن سيرين, عن عبـيدة, قال: كان فـي بنـي إسرائيـل رجل عقـيـم وله مال كثـير, فقتله ابن أخ له فجرّه فألقاه علـى بـاب ناس آخرين. ثم أصبحوا فـادعاه علـيهم حتـى تسلّـح هؤلاء وهؤلاء, فأرادوا أن يقتتلوا, فقال ذوو النهي منهم: أتقتتلون وفـيكم نبـيّ الله فأمسكوا حتـى أتوا موسى, فقصوا علـيه القصة, فأمرهم أن يذبحوا بقرة فـيضربوه ببعضها, فقالوا: أتَتّـخِذُنا هُزُوا قال أعُوذُ بـاللّهِ أنْ أكُونَ مِنَ الـجاهِلِـينَ.
955ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: قتـيـل من بنـي إسرائيـل طرح فـي سبط من الأسبـاط, فأتـى أهل ذلك السبط إلـى ذلك السبط, فقالوا: أنتـم والله قتلتـم صاحبنا, فقالوا: لا والله. فأتوا إلـى موسى فقالوا: هذا قتـيـلنا بـين أظهرهم, وهم والله قتلوه, فقالوا: لا والله يا نبـي الله طرح علـينا. فقال لهم موسى صلى الله عليه وسلم: إِنّ اللّهَ يأمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً.
قال أبو جعفر: فكان اختلافهم وتنازعهم وخصامهم بـينهم فـي أمر القتـيـل الذي ذكرنا أمره علـى ما روينا من علـمائنا من أهل التأويـل هو الدرء الذي قال الله جل ثناؤه لذرّيتهم وبقايا أولادهم: فـادّارأتُـمْ فِـيها وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُـمْ تَكْتُـمُونَ.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُـمْ تَكْتُـمُونَ.
ويعنـي بقوله: وَاللّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُـمْ تَكْتُـمُونَ والله معلن ما كنتـم تسرّونه من قتل القتـيـل الذي قتلتـم ثم ادارأتـم فـيه. ومعنى الإخراج فـي هذا الـموضع: الإظهار والإعلان لـمن خفـي ذلك عنه وإطلاعهم علـيه, كما قال الله تعالـى ذكره: ألاّ يَسْجُدوا لِلّهِ الّذِي يُخْرِجُ الـخَبْءَ فِـي السّمَوَاتِ وَالأرْضِ يعنـي بذلك: يظهره ويطلعه من مخبئه بعد خفـائه. والذي كانوا يكتـمونه فأخرجه هو قتل القاتل القتـيـل, كما كتـم ذلك القاتل ومن علـمه مـمن شايعه علـى ذلك حتـى أظهره الله وأخرجه, فأعلن أمره لـمن لا يعلـم أمره. وعنـي جلّ ثناؤه بقوله: تَكْتُـمُونَ تسرّون وتغيبون. كما:
956ـ حدثنا مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُـمْ تَكْتُـمُونَ قال: تغيبون.
957ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: ما كُنْتُـمْ تَكْتُـمُونَ ما كنتـم تغيبون.
الآية : 73
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَىَ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ }
يعنـي جل ذكره بقوله: فَقُلْنا لقوم موسى الذين ادّارؤا فـي القتـيـل الذي قد تقدم وصفنا أمره: اضربوا القتـيـل. والهاء التـي فـي قوله: اضْرِبُوهُ من ذكر القتـيـل ببعضها أي ببعض البقرة التـي أمرهم الله بذبحها فذبحوها.
ثم اختلف العلـماء فـي البعض الذي ضرب به القتـيـل من البقرة وأيّ عضو كان ذلك منها, فقال بعضهم: ضرب بفخذ البقرة القتـيـل. ذكر من قال ذلك:
958ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قال: ضرب بفخذ البقرة, فقام حيا, فقال: قتلنـي فلان ثم عاد فـي ميتته.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قال: ضرب بفخذ البقرة, ثم ذكر مثله.
959ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا جرير بن نوح, عن النضر بن عربـي, عن عكرمة: فقلنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها قال: بفخذها فلـما ضرب بها عاش وقال: قتلنـي فلان ثم عاد إلـى حاله.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن خالد بن يزيد, عن مـجاهد, قال: ضرب بفخذها الرجل فقام حيا, فقال: قتلنـي فلان, ثم عاد فـي ميتته.
960ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الزراق, قال: أخبرنا معمر, قال: قال أيوب عن ابن سيرين, عن عبـيدة, ضربوا الـمقتول ببعض لـحمها. وقال معمر عن قتادة: ضربوه بلـحم الفخذ فعاش, فقال: قتلنـي فلان.
961ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: ذكر لنا أنهم ضربوه بفخذها فأحياه الله, فأنبأ بقاتله الذي قتله وتكلـم, ثم مات.
وقال آخرون: الذي ضرب به منها هو البَضْعة التـي بـين الكتفـين. ذكر من قال ذلك:
962ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها فضربوه بـالبضعة التـي بـين الكتفـين فعاش, فسألوه: من قتلك؟ فقال لهم: ابن أخي.
وقال آخرون: الذي أمروا أن يضربوه به منها عظم من عظامها. ذكر من قال ذلك:
963ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية, قال: أمرهم موسى أن يأخذوا عظما منها فـيضربوا به القتـيـل ففعلوا, فرجع إلـيه روحه, فسمى لهم قاتله ثم عاد ميتا كما كان. فأخذ قاتله وهو الذي أتـى موسى فشكا إلـيه فقتله الله علـى أسوإ عمله. وقال آخرون بـما:
964ـ حدثنـي به يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: ضربوا الـميت ببعض آرابها, فإذا هو قاعد, قالوا: من قتلك؟ قال: ابن أخي. قال: وكان قتله وطرحه علـى ذلك السبط, أراد أن يأخذ ديته.
والصواب من القول فـي تأويـل قوله عندنا: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا أن يقال: أمرهم الله جل ثناؤه أن يضربوا القتـيـل ببعض البقرة لـيحيا الـمضروب. ولا دلالة فـي الآية ولا خبر تقوم به حجة علـى أيّ أبعاضها التـي أمر القوم أن يضربوا القتـيـل به. وجائز أن يكون الذي أمروا أن يضربوه به هو الفخذ, وجائز أن يكون ذلك الذنب وغضروف الكتف وغير ذلك من أبعاضها. ولا يضرّ الـجهل بأيّ ذلك ضربوا القتـيـل, ولا ينفع العلـم به مع الإقرار بأن القوم قد ضربوا القتـيـل ببعض البقرة بعد ذبحها, فأحياه الله.
فإن قال قائل: وما كان معنى الأمر بضرب القتـيـل ببعضها؟ قـيـل: لـيحيا فـينبىء نبـي الله موسى صلى الله عليه وسلم والذين ادّارءوا فـيه من قاتله.
فإن قال قائل: وأين الـخبر عن أن الله جل ثناؤه أمرهم بذلك لذلك؟ قـيـل: ترك ذلك اكتفـاءً بدلالة ما ذكر من الكلام الدال علـيه نـحو الذي ذكرنا من نظائر ذلك فـيـما مضى. ومعنى الكلام: فقلنا: اضربوه ببعضها لـيحيا, فضربوه فحيـي كما قال جل ثناؤه: أنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ البَحْرَ فَـانْفَلَقَ والـمعنى: فضرب فـانفلق. يدل علـى ذلك قوله: كَذَلِكَ يُحْيِـي اللّهُ الـمَوْتَـى ويُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: كَذَلِكَ يُحْيِـي اللّهُ الـمَوْتَـى.
وقوله: كَذَلِكَ يُحْيِـي اللّهُ الـمَوْتَـى مخاطبة من الله عبـاده الـمؤمنـين, واحتـجاج منه علـى الـمشركين الـمكذّبـين بـالبعث, وأمرهم بـالاعتبـار بـما كان منه جل ثناؤه من إحياء قتـيـل بنـي إسرائيـل بعد مـماته فـي الدنـيا, فقال لهم تعالـى ذكره: أيها الـمكذّبون بـالبعث بعد الـمـمات, اعتبروا بإحيائي هذا القتـيـل بعد مـماته, فإنـي كما أحيـيته فـي الدنـيا فكذلك أحيـي الـموتـى بعد مـماتهم, فأبعثهم يوم البعث, فإنـما احتـجّ جل ذكره بذلك علـى مشركي العرب وهم قوم أُمّيون لا كتاب لهم, لأن الذين كانوا يعلـمون علـم ذلك من بنـي إسرائيـل كانوا بـين أظهرهم وفـيهم نزلت هذه الاَيات, فأخبرهم جل ذكره بذلك لـيتعرّفوا علـم من قبلهم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ.
يعنـي جل ذكره: ويريكم الله أيها الكافرون الـمكذّبون بـمـحمد صلى الله عليه وسلم وبـما جاء به من عند الله من آياته وآياته: أعلامه وحججه الدالة علـى نبوّته لتعقلوا وتفهموا أنه مـحقّ صادق فتؤمنوا به وتتبعوه.
الآية : 74
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{ثُمّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدّ قَسْوَةً وَإِنّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ وَإِنّ مِنْهَا لَمَا يَشّقّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَآءُ وَإِنّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ }
يعنـي بذلك كفـار بنـي إسرائيـل, وهم فـيـما ذكر بنو أخي الـمقتول, فقال لهم: ثم قست قلوبكم: أي جفت وغلظت وعست, كما قال الراجز:
وَقَدْ قَسَوْتُ وَقَسَا لِدَاتـي
يقال: قسا وعسا وعتا بـمعنى واحد, وذلك إذا جفـا وغلظ وصلب, يقال منه: قسا قلبه يقسو قَسْوا وقسوةً وقساوة وقَسَاءً.
ويعنـي بقوله: مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ من بعد أن أحيا الـمقتول لهم الذي ادّارءوا فـي قتله. فأخبرهم بقاتله وما السبب الذي من أجله قتله كما قد وصفنا قبل علـى ما جاءت الاَثار والأخبـار وفصل الله تعالـى ذكره بخبره بـين الـمـحقّ منهم والـمبطل. وكانت قساوة قلوبهم التـي وصفهم الله بها أنهم فـيـما بلغنا أنكروا أن يكونوا هم قتلوا القتـيـل الذي أحياه الله, فأخبر بنـي إسرائيـل بأنهم كانوا قتلته بعد إخبـاره إياهم بذلك, وبعد ميتته الثانـية. كما:
965ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: حدثنـي أبـي, قال: حدثنـي عمي, قال: حدثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قال: لـما ضرب الـمقتول ببعضها يعنـي ببعض البقرة جلس حيا, فقـيـل له: من قتلك؟ فقال: بنو أخي قتلونـي. ثم قُبض, فقال بنو أخيه حين قُبض: والله ما قتلناه. فكذّبوا بـالـحق بعد إذ رأوه, فقال الله: ثُمّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذِلكَ يعنـي بنـي أخي الشيخ, فَهِيَ كالـحجارَة أوْ أشَدّ قَسْوَةً.
966ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: ثُمّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ يقول: من بعد ما أراهم الله من إحياء الـموتـى, وبعد ما أراهم من أمر القتـيـل ما أراهم, فهي كالـحجارة أو أشدّ قسوة.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَهِيَ كالـحِجارَةِ أوْ أشَدّ قَسْوَةً.
يعنـي بقوله: فَهِيَ قلوبكم. يقول: ثم صلبت قلوبكم بعد إذ رأيتـم الـحقّ فتبـينتـموه وعرفتـموه عن الـخضوع له والإذعان لواجب حق الله علـيكم, فقلوبكم كالـحجارة صلابة ويبسا وغلظا وشدّة, أو أشد صلابة يعنـي قلوبكم عن الإذعان لواجب حقّ الله علـيهم, والإقرار له بـاللازم من حقوقه لهم من الـحجارة.
فإن سأل سائل فقال: وما وجه قوله: فَهِيَ كالـحِجَارَةِ أوْ أشَدّ قَسْوَةً وأو عند أهل العربـية إنـما تأتـي فـي الكلام لـمعنى الشك, والله تعالـى جل ذكره غير جائز فـي خبره الشك؟ قـيـل: إن ذلك علـى غير الوجه الذي توهمته من أنه شك من الله جل ذكره فـيـما أخبر عنه, ولكنه خبر منه عن قلوبهم القاسية أنها عند عبـاده الذين هم أصحابها الذين كذّبوا بـالـحقّ بعد ما رأوا العظيـم من آيات الله كالـحجارة قسوة أو أشدّ من الـحجارة عندهم وعند من عرف شأنهم, وقد قال فـي ذلك جماعة من أهل العربـية أقوالاً:
فقال بعضهم: إنـما أراد الله جل ثناؤه بقوله: فَهِيَ كالـحِجارَةِ أوْ أشَدّ قَسْوَةً وما أشبه ذلك من الأخبـار التـي تأتـي ب«أو», كقوله: وأرْسَلْنَاهُ إلـى مائَةِ ألْفٍ أوْ يَزِيدُونَ وكقول الله جل ذكره: وَإِنّا أوْ إيّاكُمْ لَعَلـى هُدًى أوْ فِـي ضَلالٍ مُبِـينٍ فهو عالـم أيّ ذلك كان. قالوا: ونظير ذلك قول القائل: أكلت بسرة أو رطبة, وهو عالـم أيّ ذلك أكل ولكنه أبهم علـى الـمخاطب, كما قال أبو الأسود الدؤلـي:
أُحِبّ مُـحَمّدا حُبّـا شَدِيداوَعَبّـاسا وحَمْزَةَ وَالوَصِيّا
فَإنْ يَكُ حُبّهُمْ رَشَدا أُصِبْهوَلَسْتُ بِـمُخْطِىءٍ إِنْ كَانَ غَيّا
قالوا: ولا شك أن أبـا الأسود لـم يكن شاكّا فـي أن حب من سَمّى رشد, ولكنه أبهم علـى من خاطبه به. وقد ذكر عن أبـي الأسود أنه لـما قال هذه الأبـيات قـيـل له: شككت؟ فقال: كلا والله ثم انتزع بقول الله عزّ وجلّ وإنّا وإيّاكُمْ لَعَلـى هُدًى أوْ فِـي ضَلالٍ مُبِـينٍ فقال: أو كان شاكّا من أخبر بهذا فـي الهادي من الضلال من الضلال؟
وقال بعضهم: ذلك كقول القائل: ما أطعمتك إلا حلوا أو حامضا, وقد أطعمه النوعين جميعا. فقالوا: فقائل ذلك لـم يكن شاكّا أنه قد أطعم صاحبه الـحلو والـحامض كلـيهما, ولكنه أراد الـخبر عما أطعمه إياه أنه لـم يخرج عن هذين النوعين. قالوا: فكذلك قوله: فَهِيَ كالـحِجَارَةِ أوْ أشَدّ قَسْوَةً إنـما معناه: فقلوبهم لا تـخرج من أحد هذين الـمثلـين إما أن تكون مثلاً للـحجارة فـي القسوة, وإما أن تكون أشدّ منها قسوة. ومعنى ذلك علـى هذا التأويـل: فبعضها كالـحجارة قسوة, وبعضها أشدّ قسوة من الـحجارة.
وقال بعضهم: «أو» فـي قوله: أوْ أشَدّ قَسْوَةً بـمعنى: وأشدّ قسوة, كما قال تبـارك وتعالـى: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثما أوْ كَفُورا بـمعنى: وكفورا. وكما قال جرير بن عطية:
نالَ الـخِلافَةَ أوْ كانَتْ لَهُ قَدَراكَما أتـى رَبّهُ مُوسَى عَلـى قَدَرِ
يعنـي نال الـخلافة وكانت له قدرا. وكما قال النابغة:
قالَتْ ألا لَـيْتَـما هَذَا الـحَمَامُ لَناإلـى حَمامَتِنا أوْ نِصْفُهُ فَقَدِ
يريد ونصفه.
وقال آخرون: «أو» فـي هذا الـموضع بـمعنى «بل», فكان تأويـله عندهم فهي كالـحجارة بل أشدّ قسوة, كما قال جل ثناؤه: وأرْسَلْناهُ إلـى مِائَةِ ألْفٍ أوْ يَزِيدُونَ بـمعنى: بل يزيدون.
وقال آخرون: معنى ذلك: فهي كالـحجارة أو أشدّ قسوة عندكم.
قال أبو جعفر: ولكل مـما قـيـل من هذه الأقوال التـي حكينا وجه ومخرج فـي كلام العرب, غير أن أعجب الأقوال إلـيّ فـي ذلك ما قلناه أوّلاً, ثم القول الذي ذكرناه عمن وجه ذلك إلـى أنه بـمعنى: فهي أوجه فـي القسوة من أن تكون كالـحجارة أو أشدّ, علـى تأويـل أن منها كالـحجارة, ومنها أشدّ قسوة لأن «أو» وإن استعملت فـي أماكن من أماكن الواو حتـى يـلتبس معناها ومعنى الواو لتقارب معنـيـيهما فـي بعض تلك الأماكن, فإن أصلها أن تأتـي بـمعنى أحد الاثنـين, فتوجيهها إلـى أصلها من وجد إلـى ذلك سبـيلاً أعجب إلـيّ من إخراجها عن أصلها ومعناها الـمعروف لها.
قال: وأما الرفع فـي قوله: أوْ أشَدّ قَسْوَةً فمن وجهين: أحدهما أن يكون عطفـا علـى معنى الكاف التـي فـي قوله: كالـحِجارَةِ لأن معناها الرفع, وذلك أن معناها معنى مثل: فهي مثل الـحجارة أو أشدّ قسوة من الـحجارة. والوجه الاَخر: أن يكون مرفوعا علـى معنى تكرير «هي» علـيه فـيكون تأويـل ذلك: فهي كالـحجارة أو هي أشدّ قسوة من الـحجارة.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَإنّ مِنَ الـحِجَارَةِ لَـمَا يَتَفَجّرُ مِنْهُ الأنْهارُ.
يعنـي بقوله جل ذكره: وَإنّ مِنَ الـحِجَارَةِ لَـمَا يَتَفَجّرُ مِنْهُ الأنْهارُ وإن من الـحجارة حجارة يتفجر منها الـماء الذي تكون منه الأنهار, فـاستغنى بذكر الـماء عن ذكر الأنهار, وإنـما ذكّر فقال «منه» للفظ «ما». والتفجر: التفعل من فجر الـماء, وذلك إذا تنزّل خارجا من منبعه, وكل سائل شخص خارجا من موضعه ومكانه فقد انفجر ماء كان ذلك أو دما أو صديدا أو غير ذلك, ومنه قوله عمر بن لـجأ:
ولَـمّا أنْ قُرِئْتُ إلـى جَرِيرٍأبَى ذُو بَطْنِهِ إلاّ انْفِجارَا
يعنـي: إلا خروجا وسيلانا.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَإنّ مِنْهَا لَـمَا يَشَقّقُ فَـيَخْرُجُ مِنْهُ الـمَاءُ.
يعنـي بقوله جل ثناؤه وَإنّ مِنَ الـحِجَارةِ لـحجارة تشقق. وتشققها: تصدّعها. وإنـما هي: لِـمَا يتشقق, ولكن التاء أدغمت فـي الشين فصارت شينا مشددة. وقوله: فَـيَخْرُجُ مِنْهُ الـمَاءُ فـيكون عينا نابعة وأنهارا جارية.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَإنّ مِنْها لَـمَا يَهبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ.
قال أبو جعفر: يعنـي بذلك جل ثناؤه: وإن من الـحجارة لـما يهبط: أي يتردّى من رأس الـجبل إلـى الأرض والسفح من خوف الله وخشيته. وقد دللنا علـى معنى الهبوط فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. وأدخـلت هذه اللامات اللواتـي فـي «ما» توكيدا للـخبر. وإنـما وصف الله تعالـى ذكره الـحجارة بـما وصفها به من أن منها الـمتفجر منه الأنهار, وأن منها الـمتشقق بـالـماء, وأن منها الهابط من خشية الله بعد الذي جعل منها لقلوب الذين أخبر عن قسوة قلوبهم من بنـي إسرائيـل مثلاً, معذرة منه جل ثناؤه لها دون الذين أخبر عن قسوة قلوبهم من بنـي إسرائيـل إذ كانوا بـالصفة التـي وصفهم الله بها من التكذيب برسله والـجحود لاَياته بعد الذي أراهم من الاَيات والعبر وعاينوا من عجائب الأدلة والـحجج مع ما أعطاهم تعالـى ذكره من صحة العقول ومنّ به علـيهم من سلامة النفوس التـي لـم يعطها الـحجر والـمدر, ثم هو مع ذلك منه ما يتفجر بـالأنهار ومنه ما يتشقق بـالـماء ومنه ما يهبط من خشية الله, فأخبر تعالـى ذكره أن من الـحجارة ما هو ألـين من قلوبهم لـما يدعون إلـيه من الـحقّ. كما:
967ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق.
وبنـحو الذي قلنا فـي تأويـل ذلك قال أهل التأويـل ذكر من قال ذلك:
968ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله جل ثناؤه: ثُمّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِنْ بَعْدِ ذلكَ فَهِيَ كالـحِجارَةِ أوْ أشَدّ قَسْوَةً وَإنّ مِنَ الـحِجَارَةِ لَـمَا يَتَفَجّرُ مِنْهُ أَلانْهَارُ وَإنّ مِنْهَا لَـمَا يَشّقّقُ فَـيَخْرُجُ مِنْهُ الـمَاءُ وَإنّ مِنْهَا لَـمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ قال: كل حجر يتفجر منه الـماء أو يتشقق عن ماء, أو يتردّى من رأس جبل, فهو من خشية الله عزّ وجل, نزل بذلك القرآن.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد مثله.
969ـ حدثنـي بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: فَهِيَ كَالـحِجارَةِ أوْ أشَدّ قَسْوَةً ثم عذر الـحجارة ولـم يعذر شقـيّ ابن آدم, فقال: وَإنّ مِنَ الـحِجَارَةِ لَـمَا يَتَفَجّرُ مِنْهُ أَلانْهَارُ وَإنّ مِنْهَا لَـمَا يَشقّقُ فَـيَخْرُجُ مِنْهُ الـمَاءُ وَإنّ مِنْهَا لَـمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة مثله.
970ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: حدثنـي أبـي, قال: حدثنـي عمي, قال: حدثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قال: ثم عذر الله الـحجارة فقال: وَإنّ مِنَ الـحِجَارَةِ لَـمَا يَتَفَجّرُ مِنْهُ الأنْهارُ وَإنّ مِنْهَا لَـمَا يَشَقّقُ فَـيَخْرُجُ مِنْهُ الـمَاءُ.
971ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج أنه قال: فـيها كل حجر انفجر منه ماء أو تشقق عن ماء أو تردّى من جبل, فمن خشية الله نزل به القرآن.
ثم اختلف أهل النـحو فـي معنى هبوط ما هبط من الـحجارة من خشية الله. فقال بعضهم: إن هبوط ما هبط منها من خشية الله: تفـيؤ ظلاله. وقال آخرون: ذلك الـجبل الذي صار دكا إذ تـجلّـى له ربه. وقال بعضهم: ذلك كان منه, ويكون بأن الله جل ذكره أعطى بعض الـحجارة الـمعرفة والفهم, فعقل طاعة الله فأطاعه كالذي رُوي عن الـجذع الذي كان يستند إلـيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب فلـما تـحوّل عنه حنّ. وكالذي رُوي عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ حَجَرا كانَ يُسَلّـمُ عَلـيّ فِـي الـجاهِلِـيّة إنّـي لأَعْرِفُهُ الاَنَ».
وقال آخرون: بل قوله: يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ كقوله: جِدَارا يُرِيدُ أنْ يَنْقَضّ ولا إرادة له, قالوا: وإنـما أريد بذلك أنه من عظم أمر الله يرى كأنه هابط خاشع من ذلّ خشية الله, كما قال زيد الـخيـل:
بِجَمْعٍ تَضِلّ البُلْقُ فِـي حَجَرَاتِهِتَرَى أُلاكْمَ فِـيها سُجّدا للْـحَوَافِرِ
وكما قال سويد بن أبـي كاهل يصف عدوّا له يريد أنه ذلـيـل:
ساجِدَ الـمَنْـخَرِ لا يَرْفَعُهُخاشِعَ الطّرْفِ أصَمّ الـمُسْتَـمَعْ
وكما قال جرير بن عطية:
لَـمَا أتـى خَبَرُ الرّسُولِ تَضَعْضَعَتْسُورُ الـمَدِينَةِ والـجِبـالُ الـخُشّعُ
وقال آخرون: معنى قوله: يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ أي يوجب الـخشية لغيره بدلالته علـى صانعه كما قـيـل: ناقة تاجرة: إذا كانت من نـجابتها وفراهتها تدعو الناس إلـى الرغبة فـيها, كما قال جرير بن عطية:
وأعْوَرُ مِنْ نَبْهانَ أمّا نَهارُهُفأعْمَى وأمّا لَـيْـلُهُ فَبَصِيرٌ
فجعل الصفة للـيـل والنهار, وهو يريد بذلك صاحبه النبهانـي الذي يهجوه, من أجل أنه فـيهما كان ما وصفه به.
وهذه الأقوال وإن كانت غير بعيدات الـمعنى مـما تـحتـمله الآية من التأويـل, فإن تأويـل أهل التأويـل من علـماء سلف الأمة بخلافها فلذلك لـم نستـجز صرف تأويـل الآية إلـى معنى منها. وقد دللنا فـيـما مضى علـى معنى الـخشية, وأنها الرهبة والـمخافة, فكرهنا إعادة ذلك فـي هذا الـموضع.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَما اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ.
يعنـي بقوله: وَما اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ وما الله بغافل يا معشر الـمكذّبـين بآياته والـجاحدين نبوّة رسوله مـحمد صلى الله عليه وسلم, والـمتقوّلـين علـيه الأبـاطيـل من بنـي إسرائيـل وأحبـار الـيهود, عما تعملون من أعمالكم الـخبـيثة وأفعالكم الرديئة ولكنه يحصيها علـيكم, فـيجازيكم بها فـي الاَخرة أو يعاقبكم بها فـي الدنـيا. وأصل الغفلة عن الشيء: تركه علـى وجه السهو عنه والنسيان له, فأخبرهم تعالـى ذكره أنه غير غافل عن أفعالهم الـخبـيثة ولا ساه عنها, بل هو لها مـحص, ولها حافظ.
الآية : 75
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمّ يُحَرّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }
يعنـي بقوله جل ثناؤه: أفَتَطْمَعُونَ يا أصحاب مـحمد, أي أفترجون يا معشر الـمؤمنـين بـمـحمد صلى الله عليه وسلم والـمصدّقـين ما جاءكم به من عند الله أن يؤمن لكم يهود بنـي إسرائيـل؟
ويعنـي بقوله: أنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ أن يصدقوكم بـما جاءكم به نبـيكم صلى الله عليه وسلم مـحمد من عند ربكم. كما:
972ـ حدثت عن عمار بن الـحسن, عن ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله أفَتَطْمَعُونَ أنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ يعنـي أصحاب مـحمد صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا لكم, يقول: أفتطمعون أن يؤمن لكم الـيهود؟.
973ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: أفَتَطْمَعُونَ أنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ الآية, قال: هم الـيهود.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ.
قال أبو جعفر: أما الفريق فجمع كالطائفة لا واحد له من لفظه, وهو فعيـل من التفرّق سمي به الـجماع كما سميت الـجماعة بـالـحزب من التـحزّب وما أشبه ذلك, ومنه قول أعشى بنـي ثعلبة:
أَجَدّوا فلَـمّا خِفْتُ أنْ يَتَفَرّقُوافَرِيقَـيْنِ مِنْهُمْ مُصْعِدٌ وَمُصَوّبُ
يعنـي بقوله: مِنْهُمْ من بنـي إسرائيـل. وإنـما جعل الله الذين كانوا علـى عهد موسى ومن بعدهم من بنـي إسرائيـل من الـيهود الذين قال الله لأصحاب مـحمد صلى الله عليه وسلم: أفتطمعون أن يؤمنوا لكم لأنهم كانوا آبـاؤهم وأسلافهم, فجعلهم منهم إذ كانوا عشائرهم وفرطهم وأسلافهم, كما يذكر الرجل الـيوم الرجل وقد مضى علـى منهاج الذاكر وطريقته وكان من قومه وعشيرته, فـيقول: كان منا فلان يعنـي أنه كان من أهل طريقته أو مذهبه أو من قومه وعشيرته فكذلك قوله: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمّ يُحَرّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَـمُونَ.
اختلف أهل التأويـل فـي الذيننَعنَى الله بقوله: وَقَدْ كان فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمّ يُحَرّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَـمُونَ. فقال بعضهم بـما:
974ـ حدثنـي به مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: أفَتَطْمَعُونَ أنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّهِ ثُمّ يُحَرّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَـمُونَ فـالذين يحرّفونه والذين يكتـمونه: هم العلـماء منهم.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن أبـي نـجيح, عن مـجاهد بنـحوه.
975ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: أَفَتَطْمَعُونَ أنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّهِ ثُمّ يُحَرّفونَهُ منْ بَعْدِ ما عَقَلُوه قال: هي التوراة حرّفوها.
976ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّهِ ثُمّ يُحَرّفُونَهُ قال: التوراة التـي أنزلها علـيهم يحرّفونها, يجعلون الـحلال فـيها حراما والـحرام فـيها حلالاً, والـحقّ فـيها بـاطلاً والبـاطل فـيها حقا, إذا جاءهم الـمـحقّ برشوة أخرجوا له كتاب الله, وإذا جاءهم الـمبطل برشوة أخرجوا له ذلك الكتاب فهو فـيه مـحقّ, وإن جاء أحد يسألهم شيئا لـيس فـيه حقّ ولا رشوة ولا شيء أمروه بـالـحقّ, فقال لهم: أتأمُرُونَ النّاسَ بـالبرّ وتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ وأنْتُـمْ تَتْلُونَ الكِتابَ أفَلا تَعْقِلُونَ. وقال آخرون فـي ذلك بـما:
977ـ حدثت عن عمار بن الـحسن, قال: أخبرنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمّ يُحَرّفُونَه مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَـمُونَ فكانوا يسمعون من ذلك كما يسمع أهل النبوّة, ثم يحرّفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلـمون.
978ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق فـي قوله: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ الآية, قال: لـيس قوله: يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ يسمعون التوراة, كلهم قد سمعها ولكنهم الذين سألوا موسى رؤية ربهم, فأخذتهم الصاعقة فـيها.
979ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن مـحمد بن إسحاق, قال: بلغنـي عن بعض أهل العلـم أنهم قالوا لـموسى: يا موسى قد حِيـلَ بـيننا وبـين رؤية الله عز وجل, فأسمعنا كلامه حين يكلـمك فطلب ذلك موسى إلـى ربه, فقال: نعم, فمرهم فلـيتطهروا ولـيطهروا ثـيابهم ويصوموا ففعلوا, ثم خرج بهم حتـى أتـى الطور, فلـما غشيهم الغمام أمرهم موسى علـيه السلام, فوقعوا سجودا, وكلـمه ربه فسمعوا كلامه يأمرهم وينهاهم, حتـى عقلوا ما سمعوا, ثم انصرف بهم إلـى بنـي إسرائيـل, فلـما جاءوهم حرف فريق منهم ما أمرهم به, وقالوا حين قال موسى لبنـي إسرائيـل: إن الله قد أمركم بكذا وكذا, قال ذلك الفريق الذي ذكرهم الله: إنـما قال كذا وكذا خلافـا لـما قال الله عز وجل لهم. فهم الذين عنى الله لرسوله مـحمد صلى الله عليه وسلم.
وأولـى التأويـلـين اللذين ذكرت بـالآية وأشبههما بـما دل علـيه ظاهر التلاوة, ما قاله الربـيع بن أنس والذي حكاه ابن إسحاق عن بعض أهل العلـم, من أن الله تعالـى ذكره إنـما عنى بذلك من سمع كلامه من بنـي إسرائيـل سماع موسى إياه منه ثم حرّف ذلك وبدّل من بعد سماعه وعلـمه به وفهمه إياه. وذلك أن الله جل ثناؤه إنـما أخبر أن التـحريف كان من فريق منهم كانوا يسمعون كلام الله عزّ وجلّ استعظاما من الله لـما كانوا يأتون من البهتان بعد توكيد الـحجة علـيهم والبرهان, وإيذانا منه تعالـى ذكره عبـاده الـمؤمنـين وقطع أطماعهم من إيـمان بقايا نسلهم بـما أتاهم به مـحمد من الـحقّ والنور والهدى, فقال لهم: كيف تطمعون فـي تصديق هؤلاء الـيهود إياكم وإنـما تـخبرونهم بـالذي تـخبرونهم من الإنبـاء عن الله عزّ وجلّ عن غيب لـم يشاهدوه ولـم يعاينوه؟ وقد كان بعضهم يسمع من الله كلامه, وأمره ونهيه, ثم يبدّله ويحرّفه ويجحده, فهؤلاء الذين بـين أظهركم من بقايا نسلهم أحرى أن يجحدوا ما أتـيتـموهم به من الـحقّ وهم لا يسمعونه من الله, وإنـما يسمعونه منكم وأقرب إلـى أن يحرّفوا ما فـي كتبهم من صفة نبـيكم مـحمد صلى الله عليه وسلم ونعته ويبدّلوه وهم به عالـمون فـيجحدوه ويكذّبوا من أوائلهم الذين بـاشروا كلام الله من الله جل ثناؤه ثم حرّفوه من بعد ما عقلوه وعلـموه متعمدين التـحريف. ولو كان تأويـل الآية علـى ما قاله الذين زعموا أنه عنى بقوله: يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّهِ يسمعون التوراة, لـم يكن لذكر قوله: يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّهِ معنى مفهوم لأن ذلك قد سمعه الـمـحرّف منهم وغير الـمـحرّف. فخصوص الـمـحرّف منهم بأنه كان يسمع كلام الله إن كان التأويـل علـى ما قاله الذين ذكرنا قولهم دون غيرهم مـمن كان يسمع ذلك سماعهم لا معنى له.
فإن ظن ظانّ إنـما صلـح أن يقال ذلك لقوله: يُحَرّفُونَهُ فقد أغفل وجه الصواب فـي ذلك. وذلك أن ذلك لو كان كذلك لقـيـل: أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يحرّفون كلام الله من بعد ما عقلوه وهم يعلـمون ولكنه جل ثناؤه أخبر عن خاص من الـيهود كانوا أعطوا من مبـاشرتهم سماع كلام الله تعالـى ما لـم يعطه أحد غير الأنبـياء والرسل, ثم بدلوا وحرّفوا ما سمعوا من ذلك, فلذلك وصفهم بـما وصفهم به للـخصوص الذي كان خصّ به هؤلاء الفريق الذي ذكرهم فـي كتابه تعالـى ذكره.
ويعنـي بقوله: ثُمّ يُحَرّفُونَهُ ثم يبدلون معناه, وتأويـله: ويغيرونه. وأصله من انـحراف الشيء عن جهته, وهو ميـله عنها إلـى غيرها. فكذلك قوله: يُحَرّفُونَهُ: أي يـميـلونه عن وجهه, ومعناه الذي هو معناه إلـى غيره. فأخبر الله جل ثناؤه أنهم فعلوا ما فعلوا من ذلك علـى علـم منهم بتأويـل ما حرّفوا, وأنه بخلاف ما حرّفوه إلـيه, فقال: يُحَرّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ يعنـي من بعد ما عقلوا تأويـله وَهُمْ يَعْلَـمُونَ أي يعلـمون أنهم فـي تـحريفهم ما حرّفوا من ذلك مبطلون كاذبون. وذلك إخبـار من الله جل ثناؤه عن إقدامهم علـى البهت, ومناصبتهم العداوة له ولرسوله موسى صلى الله عليه وسلم, وأن بقاياهم من مناصبتهم العداوة لله ولرسوله مـحمد صلى الله عليه وسلم بغيا وحسدا علـى مثل الذي كان علـيه أوائلهم من ذلك فـي عصر موسى علـيه الصلاة والسلام.
الآية : 76
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَإِذَا لَقُواْ الّذِينَ آمَنُواْ قَالُوَاْ آمَنّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُوَاْ أَتُحَدّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }
أما قوله: وَإذَا لَقُوا الّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا فإنه خبر من الله جل ذكره عن الذين أيأس أصحاب مـحمد صلى الله عليه وسلم من إيـمانهم من يهود بنـي إسرائيـل الذين كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرّفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلـمون, وهم الذين إذا لقوا الذين آمنوا بـالله ورسوله مـحمد صلى الله عليه وسلم قالوا آمنا. يعنـي بذلك أنهم إذا لقوا الذين صدّقوا بـالله وبـمـحمد صلى الله عليه وسلم وبـما جاء به من عند الله قالوا آمنا أي صدقنا بـمـحمد وبـما صدقتـم به وأقررنا بذلك. أخبر الله عز وجل أنهم تـخـلقوا بأخلاق الـمنافقـين وسلكوا منهاجهم. كما:
980ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: حدثنـي أبـي, قال: حدثنـي عمي, قال: حدثنـي أبـي عن أبـيه, عن جده, عن ابن عبـاس قوله: وَإذَا لَقُوا الّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا وَإذَا خَلا بَعْضُهُمْ إلـى بَعْضٍ قالُوا أتُـحَدّثُونَهُمْ بِـما فَتَـحَ اللّهُ عَلَـيْكُمْ وذلك أن نفرا من الـيهود كانوا إذا لقوا مـحمدا صلى الله عليه وسلم قالوا: آمنا, وإذا خلا بعضهم إلـى بعض قالوا: أتـحدثونهم بـما فتـح الله علـيكم.
981ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس: وإذَا لَقُوا الّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا يعنـي الـمنافقـين من الـيهود كانوا إذا لقوا أصحاب مـحمد صلى الله عليه وسلم قالوا آمنا.
وقد رُوي عن ابن عبـاس فـي تأويـل ذلك قول آخر, وهو ما:
982ـ حدثنا به ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة بن الفضل, عن مـحمد بن إسحاق, عن مـحمد بن أبـي مـحمد, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس: وَإذَا لَقُوا الّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا أي بصاحبكم رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولكنه إلـيكم خاصة.
983ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: وَإذَا لَقُوا الّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا الآية, قال: هؤلاء ناس من الـيهود آمنوا ثم نافقوا.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إلـى بَعْضٍ قالُوا أتُـحَدّثُونَهُمْ بِـما فَتَـحَ اللّهُ عَلَـيْكُمْ لِـيُحَاجّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبّكُمْ.
يعنـي بقوله: وَإذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إلـى بَعْضٍ أي إذا خلا بعض هؤلاء الـيهود الذين وصف الله صفتهم إلـى بعض منهم فصاروا فـي خلاء من الناس غيرهم, وذلك هو الـموضع الذي لـيس فـيه غيرهم, قالوا يعنـي قال بعضهم لبعض: أتـحدثونهم بـما فتـح الله علـيكم؟.
ثم اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: بِـمَا فَتَـحَ اللّهُ عَلَـيْكُمْ. فقال بعضهم بـما:
984ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس: وَإذَا خَلا بَعْضُهُمْ إلـى بَعْضٍ قالُوا أتُـحَدّثونَهُمْ بِـمَا فَتَـحَ اللّهُ عَلَـيْكُمْ يعنـي بـما أمركم الله به, فـيقول الاَخرون: إنـما نستهزىء بهم ونضحك.
وقال آخرون بـما:
985ـ حدثنا ابن حميد, عن ابن عبـاس: وَإذَا لَقُوا الّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا أي بصاحبكم رسول الله, ولكنه إلـيكم خاصة, وإذا خلا بعضهم إلـى بعض قالوا: لا تـحدّثوا العرب بهذا فإنكم قد كنتـم تستفتـحون به علـيهم, فكان منهم. فأنزل الله: وإذَا لَقُوا الّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا, وَإذا خَلا بَعْضُهُمْ إلـى بَعْضٍ قالُوا أَتُـحَدّثُونَهُمْ بِـمَا فَتَـحَ اللّهُ عَلَـيْكُمْ لِـيُحَاجّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبّكُمْ أي تقرّون بأنه نبـي, وقد علـمتـم أنه قد أخذ له الـميثاق علـيكم بـاتبـاعه, وهو يخبرهم أنه النبـي صلى الله عليه وسلم الذي كنا ننتظر ونـجده فـي كتابنا؟ اجحدوه ولا تقرّوا لهم به. يقول الله: أو لا يعلـمون أن الله يعلـم ما يسرّون وما يعلنون.
986ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية فـي قوله: أتُـحَدّثونهُم بِـمَا فَتَـحَ اللّهُ عَلَـيْكُمْ أي بـما أنزل الله علـيكم فـي كتابكم من نعت مـحمد صلى الله عليه وسلم.
987ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة: قالُوا أتُـحَدّثُونَهُمْ بِـمَا فَتَـحَ اللّهُ عَلَـيْكُمْ أي بـما منّ الله علـيكم فـي كتابكم من نعت مـحمد صلى الله عليه وسلم, فإنكم إذا فعلتـم ذلك احتـجوا به علـيكم أفَلاَ تَعْقِلُونَ؟.
988ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة: أتُـحَدّثُونَهُمْ بِـمَا فَتَـحَ اللّهُ عَلَـيْكُمْ لـيحتـجوا به علـيكم.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, قال: قال قتادة: أتُـحَدّثُونَهُمْ بِـمَا فَتَـحَ اللّهُ عَلَـيْكُمْ يعنـي بـما أنزل الله علـيكم من أمر مـحمد صلى الله عليه وسلم ونعته.
وقال آخرون فـي ذلك بـما:
989ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد: بِـمَا فَتَـحَ اللّهُ عَلَـيْكُمْ لِـيُحاجّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبّكُمْ قال: قول يهود بنـي قريظة حين سبهم النبـي صلى الله عليه وسلم بأنهم إخوة القردة والـخنازير, قالوا: من حدثك؟ هذا حين أرسل إلـيهم علـيّا فآذوا مـحمدا, فقال: «يا إخوة القردة والـخنازير».
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد مثله إلا أنه قال: هذا حين أرسل إلـيهم علـيّ بن أبـي طالب رضي الله عنه, وآذوا النبـي صلى الله عليه وسلم فقال: «اخْسَئُوا يا إِخْوَةَ القِرَدَة والـخَنَازِيرِ».
990ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنـي الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: أخبرنـي القاسم بن أبـي بزّة, عن مـجاهد فـي قوله: أتُـحَدّثُونَهُمْ بِـمَا فَتَـحَ اللّهُ عَلَـيْكُمْ قال: قام النبـي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة تـحت حصونهم, فقال: «يا إخْوَانَ القِرَدَةِ ويا إخْوَانَ الـخَنَازِيرِ وَيا عَبَدَةَ الطّاغُوتِ» فقالوا: من أخبر هذا مـحمدا؟ ما خرج هذا إلا منكم أتُـحَدّثُونهُمْ بِـمَا فَتَـحَ اللّهُ عَلَـيْكُمْ بـما حكم الله للفتـح لـيكون لهم حجة علـيكم قال ابن جريج, عن مـجاهد: هذا حين أرسل إلـيهم علـيّا فآذوا مـحمدا صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون بـما:
991ـ حدثنـي موسى: قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: قالوا أتُـحَدّثونهم بِـمَا فَتَـحَ اللّهُ عَلَـيْكُمْ من العذاب لـيحاجوكم به عند ربكم؟ هؤلاء ناس من الـيهود آمنوا ثم نافقوا, فكانوا يحدّثون الـمؤمنـين من العرب بـما عذّبوا به, فقال بعضهم لبعض: أتـحدثونهم بـما فتـح الله علـيكم من العذاب لـيقولوا نـحن أحبّ إلـى الله منكم, وأكرم علـى الله منكم؟
وقال آخرون بـما:
992ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَإذَا خَلا بَعْضُهُمْ إلـى بَعْضٍ قالُوا أتُـحَدّثُونَهُمْ بِـمَا فَتَـحَ اللّهُ عَلَـيْكُمْ لِـيُحَاجّوكُمْ بِهِ عِنْدَ ربّكُمْ قال: كانوا إذا سئلوا عن الشيء قالوا: أما تعلـمون فـي التوراة كذا وكذا؟ قالوا: بلـى. قال: وهم يهود, فـيقول لهم رؤساؤهم الذين يرجعون إلـيهم: ما لكم تـخبرونهم بـالذي أنزل الله علـيكم فـيحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يَدْخُـلَنّ عَلَـيْنَا قَصبَة الـمَدِينَةِ إلاّ مُؤْمِنٌ» فقال رؤساؤهم من أهل الكفر والنفـاق: اذهبوا فقولوا آمنا, واكفروا إذا رجعتـم. قال: فكانوا يأتون الـمدينة بـالبكر ويرجعون إلـيهم بعد العصر. وقرأ قول الله: وقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ آمِنُوا بـالّذِي أُنْزِلَ علـى الّذِينَ آمَنُوا وجْه النّهارِ واكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُون. وكانوا يقولون إذا دخـلوا الـمدينة: نـحن مسلـمون, لـيعلـموا خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره وإذا رجعوا, رجعوا إلـى الكفر. فلـما أخبر الله نبـيه صلى الله عليه وسلم بهم, قطع ذلك عنهم فلـم يكونوا يدخـلون. وكان الـمؤمنون الذين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يظنون أنهم مؤمنون, فـيقولون لهم: ألـيس قد قال الله لكم كذا وكذا؟ فـيقولون: بلـى. فإذا رجعوا إلـى قومهم قالُوا أتُـحَدّثُونهُمْ بِـمَا فَتَـحَ اللّهُ عَلَـيْكُمْ الآية.
وأصل الفتـح فـي كلام العرب: النصر والقضاء والـحكم, يقال منه: اللهم افتـح بـينـي وبـين فلان: أي احكم بـينـي وبـينه, ومنه قول الشاعر:
ألا أبْلِغْ بنِـي عُصَمٍ رَسُولاًبِأنـي عَنْ فُتاحَتِكُمْ غنِـيّ
قال: ويقال للقاضي: الفتاح, ومنه قول الله عز وجل: ربّنا افْتَـحْ بَـيْنَنَا وَبـينَ قَوْمِنَا بـالـحَقّ وأنْت خَيْرُ الفـاتِـحِينَ أي احكم بـيننا وبـينهم.
فإذا كان معنى الفتـح ما وصفنا, تبـين أن معنى قوله: قالُوا أتُـحَدّثُونَهُمْ بِـمَا فَتَـح اللّهُ عَلَـيْكُمْ لِـيُحاجّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبّكُمْ إنـما هو أتـحدثونهم بـما حكم الله به علـيكم وقضاه فـيكم, ومن حكمه جل ثناؤه علـيهم ما أخذ به ميثاقهم من الإيـمان بـمـحمد صلى الله عليه وسلم, وبـما جاء به فـي التوراة, ومن قضائه فـيهم أن جعل منهم القردة والـخنازير, وغير ذلك من أحكامه وقضائه فـيهم, وكل ذلك كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللـمؤمنـين به حجة علـى الـمكذّبـين من الـيهود الـمقرّين بحكم التوراة وغير ذلك. فإن كان كذلك فـالذي هو أولـى عندي بتأويـل الآية قول من قال: معنى ذلك: أتُـحَدّثُونَهُمْ بِـمَا فَتَـحَ اللّهُ عَلَـيْكُمْ من بعث مـحمد صلى الله عليه وسلم إلـى خـلقه لأن الله جل ثناؤه إنـما قصّ فـي أول هذه الآية الـخبر عن قولهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه: آمنا بـما جاء به مـحمد صلى الله عليه وسلم فـالذي هو أولـى بآخرها أن يكون نظير الـخبر عما ابتدىء به أولها. وإذا كان ذلك كذلك, فـالواجب أن يكون تلاومهم كان فـيـما بـينهم فـيـما كانوا أظهروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه من قولهم لهم: آمنا بـمـحمد صلى الله عليه وسلم وبـما جاء به, وكان قـيـلهم ذلك من أجل أنهم يجدون ذلك فـي كتبهم وكانوا يخبرون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك, فكان تلاومهم فـيـما بـينهم إذا خـلوا علـى ما كانوا يخبرونهم بـما هو حجة للـمسلـمين علـيهم عند ربهم. وذلك أنهم كانوا يخبرونهم عن وجود نعت مـحمد صلى الله عليه وسلم فـي كتبهم ويكفرون به, وكان فتـح الله الذي فتـحه للـمسلـمين علـى الـيهود وحكمه علـيهم لهم فـي كتابهم أن يؤمنوا بـمـحمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث, فلـما بعث كفروا به مع علـمهم بنبوتّه.
وقوله: أفَلا تَعْقِلُونَ خبر من الله تعالـى ذكره عن الـيهود اللائمين إخوانهم علـى ما أخبروا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بـما فتـح الله لهم علـيهم أنهم قالوا لهم: أفلا تفقهون أيها القوم وتعقلون أن إخبـاركم أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم بـما فـي كتبكم أنه نبـيّ مبعوث حجة لهم علـيكم عند ربكم يحتـجون بها علـيكم؟ أي فلا تفعلوا ذلك, ولا تقولوا لهم مثل ما قلتـم, ولا تـخبروهم بـمثل ما أخبرتـموهم به من ذلك. فقال جل ثناؤه: أوَ لا يَعْلَـمُونَ أنّ اللّهَ يَعْلَـمُ مَا يُسرّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ
012
010
الآية : 70
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبّكَ يُبَيّن لّنَا مَا هِيَ إِنّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنّآ إِن شَآءَ اللّهُ لَمُهْتَدُونَ }
قال أبو جعفر: يعنـي بقوله: قالُوا قال قوم موسى الذين أمروا بذبح البقرة لـموسى. فترك ذكر موسى وذكر عائد ذكره اكتفـاءً بـما دلّ علـيه ظاهر الكلام.
وذلك أن معنى الكلام: قالوا له: «ادع ربك», فلـم يذكر له لـما وصفنا. وقوله: يُبَـيّنْ لَنَا ما هِيَ خبر من الله عن القوم بجهلة منهم ثالثة, وذلك أنهم لو كانوا إذ أمروا بذبح البقرة ذبحوا أيتها تـيسرت مـما يقع علـيه اسم بقرة كانت عنهم مـجزئة, ولـم يكن علـيهم غيرها, لأنهم لـم يكونوا كلفوها بصفة دون صفة, فلـما سألوا بـيانها بأيّ صفة هي, فبـين لهم أنها بسنّ من الأسنان دون سنّ سائر الأسنان, فقـيـل لهم: هي عوان بـين الفـارض والبكر الضرع. فكانوا إذا بـينت لهم سنها لو ذبحوا أدنى بقرة بـالسنّ التـي بـينت لهم كانت عنهم مـجزئة, لأنهم لـم يكونوا كلفوها بغير السنّ التـي حدّت لهم, ولا كانوا حصروا علـى لون منها دون لون. فلـما أبوا إلا أن تكون معرّفة لهم بنعوتها مبـينة بحدودها التـي تفرّق بـينها وبـين سائر بهائم الأرض فشدّدوا علـى أنفسهم شدّد الله علـيهم بكثرة سؤالهم نبـيهم واختلافهم علـيه ولذلك قال نبـينا صلى الله عليه وسلم لأمته: «ذَرُونِـي ما تَرَكْتُكُمْ فَـانّـمَا أُهْلِكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤالِهِمْ وَاخْتِلافِهِمْ علـى أنْبـيائِهِمْ, فإذَا أمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأتُوهُ, وإذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَـانْتَهُوا عَنْهُ مَا اسْتَطَعْتُـمْ».
قال أبو جعفر: ولكن القوم لـما زادوا نبـيهم موسى صلى الله عليه وسلم أذى وتعنتا, زادهم الله عقوبة وتشديدا, كما:
904ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثام بن علـي, عن الأعمش, عن الـمنهال بن عمرو, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, قال: لو أخذوا أدنى بقرة اكتفوا بها لكنهم شدّدوا فشدد الله علـيهم.
905ـ حدثنا عمر بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا الـمعتـمر, قال: سمعت أيوب, عن مـحمد بن سيرين, عن عبـيدة قال: لو أنهم أخذوا أدنى بقرة لأجزأت عنهم.
906ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر عن أيوب, وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن هشام بن حسان جميعا, عن ابن سيرين, عن عبـيدة السلـمانـي, قال: سألوا وشدّدوا فشدّد الله علـيهم.
907ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا ابن عيـينة, عن عمرو بن دينار, عن عكرمة, قال: لو أخذ بنو إسرائيـل بقرة لأجزأت عنهم, ولولا قولهم: وَإِنّا إنْ شاءَ اللّهُ لـمُهْتَدُونَ لـما وجدوها.
908ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: وإذْ قالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنّ الله يأمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرة لو أخذوا بقرة ما كانت لأجزأت عنهم. قَالُوا ادْعُ لَنا رَبّكَ يُبَـيّنْ لَنَا ما هِيَ قالَ إِنّهُ يَقُولُ إِنّها بَقَرَةٌ لا فـارِضٌ وَلا بِكْرٌ قال: لو أخذوا بقرة من هذا الوصف لأجزأت عنهم. قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبّكَ يُبَـيّنْ لَنَا مَا لَوْنُها قَالَ إِنّهُ يَقُولُ إنها بَقَرَة صَفْرَاءَ فَـاقِع لَوْنُها تَسُرّ النَاظِرِينَ قال: لو أخذوا بقرة صفراء لأجزأت عنهم. قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبّك يُبَـيّنْ لنَا ما هِي قَالَ إِنّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَة لا ذَلُول تُثِـيرُ الأرْضَ وَلا تَسْقِـي الـحَرْثَ الآية.
حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد بنـحوه, وزاد فـيه, ولكنهم شددوا فشدد علـيهم.
909ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج, قال مـجاهد: لو أخذوا بقرة ما كانت أجزأت عنهم. قال ابن جريج: قال لـي عطاء: لو أخذوا أدنى بقرة كفتهم. قال ابن جريج: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنّـمَا أُمِرُوا بِأدْنَى بَقَرَة وَلَكِنّهُمْ لَـمّا شَدّدُوا علـى أنْفُسِهِمْ شَدّدَ اللّهُ عَلَـيْهِمْ وايْـمُ اللِّه لَوْ أَنّهُمْ لَـمْ يَسْتَثْنُوا لَـما بينت لَهُمْ آخِرَ الأبَدِ».
910ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية, قال: لو أن القوم حين أمروا أن يذبحوا بقرة استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها لكانت إياها, ولكنهم شددوا علـى أنفسهم فشدّد الله علـيهم, ولولا أن القوم استثنوا فقالوا: وَإِنّا إنْ شاءَ اللّهُ لَـمُهْتَدُونَ لـما هدوا إلـيها أبدا.
911ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: ذكر لنا أن نبـي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إِنّـمَا أُمِر القَوْمُ بِأدْنى بَقَرَةٍ وَلَكِنّهُمْ لَـمّا شَدّدُوا علـى أنْفُسَهُمْ شُدّدَ عَلَـيْهِمْ, وَالّذِي نَفْسُ مُـحَمّدٍ بِـيَدِهِ لَوْ لَـمْ يَسْتَثْنُوا لَـمَا بُـيّنَتْ لَهُمْ آخِرَ الأبَدِ».
حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي فـي خبر ذكره, عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, قال: لو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم ولكنهم شدّدوا وتعنتوا موسى فشدّد الله علـيهم.
حدثنا أبو كريب قال: قال أبو بكر بن عياش, قال ابن عبـاس: لو أن القوم نظروا أدنى بقرة, يعنـي بنـي إسرائيـل لأجزأت عنهم, ولكن شددوا فشدّد علـيهم, فـاشتروها بـملء جلدها دنانـير.
912ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: لو أخذوا بقرة كما أمرهم الله كفـاهم ذلك, ولكن البلاء فـي هذه الـمسائل, فقَالُوا ادْعُ لَنَا رَبّكَ يُبَـيّنْ لَنَا مَا هِيَ فشدّد علـيهم, فقال: إِنّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ لا فَـارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَـيْنَ ذلكَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبّكَ يُبَـيّنْ لَنَا مَا لَوْنُها قال إنّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَـاقِعٌ لَوْنُها تَسُرّ النّاظِرِينَ قال: وشدد علـيهم أشد من الأول فقرأ حتـى بلغ: مُسلّـمَةٌ لا شَيةَ فِـيها فأبوا أيضا. قالوا ادْعُ لَنَا رَبّكَ يُبَـيّنُ لَنَا مَا هِيَ إِنّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَـيْنَا وَإنّا إنْ شَاءَ اللّهُ لَـمُهْتَدُونَ فشدّد علـيهم فقَالَ إنّهُ يَقُولُ إنّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِـيرُ الأرْضَ وَلا تَسْقِـي الـحَرْثَ مُسْلّـمَةٌ لا شِيَةَ فِـيهَا. قال: فـاضطروا إلـى بقرة لا يُعلـم علـى صفتها غيرها, وهي صفراء, لـيس فـيها سواد ولا بـياض.
قال أبو جعفر: وهذه الأقوال التـي ذكرناها عمن ذكرناها عنه من الصحابة والتابعين والـخالفـين بعدهم من قولهم: إن بنـي إسرائيـل لو كانوا أخذوا أدنى بقرة فذبحوها أجزأت عنهم ولكنهم شدّدوا فشدّد الله علـيهم, من أوضح الدلالة علـى أن القوم كانوا يرون أن حكم الله فـيـما أمر ونهى فـي كتابه وعلـى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم علـى العموم الظاهر دون الـخصوص البـاطن, إلا أن يخصّ بعض ما عمه ظاهر التنزيـل كتاب من الله أو رسول الله, وأن التنزيـل أو الرسول إن خصّ بعض ما عمه ظاهر التنزيـل بحكم خلاف ما دل علـيه الظاهر, فـالـمخصوص من ذلك خارج من حكم الآية التـي عمت ذلك الـجنس خاصة, وسائر حكم الآية علـى العموم, علـى نـحو ما قد بـيناه فـي كتابنا كتاب «الرسالة من لطيف القول فـي البـيان عن أصول الأحكام» فـي قولنا فـي العموم والـخصوص, وموافقة قولهم فـي ذلك قولنا, ومذهبهم مذهبنا, وتـخطئتهم قول القائلـين بـالـخصوص فـي الأحكام, وشهادتهم علـى فساد قول من قال: حكم الآية الـجائية مـجيء العموم علـى العموم ما لـم يختصّ منها بعض ما عمته الآية, فإن خصّ منها بعض, فحكم الآية حينئذٍ علـى الـخصوص فـيـما خصّ منها, وسائر ذلك علـى العموم. وذلك أن جميع من ذكرنا قوله آنفـا مـمن عاب علـى بنـي إسرائيـل مسألتهم نبـيهم صلى الله عليه وسلم عن صفة البقرة التـي أمروا بذبحها وسنها وحلـيتها, رأوا أنهم كانوا فـي مسألتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم موسى ذلك مخطئين, ون خصّ منها بعض, فحكم الآية حينئذٍ علـى الـخصوص فـيـما خصّ منها, وسائر ذلك علـى العموم. وذلك أن جميع من ذكرنا قوله آنفـا مـمن عاب علـى بنـي إسرائيـل مسألتهم نبـيهم صلى الله عليه وسلم عن صفة البقرة التـي أمروا بذبحها وسنها وحلـيتها, رأوا أنهم كانوا فـي مسألتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم موسى ذلك مخطئين, ومع ذلك فأنهم إذا سألوا موسى عن سنها, فأخبرهم عنها وحصرهم منها علـى سنّ دون سنّ, ونوع دون نوع, وخصّ من جميع أنواع البقر نوعا منها, كانوا فـي مسألتهم إياه فـي الـمسألة الثانـية بعد الذي خصّ لهم من أنواع البقر من الـخطأ علـى مثل الذي كانوا علـيه من الـخطأ فـي
وقد زعم بعض من عظمت جهالته واشتدت حيرته, أن القوم إنـما سألوا موسى ما سألوا بعد أمر الله إياهم بذبح بقرة من البقر لأنهم ظنوا أنهم أمروا بذبح بقرة بعينها خصت بذلك, كما خصت عصا موسى فـي معناها, فسألوه أن يحلـيها لهم لـيعرفوها. ولو كان الـجاهل تدبر قوله هذا, لسهل علـيه ما استصعب من القول وذلك أنه استعظم من القوم مسألتهم نبـيهم ما سألوه تشددا منهم فـي دينهم, ثم أضاف إلـيهم من الأمر ما هو أعظم مـما استنكره أن يكون كان منهم, فزعم أنهم كانوا يرون أنه جائز أن يفرض الله علـيهم فرضا ويتعبدهم بعبـادة, ثم لا يبـين لهم ما يفرض علـيهم ويتعبدهم به حتـى يسألوا بـيان ذلك لهم. فأضاف إلـى الله تعالـى ذكره ما لا يجوز إضافته إلـيه, ونسب القوم من الـجهل إلـى ما لا ينسب الـمـجانـين إلـيه, فزعم أنهم كانوا يسألون ربهم أن يفرض علـيهم الفرائض. فتعوذ بـالله من الـحيرة, ونسأله التوفـيق والهداية.
وأما قوله: إِنّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَـيْنَا فإن البقر جماع بقرة. وقد قرأ بعضهم: «إن البـاقر», وذلك وإن كان فـي الكلام جائزا لـمـجيئه فـي كلام العرب وأشعارها, كما قال ميـمون بن قـيس:
وَما ذَنْبُهُ أنْ عافَتِ الـمَاءَ بـاقِرٌوَما إِنْ يَعافُ الـمَاءَ إِلاّ لِـيُضْرَبَـا
وكما قال أمية:
وَيَسُوقُونَ بـاقِرَ الطّودِ للسّهْلِ مَهازِيـلَ خَشْيَةً أنْ تَبُورَا
فغير جائزة القراءة به لـمخالفته القراءة الـجائية مـجيء الـحجة بنقل من لا يجوز علـيه فما نقلوه مـجمعين علـيه الـخطأ والسهو والكذب.
وأما تأويـل: تَشَابَهَ عَلَـيْنَا فإنه يعنـي به: التبس علـينا. والقراء مختلفة فـي تلاوته, فبعضهم كانوا يتلونه: تشابه علـينا, بتـخفـيف الشين ونصب الهاء علـى مثال تفـاعل, ويذكر الفعل وإن كان البقر جماعا, لأن من شأن العرب تذكير كل فعل جمع كانت وِحْدَانُه بـالهاء وجمعه بطرح الهاء, وتأنـيثه كما قال الله تعالـى فـي نظيره فـي التذكير: كَأنّهُمْ أعْجَازُ نَـخْـلٍ مُنْقَعِرٍ فذكر الـمنقعر وهو من صفة النـخـل لتذكير لفظ النـخـل, وقال فـي موضع آخر: كأنّهم أعْجازُ نَـخْـلٍ خاوِيَةٍ فأنث الـخاوية وهي من صفة النـخـل بـمعنى النـخـل لأنها وإن كانت فـي لفظ الواحد الـمذكر علـى ما وصفنا قبل فهي جماع نـخـلة. وكان بعضهم يتلوه: «إنّ البَقَرَ تَشّابَهُ عَلَـيْنَا» بتشديد الشين وضم الهاء, فـيؤنث الفعل بـمعنى تأنـيث البقر, كما قال: أعْجازُ نَـخْـلٍ خاوِيَةٍ ويدخـل فـي أول تشابه تاء تدل علـى تأنـيثها, ثم تدغم التاء الثانـية فـي شين تشابه لتقارب مخرجها ومخرج الشين فتصير شينا مشددة وترفع الهاء بـالاستقبـال والسلام من الـجوازم والنواصب. وكان بعضهم يتلوه: «إنّ البَقَرَ يُشابَهُ عَلَـيْنَا» فـيخرج يشابه مخرج الـخبر عن الذكر لـما ذكرنا من العلة فـي قراءة من قرأ ذلك: تشابَهَ بـالتـخفـيف, ونصب الهاء غير أنه كان يرفعه بـالـياء التـي يحدثها فـي أول تشابه التـي تأتـي بـمعنى الاستقبـال, وتدغم التاء فـي الشين كما فعله القارىء فـي تشابه بـالتاء والتشديد.
والصواب فـي ذلك من القراءة عندنا: إِنّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَـيْنَا بتـخفـيف شين تشابه ونصب هائه, بـمعنى تفـاعل, لإجماع الـحجة من القراء علـى تصويب ذلك ورفعهم ما سواه من القراءات, ولا يعترض علـى الـحجة بقول من يجوز علـيه فـيـما نقل السهو والغفلة والـخطأ.
وأما قوله: وَإنّا إنْ شاءَ اللّهُ لَـمُهْتَدُونَ فإنهم عنوا: وإنا إن شاء الله لـمبـين لنا ما التبس علـينا وتشابه من أمر البقرة التـي أمرنا بذبحها. ومعنى اهتدائهم فـي هذا الـموضع معنى تبـينهم أيّ ذلك الذي لزمهم ذبحه مـما سواه من أجناس البقر.
الآية : 71
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{قَالَ إِنّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ لاّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلّمَةٌ لاّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الاَنَ جِئْتَ بِالْحَقّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ }
وتأويـل ذلك, قال موسى: إن الله يقول: إن البقرة التـي أمرتكم بذبحها بقرة لا ذلول. ويعنـي بقوله: لا ذَلُولٌ: أي لـم يذللها العمل. فمعنى الآية: أنها بقرة لـم تذللها إثارة الأرض بأظلافها, ولا سُنِـيَ علـيها الـماء فـيسقـى علـيها الزرع, كما يقال للدابة التـي قد ذللها الركوب أو العمل: دابة ذلول بـينة الذّل, بكسر الذال, ويقال فـي مثله من بنـي آدم: رجل ذلـيـل بـين الذلّ والذلة.
913ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: إِنّهَا بَقَرَةٌ لاَ ذَلُولٌ يقول: صعبة لـم يذلها عمل, تُثِـيرُ الأرْضَ وَلاَ تَسْقِـي الـحَرْثَ.
914ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: إِنّها بَقَرَةٌ لاَ ذَلُولٌ تُثِـيرُ الأرْضَ يقول: بقرة لـيست بذلول يزرع علـيها, ولـيست تسقـي الـحرث.
915ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: إِنّها بَقَرَةٌ لاَ ذَلُولٌ أي لـم يذللها العمل, تُثِـيرُ الأرْضَ يعنـي لـيست بذلول فتثـير الأرض, وَلا تَسْقِـي الـحَرْثَ يقول: ولا تعمل فـي الـحرث.
916ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: إِنّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ يقول: لـم يذلها العمل, تُثِـيرُ الأرْضَ يقول: تثـير الأرض بأظلافها, وَلا تَسْقِـي الـحَرْثَ يقول: لا تعمل فـي الـحرث.
917ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج, قال: الأعرج: قال مـجاهد: قوله: لا ذَلُولٌ تُثِـيرُ الأرْضَ وَلا تَسْقِـي الـحَرْثَ يقول: لـيست بذلول فتفعل ذلك.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو سفـيان, عن معمر, عن قتادة: لـيست بذلول تثـير الأرض ولا تسقـي الـحرث.
ويعنـي بقوله: تُثِـيرُ الأرْضَ: تقلب الأرض للـحرث, يقال منه: أثرت الأرض أثـيرها إثارة: إذا قلبتها للزرع. وإنـما وصفها جل ثناؤه بهذه الصفة لأنها كانت فـيـما قـيـل وحشية.
918ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا جويبر, عن كثـير بن زياد, عن الـحسن قال: كانت وحشية.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: مُسَلّـمَةٌ.
ومعنى مُسَلّـمَةٌ مفعلة من السلامة, يقال منه: سلـمت تسلـم فهي مسلـمة.
ثم اختلف أهل التأويـل فـي الـمعنى الذي سلـمت منه, فوصفها الله بـالسلامة منه. فقال مـجاهد بـما:
919ـ حدثنا به مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: مُسَلّـمَةٌ يقول: مسلـمة من الشية, ولاشِيَة فِـيها لا بـياض فـيها ولا سواد.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
حدثنا القاسم قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال مـجاهد: لاشِيَةَ فِـيها قال: مسلـمة من الشية لاشِيَةَ فِـيها لا بـياض فـيها ولا سواد.
وقال آخرون: مسلـمة من العيوب. ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: مُسَلّـمَة لاشِيَة فِـيها أي مسلـمة من العيوب.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة: مُسَلّـمَةٌ يقول: لا عيب فـيها.
920ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: مُسَلّـمَةٌ يعنـي مسلـمة من العيوب.
حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع بـمثله.
921ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج: قال ابن عبـاس قوله: مُسَلّـمَةٌ لا عَوَار فـيها.
والذي قاله ابن عبـاس وأبو العالـية ومن قال بـمثل قولهما فـي تأويـل ذلك أولـى بتأويـل الآية مـما قاله مـجاهد لأن سلامتها لو كانت من سائر أنواع الألوان سوى لون جلدها, لكان فـي قوله: مُسَلّـمَة مكتفًـى عن قوله: لاشِيَةَ فِـيها. وفـي قوله: لاشِيَةَ فِـيها ما يوضح عن أن معنى قوله: مُسَلّـمَة غير معنى قوله: لاشِيَةَ فِـيها. وإذ كان ذلك كذلك, فمعنى الكلام أنه يقول: إنها بقرة لـم تذللها إثارة الأرض وقلبها للـحراثة ولا السّنُوّ علـيها للـمزارع, وهي مع ذلك صحيحة مسلـمة من العيوب.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: لاشِيَةَ فِـيها.
يعنـي بقوله: لاشِيَةَ فِـيها: لا لون فـيها يخالف لون جلدها. وأصله من وَشْي الثوب, وهو تـحسين عيوبه التـي تكون فـيه بضروب مختلفة من ألوان سَداه ولُـحمته, يقال منه: وشيت الثوب فأنا أشيه شية ووشيا. ومنه قـيـل للساعي بـالرجل إلـى السلطان أو غيره: واشٍ, لكذبه علـيه عنده وتـحسينه كذبه بـالأبـاطيـل, يقال منه: وشيت به إلـى السلطان وشاية, ومنه قول كعب بن زهير:
تَسْعَى الوُشَاةُ جَنابَـيْها وَقَوْلُهُمإنّكَ يا ابْنَ أبـي سُلْـمَى لَـمَقْتُولُ
والوشاة جمع واش: يعنـي أنهم يتقوّلون بـالأبـاطيـل, ويخبرونه أنه إن لـحق بـالنبـيّ صلى الله عليه وسلم قتله.
وقد زعم بعض أهل العربـية أن الوشي: العلامة. وذلك لا معنى له إلا أن يكون أراد بذلك تـحسين الثوب بـالأعلام, لأنه معلوم أن القائل: وشيت بفلان إلـى فلان غير جائز أن يتوهم علـيه أنه أراد: جعلت له عنده علامة. وإنـما قـيـل: لاشِيةَ فِـيها وهي من وشيت, لأن الواو لـما أسقطت من أولها أبدلت مكانها الهاء فـي آخرها, كما قـيـل: وزنته زنة, ووسيته سية, ووعدته عدة, ووديته دية. وبـمثل الذي قلنا فـي معنى قوله: لاشِيَةَ فِـيها قال أهل التأويـل.
922ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: لاشِيَةَ فِـيها أي لا بـياض فـيها.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, مثله.
923ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: لاشِيَةَ فِـيها يقول: لا بـياض فـيها.
924ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: لاشِيَةَ فِـيها أي لا بـياض فـيها ولا سواد.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
925ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن إدريس, عن أبـيه, عن عطية: لاشِيَةَ فِـيها قال: لونها واحد لـيس فـيها لون سوى لونها.
926ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: لاشِيَةَ فِـيها من بـياض ولا سواد ولا حمرة.
927ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: لاشِيَةَ فِـيها هي صفراء لـيس فـيها بـياض ولا سواد.
928ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: لاشِيَةَ فِـيها يقول: لا بـياض فـيها.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: قَالُوا الاَنَ جِئْتَ بِـالـحقّ.
اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: قَالُوا الاَنَ جِئْتَ بِـالـحَقّ فقال بعضهم: معنى ذلك: الاَن بـينت لنا الـحقّ فتبـيناه, وعرفنا أية بقرة عينت. ومـمن قال ذلك قتادة.
929ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: قَالُوا الاَنَ جِئْتَ بِـالـحَقّ أي الاَن بـينت لنا.
وقال بعضهم: ذلك خبر من الله جل ثناؤه عن القوم أنهم نسبوا نبـيّ الله موسى صلوات الله علـيه إلـى أنه لـم يكن يأتـيهم بـالـحقّ فـي أمر البقرة قبل ذلك. ومـمن رُوي عنه هذا القول عبد الرحمن بن زيد.
930ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: اضطروا إلـى بقرة لا يعلـمون علـى صفتها غيرها, وهي صفراء لـيس فـيها سواد ولا بـياض, فقالوا: هذه بقرة فلان الاَنَ جِئْتَ بـالـحَقّ وقبل ذلك والله قد جاءهم بـالـحق.
وأولـى التأويـلـين عندنا بقوله: قالُوا الاَنَ جِئْتَ بـالـحَقّ قول قتادة وهو أن تأويـله: الاَن بـينت لنا الـحق فـي أمر البقرة, فعرفنا أنها الواجب علـينا ذبحها منها لأن الله جل ثناؤه قد أخبر عنهم أنهم قد أطاعوه فذبحوها بعد قـيـلهم هذا مع غلظ مؤنة ذبحها علـيهم وثقل أمرها, فقال: فَذَبحُوها وما كادُوا يَفْعَلُونَ وإن كانوا قد قالوا بقولهم: الاَن بـينت لنا الـحق, هراء من القول, وأتوا خطأ وجهلاً من الأمر. وذلك أن نبـي الله موسى صلى الله عليه وسلم كان مبـينا لهم فـي كل مسألة سألوها إياه, وردّ رادّوه فـي أمر البقرة الـحق. وإنـما يقال: الاَن بـينت لنا الـحق لـمن لـم يكن مبـينا قبل ذلك, فأما من كان كل قـيـله فـيـما أبـان عن الله تعالـى ذكره حقا وبـيانا, فغير جائز أن يقال له فـي بعض ما أبـان عن الله فـي أمره ونهيه وأدّى عنه إلـى عبـاده من فرائضه التـي أوجبها علـيهم: الاَنَ جِئْتَ بِـالـحَقّ كأنه لـم يكن جاءهم بـالـحق قبل ذلك.
وقد كان بعض من سلف يزعم أن القوم ارتدوا عن دينهم, وكفروا بقولهم لـموسى: الاَنَ جِئْتَ بِـالـحَقّ ويزعم أنهم نفوا أن يكون موسى أتاهم بـالـحق فـي أمر البقرة قبل ذلك, وأن ذلك من فعلهم وقـيـلهم كفر. ولـيس الذي قال من ذلك عندنا كما قال لأنهم أذعنوا بـالطاعة بذبحها, وإن كان قـيـلهم الذي قالوه لـموسى جهلة منهم وهفوة من هفواتهم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَذَبحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ.
يعنـي بقوله: فَذَبحُوها فذبح قوم موسى البقرة التـي وصفها الله لهم وأمرهم بذبحها. ويعنـي بقوله: وَما كَادُوا يَفْعَلُونَ أي قاربوا أن يدعوا ذبحها, ويتركوا فرض الله علـيهم فـي ذلك.
ثم اختلف أهل التأويـل فـي السبب الذي من أجله كادوا أن يضيعوا فرض الله علـيهم فـي ذبح ما أمرهم بذبحه من ذلك. فقال بعضهم: ذلك السبب كان غلاء ثمن البقرة التـي أمروا بذبحها وبـينت لهم صفتها. ذكر من قال ذلك:
931ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا أبو معشر الـمدنـي, عن مـحمد بن كعب القرظي فـي قوله: فَذَبحُوهَا ومَا كادُوا يَفْعَلُونَ قال: لغلاء ثمنها.
حدثنا مـحمد بن عبد الله بن عبـيد الهلالـي, قال: حدثنا عبد العزيز بن الـخطاب, قال: حدثنا أبو معشر, عن مـحمد بن كعب القرظي: فَذَبحُوهَا وَما كادُوا يَفْعَلُونَ قال: من كثرة قـيـمتها.
932ـ حدثنا القاسم, قال: أخبرنا الـحسين, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد وحجاج, عن أبـي معشر, عن مـحمد بن كعب القرظي, ومـحمد بن قـيس فـي حديث فـيه طول, ذكر أن حديث بعضهم دخـل فـي حديث بعض, قوله: فَذَبحُوهَا وَما كَادُوا يَفْعَلُونَ لكثرة الثمن, أخذوها بـملء مَسْكها ذهبـا من مال الـمقتول, فكان سواء لـم يكن فـيه فضل فذبحوها.
933ـ حدثت عن الـمنـجاب, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس: فَذَبحُوهَا وَما كَادُوا يَفْعَلُونَ يقول: كادوا لا يفعلون. ولـم يكن الذي أرادوا لأنهم أرادوا أن لا يذبحوها, وكل شيء فـي القرآن «كاد» أو «كادوا» أو «لو» فإنه لا يكون, وهو مثل قوله: أكادُ أُخْفِـيها.
وقال آخرون: لـم يكادوا أن يفعلوا ذلك خوف الفضيحة إن أطلع الله علـى قاتل القتـيـل الذي اختصموا فـيه إلـى موسى.
والصواب من التأويـل عندنا, أن القوم لـم يكادوا يفعلون ما أمرهم الله به من ذبح البقرة للـخـلّتـين كلتـيهما إحداهما غلاء ثمنها مع ذكر ما لنا من صغر خطرها وقلة قـيـمتها. والأخرى خوف عظيـم الفضيحة علـى أنفسهم بإظهار الله نبـيه موسى صلوات الله علـيه وأتبـاعه علـى قاتله.
فأما غلاء ثمنها فإنه قد روى لنا فـيه ضروب من الروايات.
934ـ فحدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي, قال: اشتروها بوزنها عشر مرّات ذهبـا, فبـاعهم صاحبها إياها وأخذ ثمنها.
935ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان, قال: سمعت أيوب, عن مـحمد بن سيرين, عن عبـيدة قال: اشتروها بـملء جلدها دنانـير.
936ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قال: كانت البقرة لرجل يبرّ أمه, فرزقه الله أن جعل تلك البقرة له, فبـاعها بـملء جلدها ذهبـا.
937ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, قال: حدثنـي خالد بن يزيد, عن مـجاهد, قال: أعطوا صاحبها ملء مسكها ذهبـا فبـاعها منهم.
938ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا إسماعيـل, عن عبد الكريـم, قال: حدثنـي عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهبـا يقول: اشتروها منه علـى أن يـملئوا له جلدها دنانـير, ثم ذبحوها فعمدوا إلـى جلد البقرة فملئوه دنانـير, ثم دفعوها إلـيه.
939ـ حدثنـي مـحمد بن سعيد, قال: حدثنـي أبـي, قال: حدثنـي يحيى, قال: حدثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قال: وجدوها عند رجل يزعم أنه لـيس بـائعها بـمال أبدا, فلـم يزالوا به حتـى جعلوا له أن يسلـخوا له مسكها فـيـملئوه له دنانـير, فرضي به فأعطاهم إياها.
940ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية, قال: لـم يجدوها إلا عند عجوز, وإنها سألتهم أضعاف ثمنها, فقال لهم موسى: أعطوها رضاها وحكمها. ففعلوا, واشتروها فذبحوها.
941ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, قال: قال أيوب, عن ابن سيرين, عن عبـيدة, قال: لـم يجدوا هذه البقرة إلا عند رجل واحد, فبـاعها بوزنها ذهبـا, أو ملء مسكها ذهبـا, فذبحوها.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن هشام بن حسان, عن مـحمد بن سيرين, عن عبـيدة السلـمانـي, قال: وجدوا البقرة عند رجل, فقال: إنـي لا أبـيعها إلا بـملء جلدها ذهبـا, فـاشتروها بـملء جلدها ذهبـا.
942ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: جعلوا يزيدون صاحبها حتـى ملئوا له مسكها وهو جلدها ذهبـا.
وأما صغر خطرها وقلة قـيـمتها, فإن:
943ـ الـحسن بن يحيى حدثنا, قال: حدثنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا ابن عيـينة, قال: حدثنـي مـحمد بن سوقة, عن عكرمة, قال: ما كان ثمنها إلا ثلاثة دنانـير.
وأما ما قلنا من خوفهم الفضيحة علـى أنفسهم, فإن وهب بن منبه كان يقول: إن القوم إذْ أُمروا بذبح البقرة إنـما قالوا لـموسى: أتَتّـخِذُونا هُزُوا لعلـمهم بأنهم سيفتضحون إذا ذبحت فحادوا عن ذبحها.
944ـ حدثت بذلك عن إسماعيـل بن عبد الكريـم, عن عبد الصمد بن معقل, عن وهب بن منبه.
وكان ابن عبـاس يقول: إن القوم بعد أن أحيا الله الـميت فأخبرهم بقاتله, أنكرت قتلته قتله, فقالوا: والله ما قتلناه, بعد أن رأوا الآية والـحقّ.
945ـ حدثنـي بذلك مـحمد بن سعد, قال: حدثنـي أبـي, قال: حدثنـي عمي, قال: حدثنـي أبـي عن أبـيه, عن ابن عبـاس.
الآية : 72
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ }
يعنـي بقوله جل ثناؤه: وَإِذْ قَتَلْتُـمْ نَفْسا: واذكروا يا بنـي إسرائيـل إذ قتلتـم نفسا. والنفس التـي قتلوها هي النفس التـي ذكرنا قصتها فـي تأويـل قوله: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنّ اللّهَ يأمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً. وقوله: فـادّارأتُـمْ فِـيها يعنـي فـاختلفتـم وتنازعتـم, وإنـما هو «فتدارأتـم فـيها» علـى مثال تفـاعلتـم من الدرء, والدرء: العوج, ومنه قول أبـي النـجم العجلـي:
خَشْيَةَ طغامٍ إذَا هَمّ جسَرْيأكُلُ ذَا الدّرْءِ وَيُقْصِي منْ حَقَرْ
يعنـي ذا العوج والعُسْر. ومنه قول رؤبة بن العجاج:
أدْرَكْتُها قُدّام كلّ مِدْرَهِبـالدّفْعِ عَنّـي دَرْءَ كلّ عُنْـجُهِ
ومنه الـخبر الذي:
946ـ حدثنا به أبو كريب, قال: حدثنا مصعب بن الـمقدام, عن إسرائيـل, عن إبراهيـم بن الـمهاجر, عن مـجاهد, عن السائب, قال: جاءنـي عثمان وزهير ابنا أمية, فـاستأذنا لـي علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أعْلَـمُ بِهِ مِنْكُمَا, ألَـمْ تَكُنْ شَرِيكي فـي الـجاهِلِـيّةِ؟» قلت: نعم بأبـي أنت وأمي, فنعم الشريك كنت لا تـماري ولا تداري يعنـي بقوله: لا تداري: لا تـخالف رفـيقك وشريكك ولا تنازعه ولا تشارّه. وإنـما أصل فـادّارأتُـمْ فتدارأتـم, ولكن التاء قريبة من مخرج الدال, وذلك أن مخرج التاء من طرف اللسان وأصول الشفتـين, ومخرج الدال من طرف اللسان وأطراف الثنـيتـين, فأدغمت التاء فـي الدال فجعلت دالاً مشددة, كما قال الشاعر:
تُولـي الضّجيعَ إذَا ما اسْتافَها خَصِراعَذْبَ الـمذَاقِ إذَا ما اتّابَعَ القُبَلُ
يريد إذا ما تتابع القبل, فأدغم إحدى التاءين فـي الأخرى. فلـما أدغمت التاء فـي الدال فجعلت دالاً مثلها سكنت, فجلبوا ألفـا لـيصلوا إلـى الكلام بها, وذلك إذا كان قبله شيء لأن الإدغام لا يكون إلا وقبله شيء, ومنه قول الله جل ثناؤه: حَتّـى إذَا ادّارَكُوا فِـيهَا جَمِيعا إنـما هو تداركوا, ولكن التاء منها أدغمت فـي الدال فصارت دالاً مشددة, وجعلت فـيها ألف إذا وصلت بكلام قبلها لـيسلـم الإدغام. وإذا لـم يكن قبل ذلك ما يواصله, وابتدىء به, قـيـل: تداركوا وتثاقلوا, فأظهروا الإدغام. وقد قـيـل: يقال: ادّاركوا وادّارأوا. وقد قـيـل إن معنى قوله: فـادّارأتُـمْ فِـيها فتدافعتـم فـيها, من قول القائل: درأت هذا الأمر عنـي, ومن قول الله: وَيَدْرَأُ اعَنْها العَذَابَ بـمعنى يدفع عنها العذاب. وهذا قول قريب الـمعنى من القول الأول لأن القوم إنـما تدافعوا قتل قتـيـل, فـانتفـى كل فريق منهم أن يكون قاتله, كما قد بـينا قبل فـيـما مضى من كتابنا هذا. وبنـحو الذي قلنا فـي معنى قوله: فـادّارأتُـمْ فِـيها قال أهل التأويـل.
947ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنـي عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: فـادّارأتُـم فِـيها قال: اختلفتـم فـيها.
حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
948ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج: وَإِذْ قَتَلْتُـمْ نَفْسا فَـادّارأتُـمْ فِـيها قال بعضهم: أنتـم قتلتـموه, وقال الاَخرون: أنتـم قتلتـموه.
949ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: فـادّارأتُـمْ فِـيها قال: اختلفتـم, وهو التنازع تنازعوا فـيه. قال: قال هؤلاء: أنتـم قتلتـموه, وقال هؤلاء: لا.
وكان تدارؤهم فـي النفس التـي قتلوها. كما:
950ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قال: صاحب البقرة رجل من بنـي إسرائيـل قتله رجل فألقاه علـى بـاب ناس آخرين, فجاء أولـياء الـمقتول فـادعوا دمه عندهم فـانتفوا أو انتفلوا منه شك أبو عاصم.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد بـمثله سواء, إلا أنه قال: فـادعوا دمه عندهم, فـانتفوا ولـم يشكّ منه.
951ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: قتـيـل كان فـي بنـي إسرائيـل فقذف كل سبط منهم حتـى تفـاقم بـينهم الشرّ حتـى ترافعوا فـي ذلك إلـى نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم, فأوحى إلـى موسى أن اذبح بقرة فـاضربه ببعضها. فذكر لنا أن ولـيه الذي كان يطلب بدمه هو الذي قتله من أجل ميراث كان بـينهم.
952ـ حدثنـي ابن سعد, قال: حدثنـي عمي, قال: حدثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس فـي شأن البقرة: وذلك أن شيخا من بنـي إسرائيـل علـى عهد موسى كان مكثرا من الـمال, وكان بنو أخيه فقراء لا مال لهم, وكان الشيخ لا ولد له, وكان بنو أخيه ورثته, فقالوا: لـيت عمنا قد مات فورثنا ماله. وأنه لـما تطاول علـيهم أن لا يـموت عمهم أتاهم الشيطان, فقال: هل لكم إلـى أن تقتلوا عمكم فترثوا ماله, وتغرموا أهل الـمدينة التـي لستـم بها ديته؟ وذلك أنهما كانتا مدينتـين كانوا فـي إحداهما, فكان القتـيـل إذا قتل وطرح بـين الـمدينتـين, قـيس ما بـين القتـيـل وما بـين الـمدينتـين, فأيهما كانت أقرب إلـيه غرمت الدية. وإنهم لـما سوّل لهم الشيطان ذلك وتطاول علـيهم أن لا يـموت عمهم, عمدوا إلـيه فقتلوه, ثم عمدوا فطرحوه علـى بـاب الـمدينة التـي لـيسوا فـيها. فلـما أصبح أهل الـمدينة جاء بنو أخي الشيخ, فقالوا: عمنا قُتل علـى بـاب مدينتكم, فوالله لتغرمنّ لنا دية عمنا قال أهل الـمدينة: نقسم بـالله ما قتلنا ولا علـمنا قاتلاً ولا فتـحنا بـاب مدينتنا منذ أغلق حتـى أصبحنا وإنهم عمدوا إلـى موسى, فلـما أتوا قال بنو أخي الشيخ: عمنا وجدناه مقتولاً علـى بـاب مدينتهم, وقال أهل الـمدينة: نقسم بـالله ما قتلناه ولا فتـحنا بـاب الـمدينة من حين أغلقناه حتـى أصبحنا. وإن جبريـل جاء بأمر ربنا السميع العلـيـم إلـى موسى, فقال: قل لهم: إِنّ اللّهَ يأمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً فتضربوه ببعضها.
953ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا حسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, وحجاج عن أبـي معشر, عن مـحمد بن كعب القرظي, ومـحمد بن قـيس, دخـل حديث بعضهم فـي حديث بعض, قالوا: إن سبطا من بنـي إسرائيـل لـما رأوا كثرة شرور الناس بنوا مدينة فـاعتزلوا شرور الناس, فكانوا إذا أمسوا لـم يتركوا أحدا منهم خارجا إلا أدخـلوه, وإذا أصبحوا قام رئيسهم فنظر وتشرّف فإذا لـم ير شيئا فتـح الـمدينة فكانوا مع الناس حتـى يـمسوا. وكان رجل من بنـي إسرائيـل له مال كثـير, ولـم يكن له وارث غير ابن أخيه, فطال علـيه حياته, فقتله لـيرثه. ثم حمله فوضعه علـى بـاب الـمدينة. ثم كمن فـي مكان هو وأصحابه, قال: فتشرّف رئيس الـمدينة علـى بـاب الـمدينة فنظر فلـم ير شيئا, ففتـح البـاب, فلـما رأى القتـيـل ردّ البـاب فناداه ابن أخي الـمقتول وأصحابه: هيهات قتلتـموه ثم تردّون البـاب وكان موسى لـما رأى القتل كثـيرا فـي أصحابه بنـي إسرائيـل كان إذا رأى القتـيـل بـين ظهري القوم آخذهم, فكاد يكون بـين أخي الـمقتول وبـين أهل الـمدينة قتال حتـى لبس الفريقان السلاح, ثم كفّ بعضهم عن بعض, فأتوا موسى فذكروا له شأنهم فقالوا: يا رسول الله إن هؤلاء قتلوا قتـيلاً ثم ردوا البـاب, وقال أهل الـمدينة: يا رسول الله قد عرفت اعتزالنا الشرور وبنـينا مدينة كما رأيت نعتزل شرور الناس ما قتلنا ولا علـمنا قاتلاً. فأوحى الله تعالـى ذكره إلـيه أن يذبحوا بقرة, فقال لهم موسى: إِنّ اللّهَ يأمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً.
954ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن هشام بن حسان, عن مـحمد بن سيرين, عن عبـيدة, قال: كان فـي بنـي إسرائيـل رجل عقـيـم وله مال كثـير, فقتله ابن أخ له فجرّه فألقاه علـى بـاب ناس آخرين. ثم أصبحوا فـادعاه علـيهم حتـى تسلّـح هؤلاء وهؤلاء, فأرادوا أن يقتتلوا, فقال ذوو النهي منهم: أتقتتلون وفـيكم نبـيّ الله فأمسكوا حتـى أتوا موسى, فقصوا علـيه القصة, فأمرهم أن يذبحوا بقرة فـيضربوه ببعضها, فقالوا: أتَتّـخِذُنا هُزُوا قال أعُوذُ بـاللّهِ أنْ أكُونَ مِنَ الـجاهِلِـينَ.
955ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: قتـيـل من بنـي إسرائيـل طرح فـي سبط من الأسبـاط, فأتـى أهل ذلك السبط إلـى ذلك السبط, فقالوا: أنتـم والله قتلتـم صاحبنا, فقالوا: لا والله. فأتوا إلـى موسى فقالوا: هذا قتـيـلنا بـين أظهرهم, وهم والله قتلوه, فقالوا: لا والله يا نبـي الله طرح علـينا. فقال لهم موسى صلى الله عليه وسلم: إِنّ اللّهَ يأمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً.
قال أبو جعفر: فكان اختلافهم وتنازعهم وخصامهم بـينهم فـي أمر القتـيـل الذي ذكرنا أمره علـى ما روينا من علـمائنا من أهل التأويـل هو الدرء الذي قال الله جل ثناؤه لذرّيتهم وبقايا أولادهم: فـادّارأتُـمْ فِـيها وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُـمْ تَكْتُـمُونَ.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُـمْ تَكْتُـمُونَ.
ويعنـي بقوله: وَاللّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُـمْ تَكْتُـمُونَ والله معلن ما كنتـم تسرّونه من قتل القتـيـل الذي قتلتـم ثم ادارأتـم فـيه. ومعنى الإخراج فـي هذا الـموضع: الإظهار والإعلان لـمن خفـي ذلك عنه وإطلاعهم علـيه, كما قال الله تعالـى ذكره: ألاّ يَسْجُدوا لِلّهِ الّذِي يُخْرِجُ الـخَبْءَ فِـي السّمَوَاتِ وَالأرْضِ يعنـي بذلك: يظهره ويطلعه من مخبئه بعد خفـائه. والذي كانوا يكتـمونه فأخرجه هو قتل القاتل القتـيـل, كما كتـم ذلك القاتل ومن علـمه مـمن شايعه علـى ذلك حتـى أظهره الله وأخرجه, فأعلن أمره لـمن لا يعلـم أمره. وعنـي جلّ ثناؤه بقوله: تَكْتُـمُونَ تسرّون وتغيبون. كما:
956ـ حدثنا مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُـمْ تَكْتُـمُونَ قال: تغيبون.
957ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: ما كُنْتُـمْ تَكْتُـمُونَ ما كنتـم تغيبون.
الآية : 73
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَىَ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ }
يعنـي جل ذكره بقوله: فَقُلْنا لقوم موسى الذين ادّارؤا فـي القتـيـل الذي قد تقدم وصفنا أمره: اضربوا القتـيـل. والهاء التـي فـي قوله: اضْرِبُوهُ من ذكر القتـيـل ببعضها أي ببعض البقرة التـي أمرهم الله بذبحها فذبحوها.
ثم اختلف العلـماء فـي البعض الذي ضرب به القتـيـل من البقرة وأيّ عضو كان ذلك منها, فقال بعضهم: ضرب بفخذ البقرة القتـيـل. ذكر من قال ذلك:
958ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قال: ضرب بفخذ البقرة, فقام حيا, فقال: قتلنـي فلان ثم عاد فـي ميتته.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قال: ضرب بفخذ البقرة, ثم ذكر مثله.
959ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا جرير بن نوح, عن النضر بن عربـي, عن عكرمة: فقلنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها قال: بفخذها فلـما ضرب بها عاش وقال: قتلنـي فلان ثم عاد إلـى حاله.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن خالد بن يزيد, عن مـجاهد, قال: ضرب بفخذها الرجل فقام حيا, فقال: قتلنـي فلان, ثم عاد فـي ميتته.
960ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الزراق, قال: أخبرنا معمر, قال: قال أيوب عن ابن سيرين, عن عبـيدة, ضربوا الـمقتول ببعض لـحمها. وقال معمر عن قتادة: ضربوه بلـحم الفخذ فعاش, فقال: قتلنـي فلان.
961ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: ذكر لنا أنهم ضربوه بفخذها فأحياه الله, فأنبأ بقاتله الذي قتله وتكلـم, ثم مات.
وقال آخرون: الذي ضرب به منها هو البَضْعة التـي بـين الكتفـين. ذكر من قال ذلك:
962ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها فضربوه بـالبضعة التـي بـين الكتفـين فعاش, فسألوه: من قتلك؟ فقال لهم: ابن أخي.
وقال آخرون: الذي أمروا أن يضربوه به منها عظم من عظامها. ذكر من قال ذلك:
963ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية, قال: أمرهم موسى أن يأخذوا عظما منها فـيضربوا به القتـيـل ففعلوا, فرجع إلـيه روحه, فسمى لهم قاتله ثم عاد ميتا كما كان. فأخذ قاتله وهو الذي أتـى موسى فشكا إلـيه فقتله الله علـى أسوإ عمله. وقال آخرون بـما:
964ـ حدثنـي به يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: ضربوا الـميت ببعض آرابها, فإذا هو قاعد, قالوا: من قتلك؟ قال: ابن أخي. قال: وكان قتله وطرحه علـى ذلك السبط, أراد أن يأخذ ديته.
والصواب من القول فـي تأويـل قوله عندنا: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا أن يقال: أمرهم الله جل ثناؤه أن يضربوا القتـيـل ببعض البقرة لـيحيا الـمضروب. ولا دلالة فـي الآية ولا خبر تقوم به حجة علـى أيّ أبعاضها التـي أمر القوم أن يضربوا القتـيـل به. وجائز أن يكون الذي أمروا أن يضربوه به هو الفخذ, وجائز أن يكون ذلك الذنب وغضروف الكتف وغير ذلك من أبعاضها. ولا يضرّ الـجهل بأيّ ذلك ضربوا القتـيـل, ولا ينفع العلـم به مع الإقرار بأن القوم قد ضربوا القتـيـل ببعض البقرة بعد ذبحها, فأحياه الله.
فإن قال قائل: وما كان معنى الأمر بضرب القتـيـل ببعضها؟ قـيـل: لـيحيا فـينبىء نبـي الله موسى صلى الله عليه وسلم والذين ادّارءوا فـيه من قاتله.
فإن قال قائل: وأين الـخبر عن أن الله جل ثناؤه أمرهم بذلك لذلك؟ قـيـل: ترك ذلك اكتفـاءً بدلالة ما ذكر من الكلام الدال علـيه نـحو الذي ذكرنا من نظائر ذلك فـيـما مضى. ومعنى الكلام: فقلنا: اضربوه ببعضها لـيحيا, فضربوه فحيـي كما قال جل ثناؤه: أنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ البَحْرَ فَـانْفَلَقَ والـمعنى: فضرب فـانفلق. يدل علـى ذلك قوله: كَذَلِكَ يُحْيِـي اللّهُ الـمَوْتَـى ويُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: كَذَلِكَ يُحْيِـي اللّهُ الـمَوْتَـى.
وقوله: كَذَلِكَ يُحْيِـي اللّهُ الـمَوْتَـى مخاطبة من الله عبـاده الـمؤمنـين, واحتـجاج منه علـى الـمشركين الـمكذّبـين بـالبعث, وأمرهم بـالاعتبـار بـما كان منه جل ثناؤه من إحياء قتـيـل بنـي إسرائيـل بعد مـماته فـي الدنـيا, فقال لهم تعالـى ذكره: أيها الـمكذّبون بـالبعث بعد الـمـمات, اعتبروا بإحيائي هذا القتـيـل بعد مـماته, فإنـي كما أحيـيته فـي الدنـيا فكذلك أحيـي الـموتـى بعد مـماتهم, فأبعثهم يوم البعث, فإنـما احتـجّ جل ذكره بذلك علـى مشركي العرب وهم قوم أُمّيون لا كتاب لهم, لأن الذين كانوا يعلـمون علـم ذلك من بنـي إسرائيـل كانوا بـين أظهرهم وفـيهم نزلت هذه الاَيات, فأخبرهم جل ذكره بذلك لـيتعرّفوا علـم من قبلهم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ.
يعنـي جل ذكره: ويريكم الله أيها الكافرون الـمكذّبون بـمـحمد صلى الله عليه وسلم وبـما جاء به من عند الله من آياته وآياته: أعلامه وحججه الدالة علـى نبوّته لتعقلوا وتفهموا أنه مـحقّ صادق فتؤمنوا به وتتبعوه.
الآية : 74
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{ثُمّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدّ قَسْوَةً وَإِنّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ وَإِنّ مِنْهَا لَمَا يَشّقّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَآءُ وَإِنّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ }
يعنـي بذلك كفـار بنـي إسرائيـل, وهم فـيـما ذكر بنو أخي الـمقتول, فقال لهم: ثم قست قلوبكم: أي جفت وغلظت وعست, كما قال الراجز:
وَقَدْ قَسَوْتُ وَقَسَا لِدَاتـي
يقال: قسا وعسا وعتا بـمعنى واحد, وذلك إذا جفـا وغلظ وصلب, يقال منه: قسا قلبه يقسو قَسْوا وقسوةً وقساوة وقَسَاءً.
ويعنـي بقوله: مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ من بعد أن أحيا الـمقتول لهم الذي ادّارءوا فـي قتله. فأخبرهم بقاتله وما السبب الذي من أجله قتله كما قد وصفنا قبل علـى ما جاءت الاَثار والأخبـار وفصل الله تعالـى ذكره بخبره بـين الـمـحقّ منهم والـمبطل. وكانت قساوة قلوبهم التـي وصفهم الله بها أنهم فـيـما بلغنا أنكروا أن يكونوا هم قتلوا القتـيـل الذي أحياه الله, فأخبر بنـي إسرائيـل بأنهم كانوا قتلته بعد إخبـاره إياهم بذلك, وبعد ميتته الثانـية. كما:
965ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: حدثنـي أبـي, قال: حدثنـي عمي, قال: حدثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قال: لـما ضرب الـمقتول ببعضها يعنـي ببعض البقرة جلس حيا, فقـيـل له: من قتلك؟ فقال: بنو أخي قتلونـي. ثم قُبض, فقال بنو أخيه حين قُبض: والله ما قتلناه. فكذّبوا بـالـحق بعد إذ رأوه, فقال الله: ثُمّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذِلكَ يعنـي بنـي أخي الشيخ, فَهِيَ كالـحجارَة أوْ أشَدّ قَسْوَةً.
966ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: ثُمّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ يقول: من بعد ما أراهم الله من إحياء الـموتـى, وبعد ما أراهم من أمر القتـيـل ما أراهم, فهي كالـحجارة أو أشدّ قسوة.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَهِيَ كالـحِجارَةِ أوْ أشَدّ قَسْوَةً.
يعنـي بقوله: فَهِيَ قلوبكم. يقول: ثم صلبت قلوبكم بعد إذ رأيتـم الـحقّ فتبـينتـموه وعرفتـموه عن الـخضوع له والإذعان لواجب حق الله علـيكم, فقلوبكم كالـحجارة صلابة ويبسا وغلظا وشدّة, أو أشد صلابة يعنـي قلوبكم عن الإذعان لواجب حقّ الله علـيهم, والإقرار له بـاللازم من حقوقه لهم من الـحجارة.
فإن سأل سائل فقال: وما وجه قوله: فَهِيَ كالـحِجَارَةِ أوْ أشَدّ قَسْوَةً وأو عند أهل العربـية إنـما تأتـي فـي الكلام لـمعنى الشك, والله تعالـى جل ذكره غير جائز فـي خبره الشك؟ قـيـل: إن ذلك علـى غير الوجه الذي توهمته من أنه شك من الله جل ذكره فـيـما أخبر عنه, ولكنه خبر منه عن قلوبهم القاسية أنها عند عبـاده الذين هم أصحابها الذين كذّبوا بـالـحقّ بعد ما رأوا العظيـم من آيات الله كالـحجارة قسوة أو أشدّ من الـحجارة عندهم وعند من عرف شأنهم, وقد قال فـي ذلك جماعة من أهل العربـية أقوالاً:
فقال بعضهم: إنـما أراد الله جل ثناؤه بقوله: فَهِيَ كالـحِجارَةِ أوْ أشَدّ قَسْوَةً وما أشبه ذلك من الأخبـار التـي تأتـي ب«أو», كقوله: وأرْسَلْنَاهُ إلـى مائَةِ ألْفٍ أوْ يَزِيدُونَ وكقول الله جل ذكره: وَإِنّا أوْ إيّاكُمْ لَعَلـى هُدًى أوْ فِـي ضَلالٍ مُبِـينٍ فهو عالـم أيّ ذلك كان. قالوا: ونظير ذلك قول القائل: أكلت بسرة أو رطبة, وهو عالـم أيّ ذلك أكل ولكنه أبهم علـى الـمخاطب, كما قال أبو الأسود الدؤلـي:
أُحِبّ مُـحَمّدا حُبّـا شَدِيداوَعَبّـاسا وحَمْزَةَ وَالوَصِيّا
فَإنْ يَكُ حُبّهُمْ رَشَدا أُصِبْهوَلَسْتُ بِـمُخْطِىءٍ إِنْ كَانَ غَيّا
قالوا: ولا شك أن أبـا الأسود لـم يكن شاكّا فـي أن حب من سَمّى رشد, ولكنه أبهم علـى من خاطبه به. وقد ذكر عن أبـي الأسود أنه لـما قال هذه الأبـيات قـيـل له: شككت؟ فقال: كلا والله ثم انتزع بقول الله عزّ وجلّ وإنّا وإيّاكُمْ لَعَلـى هُدًى أوْ فِـي ضَلالٍ مُبِـينٍ فقال: أو كان شاكّا من أخبر بهذا فـي الهادي من الضلال من الضلال؟
وقال بعضهم: ذلك كقول القائل: ما أطعمتك إلا حلوا أو حامضا, وقد أطعمه النوعين جميعا. فقالوا: فقائل ذلك لـم يكن شاكّا أنه قد أطعم صاحبه الـحلو والـحامض كلـيهما, ولكنه أراد الـخبر عما أطعمه إياه أنه لـم يخرج عن هذين النوعين. قالوا: فكذلك قوله: فَهِيَ كالـحِجَارَةِ أوْ أشَدّ قَسْوَةً إنـما معناه: فقلوبهم لا تـخرج من أحد هذين الـمثلـين إما أن تكون مثلاً للـحجارة فـي القسوة, وإما أن تكون أشدّ منها قسوة. ومعنى ذلك علـى هذا التأويـل: فبعضها كالـحجارة قسوة, وبعضها أشدّ قسوة من الـحجارة.
وقال بعضهم: «أو» فـي قوله: أوْ أشَدّ قَسْوَةً بـمعنى: وأشدّ قسوة, كما قال تبـارك وتعالـى: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثما أوْ كَفُورا بـمعنى: وكفورا. وكما قال جرير بن عطية:
نالَ الـخِلافَةَ أوْ كانَتْ لَهُ قَدَراكَما أتـى رَبّهُ مُوسَى عَلـى قَدَرِ
يعنـي نال الـخلافة وكانت له قدرا. وكما قال النابغة:
قالَتْ ألا لَـيْتَـما هَذَا الـحَمَامُ لَناإلـى حَمامَتِنا أوْ نِصْفُهُ فَقَدِ
يريد ونصفه.
وقال آخرون: «أو» فـي هذا الـموضع بـمعنى «بل», فكان تأويـله عندهم فهي كالـحجارة بل أشدّ قسوة, كما قال جل ثناؤه: وأرْسَلْناهُ إلـى مِائَةِ ألْفٍ أوْ يَزِيدُونَ بـمعنى: بل يزيدون.
وقال آخرون: معنى ذلك: فهي كالـحجارة أو أشدّ قسوة عندكم.
قال أبو جعفر: ولكل مـما قـيـل من هذه الأقوال التـي حكينا وجه ومخرج فـي كلام العرب, غير أن أعجب الأقوال إلـيّ فـي ذلك ما قلناه أوّلاً, ثم القول الذي ذكرناه عمن وجه ذلك إلـى أنه بـمعنى: فهي أوجه فـي القسوة من أن تكون كالـحجارة أو أشدّ, علـى تأويـل أن منها كالـحجارة, ومنها أشدّ قسوة لأن «أو» وإن استعملت فـي أماكن من أماكن الواو حتـى يـلتبس معناها ومعنى الواو لتقارب معنـيـيهما فـي بعض تلك الأماكن, فإن أصلها أن تأتـي بـمعنى أحد الاثنـين, فتوجيهها إلـى أصلها من وجد إلـى ذلك سبـيلاً أعجب إلـيّ من إخراجها عن أصلها ومعناها الـمعروف لها.
قال: وأما الرفع فـي قوله: أوْ أشَدّ قَسْوَةً فمن وجهين: أحدهما أن يكون عطفـا علـى معنى الكاف التـي فـي قوله: كالـحِجارَةِ لأن معناها الرفع, وذلك أن معناها معنى مثل: فهي مثل الـحجارة أو أشدّ قسوة من الـحجارة. والوجه الاَخر: أن يكون مرفوعا علـى معنى تكرير «هي» علـيه فـيكون تأويـل ذلك: فهي كالـحجارة أو هي أشدّ قسوة من الـحجارة.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَإنّ مِنَ الـحِجَارَةِ لَـمَا يَتَفَجّرُ مِنْهُ الأنْهارُ.
يعنـي بقوله جل ذكره: وَإنّ مِنَ الـحِجَارَةِ لَـمَا يَتَفَجّرُ مِنْهُ الأنْهارُ وإن من الـحجارة حجارة يتفجر منها الـماء الذي تكون منه الأنهار, فـاستغنى بذكر الـماء عن ذكر الأنهار, وإنـما ذكّر فقال «منه» للفظ «ما». والتفجر: التفعل من فجر الـماء, وذلك إذا تنزّل خارجا من منبعه, وكل سائل شخص خارجا من موضعه ومكانه فقد انفجر ماء كان ذلك أو دما أو صديدا أو غير ذلك, ومنه قوله عمر بن لـجأ:
ولَـمّا أنْ قُرِئْتُ إلـى جَرِيرٍأبَى ذُو بَطْنِهِ إلاّ انْفِجارَا
يعنـي: إلا خروجا وسيلانا.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَإنّ مِنْهَا لَـمَا يَشَقّقُ فَـيَخْرُجُ مِنْهُ الـمَاءُ.
يعنـي بقوله جل ثناؤه وَإنّ مِنَ الـحِجَارةِ لـحجارة تشقق. وتشققها: تصدّعها. وإنـما هي: لِـمَا يتشقق, ولكن التاء أدغمت فـي الشين فصارت شينا مشددة. وقوله: فَـيَخْرُجُ مِنْهُ الـمَاءُ فـيكون عينا نابعة وأنهارا جارية.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَإنّ مِنْها لَـمَا يَهبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ.
قال أبو جعفر: يعنـي بذلك جل ثناؤه: وإن من الـحجارة لـما يهبط: أي يتردّى من رأس الـجبل إلـى الأرض والسفح من خوف الله وخشيته. وقد دللنا علـى معنى الهبوط فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. وأدخـلت هذه اللامات اللواتـي فـي «ما» توكيدا للـخبر. وإنـما وصف الله تعالـى ذكره الـحجارة بـما وصفها به من أن منها الـمتفجر منه الأنهار, وأن منها الـمتشقق بـالـماء, وأن منها الهابط من خشية الله بعد الذي جعل منها لقلوب الذين أخبر عن قسوة قلوبهم من بنـي إسرائيـل مثلاً, معذرة منه جل ثناؤه لها دون الذين أخبر عن قسوة قلوبهم من بنـي إسرائيـل إذ كانوا بـالصفة التـي وصفهم الله بها من التكذيب برسله والـجحود لاَياته بعد الذي أراهم من الاَيات والعبر وعاينوا من عجائب الأدلة والـحجج مع ما أعطاهم تعالـى ذكره من صحة العقول ومنّ به علـيهم من سلامة النفوس التـي لـم يعطها الـحجر والـمدر, ثم هو مع ذلك منه ما يتفجر بـالأنهار ومنه ما يتشقق بـالـماء ومنه ما يهبط من خشية الله, فأخبر تعالـى ذكره أن من الـحجارة ما هو ألـين من قلوبهم لـما يدعون إلـيه من الـحقّ. كما:
967ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق.
وبنـحو الذي قلنا فـي تأويـل ذلك قال أهل التأويـل ذكر من قال ذلك:
968ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله جل ثناؤه: ثُمّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِنْ بَعْدِ ذلكَ فَهِيَ كالـحِجارَةِ أوْ أشَدّ قَسْوَةً وَإنّ مِنَ الـحِجَارَةِ لَـمَا يَتَفَجّرُ مِنْهُ أَلانْهَارُ وَإنّ مِنْهَا لَـمَا يَشّقّقُ فَـيَخْرُجُ مِنْهُ الـمَاءُ وَإنّ مِنْهَا لَـمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ قال: كل حجر يتفجر منه الـماء أو يتشقق عن ماء, أو يتردّى من رأس جبل, فهو من خشية الله عزّ وجل, نزل بذلك القرآن.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد مثله.
969ـ حدثنـي بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: فَهِيَ كَالـحِجارَةِ أوْ أشَدّ قَسْوَةً ثم عذر الـحجارة ولـم يعذر شقـيّ ابن آدم, فقال: وَإنّ مِنَ الـحِجَارَةِ لَـمَا يَتَفَجّرُ مِنْهُ أَلانْهَارُ وَإنّ مِنْهَا لَـمَا يَشقّقُ فَـيَخْرُجُ مِنْهُ الـمَاءُ وَإنّ مِنْهَا لَـمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة مثله.
970ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: حدثنـي أبـي, قال: حدثنـي عمي, قال: حدثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قال: ثم عذر الله الـحجارة فقال: وَإنّ مِنَ الـحِجَارَةِ لَـمَا يَتَفَجّرُ مِنْهُ الأنْهارُ وَإنّ مِنْهَا لَـمَا يَشَقّقُ فَـيَخْرُجُ مِنْهُ الـمَاءُ.
971ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج أنه قال: فـيها كل حجر انفجر منه ماء أو تشقق عن ماء أو تردّى من جبل, فمن خشية الله نزل به القرآن.
ثم اختلف أهل النـحو فـي معنى هبوط ما هبط من الـحجارة من خشية الله. فقال بعضهم: إن هبوط ما هبط منها من خشية الله: تفـيؤ ظلاله. وقال آخرون: ذلك الـجبل الذي صار دكا إذ تـجلّـى له ربه. وقال بعضهم: ذلك كان منه, ويكون بأن الله جل ذكره أعطى بعض الـحجارة الـمعرفة والفهم, فعقل طاعة الله فأطاعه كالذي رُوي عن الـجذع الذي كان يستند إلـيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب فلـما تـحوّل عنه حنّ. وكالذي رُوي عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ حَجَرا كانَ يُسَلّـمُ عَلـيّ فِـي الـجاهِلِـيّة إنّـي لأَعْرِفُهُ الاَنَ».
وقال آخرون: بل قوله: يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ كقوله: جِدَارا يُرِيدُ أنْ يَنْقَضّ ولا إرادة له, قالوا: وإنـما أريد بذلك أنه من عظم أمر الله يرى كأنه هابط خاشع من ذلّ خشية الله, كما قال زيد الـخيـل:
بِجَمْعٍ تَضِلّ البُلْقُ فِـي حَجَرَاتِهِتَرَى أُلاكْمَ فِـيها سُجّدا للْـحَوَافِرِ
وكما قال سويد بن أبـي كاهل يصف عدوّا له يريد أنه ذلـيـل:
ساجِدَ الـمَنْـخَرِ لا يَرْفَعُهُخاشِعَ الطّرْفِ أصَمّ الـمُسْتَـمَعْ
وكما قال جرير بن عطية:
لَـمَا أتـى خَبَرُ الرّسُولِ تَضَعْضَعَتْسُورُ الـمَدِينَةِ والـجِبـالُ الـخُشّعُ
وقال آخرون: معنى قوله: يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ أي يوجب الـخشية لغيره بدلالته علـى صانعه كما قـيـل: ناقة تاجرة: إذا كانت من نـجابتها وفراهتها تدعو الناس إلـى الرغبة فـيها, كما قال جرير بن عطية:
وأعْوَرُ مِنْ نَبْهانَ أمّا نَهارُهُفأعْمَى وأمّا لَـيْـلُهُ فَبَصِيرٌ
فجعل الصفة للـيـل والنهار, وهو يريد بذلك صاحبه النبهانـي الذي يهجوه, من أجل أنه فـيهما كان ما وصفه به.
وهذه الأقوال وإن كانت غير بعيدات الـمعنى مـما تـحتـمله الآية من التأويـل, فإن تأويـل أهل التأويـل من علـماء سلف الأمة بخلافها فلذلك لـم نستـجز صرف تأويـل الآية إلـى معنى منها. وقد دللنا فـيـما مضى علـى معنى الـخشية, وأنها الرهبة والـمخافة, فكرهنا إعادة ذلك فـي هذا الـموضع.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَما اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ.
يعنـي بقوله: وَما اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ وما الله بغافل يا معشر الـمكذّبـين بآياته والـجاحدين نبوّة رسوله مـحمد صلى الله عليه وسلم, والـمتقوّلـين علـيه الأبـاطيـل من بنـي إسرائيـل وأحبـار الـيهود, عما تعملون من أعمالكم الـخبـيثة وأفعالكم الرديئة ولكنه يحصيها علـيكم, فـيجازيكم بها فـي الاَخرة أو يعاقبكم بها فـي الدنـيا. وأصل الغفلة عن الشيء: تركه علـى وجه السهو عنه والنسيان له, فأخبرهم تعالـى ذكره أنه غير غافل عن أفعالهم الـخبـيثة ولا ساه عنها, بل هو لها مـحص, ولها حافظ.
الآية : 75
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمّ يُحَرّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }
يعنـي بقوله جل ثناؤه: أفَتَطْمَعُونَ يا أصحاب مـحمد, أي أفترجون يا معشر الـمؤمنـين بـمـحمد صلى الله عليه وسلم والـمصدّقـين ما جاءكم به من عند الله أن يؤمن لكم يهود بنـي إسرائيـل؟
ويعنـي بقوله: أنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ أن يصدقوكم بـما جاءكم به نبـيكم صلى الله عليه وسلم مـحمد من عند ربكم. كما:
972ـ حدثت عن عمار بن الـحسن, عن ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله أفَتَطْمَعُونَ أنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ يعنـي أصحاب مـحمد صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا لكم, يقول: أفتطمعون أن يؤمن لكم الـيهود؟.
973ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: أفَتَطْمَعُونَ أنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ الآية, قال: هم الـيهود.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ.
قال أبو جعفر: أما الفريق فجمع كالطائفة لا واحد له من لفظه, وهو فعيـل من التفرّق سمي به الـجماع كما سميت الـجماعة بـالـحزب من التـحزّب وما أشبه ذلك, ومنه قول أعشى بنـي ثعلبة:
أَجَدّوا فلَـمّا خِفْتُ أنْ يَتَفَرّقُوافَرِيقَـيْنِ مِنْهُمْ مُصْعِدٌ وَمُصَوّبُ
يعنـي بقوله: مِنْهُمْ من بنـي إسرائيـل. وإنـما جعل الله الذين كانوا علـى عهد موسى ومن بعدهم من بنـي إسرائيـل من الـيهود الذين قال الله لأصحاب مـحمد صلى الله عليه وسلم: أفتطمعون أن يؤمنوا لكم لأنهم كانوا آبـاؤهم وأسلافهم, فجعلهم منهم إذ كانوا عشائرهم وفرطهم وأسلافهم, كما يذكر الرجل الـيوم الرجل وقد مضى علـى منهاج الذاكر وطريقته وكان من قومه وعشيرته, فـيقول: كان منا فلان يعنـي أنه كان من أهل طريقته أو مذهبه أو من قومه وعشيرته فكذلك قوله: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمّ يُحَرّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَـمُونَ.
اختلف أهل التأويـل فـي الذيننَعنَى الله بقوله: وَقَدْ كان فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمّ يُحَرّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَـمُونَ. فقال بعضهم بـما:
974ـ حدثنـي به مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: أفَتَطْمَعُونَ أنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّهِ ثُمّ يُحَرّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَـمُونَ فـالذين يحرّفونه والذين يكتـمونه: هم العلـماء منهم.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن أبـي نـجيح, عن مـجاهد بنـحوه.
975ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: أَفَتَطْمَعُونَ أنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّهِ ثُمّ يُحَرّفونَهُ منْ بَعْدِ ما عَقَلُوه قال: هي التوراة حرّفوها.
976ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّهِ ثُمّ يُحَرّفُونَهُ قال: التوراة التـي أنزلها علـيهم يحرّفونها, يجعلون الـحلال فـيها حراما والـحرام فـيها حلالاً, والـحقّ فـيها بـاطلاً والبـاطل فـيها حقا, إذا جاءهم الـمـحقّ برشوة أخرجوا له كتاب الله, وإذا جاءهم الـمبطل برشوة أخرجوا له ذلك الكتاب فهو فـيه مـحقّ, وإن جاء أحد يسألهم شيئا لـيس فـيه حقّ ولا رشوة ولا شيء أمروه بـالـحقّ, فقال لهم: أتأمُرُونَ النّاسَ بـالبرّ وتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ وأنْتُـمْ تَتْلُونَ الكِتابَ أفَلا تَعْقِلُونَ. وقال آخرون فـي ذلك بـما:
977ـ حدثت عن عمار بن الـحسن, قال: أخبرنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمّ يُحَرّفُونَه مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَـمُونَ فكانوا يسمعون من ذلك كما يسمع أهل النبوّة, ثم يحرّفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلـمون.
978ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق فـي قوله: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ الآية, قال: لـيس قوله: يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ يسمعون التوراة, كلهم قد سمعها ولكنهم الذين سألوا موسى رؤية ربهم, فأخذتهم الصاعقة فـيها.
979ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن مـحمد بن إسحاق, قال: بلغنـي عن بعض أهل العلـم أنهم قالوا لـموسى: يا موسى قد حِيـلَ بـيننا وبـين رؤية الله عز وجل, فأسمعنا كلامه حين يكلـمك فطلب ذلك موسى إلـى ربه, فقال: نعم, فمرهم فلـيتطهروا ولـيطهروا ثـيابهم ويصوموا ففعلوا, ثم خرج بهم حتـى أتـى الطور, فلـما غشيهم الغمام أمرهم موسى علـيه السلام, فوقعوا سجودا, وكلـمه ربه فسمعوا كلامه يأمرهم وينهاهم, حتـى عقلوا ما سمعوا, ثم انصرف بهم إلـى بنـي إسرائيـل, فلـما جاءوهم حرف فريق منهم ما أمرهم به, وقالوا حين قال موسى لبنـي إسرائيـل: إن الله قد أمركم بكذا وكذا, قال ذلك الفريق الذي ذكرهم الله: إنـما قال كذا وكذا خلافـا لـما قال الله عز وجل لهم. فهم الذين عنى الله لرسوله مـحمد صلى الله عليه وسلم.
وأولـى التأويـلـين اللذين ذكرت بـالآية وأشبههما بـما دل علـيه ظاهر التلاوة, ما قاله الربـيع بن أنس والذي حكاه ابن إسحاق عن بعض أهل العلـم, من أن الله تعالـى ذكره إنـما عنى بذلك من سمع كلامه من بنـي إسرائيـل سماع موسى إياه منه ثم حرّف ذلك وبدّل من بعد سماعه وعلـمه به وفهمه إياه. وذلك أن الله جل ثناؤه إنـما أخبر أن التـحريف كان من فريق منهم كانوا يسمعون كلام الله عزّ وجلّ استعظاما من الله لـما كانوا يأتون من البهتان بعد توكيد الـحجة علـيهم والبرهان, وإيذانا منه تعالـى ذكره عبـاده الـمؤمنـين وقطع أطماعهم من إيـمان بقايا نسلهم بـما أتاهم به مـحمد من الـحقّ والنور والهدى, فقال لهم: كيف تطمعون فـي تصديق هؤلاء الـيهود إياكم وإنـما تـخبرونهم بـالذي تـخبرونهم من الإنبـاء عن الله عزّ وجلّ عن غيب لـم يشاهدوه ولـم يعاينوه؟ وقد كان بعضهم يسمع من الله كلامه, وأمره ونهيه, ثم يبدّله ويحرّفه ويجحده, فهؤلاء الذين بـين أظهركم من بقايا نسلهم أحرى أن يجحدوا ما أتـيتـموهم به من الـحقّ وهم لا يسمعونه من الله, وإنـما يسمعونه منكم وأقرب إلـى أن يحرّفوا ما فـي كتبهم من صفة نبـيكم مـحمد صلى الله عليه وسلم ونعته ويبدّلوه وهم به عالـمون فـيجحدوه ويكذّبوا من أوائلهم الذين بـاشروا كلام الله من الله جل ثناؤه ثم حرّفوه من بعد ما عقلوه وعلـموه متعمدين التـحريف. ولو كان تأويـل الآية علـى ما قاله الذين زعموا أنه عنى بقوله: يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّهِ يسمعون التوراة, لـم يكن لذكر قوله: يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّهِ معنى مفهوم لأن ذلك قد سمعه الـمـحرّف منهم وغير الـمـحرّف. فخصوص الـمـحرّف منهم بأنه كان يسمع كلام الله إن كان التأويـل علـى ما قاله الذين ذكرنا قولهم دون غيرهم مـمن كان يسمع ذلك سماعهم لا معنى له.
فإن ظن ظانّ إنـما صلـح أن يقال ذلك لقوله: يُحَرّفُونَهُ فقد أغفل وجه الصواب فـي ذلك. وذلك أن ذلك لو كان كذلك لقـيـل: أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يحرّفون كلام الله من بعد ما عقلوه وهم يعلـمون ولكنه جل ثناؤه أخبر عن خاص من الـيهود كانوا أعطوا من مبـاشرتهم سماع كلام الله تعالـى ما لـم يعطه أحد غير الأنبـياء والرسل, ثم بدلوا وحرّفوا ما سمعوا من ذلك, فلذلك وصفهم بـما وصفهم به للـخصوص الذي كان خصّ به هؤلاء الفريق الذي ذكرهم فـي كتابه تعالـى ذكره.
ويعنـي بقوله: ثُمّ يُحَرّفُونَهُ ثم يبدلون معناه, وتأويـله: ويغيرونه. وأصله من انـحراف الشيء عن جهته, وهو ميـله عنها إلـى غيرها. فكذلك قوله: يُحَرّفُونَهُ: أي يـميـلونه عن وجهه, ومعناه الذي هو معناه إلـى غيره. فأخبر الله جل ثناؤه أنهم فعلوا ما فعلوا من ذلك علـى علـم منهم بتأويـل ما حرّفوا, وأنه بخلاف ما حرّفوه إلـيه, فقال: يُحَرّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ يعنـي من بعد ما عقلوا تأويـله وَهُمْ يَعْلَـمُونَ أي يعلـمون أنهم فـي تـحريفهم ما حرّفوا من ذلك مبطلون كاذبون. وذلك إخبـار من الله جل ثناؤه عن إقدامهم علـى البهت, ومناصبتهم العداوة له ولرسوله موسى صلى الله عليه وسلم, وأن بقاياهم من مناصبتهم العداوة لله ولرسوله مـحمد صلى الله عليه وسلم بغيا وحسدا علـى مثل الذي كان علـيه أوائلهم من ذلك فـي عصر موسى علـيه الصلاة والسلام.
الآية : 76
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَإِذَا لَقُواْ الّذِينَ آمَنُواْ قَالُوَاْ آمَنّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُوَاْ أَتُحَدّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }
أما قوله: وَإذَا لَقُوا الّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا فإنه خبر من الله جل ذكره عن الذين أيأس أصحاب مـحمد صلى الله عليه وسلم من إيـمانهم من يهود بنـي إسرائيـل الذين كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرّفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلـمون, وهم الذين إذا لقوا الذين آمنوا بـالله ورسوله مـحمد صلى الله عليه وسلم قالوا آمنا. يعنـي بذلك أنهم إذا لقوا الذين صدّقوا بـالله وبـمـحمد صلى الله عليه وسلم وبـما جاء به من عند الله قالوا آمنا أي صدقنا بـمـحمد وبـما صدقتـم به وأقررنا بذلك. أخبر الله عز وجل أنهم تـخـلقوا بأخلاق الـمنافقـين وسلكوا منهاجهم. كما:
980ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: حدثنـي أبـي, قال: حدثنـي عمي, قال: حدثنـي أبـي عن أبـيه, عن جده, عن ابن عبـاس قوله: وَإذَا لَقُوا الّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا وَإذَا خَلا بَعْضُهُمْ إلـى بَعْضٍ قالُوا أتُـحَدّثُونَهُمْ بِـما فَتَـحَ اللّهُ عَلَـيْكُمْ وذلك أن نفرا من الـيهود كانوا إذا لقوا مـحمدا صلى الله عليه وسلم قالوا: آمنا, وإذا خلا بعضهم إلـى بعض قالوا: أتـحدثونهم بـما فتـح الله علـيكم.
981ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس: وإذَا لَقُوا الّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا يعنـي الـمنافقـين من الـيهود كانوا إذا لقوا أصحاب مـحمد صلى الله عليه وسلم قالوا آمنا.
وقد رُوي عن ابن عبـاس فـي تأويـل ذلك قول آخر, وهو ما:
982ـ حدثنا به ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة بن الفضل, عن مـحمد بن إسحاق, عن مـحمد بن أبـي مـحمد, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس: وَإذَا لَقُوا الّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا أي بصاحبكم رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولكنه إلـيكم خاصة.
983ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: وَإذَا لَقُوا الّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا الآية, قال: هؤلاء ناس من الـيهود آمنوا ثم نافقوا.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إلـى بَعْضٍ قالُوا أتُـحَدّثُونَهُمْ بِـما فَتَـحَ اللّهُ عَلَـيْكُمْ لِـيُحَاجّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبّكُمْ.
يعنـي بقوله: وَإذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إلـى بَعْضٍ أي إذا خلا بعض هؤلاء الـيهود الذين وصف الله صفتهم إلـى بعض منهم فصاروا فـي خلاء من الناس غيرهم, وذلك هو الـموضع الذي لـيس فـيه غيرهم, قالوا يعنـي قال بعضهم لبعض: أتـحدثونهم بـما فتـح الله علـيكم؟.
ثم اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: بِـمَا فَتَـحَ اللّهُ عَلَـيْكُمْ. فقال بعضهم بـما:
984ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس: وَإذَا خَلا بَعْضُهُمْ إلـى بَعْضٍ قالُوا أتُـحَدّثونَهُمْ بِـمَا فَتَـحَ اللّهُ عَلَـيْكُمْ يعنـي بـما أمركم الله به, فـيقول الاَخرون: إنـما نستهزىء بهم ونضحك.
وقال آخرون بـما:
985ـ حدثنا ابن حميد, عن ابن عبـاس: وَإذَا لَقُوا الّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا أي بصاحبكم رسول الله, ولكنه إلـيكم خاصة, وإذا خلا بعضهم إلـى بعض قالوا: لا تـحدّثوا العرب بهذا فإنكم قد كنتـم تستفتـحون به علـيهم, فكان منهم. فأنزل الله: وإذَا لَقُوا الّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا, وَإذا خَلا بَعْضُهُمْ إلـى بَعْضٍ قالُوا أَتُـحَدّثُونَهُمْ بِـمَا فَتَـحَ اللّهُ عَلَـيْكُمْ لِـيُحَاجّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبّكُمْ أي تقرّون بأنه نبـي, وقد علـمتـم أنه قد أخذ له الـميثاق علـيكم بـاتبـاعه, وهو يخبرهم أنه النبـي صلى الله عليه وسلم الذي كنا ننتظر ونـجده فـي كتابنا؟ اجحدوه ولا تقرّوا لهم به. يقول الله: أو لا يعلـمون أن الله يعلـم ما يسرّون وما يعلنون.
986ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية فـي قوله: أتُـحَدّثونهُم بِـمَا فَتَـحَ اللّهُ عَلَـيْكُمْ أي بـما أنزل الله علـيكم فـي كتابكم من نعت مـحمد صلى الله عليه وسلم.
987ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة: قالُوا أتُـحَدّثُونَهُمْ بِـمَا فَتَـحَ اللّهُ عَلَـيْكُمْ أي بـما منّ الله علـيكم فـي كتابكم من نعت مـحمد صلى الله عليه وسلم, فإنكم إذا فعلتـم ذلك احتـجوا به علـيكم أفَلاَ تَعْقِلُونَ؟.
988ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة: أتُـحَدّثُونَهُمْ بِـمَا فَتَـحَ اللّهُ عَلَـيْكُمْ لـيحتـجوا به علـيكم.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, قال: قال قتادة: أتُـحَدّثُونَهُمْ بِـمَا فَتَـحَ اللّهُ عَلَـيْكُمْ يعنـي بـما أنزل الله علـيكم من أمر مـحمد صلى الله عليه وسلم ونعته.
وقال آخرون فـي ذلك بـما:
989ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد: بِـمَا فَتَـحَ اللّهُ عَلَـيْكُمْ لِـيُحاجّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبّكُمْ قال: قول يهود بنـي قريظة حين سبهم النبـي صلى الله عليه وسلم بأنهم إخوة القردة والـخنازير, قالوا: من حدثك؟ هذا حين أرسل إلـيهم علـيّا فآذوا مـحمدا, فقال: «يا إخوة القردة والـخنازير».
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد مثله إلا أنه قال: هذا حين أرسل إلـيهم علـيّ بن أبـي طالب رضي الله عنه, وآذوا النبـي صلى الله عليه وسلم فقال: «اخْسَئُوا يا إِخْوَةَ القِرَدَة والـخَنَازِيرِ».
990ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنـي الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: أخبرنـي القاسم بن أبـي بزّة, عن مـجاهد فـي قوله: أتُـحَدّثُونَهُمْ بِـمَا فَتَـحَ اللّهُ عَلَـيْكُمْ قال: قام النبـي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة تـحت حصونهم, فقال: «يا إخْوَانَ القِرَدَةِ ويا إخْوَانَ الـخَنَازِيرِ وَيا عَبَدَةَ الطّاغُوتِ» فقالوا: من أخبر هذا مـحمدا؟ ما خرج هذا إلا منكم أتُـحَدّثُونهُمْ بِـمَا فَتَـحَ اللّهُ عَلَـيْكُمْ بـما حكم الله للفتـح لـيكون لهم حجة علـيكم قال ابن جريج, عن مـجاهد: هذا حين أرسل إلـيهم علـيّا فآذوا مـحمدا صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون بـما:
991ـ حدثنـي موسى: قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: قالوا أتُـحَدّثونهم بِـمَا فَتَـحَ اللّهُ عَلَـيْكُمْ من العذاب لـيحاجوكم به عند ربكم؟ هؤلاء ناس من الـيهود آمنوا ثم نافقوا, فكانوا يحدّثون الـمؤمنـين من العرب بـما عذّبوا به, فقال بعضهم لبعض: أتـحدثونهم بـما فتـح الله علـيكم من العذاب لـيقولوا نـحن أحبّ إلـى الله منكم, وأكرم علـى الله منكم؟
وقال آخرون بـما:
992ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَإذَا خَلا بَعْضُهُمْ إلـى بَعْضٍ قالُوا أتُـحَدّثُونَهُمْ بِـمَا فَتَـحَ اللّهُ عَلَـيْكُمْ لِـيُحَاجّوكُمْ بِهِ عِنْدَ ربّكُمْ قال: كانوا إذا سئلوا عن الشيء قالوا: أما تعلـمون فـي التوراة كذا وكذا؟ قالوا: بلـى. قال: وهم يهود, فـيقول لهم رؤساؤهم الذين يرجعون إلـيهم: ما لكم تـخبرونهم بـالذي أنزل الله علـيكم فـيحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يَدْخُـلَنّ عَلَـيْنَا قَصبَة الـمَدِينَةِ إلاّ مُؤْمِنٌ» فقال رؤساؤهم من أهل الكفر والنفـاق: اذهبوا فقولوا آمنا, واكفروا إذا رجعتـم. قال: فكانوا يأتون الـمدينة بـالبكر ويرجعون إلـيهم بعد العصر. وقرأ قول الله: وقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ آمِنُوا بـالّذِي أُنْزِلَ علـى الّذِينَ آمَنُوا وجْه النّهارِ واكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُون. وكانوا يقولون إذا دخـلوا الـمدينة: نـحن مسلـمون, لـيعلـموا خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره وإذا رجعوا, رجعوا إلـى الكفر. فلـما أخبر الله نبـيه صلى الله عليه وسلم بهم, قطع ذلك عنهم فلـم يكونوا يدخـلون. وكان الـمؤمنون الذين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يظنون أنهم مؤمنون, فـيقولون لهم: ألـيس قد قال الله لكم كذا وكذا؟ فـيقولون: بلـى. فإذا رجعوا إلـى قومهم قالُوا أتُـحَدّثُونهُمْ بِـمَا فَتَـحَ اللّهُ عَلَـيْكُمْ الآية.
وأصل الفتـح فـي كلام العرب: النصر والقضاء والـحكم, يقال منه: اللهم افتـح بـينـي وبـين فلان: أي احكم بـينـي وبـينه, ومنه قول الشاعر:
ألا أبْلِغْ بنِـي عُصَمٍ رَسُولاًبِأنـي عَنْ فُتاحَتِكُمْ غنِـيّ
قال: ويقال للقاضي: الفتاح, ومنه قول الله عز وجل: ربّنا افْتَـحْ بَـيْنَنَا وَبـينَ قَوْمِنَا بـالـحَقّ وأنْت خَيْرُ الفـاتِـحِينَ أي احكم بـيننا وبـينهم.
فإذا كان معنى الفتـح ما وصفنا, تبـين أن معنى قوله: قالُوا أتُـحَدّثُونَهُمْ بِـمَا فَتَـح اللّهُ عَلَـيْكُمْ لِـيُحاجّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبّكُمْ إنـما هو أتـحدثونهم بـما حكم الله به علـيكم وقضاه فـيكم, ومن حكمه جل ثناؤه علـيهم ما أخذ به ميثاقهم من الإيـمان بـمـحمد صلى الله عليه وسلم, وبـما جاء به فـي التوراة, ومن قضائه فـيهم أن جعل منهم القردة والـخنازير, وغير ذلك من أحكامه وقضائه فـيهم, وكل ذلك كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللـمؤمنـين به حجة علـى الـمكذّبـين من الـيهود الـمقرّين بحكم التوراة وغير ذلك. فإن كان كذلك فـالذي هو أولـى عندي بتأويـل الآية قول من قال: معنى ذلك: أتُـحَدّثُونَهُمْ بِـمَا فَتَـحَ اللّهُ عَلَـيْكُمْ من بعث مـحمد صلى الله عليه وسلم إلـى خـلقه لأن الله جل ثناؤه إنـما قصّ فـي أول هذه الآية الـخبر عن قولهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه: آمنا بـما جاء به مـحمد صلى الله عليه وسلم فـالذي هو أولـى بآخرها أن يكون نظير الـخبر عما ابتدىء به أولها. وإذا كان ذلك كذلك, فـالواجب أن يكون تلاومهم كان فـيـما بـينهم فـيـما كانوا أظهروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه من قولهم لهم: آمنا بـمـحمد صلى الله عليه وسلم وبـما جاء به, وكان قـيـلهم ذلك من أجل أنهم يجدون ذلك فـي كتبهم وكانوا يخبرون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك, فكان تلاومهم فـيـما بـينهم إذا خـلوا علـى ما كانوا يخبرونهم بـما هو حجة للـمسلـمين علـيهم عند ربهم. وذلك أنهم كانوا يخبرونهم عن وجود نعت مـحمد صلى الله عليه وسلم فـي كتبهم ويكفرون به, وكان فتـح الله الذي فتـحه للـمسلـمين علـى الـيهود وحكمه علـيهم لهم فـي كتابهم أن يؤمنوا بـمـحمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث, فلـما بعث كفروا به مع علـمهم بنبوتّه.
وقوله: أفَلا تَعْقِلُونَ خبر من الله تعالـى ذكره عن الـيهود اللائمين إخوانهم علـى ما أخبروا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بـما فتـح الله لهم علـيهم أنهم قالوا لهم: أفلا تفقهون أيها القوم وتعقلون أن إخبـاركم أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم بـما فـي كتبكم أنه نبـيّ مبعوث حجة لهم علـيكم عند ربكم يحتـجون بها علـيكم؟ أي فلا تفعلوا ذلك, ولا تقولوا لهم مثل ما قلتـم, ولا تـخبروهم بـمثل ما أخبرتـموهم به من ذلك. فقال جل ثناؤه: أوَ لا يَعْلَـمُونَ أنّ اللّهَ يَعْلَـمُ مَا يُسرّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ
الصفحة رقم 11 من المصحف تحميل و استماع mp3