تفسير الطبري تفسير الصفحة 125 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 125
126
124
 الآية : 104
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىَ مَآ أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ }..
يقول تعالـىّ ذكره: وإذا قـيـل لهؤلاء الذين يبحرون البحائر ويسيبون السوائب الذين لا يعقلون أنهم بإضافتهم تـحريـم ذلك إلـى الله تعالـى يفترون علـى الله الكذب: تعالوا إلـى تنزيـل الله وآي كتابه وإلـى رسوله, لبتبـين لكم كذب قـيـلكم فـيـم تضيفونه إلـى الله تعالـى من تـحريـمكم ما تـحرّمون من هذه الأشياء, أجابوا من دعاهم إلـى ذلك, بأن يقولوا: حسبنا ما وجدنا علـيه من قبلنا آبـاءنا يعملون به, ويقولون: نـحن لهم تبع وهم لنا أئمة وقادة, وقد اكتفـينا بـما أخذنا عنهم ورضينا بـما كانوا علـيه من تـحريـم وتـحلـيـل. قال الله تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: ولو كان آبـاء هؤلاء القائلـين هذه الـمقالة لا يعلـمون شيئا, يقول: لـم يكونوا يعلـمون أن ما يضيفونه إلـى الله تعالـى من تـحريـم البحيرة والسائبة والوصيـلة والـحام كذب وفرية علـى الله, لا حقـيقة لذلك ولا صحة لأنهم كانوا أتبـاع الـمفترين ابتدءوا تـحريـم ذلك افتراء علـى الله بقـيـلهم ما كانوا يقولون من إضافتهم إلـى الله تعالـى ما يضيفون ما كانوا فـيـما هم به عاملون من ذلك علـى استقامة وصواب, بل كانوا علـى ضلالة وخطأ.
الآية : 105
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مّن ضَلّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }..
يقول تعالـى ذكره: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَـيْكُمْ أنْفُسَكُمْ فأصلـحوها, واعملوا فـي خلاصها من عقاب الله تعالـى, وانظروا لها فـيـما يقرّبها من ربها, فإنه لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ يقول: لا يضرّكم من كفر وسلك غير سبـيـل الـحقّ إذا أنتـم اهتديتـم وآمنتـم بربكم وأطعتـموه فـيـما أمركم به وفـيـما نهاكم عنه, فحرّمتـم حرامه وحللتـم حلاله. ونصب قوله: أنْفُسَكُمْ بـالإغراء, والعرب تغري من الصفـات ب «علـيك», و«عندك» و«دونك» و«إلـيك».
واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك, فقال بعضهم: معناه: يا أيها الذين آمنوا علـيكم أنفسكم إذا أمرتـم بـالـمعروف ونهيتـم عن الـمنكر فلـم يُقبل منكم ذلك. ذكر من قال ذلك:
10095ـ حدثنا سوّار بن عبد الله, قال: حدثنا أبـي, قال: حدثنا أبو الأشهب, عن الـحسن: أن هذه الاَية قرئت علـى ابن مسعود: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَـيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُـمْ فقال ابن مسعود: لـيس هذا بزمانها, قولوها ما قبلت منكم فإذا ردّت علـيكم فعلـيكم أنفسكم.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو أسامة, عن أبـي الأشهب, عن الـحسن, قال: ذكر عن ابن مسعود يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا ثم ذكر نـحوه.
حدثنا يعقوب, قال: حدثنا ابن علـية, عن يونس, عن الـحسن, قال: قال رجل لابن مسعود: ألـم يقل الله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَـيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُـمْ؟ قال: لـيس هذا بزمانها, قولوها ما قُبلت منكم فإذا ردّت علـيكم فعلـيكم أنفسكم.
10096ـ حدثنا الـحسن بن عرفة, قال: حدثنا شبـابة بن سوّار, قال: حدثنا الربـيع بن صبـيح, عن سفـيان بن عقال, قال: قـيـل لابن عمر: لو جلستَ فـي هذه الأيام فلـم تأمر ولـم تنه, فإن الله تعالـى يقول: عَلَـيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُـمْ فقال ابن عمر: إنها لـيست لـي ولا لأصحابـي, لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا فلـيبلغ الشاهد الغائب» فكنا نـحن الشهود وأنتـم الغَيَب, ولكن هذه الاَية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لـم يقبل منهم.
10097ـ حدثنا أحمد بن الـمقدام, قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان, قال: سمعت أبـي, قال: حدثنا قتادة, عن أبـي مازن قال: انطلقت علـى عهد عثمان إلـى الـمدينة, فإذا قوم من الـمسلـمين جلوس, فقرأ أحدهم هذه الاَية: عَلَـيْكُمْ أنْفُسَكُمْ فقال أكثرهم: لـم يجيءْ تأويـل هذه الاَية الـيوم.
حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا عمرو بن عاصم, قال: حدثنا الـمعتـمر, عن أبـيه, عن قتادة, عن أبـي مازن, بنـحوه.
10098ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر وأبو عاصم, قالا: حدثنا عوف, عن سوّار بن شبـيب, قال: كنت عند ابن عمر, إذ أتاه رجل جلـيدٌ فـي العين, شديد اللسان, فقال: يا أبـا عبد الرحمن نـحن ستة كلهم قد قرءوا القرآن فأسرع فـيه, وكلهم مـجتهد لا يألو, وكلهم بغيض إلـيه أن يأتـي دناءة, وهم فـي ذلك يشهد بعضهم علـى بعض بـالشرك. فقال رجل من القوم: وأي دناءة تريد أكثر من أن يشهر بعضهم علـى بعض بـالشرك؟ قال: فقال الرجل: إنـي لست إياك أسأل, أنا أسأل الشيخ. فأعاد علـى عبد الله الـحديث, فقال عبد الله بن عمر: لعلك ترى لا أبـا لك إنـي سآمرك أن تذهب فتقتلهم؟ عظهم وانههم, فإن عصوك فعلـيك بنفسك, فإن الله تعالـى يقول: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَـيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُـمْ إلـى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعا فَـيُنَبّئُكمْ بِـمَا كُنْتُـمْ تَعْمَلُونَ.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن الـحسن: أن ابن مسعود سأله رجل عن قوله: عَلَـيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُـمْ قال: إن هذا لـيس بزمانها, إنها الـيوم مقبولة, ولكنه قد أوشك أن يأتـي زمان تأمرون بـالـمعروف فـيصنع بكم كذا وكذا أو قال: فلا يقبل منكم فحينئذ علـيكم أنفسكم, لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتـم.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, عن رجل قال: كنت فـي خلافة عثمان بـالـمدينة فـي حلقة فـيهم أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فإذا فـيهم شيخ يُسْنِدُون إلـيه, فقرأ رجل: عَلَـيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُـمْ فقال الشيخ: إنـما تأويـلها آخر الزمان.
حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: حدثنا أبو مازن رجل من صالـحي الأزد من بنـي الـجدّان, قال: انطلقت فـي حياة عثمان إلـى الـمدينة, فقعدت إلـى حلقة فـيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقرأ رجل من القوم هذه الاَية لا يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُـمْ قال: فقال رجل من أسنّ القوم: دع هذه الاَية, فإنـما تأويـلها فـي آخر الزمان.
10099ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا ابن فضالة, عن معاوية بن صالـح, عن جبـير بن نفـير, قال: كنت فـي حلقة فـيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإنـي لأصغر القوم, فتذاكروا الأمر بـالـمعروف والنهي عن الـمنكر, فقلت أنا: ألـيس الله يقول فـي كتابه: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَـيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُـمْ؟ فأقبلوا علـيّ بلسان واحد, وقالوا: تنزع بآية من القرآن لا تعرفها ولا تدري ما تأويـلها حتـى تـمنـيت أنـي لـم أكن تكلـمت. ثم أقبلوا يتـحدثون فلـما حضر قـيامهم, قالوا: إنك غلام حدث السنّ, وإنك نزعت بآية لا تدري ما هي, وعسى أن تدرك ذلك الزمان إذا رأيت شحّا مطاعا, وهو متبعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه, فعلـيك بنفسك لا يضرّك من ضلّ إذا اهتديت
10100ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا لـيث بن هارون, قال: حدثنا إسحاق الرازي, عن أبـي جعفر, عن الربـيع بن أنس, عن أبـي العالـية, عن عبد الله بن مسعود, فـي قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَـيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُـمْ إلـى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جميعا فَـيُنَبّئُكُمْ بِـمَا كُنْتُـمْ تَعْمَلُونَ قال: كانوا عند عبد الله بن مسعود جلوسا, فكان بـين رجلـين ما يكون بـين الناس, حتـى قام كلّ واحد منهما إلـى صاحبه, فقال رجل من جلساء عبد الله: ألا أقوم فآمرهما بـالـمعروف وأنهاهما عن الـمنكر؟ فقال آخر إلـى جنبه: علـيك بنفسك, فإن الله تعالـى يقول: عَلَـيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُـمْ قال: فسمعها ابن مسعود, فقال: مَهْ لـم يجىء تأويـل هذه بعدُ, إن القرآن أنزل حيث أنزل ومنه آي قد مضى تأويـلهنّ قبل أن ينزلن, ومنه ما وقع تأويـلهنّ علـى عهد النبـيّ صلى الله عليه وسلم, ومنه آي قد وقع تأويـلهنّ بعد النبـيّ صلى الله عليه وسلم بـيسير, ومنه آي يقع تأويـلهنّ بعد الـيوم, ومنه آي يقع تأويـلهنّ عند الساعة علـى ما ذكر من أمر الساعة, ومنه آي يقع تأويـلهنّ يوم الـحساب علـى ما ذكر من أمر الـحساب والـجنة والنار فما دامت قلوبكم واحدة وأهواؤكم واحدة ولـم تلبسوا شيعا ولـم يذق بعضكم بأس بعض, فأمروا وانهوا فإذا اختلفت القلوب والأهواء وألبستـم شيعا وذاق بعضكم بأس بعض, فـامرؤ ونفسه, فعند ذلك جاء تأويـل هذه الاَية.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن أبـي جعفر الرازي, عن الربـيع بن أنس, عن أبـي العالـية, عن ابن مسعود: أنه كان بـين رجلـين بعض ما يكون بـين الناس, حتـى قام كلّ واحد منهما إلـى صاحبه, ثم ذكر نـحوه.
10101ـ حدثنـي أحمد بن الـمقدام, قال: حدثنا حرمي, قال: سمعت الـحسن يقول: تأوّل أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم هذه الاَية: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَـيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُـمْ فقال بعض أصحابه: دعوا هذه الاَية فلـيست لكم
10102ـ حدثنـي إسماعيـل بن إسرائيـل اللاَل الرملـي, قال: حدثنا أيوب بن سويد, قال: حدثنا عتبة بن أبـي حكيـم, عن عمرو بن جارية اللـخميّ, عن أبـي أمية الشعبـانـي, قال: سألت أبـا ثعلبة الـخشنـي عن هذه الاَية: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَـيْكُمْ أنْفُسَكُمْ فقال: لقد سألتَ عنها خبـيرا, سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: «أبـا ثَعْلَبَةَ ائْتَـمِرُوا بـالـمَعْرُوفِ, وَتَناهَوْا عَنِ الـمُنْكَرِ, فإذَا رأيْتَ دُنْـيا مُؤْثَرَةً وشُحّا مُطاعا وإعْجابَ كُلّ ذِي رأي بِرأيِهِ, فَعَلَـيْكَ نَفْسَكَ أرَى مِنْ بَعْدِ كُمْ أيّامَ الصّبرِ, للـمُتَـمَسّكِ يَوْمَئِذٍ بِـمِثْلِ الّذِي أنْتُـمْ عَلَـيْهِ كأجْرِ خَمْسِينَ عامِلاً». قالوا: يا رسول الله, كأجر خمسين عاملاً منهم؟ قال: «لا, كأجْرِ خَمْسِينَ عامِلاً مِنْكُمْ».
حدثنا علـيّ بن سهل, قال: أخبرنا الولـيد بن مسلـم, عن ابن الـمبـارك وغيره, عن عتبة بن أبـي حكيـم, (عن عمرو بن جارية اللـخمي) عن أبـي أمية الشعبـانـي, قال: سألت أبـا ثعلبة الـخشنـي: كيف نصنع بهذه الاَية: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَـيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُـمْ؟ فقال أبو ثعلبة: سألتَ عنها خبـيرا, سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: «ائْتَـمِرُوا بـالـمَعْرُوفِ, وَتَناهَوْا عَنِ الـمُنْكَرِ, حتـى إذَا رأيْتَ شُحّا مُطاعا وَهَوًى مُتّبَعا وإعْجابَ كُلّ ذِي رأي بِرأيِهِ, فَعَلَـيْكَ بِخُوَيْصَةِ نَفْسِكَ, وَذَرْ عَوَامّهُمْ فإنّ وَرَاءَكُمْ أيّاما أجْرُ العامِلِ فِـيها كأجْرِ خَمْسِينَ مِنْكُمْ».
وقال آخرون: معنى ذلك: أن العبد إذا عمل بطاعة الله لـم يضرّه من ضلّ بعده وهلك. ذكر من قال ذلك:
10103ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَـيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ يقول: إذا ما العبد أطاعنـي فـيـما أمرته من الـحلال والـحرام, فلا يضرّه من ضلّ بعدُ إذا عمل بـما أمرته به.
10104ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس, قوله: عَلَـيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُـمْ يقول: أطيعوا أمري, واحفظوا وصيتـي.
10105ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا لـيث بن هارون, قال: حدثنا إسحاق الرازي, عن أبـي جعفر الرازي, عن صفوان بن الـجون, قال: دخـل علـيه شاب من أصحاب الأهواء, فذكر شيئا من أمره, فقال صفوان: ألا أدلك علـى خاصة الله التـي خصّ بها أولـياءه يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَـيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ... الاَية.
10106ـ حدثنا عبد الكريـم بن أبـي عمير, قال: حدثنا أبو الـمطرف الـمخزوميّ, قال: حدثنا جويبر, عن الضحاك, عن ابن عبـاس, قال: عَلَـيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُـمْ ما لـم يكن سيف أو سوط.
10107ـ حدثنا علـيّ بن سهل, قال: حدثنا ضمرة بن ربـيعة, قال: تلا الـحسن هذه الاَية: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَـيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُـمْ فقال الـحسن: الـحمد لله بها والـحمد لله علـيها, ما كان مؤمن فـيـما مضى ولا مؤمن فـيـما بقـي إلا وإلـى جانبه منافق يكره عمله.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَـيْكُمْ أنْفُسَكُمْ فـاعملوا بطاعة الله لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُـمْ فأمَرتـم بـالـمعروف ونهيتـم عن الـمنكر. ذكر من قال ذلك:
10108ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام بن سلـم, عن عنبسة, عن سعد البقال, عن سعيد بن الـمسيب: لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُـمْ قال: إذا أمرتَ بـالـمعروف ونهيت عن الـمنكر, لا يضرّك من ضلّ إذا اهتديت.
10109ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يحيى بن يـمان, عن سفـيان, عن أبـي العميس, عن أبـي البختري, عن حذيفة: عَلَـيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُـمْ قال: إذا أمرتـم ونهيتـم.
10110ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا وكيع, وحدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن ابن أبـي خالد, عن قـيس بن أبـي حازم, قال: قال أبو بكر: تقرءون هذه الاَية: لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُـمْ وإن الناس إذا رأوا الظالـم قال ابن وكيع: فلـم يأخذوا علـى يديه, أوشكَ أن يعمّهم الله بعقابه.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا جرير وابن فضيـل, عن بـيان, عن قـيس, قال: قال أبو بكر: إنكم تقرءون هذه الاَية: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَـيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُـمْ وإن القوم إذا رأوا الظالـم فلـم يأخذوا علـى يديه, يعمهم الله بعقابه.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا جرير, عن إسماعيـل, عن قـيس, عن أبـي بكر, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فذكر نـحوه.
10111ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَـيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُـمْ يقول: مروا بـالـمعروف وانهوا عن الـمنكر. قال أبو بكر بن أبـي قحافة: يا أيها الناس لا تغترّوا بقول الله: عَلـيكُمْ أنْفُسَكُمْ فـيقول أحدكم علـيّ نفسي. والله لتأمرنّ بـالـمعروف وتنهونّ عن الـمنكر أو لتستعملنّ علـيكم شراركم فلـيسومنكم سوء العذاب, ثم لـيدعون الله خياركم فلا يستـجيب لهم.
حدثنا أبو هشام الرفـاعي, قال: حدثنا ابن فضيـل, قال: حدثنا بـيان, عن قـيس بن أبـي حازم, قال: قال أبو بكر وهو علـى الـمنبر: يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الاَية علـى غير موضعها: لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُـمْ وإن الناس إذا رأوا الظالـم فلـم يأخذوا علـى يديه, عمهم الله بعقابه.
10112ـ حدثنـي الـحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: ثنـي عيسى بن الـمسيب البجلـي, حدثنا قـيس بن أبـي حازم, قال: سمعت أبـا بكر الصدّيق رضي الله عنه يقرأ هذه الاَية: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَـيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُـمْ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذَا رأى النّاسُ الـمُنْكَرَ فَلَـمْ يُغَيّرُوهُ والظّالِـمَ فَلَـمْ يَأْخُذُوا علـى يَدَيْهِ, فَـيُوشِكُ أنْ يَعُمّهُمُ اللّهُ مِنْهُ بِعِقابٍ».
حدثنا الربـيع, قال: حدثنا أسد بن موسى, قال: حدثنا سعيد بن سالـم, قال: حدثنا منصور بن دينار, عن عبد الـملك بن ميسرة, عن قـيس بن أبـي حازم, قال: صعد أبو بكر الـمنبر, منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم, فحمد الله وأثنى علـيه, ثم قال: يا أيها الناس إنكم لتتلون آية من كتاب الله, وتعدّونها رخصة والله ما أنزل الله فـي كتابه أشدّ منها: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَـيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُـمْ والله لتأمرنّ بـالـمعروف, ولتنهونّ عن الـمنكر, أو لـيعمنكم الله منه بعقاب.
حدثنا مـحمد بن سيّار, قال: حدثنا إسحاق بن إدريس, قال: حدثنا سعيد بن زيد, قال: حدثنا مـجالد بن سعيد, عن قـيس بن أبـي حازم, قال: سمعت أبـا بكر يقول وهوي خطب الناس: يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الاَية, ولا تدرون ما هي: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَـيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُـمْ وإنـي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ النّاسَ إذَا رَأوْا مُنْكَرا فَلَـمْ يُغَيّرُوهُ عَمّهُمُ اللّهُ بِعِقابٍ».
وقال آخرون: بل معنى هذه الاَية: لا يضرّكم من حاد عن قصد السبـيـل وكفر بـالله من أهل الكتاب. ذكر من قال ذلك:
10113ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا هشيـم, عن أبـي بشر, عن سعيد بن جبـير, فـي قوله: لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُـمْ قال: يعنـي: من ضلّ من أهل الكتاب.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن أبـي بشر, عن سعيد بن جبـير فـي هذه الاَية: لا يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُـمْ قال: أنزلت فـي أهل الكتاب.
وقال آخرون: عنـي بذلك كلّ من ضلّ عن دين الله الـحقّ. ذكر من قال ذلك:
10114ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَـيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُـمْ قال: كان الرجل إذا أسلـم, قالوا له: سفّهت آبـاءك وضللّتهم, وفعلت وفعلت, وجعلت آبـاءك كذا وكذا, كان ينبغي لك أن تنصرهم وتفعل فقال الله تعالـى: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَـيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُـمْ.
وأولـى هذه الأقوال, وأصحّ التأويلات عندنا بتأويـل هذه الاَية ما رُوي عن أبـي بكر الصدّيق فـيها, وهو: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَـيْكُمْ أنْفُسَكُمْ: الزموا العمل بطاعة الله, وبـما أمركم به, وانتهوا عما نهاكم الله عنه. لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُـمْ يقول: فإنه لا يضرّكم ضلال من ضلّ إذا أنتـم رمتـم العمل بطاعة الله, وأدّيتـم فـيـمن ضلّ من الناس ما ألزمكم الله به فـيه من فرض الأمر بـالـمعروف والنهي عن الـمنكر, الذي يركبه أو يحاول ركوبه, والأخذ علـى يديه إذا رام ظلـما لـمسلـم أو معاهد ومنعه منه فأبى النزوع عن ذلك, ولا ضير علـيكم فـي تـماديه فـي غيه وضلاله إذا أنتـم اهتديتـم وأدّيتـم حقّ الله تعالـى فـيه.
وإنـما قلنا ذلك أولـى التأويلات فـي ذلك بـالصواب, لأن الله تعالـى أمر الـمؤمنـين أن يقوموا بـالقسط ويتعاونوا علـى البرّ والتقوى ومن القـيام بـالقسط: الأخذ علـى يد الظالـم ومن التعاون علـى البرّ والتقوى: الأمر بـالـمعروف. وهذا مع ما تظاهرت به الأخبـار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمره بـالأمر بـالـمعروف والنهي عن الـمنكر ولو كان للناس تَرْك ذلك, لـم يكن للأمر به معنى إلا فـي الـحال التـي رخص فـيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك ذلك, وهي حال العجز عن القـيام به بـالـجوارح الظاهرة فـيكون مرخصا له تركه إذا قام حينئذ بأداء فرض الله علـيه فـي ذلك بقلبه. وإذا كان ما وصفنا من التأويـل بـالاَية أولـى, فبـيّن أنه قد دخـل فـي معنى قوله: إذا اهْتَدَيْتُـمْ ما قاله حذيفة وسعيد بن الـمسيب, من أن ذلك: أذا أمرتـم بـالـمعروف ونهيتـم عن الـمنكر, ومعنى ما رواه أبو ثعلبة الـخشنـي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: إلـى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعا فَـيُنَبّئُكُمْ بِـمَا كُنْتُـمْ تَعْمَلُونَ.
يقول تعالـى ذكره للـمؤمنـين من عبـاده: اعملوا أيها الـمؤمنون بـما أمرتكم به, وانتهوا عما نهيتكم عنه, ومروا أهل الزيغ والضلال وما حاد عن سبـيـلـي بـالـمعروف, وانهوهم عن الـمنكر فإن قبلوا فلهم ولكم, وإن تـمادوا فـي غيهم وضلالهم فإن إلـيّ مرجع جميعكم ومصيركم فـي الاَخرة ومصيرهم, وأنا العالـم بـما يعمل جميعكم من خير وشرّ, فأُخبر هناك كلّ فريق منكم بـما كان يعمله فـي الدنـيا ثم أجازيه علـى عمله الذي قدم به علـيّ جزاءه حسب استـحقاقه, فإنه لا يخفـى علـيّ عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى.
الآية : 106
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يِا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَأَصَابَتْكُم مّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىَ وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنّآ إِذَاً لّمِنَ الاََثِمِينَ }..
يقول تعالـى ذكره للـمؤمنـين به: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَـيْنِكُمْ يقول: لـيشهد بـينكم إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ الـمَوْتُ حِينَ الوَصِيّةِ يقول: وقت الوصية, اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ يقول: ذوا رشد وعقل وحِجا من الـمسلـمين. كما:
10115ـ حدثنا مـحمد بن بشار, وعبـيد الله بن يوسف الـجبـيري, قالا: حدثنا مؤمل بن إسماعيـل, قال: حدثنا شعبة, عن قتادة, عن سعيد بن الـمسيب, فـي قوله: وأشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ قال: ذوا عقل.
واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ فقال بعضهم: عنـي به: من أهل ملتكم. ذكر من قال ذلك:
10116ـ حدثنا حميد بن مسعدة, قال: حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة, عن سعيد بن الـمسيب, قال: شاهدان ذوا عدل منكم من الـمسلـمين.
10117ـ حدثنا عمروان بن موسى القزّاز, قال: حدثنا عبد الوارث بن سعيد, قال: حدثنا إسحاق بن سويد, عن يحيى بن يعمر, فـي قوله: اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ من الـمسلـمين.
حدثنا ابن بشار وابن الـمثنى, قالا: حدثنا ابن أبـي عديّ, عن سعيد, عن قتادة, عن سعيد بن الـمسيب, فـي قوله: اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ قال: اثنان من أهل دينكم.
10118ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن إدريس, عن أشعث, عن ابن سيرين, عن عبـيدة, قال: سألته, عن قول الله تعالـى: اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ قال: من الـملة.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن إدريس, عن هشام, عن ابن سيرين, عن عبـيدة, بـمثله, إلا أنه قال فـيه: من أهل الـملة.
حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن علـية, عن هشام, عن ابن سيرين, قال: سألت عبـيدة عن هذه الاَية: اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ قال: من أهل الـملة.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن ابن عون, عن ابن سيرين, عن عبـيدة, مثله.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا حسين, عن زائدة, عن هشام, عن ابن سيرين, قال: سألت عبـيدة, فذكر مثله.
10119ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن مهدي, عن حماد, عن ابن أبـي نـجيح, وقال: حدثنا مالك بن إسماعيـل, عن حماد بن زيد, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
10120ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ قال: ذوا عدل من أهل الإسلام.
10121ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ قال: من الـمسلـمين.
حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: كان سعيد بن الـمسيب يقول: اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ: أي من أهل الإسلام.
وقال آخرون: عنـي بذلك: ذوا عدل من حيّ الـموصي, وذلك قول رُوِي عن عكرمة وعبـيدة وعدّة غيرهما.
واختلفوا فـي صفة الاثنـين اللذين ذكرهما الله فـي هذه الاَية ما هي, وما هما؟ فقال بعضهم: هما شاهدان يشهدان علـى وصية الـموصي. وقال آخرون: هما وصيان.
وتأويـل الذين زعموا أنهما شاهدان, قوله: شَهادَةُ بَـيْنِكُمْ لـيشهد شاهدان ذوا عدل منكم علـى وصيتكم. وتأويـل الذين قالوا: هما وصيان لا شاهدان, قوله: شَهادَةُ بَـيْنِكُمْ بـمعنى الـحضور والشهود لـما يوصيهما به الـمريض, من قولك: شهدت وصية فلان, بـمعنى حضرته.
وأولـى التأويـلـين بقوله: اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ تأويـل من تأوّله بـمعنى: أنهما من أهل الـملة دون من تأوّله أنهما من حيّ الـموصي.
وإنـما قلنا ذلك أولـى التأويـلـين بـالاَية, لأن الله تعالـى عم الـمؤمنـين بخطابهم بذلك فـي قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَـيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ الـمَوْتُ حِينَ الوَصِيّةِ اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ فغير جائز أن يُصرف ما عمه الله تعالـى إلـى الـخصوص إلا بحجة يجب التسلـيـم لها. وإذ كان ذلك كذلك, فـالواجب أن يكون العائد من ذكرهم علـى العموم, كما كان ذكرهم ابتداء علـى العموم.
وأَوْلَـى الـمعنـيـين بقوله: شَهادَةُ بَـيْنِكُمْ الـيـمين, لا الشهادة التـي يقوم بها من عنده شهادة لغيره لـمن هي عنده علـى من هي علـيه عند الـحكام لأنّا لا نعلـم لله تعالـى حكما يجب فـيه علـى الشاهد الـيـمين, فـيكون جائزا صرف الشهادة فـي هذا الـموضع إلـى الشهادة التـي يقوم بها بعض الناس عند الـحكام والأئمة. وفـي حكم الاَية فـي هذه الـيـمين علـى ذوي العدل, وعلـى من قام مقامهم فـي الـيـمين بقوله: تَـحْبِسُوَنهُما مِنْ بَعْدِ الصّلاةِ فَـيُقْسمِانِ بـاللّهِ أوضح الدلـيـل علـى صحة ما قلنا فـي ذلك من أن الشهادة فـيه الأيـمان دون الشهادة التـي يقضي بها للـمشهود له علـى الـمشهود علـيه, وفساد ما خالفه. فإن قال قائل: فهل وجدت في حكم الله تعالى يمينا تجب على المدّعي فتوجه قولك في الشهادة في هذا الموضع إلى الصحة؟ فإن قلت: لا, تبين فساد تأويلك ذلك على ما تأوّلت, لأنه يجب على هذا التأويل أن يكون المقسمان في قوله: فإنْ عُثرَا على أنّهُما اسْتَحَقّا إثْما فآخَرَانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الّذِينَ اسْتَحَقّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ باللّهِ لشَهادَتُنا أحَقّ مِنْ شَهادَتِهِما هما المدعيين. وإن قلت بلى, قيل لك: وفي أيّ حكم الله تعالى وجدت ذلك؟ قيل: وجدنا ذلك في أكثر المعاني, وذلك في حكم الرجل يدّعي قِبَل رجل مالاً, فيقرّ به المدّعي عليه قبله ذلك ويدعي قضاءه, فيكون القول قول ربّ الدين, والرجل يعترف في يد الرجل السلعة, فيزعم المعترَفة في يده أنه اشتراها من المدّعي أو أن المدّعي وهبها له, وما أشبه ذلك مما يكثر إحصاؤه. وعلى هذا الوجه أوجب الله تعالى في هذا الموضع اليمين على المدّعيين اللذين عثرا على الجانيين فيما جنيا فيه.
واختلف أهل العربية في الرافع قوله: شَهادَةُ بَيْنِكُمْ, وقوله: اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ. فقال بعض نحويي البصرة: معنى قوله: شَهادَةُ بَيْنِكُمْ شهادة اثنين ذوي عدل, ثم ألقيت الشهادة وأقيم الاثنان مقامها, فارتفعا بما كانت الشهادة به مرتفعة لو جعلت في الكلام. قال: وذلك في حذف ما حذف منه وإقامة ما أقيم مقام المحذوف, نظير قوله: وَاسأَلِ القَرْيَةَ وإنما يريد: واسأل أهل القرية, وانتصبت القرية بانتصاب الأهل وقامت مقامه, ثم عطف قوله: «أو آخران» على «الاثنين».
وقال بعض نحويي الكوفة: رفع الاثنين بالشهادة: أي ليشهدكم اثنان من المسلمين, أو آخران من غيركم. وقال آخر منهم: رفعت الشهادة ب «إذا حضر». وقال: إنما رفعت بذلك لأنه قال: «إذا حضر», فجعلها شهادة محذوفة مستأنفة, ليست بالشهادة التي قد رفعت لكلّ الخلق, لأنه قال تعالى ذكره: أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ, وهذه شهادة لا تقع إلا في هذا الحال, وليست مما ثبت.
وأولى هذه الأقوال في ذلك عندي بالصواب, قول من قال: الشهادة مرفوعة بقوله: إذَا حَضَرَ لأن قوله: إذا حَضَرَ بمعنى: عند حضور أحدكم الموت, والاثنان مرفوع بالمعنى المتوهم, وهو أن يشهد اثنان, فاكتفي من قيل أن يشهد بما قد جري من ذكر الشهادة في قوله: شَهادَةُ بَيْنِكُمْ.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب, لأن الشهادة مصدر في هذا الموضع, والاثنان اسم, والاسم لا يكون مصدرا, غير أن العرب قد تضع الأسماء مواضع الأفعال. فالأمر وإن كان كذلك, فصرف كل ذلك إلى أصحّ وجوهه ما وجدنا إليه سبيلاً أولى بنا من صرفه إلى أضعفها.
القول في تأويل قوله تعالى: أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ.
يقول تعالى ذكره للمؤمنين: ليشهد بينكم إذا حضر أحدكم الموت عدلان من المسلمين, أو آخران من غير المسلمين.
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ فقال بعضهم: معناه: أو آخران من غير أهل ملتكم نحو الذي قلنا فيه. ذكر من قال ذلك:
10122ـ حدثنا حميد بن مسعدة, وبشر بن معاذ, قالا: حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب: أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ من أهل الكتاب.
حدثنا محمد بن بشار, ومحمد بن المثنى, قالا: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, قال: سمعت قتادة يحدّث, عن سعيد بن المسيب: أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ: من أهل الكتاب.
حدثني أبو حفص الجبيري عبيد الله بن يوسف, قال: حدثنا مؤمل بن إسماعيل, قال: حدثنا شعبة, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب, مثله.
حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا ابن أبي عديّ, عن سعيد, عن قتادة, عن سعيد, مثله.
10123ـ حدثني يعقوب, قال: حدثنا هشيم, قال: أخبرنا مغيرة, عن إبراهيم وسليمان التيّمي, عن سعيد بن المسيب, أنهما قالا في قوله: أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ قالا: من غير أهل ملتكم.
10124ـ حدثني يعقوب, قال: حدثنا هشيم, قال: أخبرنا مغيرة, قال: ثني من سمع سعيد بن جبير, يقول, مثل ذلك.
10125ـ حدثني يعقوب, قال: حدثنا هشيم, قال: أخبرنا التيمي, عن أبي مجلز, قال: من غير أهل ملتكم.
10126ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن مغيرة, عن إبراهيم, مثله.
10127ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا جرير, عن مغيرة, عن إبراهيم, قال: إن كان قربه أحد من المسلمين أشهدهم, وإلا أشهد رجلين من المشركين.
10128ـ حدثنا عمرو بن عليّ, قال: حدثنا قتيبة, قال: حدثنا هشيم, عن المغيرة, عن إبراهيم, وسعيد بن جبير, في قوله: أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ قالا: من غير أهل ملتكم.
حدثنا عمرو, قال: حدثنا يحيى بن سعيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, عن سعيد: أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ قال: من أهل الكتاب.
حدثنا عمرو, قال: حدثنا محمد بن سواء, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب, مثله.
حدثنا هناد, قال: حدثنا وكيع, وحدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن شعبة, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب, مثله.
10129ـ حدثنا عمران بن موسى, قال: حدثنا عبد الوارث بن سعيد, قال: حدثنا إسحاق بن سويد, عن يحيى بن يعمر, في قوله: اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ من المسلمين, فإن لم تجدوا من المسلمين, فمن غير المسلمين.
10130ـ حدثنا المثنى, قال: حدثنا عبد الأعلى, قال: حدثنا داود, عن عامر, عن شريح, في هذه الاَية: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيّةِ اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ قال: إذا كان الرجل بأرض غربة ولم يجد مسلما يشهده على وصيته, فأشهد يهوديّا أو نصرانيا أو مجوسيا, فشهادتهم جائزة. فإن جاء رجلان مسلمان فشهدا بخلاف شهادتهما, أجيزت شهادة المسلمين, وأبطلت شهادة الاَخَرَيْن.
10131ـ حدثني يعقوب, قال: حدثنا هشيم, قال: أخبرنا الأعمش, عن إبراهيم, عن شريح: أنه كان لا يجيز شهادة اليهود والنصارى على مسلم إلا في الوصية, ولا يجيز شهادتهما على الوصية إلا إذا كانوا في سفر.
حدثنا عمرو بن عليّ, قال: حدثنا أبو معاوية ووكيع, قالا: حدثنا الأعمش, عن إبراهيم, عن شريح, قال: لا تجوز شهادة اليهود والنصارى إلا في سفر, ولا تجوز في سفر إلا في وصية.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن شريح, نحوه.
10132ـ حدثنا عمرو بن عليّ, قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي, قال: حدثنا سفيان, عن منصور عن إبراهيم, قال: كتب هشام بن هبيرة لمسلمة عن شهادة المشركين على المسلمين, فكتب: لا تجوز شهادة المشركين على المسلمين إلا في وصية, ولا يجوز في وصية إلا أن يكون الرجل مسافرا.
10133ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن إدريس, عن أشهب, عن ابن سيرين, عن عبيدة, قال: سألته عن قول الله تعالى: أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ قال: من غير الملة.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن إدريس, عن هشام, عن ابن سيرين, عن عبيدة, بمثله.
حدثني يعقوب, قال: حدثنا ابن علية, عن هشام, عن ابن سيرين, قال: سألت عبيدة, عن ذلك فقال: من غير أهل الملة.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا جرير, عن هشام, عن ابن سيرين, عن عبيدة, قال: من غير أهل الصلاة.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن إدريس, عن هشام, عن ابن سيرين, عن عبيدة, قال: من غير أهل دينكم.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا حسين, عن زائدة, عن هشام, عن ابن سيرين, عن عبيدة, قال: من غير أهل الملة.
حدثنا عمرو بن عليّ, قال: حدثنا أبو داود, قال: حدثنا أبو حرّة, عن محمد بن سيرين, عن عبيدة: أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ قال: من غير أهل ملتكم.
حدثنا عمرو بن عليّ, قال: حدثنا عبد الرحمن بن عثمان, قال: حدثنا هشام بن محمد, قال: سألت سعيد بن جبير عن قول الله: أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ قال: من غير أهل ملتكم.
10134ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا مالك بن إسماعيل, عن حماد بن زيد, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
حدثنا عمرو, قال: حدثنا أبو داود, قال: حدثنا حماد بن زيد, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قال: من غير أهل ملتكم.
10135ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ قال: من غير أهل الإسلام.
10136ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا أبو بكر بن عياش, قال: قال أبو إسحاق: أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ قال: من اليهود والنصارى. قال: قال شريح: لا تجوز شهادة اليهوديّ والنصرانيّ إلا في وصية, ولا تجوز في وصية إلا في سفر.
10137ـ حدثني يعقوب, قال: حدثنا هشيم, قال: أخبرنا زكريا, عن الشعبي: أن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة بدَقُوقَا, ولم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته, فأشهد رجلين من أهل الكتاب. فقدما الكوفة, فأتيا الأشعري فأخبراه, وقدما بتركته ووصيته, فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأحلفهما, وأمضى شهادتهما.
10138ـ حدثنا عمرو بن عليّ, قال: حدثنا أبو داود, قال: حدثنا شعبة, عن مغيرة الأزرق, عن الشعبيّ: أن أبا موسى قضى بها بَدقُوقا.
10139ـ حدثنا عمرو, قال: حدثنا عثمان بن الهيثم, قال: حدثنا عوف, عن محمد, أنه كان يقول في قوله: اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ شاهدان من المسلمين وغير المسلمين.
10140ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ: من غير أهل الإسلام.
حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرحمن بن سعد, قال: أخبرنا أبو حفص, عن ليث, عن مجاهد, قال: من غير أهل الإسلام.
10141ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرني عبد الله بن عياش, قال: قال زيد بن أسلم في هذه الاَية: شَهادَةُ بَيْنِكُمْ... الاَية كلها. قال: كان ذلك في رجل تُوُفّيَ وليس عنده أحد من أهل الإسلام, وذلك في أوّل الإسلام والأرض حرب والناس كفار, إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالمدينة, وكان الناس يتوارثون بالوصية, ثم نُسخت الوصية وفُرضت الفرائض, وعمل المسلمون بها.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أو آخران من غير حَيّكم وعشيرتكم. ذكر من قال ذلك:
10142ـ حدثنا عمرو بن عليّ, قال: حدثنا عثمان بن الهيثم بن الجَهْم, قال: حدثنا عوف, عن الحسن, في قوله: اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ قال: شاهدان من قومكم ومن غير قومكم.
10143ـ حدثنا عمرو, قال: حدثنا أبو داود, قال: حدثنا صالح بن أبي الأخضر, عن الزهريّ, قال: مضت السنة أن لا تجوز شهادة كافر في حضر ولا سفر, إنما هي في المسلمين.
حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: كان الحسن يقول: اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أي من عشيرته أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ قال: من غير عشيرته.
10144ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو أسامة, عن ثابت بن زيد, عن عاصم, عن عكرمة: أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ قال: من غير أهل حيكم.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن مهديّ, عن ثابت بن زيد, عن عاصم, عن عكرمة: أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ قال: من غير حيكم.
حدثنا عمرو بن عليّ, قال: حدثنا أبو داود, قال: حدثنا ثابت بن زيد, عن عاصم الأحول, عن عكرمة في قول الله تعالى: أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ قال: من غير أهل حيه يعني من المسلمين.
حدثني الحرث بن محمد, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا مبارك, عن الحسن: أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ قال: من غير عشيرتك, ومن غير قومك كلهم من المسلمين.
10145ـ حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن أيوب, عن ابن سيرين, عن عبيدة, قوله: أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ قال: مسلمين من غير حيكم.
10146ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني الليث, قال: ثني عقيل, قال: سألت ابن شهاب عن قول الله تعالى: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ... إلى قوله: وَاللّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ قلت: أرأيت الاثنين اللذين ذكر الله من غير أهل المرء الموصي أهما من المسلمين أم هما من أهل الكتاب؟ وأرأيت الاَخرين اللذين يقومان مقامهما, أتراهما من غير أهل المرء الموصي؟ أم هما من غير المسلمين؟ قال ابن شهاب: لم نسمع في هذه الاَية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أئمة العامة سنة أذكرها, وقد كنا نتذاكرها أناسا من علمائنا أحيانا, فلا يذكرون فيها سنة معلومة ولا قضاء من إمام عادل, ولكنه يختلف فيها رأيهم. وكان أعجبهم فيها رأيا إلينا الذين كانوا يقولون: هي فيما بين أهل الميراث من المسلمين, يشهد بعضهم الميت الذي يرثونه ويغيب عنه بعضهم, ويشهد من شهده على ما أوصى به لذوي القربى فيخبرون من غاب عنه منهم بما حضروا من وصية, فإن سلموا جازت وصيته وإن ارتابوا أن يكونوا بدّلوا قول الميت وآثروا بالوصية من أرادوا ممن لم يوص لهم الميت بشيء حلف اللذان يشهدان على ذلك بعد الصلاة وهي صلاة المسلمين, فيقسمان بالله: إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى, ولا نكتم شهادة الله, إنا إذا لمن الاَثمين فإذا أقسما على ذلك جازت شهادتهما وأيمانهما ما لم يعثر على أنهما استحقا إثما في شيء من ذلك, فإن عثر قام آخران مقامهما من أهل الميراث من الخصم الذين ينكرون ما شهد به عليه الأوّلان المستحلفان أوّل مرّة, فيقسمان بالله: لشهادتنا على تكذيبكما أو إبطال ما شهدتما به وما اعتدينا, إنا إذن لمن الظالمين ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها, أو يخافوا أن تردّ أيمان بعد أيمانهم... الاَية.
وأولى التأويلين في ذلك عندنا بالصواب تأويل من تأوّله: أو آخران من غير أهل الإسلام وذلك أن الله تعالى عرّف عباده المؤمنين عند الوصية شهادة اثنين من عدول المؤمنين أو اثنين من غير المؤمنين, ولا وجه لأن يقال في الكلام صفة شهادة مؤمنين منكم أو رجلين من غير عشيرتكم, وإنما يقال: صفة شهادة رجلين من عشيرتكم أو من غير عشيرتكم, أو رجلين من المؤمنين أو من غير المؤمنين. فإذ كان لا وجه لذلك في الكلام, فغير جائز صرف مغلق كلام الله تعالى إلا إلى أحسن وجوهه. وقد دللنا قبل على أن قوله تعالى: ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ إنما هو من أهل دينكم وملتكم بما فيه كفاية لمن وفق لفهمه. وإذا صحّ ذلك بما دللنا عليه, فمعلوم أن معنى قوله: أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ إنما هو: أو آخران من غير أهل دينكم وملتكم. وإذ كان ذلك كذلك, فسواء كان الاَخران اللذان من غير أهل ديننا يهوديين كانا أو نصرانيين أو مجوسيين أو عابدي وثن أو على أيّ دين كانا, لأن الله تعالى لم يخصص آخرين من أهل ملة بعينها دون ملة بعد ألاّ يكونا من (غير) أهل الإسلام.
القول في تأويل قوله تعالى: إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَأصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ المَوْتِ.
يقول تعالى ذكره للمؤمنين: صفة شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت وقت الوصية, أن يشهد اثنان ذوا عدل منكم أيها المؤمنون أو رجلان آخران من غير أهل ملتكم, إن أنتم سافرتم ذاهبين وراجعين في الأرض. وقد بينا فيما مضى السبب الذي من أجله قيل للمسافر الضارب في الأرض. فَأصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ المَوْتِ يقول: فنزل بكم الموت. ووجه أكثر التأويل هذا الموضع إلى معنى التعقيب دون التخيير وقالوا: معناه: شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم, إن وجدا, فإن لم يوجدا فآخران من غيركم, وإنما فعل ذلك من فعله, لأنه وجه معنى الشهادة في قوله: شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إلى معنى الشهادة التي توجب للقوم قيام صاحبها عند الحاكم, أو يبطلها. ذكر بعض من تأوّل ذلك كذلك:
10147ـ حدثنا عمران بن موسى القزّاز, قال: حدثنا عبد الوارث بن سعيد, قال: حدثنا إسحاق بن سويد, عن يحيى بن يعمر, في قوله: ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ من المسلمين, فإن لم تجدوا من المسلمين فمن غير المسلمين.
10148ـ حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى, قالا: حدثنا ابن أبي عدي, عن سعيد, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب في قوله: اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ قال: اثنان من أهل دينكم, أو آخران من غيركم من أهل الكتاب إذا كان ببلاد لا يجد غيرهم.
10149ـ حدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا عبد الأعلى, قال: حدثنا داود, عن عامر, عن شريح في هذه الاَية: شَهادَةُ بَيْنِكُمْ... إلى قوله: أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ قال: إذا كان الرجل بأرض غربة ولم يجد مسلما يشهده على وصيته, فأشهد يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا, فشهادتهم جائزة.
10150ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيّةِ اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ قال: هذا في الحضر, أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ في السفر, إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتَمْ فِي الأرْضِ فَأصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ المَوْتِ هذا في الرجل يدركه الموت في سفره وليس بحضرته أحد من المسلمين, فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس, فيوصي إليهما.
10151ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا هشيم, قال: أخبرنا مغيرة, عن إبراهيم, وسعيد بن جبير, أنهما قالا في هذه الاَية: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ... الاَية, قال: إذا حضر الرجلَ الوفاة في سفر, فيشهد رجلين من المسلمين, فإن لم يجد رجلين من المسلمين فرجلين من أهل الكتاب.
10152ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ...إلى قوله: ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ فهذا لمن مات وعنده المسلمون, فأمره الله أن يشهد على وصيته عدلين من المسلمين. ثم قال: أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَأصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ المَوْتِ فهذا لمن مات وليس عنده أحد من المسلمين, فأمره الله تعالى بشهادة رجلين من غير المسلمين.
ووَجّه ذلك آخرون إلى معنى التخيير, وقالوا: إنما عني بالشهادة في هذا الموضع الأيمان على الوصية التي أوصى إليهما وائتمان الميت إياهما على ما ائتمنهما عليه من مال ليؤدّياه إلى ورثته بعد وفاته إن ارتيب بهما. قالوا: وقد يأمن الرجل على ماله من رآه موضعا للأمانة, من مؤمن وكافر, في السفر والحضر. وقد ذكرنا الرواية عن بعض من قال هذا القول فيما مضى, وسنذكر بقيته إن شاء الله تعالى بعد.
القول في تأويل قوله تعالى: تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصّلاةِ فَيُقْسِمانِ باللّهِ إنِ ارْتَبْتُمْ لانَشْتَرِي بِهِ ثَمَنا وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبَى.
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله: شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت, إن شهد اثنان ذوا عدل منكم, أو كان أوصى إليهما, أو آخران من غيركم, إن كنتم في سفر فحضرتكم المنية فأوصيتم إليهما ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال وتركة لورثتكم, فإذا أنتم أوصيتم إليهما ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال فأصابتكم مصيبة الموت, فأدّيا إلى ورثتكم ما ائتمنتموها وادّعوا عليهما خيانة خاناها مما ائتمنا عليه, فإن الحكم فيهما حينئذ أن تحبسوهما, يقول: تستوقفونهما بعد الصلاة. وفي الكلام محذوف اجتزىء بدلالة ما ظهر منه على ما حذف, وهو: فأصابتكم مصيبة الموت وقد أسندتم وصيتكم إليهما ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال, فإنكم تحبسونهما من بعد الصلاة. فَيُقْسِمَانِ بالله إنِ ارْتَبْتُمْ يقول: يحلفان بالله إن اتهمتموهما بخيانة فيما ائتمنا عليه من تغيير وصية أوصى إليهما بها, أو تبديلها. والارتياب: هو الاتهام. لانَشْتَري به ثَمَنا يقول: يحلفان بالله لانشتري بأيماننا بالله ثمنا, يقول: لا نحلف كاذبين على عوض نأخذه عليه وعلى مال نذهب به أو لحقّ نجحده لهؤلاء القوم الذين أوصى إلينا وإليهم وصيتهم. والهاء في قوله «بِهِ» من ذكر الله, والمعني به الحلف والقَسَم ولكنه لما كان قد جرى قبل ذلك ذكر القسم به, فيعرف من معنى الكلام, واكتفي به من إعادة ذكر القسم والحلف. وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبَى يقول: يقسمان بالله لا نطلب بإقسامنا بالله عوضا فنكذب فيها لأحد, ولو كان الذي نقسم به له ذا قرابة منا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك رُوِي الخبر عن ابن عباس. ذكر من قال ذلك:
10153ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَأصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ المَوْتِ فهذا لمن مات وليس عنده أحد من المسلمين, فأمره الله بشهادة رجلين من غير المسلمين, فإن ارتيب في شهادتهما استحلفا بعد الصلاة بالله: لم نشتر بشهادتنا ثمنا قليلاً.
وقوله: تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصّلاةِ من صلاة الاَخرين. ومعنى الكلام: أو آخران من غيركم تحبسونهما من بعد الصلاة إن ارتبتم بهما, فيقسمان بالله لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربَى.
واختلفوا في الصلاة التي ذكرها الله تعالى في هذه الاَية فقال: تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصّلاةِ فقال بعضهم: هي صلاة العصر. ذكر من قال ذلك:
10154ـ حدثني يعقوب, قال: حدثنا هشيم, قال: أخبرنا زكريا, عن الشعبي: أن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا, فلم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته, فأشهد رجلين من أهل الكتاب. قال: فقدما الكوفة, فأتيا الأشعريّ فأخبراه, وقدما بتركته ووصيته, فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فأحلفهما بعد العصر باالله: ما خانا ولا كذبا ولا بدّلا ولا كتما ولا غيّرا, وإنها لوصية الرجل وتركته. قال: فأمضى شهادتهما.
10155ـ حدثنا ابن بشار وعمرو بن عليّ, قالا: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير: أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ قال: إذا كان الرجل بأرض الشرك فأوصى إلى رجلين من أهل الكتاب, فإنهما يحلفان بعد العصر.
10156ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن مغيرة, عن إبراهيم, بمثله.
10157ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنكُمْ... إلى: فَأصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ المَوْتِ فهذا رجل مات بغربة من الأرض وترك تركته وأوصى بوصيته وشهد على وصيته رجلان, فإن ارتيب في شهادتهما استحلفا بعد العصر. وكان يقال عندها تصير الأيمان.
10158ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني هشيم, قال: أخبرنا مغيرة, عن إبراهيم وسعيد بن جبير, أنهما قالا في هذه الاَية: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ قالا: إذا حضر الرجل الوفاة في سفر, فليشهد رجلين من المسلمين, فإن لم يجد فرجلين من أهل الكتاب, فإذا قدما بتركته, فإن صدّقهما الورثة قبل قولهما, وإن اتهموهما أحلفا بعد صلاة العصر: بالله ما كذبنا, ولا كتمنا, ولا خُنّا, ولا غَيّرنا.
حدثنا عمرو بن عليّ, قال: حدثنا يحيى بن القطان, قال: حدثنا زكريا, قال: حدثنا عامر: أن رجلاً توفي بدقوقا, فلم يجد من يشهده على وصيته إلاّ رجلين نصرانيين من أهلها, فأحلفهما أبو موسى دبر صلاة العصر في مسجد الكوفة: بالله ما كتما ولا غَيّرا, وإن هذه الوصية. فأجازها.
وقال آخرون: بل يستحلفان بعد صلاة أهل دينهما وملتهما. ذكر من قال ذلك:
10159ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ... إلى قوله: ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ قال: هذا في الوصية عند الموت يوصي ويشهد رجلين من المسلمين على ماله وعليه, قال: هذا في الحضر: أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ في السفر إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَأصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ المَوْتِ هذا الرجل يدركه الموت في سفره وليس بحضرته أحد من المسلمين, فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس, فيوصي إليهما ويدفع إليهما ميراثه, فيقبلان به, فإن رضي أهل الميت الوصية وعرفوا مال صاحبهم تركوا الرجلين, وإن ارتابوا رفعوهما إلى السلطان, فذلك قوله: تَحْبِسُونَهُما منْ بَعْدِ الصّلاةِ... إن ارْتَبْتُمْ. قال عبد الله بن عباس: كأني أنظر إلى العِلْجين حين انتهى بهما إلى أبي موسى الأشعري في داره, ففتح الصحيفة فأنكر أهل الميت وخوّنوهما, فأراد أبو موسى أن يستحلفهما بعد العصر, فقلت له: إنهما لا يباليان صلاة العصر, ولكن استحلفهما بعد صلاتهما في دينهما, فيوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما, ويحلفان بالله لا نشتري ثمنا قليلاً ولو كان ذا قربى, ولا نكتم شهادة الله, إنا إذن لمن الاَثمين, أن صاحبهم لبهذا أوصى, وإن هذه لتركته. فيقول لهما الإمام قبل أن يحلفا: إنكما إن كنتما كتمتما أو خنتما فضحتكما في قومكما, ولم تجز لكما شهادة وعاقبتكما فإذا قال لهما ذلك, فإن ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها.
وأولى القولين في ذلك بالصواب عندنا, قول من قال: تحبسونهما من بعد صلاة العصر لأن الله تعالى عرّف الصلاة في هذا الموضع بإدخال الألف واللام فيها, ولا تدخلهما العرب إلاّ في معروف, إما في جنس, أو في واحد معهود معروف عند المتخاطبين. فإذا كان كذلك, وكانت الصلاة في هذا الموضع مجمعا على أنه لم يعن بها جميع الصلوات, لم يجز أن يكون مرادا بها صلاة المستحلف من اليهود والنصارى, لأن لهم صلوات ليست واحدة, فيكون معلوما أنها المعنية بذلك. فإذ كان ذلك كذلك, صحّ أنها صلاة بعينها من صلوات المسلمين. وإذ كان ذلك كذلك, وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم صحيحا عنه أنه إذ لاعن بين العجلانيين لاعن بينهما بعد العصر دون غيرها من الصلوات, كان معلوما أن التي عنيت بقوله: تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصّلاةِ هي الصلاة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخيرها لاستحلاف من أراد تغليظ اليمين عليه. هذا مع ما عند أهل الكفر بالله من تعظيم ذلك الوقت, وذلك لقربه من غروب الشمس. وكان ابن زيد يقول في قوله: لا نَشْتَري به ثَمَنا ما:
10160ـ حدثني به يونس بن عبد الأعلى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنا قال: نأخذ به رشوة.
القول في تأويل قوله تعالى: وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللّهِ إنّا إذًا لَمِنَ الاَثِمِينَ.
اختلفت القراءة في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الأمصار: وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللّهِ بإضافة الشهادة إلى الله, وخفض اسم الله تعالى يعني: لا نكتم شهادة الله عندنا. وذكر عن الشعبيّ أنه كان يقرؤه كالذي:
10161ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو أسامة, عن ابن عون, عن عامر, أنه كان يقرأ: وَلا نَكْتُمُ شَهادَةً آللّهِ, إنّا إذًا لَمِنَ الاَثِمِينَ بقطع الألف وخفض اسم الله. هكذا حدثنا به ابن وكيع.
وكأن الشعبيّ وجه معنى الكلام إلى أنهما يقسمان بالله لا نشتري به ثمنا ولا نكتم شهادة عندنا, ثم ابتدأ يمينا باستفهام بالله أنهما إن اشتريا بأيمانهما ثمنا أو كتما شهادته عندهما لمن الاَثمين.وقد رُوِي عن الشعبيّ في قراءة ذلك رواية تخالف هذه الرواية, وذلك ما:
10162ـ حدثني أحمد بن يوسف الثعلبي, قال: حدثنا القاسم بن سلام, قال: حدثنا عباد بن عباد, عن ابن عون, عن الشعبيّ, أنه قرأ: وَلا نَكْتُمُ شَهادَةً اللّهِ إنّا إذا لَمِنَ الاَثِمِينَ. قال أحمد, قال أبو عبيد: تنوّن شهادة, ويخفض «الله» على الاتصال. قال: وقد رواها بعضهم بقطع الألف على الاستفهام.
وحفظي أنا لقراءة الشعبيّ بترك الاستفهام. وقرأها بعضهم: «وَلا نَكْتُمُ شَهادَةً اللّهِ» بتنوين الشهادة ونصب اسم «الله», بمعنى: ولا نكتم الله شهادة عندنا.
وأولى القراءات في ذلك عندنا بالصواب, قراءة من قرأ: وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللّهِ بإضافة الشهادة إلى اسم «الله» وخفض اسم «الله», لأنها القراءة المستفيضة في قراءة الأمصار التي لا يتناكر صحتها الأمة. وكان ابن زيد يقول في معنى ذلك: ولا نكتم شهادة الله وإن كان صاحبها بعيدا.
10163ـ حدثني بذلك يونس, قال: أخبرنا ابن زيد عنه.
الآية : 107
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَىَ أَنّهُمَا اسْتَحَقّآ إِثْماً فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الّذِينَ اسْتَحَقّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَآ إِنّا إِذاً لّمِنَ الظّالِمِينَ }..
يعني تعالى ذكره بقوله: فإنْ عُثِرَ: فإن اطلع منهما, أو ظهر. وأصل العثر: الوقوع على الشيء والسقوط عليه, ومن ذلك قولهم: عثرت إصبع فلان بكذا: إذا صدمته وأصابته, ووقعت عليه ومنه قول الأعشى ميمون بن قيس:
بِذَانِ لَوْثٍ عَفَرْناةً إذَا عَثَرَتْفالتّعْسُ أدْنى لهَا مِنْ أنْ أقولَ لَعا
يعني بقوله: «عثرت»: أصاب ميسم خفها حجر أو غيره, ثم يستعمل ذلك في كلّ واقع على شيء كان عنه خفيا, كقولهم: «عَثَرَتْ على الغزل بأَخَرَة, فلم تَدَعْ بنَجْدٍ قَرَدَةً», بمعنى: وقعت.
وأما قوله: على أنّهُما اسْتَحَقّا إثْما فإنه يقول تعالى ذكره: فإن اطلع من الوصيين اللذين ذكر الله أمرهما في هذه الاَية بعد حلفهما بالله: لا نشتري بأيماننا ثمنا, ولو كان ذا قُربى, ولا نكتم شهادة الله على أنهما استحقا إثما, يقول: على أنهما استوجبا بأيمانهما التي حلفا بها إثما, وذلك أن يطلع على أنهما كانا كاذبين في أيمانهما بالله ما خنّا, ولا بدّلنا, ولا غَيّرنا, فإن وجدا قد خانا من مال الميت شيئا, أو غَيّرا وصيته, أو بدّلا, فأثما بذلك من حلفهما بربهما فَآخَرَانِ يَقُومانِ مَقامَهُما يقول: يقوم حينئذٍ مقامهما من ورثة الميت الأوليان الموصى إليهما.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
10164ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير: أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ قال: إذا كان الرجل بأرض الشرك فأوصى إلى رجلين من أهل الكتاب, فإنهما يحلفان بعد العصر, فإذا اطلع عليهما بعد حلفهما أنهما خانا شيئا, حَلَف أولياء الميت إنه كان كذا وكذا, ثم استحقّوا.
10165ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن مغيرة, عن إبراهيم, بمثله.
10166ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, في قوله: أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ من غير المسلمين تحبسونهما من بعد الصلاة, فإن ارتِيبَ في شهادتهما, استحلفا بعد الصلاة بالله: ما اشترينا بشهادتنا ثمنا قليلاً فإن اطلع الأولياء على أن الكافِرَين كذبا في شهادتهما, قام رجلان من الأولياء فحلفا بالله: إن شهادة الكافرين باطلة, وإنا لم نَعْتَدِ فذلك قوله: فإنْ عُثِرَ على أنّهُما اسْتَحَقّا إثْما يقول: إن اطلع على أن الكافرين كذبا, فَآخَرَانِ يَقُومانِ مَقامَهُما يقول: من الأولياء, فحلفا بالله: إن شهادة الكافرين باطلة, وإنّا لم نعتد. فتردّ شهادة الكافرين, وتجوز شهادة الأولياء.
10167ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: فإنْ عُثِرَ على أنّهُما اسْتَحَقّا إثْما أي اطلع منهما على خيانة أنهما كذبا أو كتما.
واختلف أهل التأويل في المعنى الذي له حكم الله تعالى ذكره على الشاهدين بالأيمان فنقلها إلى الاَخرين بعد أن عُثِر عليهما أنهما استحقا إثما. فقال بعضهم: إنما ألزمهما اليمين إذا ارتيب في شهادتهما على الميت في وصيته أنه أوصى لغير الذي يجوز في حكم الإسلام, وذلك أن يشهد أنه أوصى بماله كله, أو أوصى أن يفضّل بعض ولده ببعض ماله. ذكر من قال ذلك:
10168ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ... إلى قوله: ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ من أهل الإسلام, أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ من غير أهل الإسلام, إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ... إلى: فَيُقْسِمانِ باللّهِ يقول: فيحلفان بالله بعد الصلاة, فإن حلفا على شيء يخالف ما أنزل الله تعالى من الفريضة, يعني اللّذَينِ ليسا من أهل الإسلام, فآخران يقومان مقامهما من أولياء الميت, فيحلفان بالله: ما كان صاحبنا ليوصِيَ بهذا, أو: إنهما لكاذبان, ولشهادتنا أحقّ من شهادتهما.
10169ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قال: يوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما, يحلفان بالله: لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قُربى ولا نكتم شهادة الله, إنّا إذن لمن الاَثمين إن صاحبكم لبهذا أوصى, وإن هذه لتركته فإذا شهدا, وأجاز الإمام شهادتهما على ما شهدا, قال لأولياء الرجل: اذهبوا فاضربوا في الأرض واسألوا عنهما, فإن أنتم وجدتم عليهما خيانة أو أحدا يطعن عليهما رددنا شهادتهما فينطلق الأولياء فيسألون, فإن وجدوا أحدا يطعنُ عليهما أو هما غير مرضيين عندهم, أو اطّلع على أنهما خانا شيئا من المال وجدوه عندهما, فأقبل الأولياء فشهدوا عند الإمام وحلفوا بالله: لشهادتنا إنهما لخائنان متهمان في دينهما مطعون عليهما أحقّ من شهادتهما بما شهدا, وما اعتدينا. فذلك قوله: فإنْ عُثرَ على أنّهُما اسْتَحَقّا إثْما فَآخَرَانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الّذِينَ اسْتَحَقّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيانِ.
وقال آخرون: بل إنما ألزم الشاهدان اليمين, لأنهما ادّعيا أنه أوصى لهما ببعض المال. وإنما ينقل إلى الاَخرين من أجل ذلك إذا ارتابوا بدعواهما. ذكر من قال ذلك:
10170ـ حدثنا عمران بن موسى القزّاز, قال: حدثنا عبد الوارث بن سعد, قال: حدثنا إسحاق بن سويد, عن يحيى بن يعمر في قوله: تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصّلاةِ فَيُقْسِمانِ باللّهِ قال: زعما أنه أوصى لهما بكذا وكذا, فإنْ عُثِرَ على أنّهُما اسْتَحَقّا إثْما أي بدعواهما لأنفسهما, فَآخَرَانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الّذِينَ اسْتَحَقّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيانِ أنّ صاحبنا لم يوص إليكما بشيء مما تقولان.
والصواب من القول في ذلك عندنا, أن الشاهدين ألزما اليمين في ذلك باتهام ورثة الميت إياهما فيما دفع إليهما الميت من ماله, ودعواهم قبلها خيانة مال معلوم المبلغ, ونقلت بعد إلى الورثة عند ظهور الريبة التي كانت من الورثة فيهما, وصحة التهمة عليهما بشهادة شاهد عليهما أو على أحدهما, فيحلف الوارث حينئذٍ مع شهادة الشاهد عليهما أو على أحدهما إنما صحح دعواه إذا حقق حقه, أو الإقرار يكون من الشهود ببعض ما ادّعى عليهما الوارث أو بجميعه, ثم دعواهما في الذي أقرّا به من مال الميت ما لا يقبل فيه دعواهما إلاّ ببينة, ثم لا يكون لهما على دعواهما تلك بينة, فينقل حينئذٍ اليمين إلى أولياء الميت.
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في ذلك بالصحة, لأنا لا نعلم من أحكام الإسلام حكما يجب فيه اليمين على الشهود ارتيب بشهادتهما أو لم يرتب بها, فيكون الحكم في هذه الشهادة نظيرا لذلك. ولم نجد ذلك كذلك صحّ بخبر عن الررسول صلى الله عليه وسلم ولا بإجماع من الأمة, لأن استحلاف الشهود في هذا الموضع من حكم الله تعالى, فيكون أصلاً مسلما. والمقول إذا خرح من أن يكون أصلاً أو نظيرا لأصل فيما تنازعت فيه الأمة, كان واضحا فساده. وإذا فسد هذا القول بما ذكرناه, فالقول بأن الشاهدين استحلفا من أجل أنهما ادّعيا على الميت وصية لهما بمال من ماله أفسد من أجل أن أهل العلم لا خلاف بينهم في أن من حكم الله تعالى أن مدّعيا لو ادّعى في مال ميت وصية أن القول قول ورثة المدّعي في ماله الوصية مع أيمانهم, دون قول مدّعي ذلك مع يمينه, وذلك إذا لم يكن للمدّعي بينة. وقد جعل الله تعالى اليمين في هذه الاَية على الشهود إذا ارتيب بهما, وإنما نقل الإيمان عنهم إلى أولياء الميت, إذا عُثِر على أن الشهود استحقوا إثما في أيمانهم فمعلوم بذلك فساد قول من قال: ألزم اليمين الشهود لدعواهم لأنفسهم وصية أوصى بها لهم الميت في ماله, على أن ما قلنا في ذلك عن أهل التأويل هو التأويل الذي وردت به الأخبار عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به حين نزلت هذه الاَية بين الذين نزلت فيهم وبسببهم. ذكر من قال ذلك:
10171ـ حدثني ابن وكيع, قال: حدثنا يحيى بن آدم, عن يحيى بن أبي زائدة, عن محمد بن أبي القاسم, عن عبد الملك بن سعيد بن جبير, عن أبيه, عن ابن عباس, قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الدارّي وعديّ بن بداء, فمات السهميّ بأرض ليس فيها مسلم, فلما قدما بتركته, فقدوا جاما من فضة مخوّصا بالذهب, فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم وُجد الجام بمكة, فقالوا: اشتريناه من تميم الداريّ وعديّ بن بداء. فقام رجلان من أولياء السهميّ فحلفا: لشهادتنا أحقّ من شهادتهما, وأن الجام لصاحبهم. قال: وفيهم أنزلت: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ.
10172ـ حدثنا الحسن بن أبي شعيب الحراني, قال: حدثنا محمد بن سلمة الحراني, قال: حدثنا محمد بن إسحاق, عن أبي النضر, عن زاذان مولى أمّ هانىء ابنة أبي طالب, عن ابن عباس, عن تمم الدرايّ في هذه الاَية: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أحدَكُمُ المَوْتُ قال: برىء الناس منها غيري وغير عديّ بن بداء, وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام, فأتيا الشام لتجارتهما, وقدم عليهما مولى لبني سهم, يقال له بديل بن أبي مريم بتجارة, ومعه جام فضة يريد بن الملك, وهو عظم تجارته, فمرض, فأوصى إليهما وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله. قال تميم: فلما مات, أخذنا ذلك الجام, فبعناه بألف درهم فقسمناه أنا وعديّ بن بداء, (فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا, وفقدوا الجام فسألونا عنه) فقلنا: ما ترك غير هذا, وما دفع إلينا غيره. قال تميم: فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك, فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر, وأدّيت إليهم خمسمائة درهم, وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها, فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم, فسألهم البينة فلم يجدوا, فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه, فحلف, فأنزل الله تعالى: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ... إلى قوله: أنْ تُرّدّ أيمَانٌ بَعْدَ أيمانِهِمْ فقام عمرو بن العاص, ورحل آخر منهم, فحلفا, فنزعت الخمسمائة من عديّ بن بداء.
10173ـ حدثنا القاسم: حدثنا الحسين, قال: حدثنا أبو سفيان, عن معمر, عن قتادة وابن سيرين وغيره. قال: وثنا الحجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة, دخل حديث بعضهم في بعض: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ... الاَية, قال: كان عديّ وتميم الداريّ وهما من لخم نصرانيان يتجران إلى مكة في الجاهلية. فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم حوّلا متجرهما إلى المدينة, فقدم ابن أبي مارية مولى عمرو بن العاص المدينة, وهو يريد الشام تاجرا. فخرجوا جميعا, حتى إذا كانوا ببعض الطريق مرض ابن أبي مارية, فكتب وصيته بيده ثم دسّها في متاعه, ثم أوصى إليهما. فلما مات, فتحا متاعه, فأخذا ما أرادا. ثم قدما على أهله فدفعا ما أرادا, ففتح أهله متاعه, فوجدوا كتابه وعهده وما خرج به, وفقدوا شيئا فسألوهما عنه, فقالوا: هذا الذي قبضنا له ودفع إلينا قال لهما أهله: فباع شيئا أو ابتاعه؟ قالا: لا. قالوا: فهل استهلك من متاعه شيئا؟ قالا: لا. قالوا: فهل تجرَ تجارة؟ قالا: لا. قالوا: فإنا قد فقدنا بعضه فاتهما, فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فنزلت هذه الاَية: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أحدَكُمُ المَوْتُ... إلى قوله: إنّا إذًا لَمِنَ الاَثِمِينَ قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستحلفوهما في دبر صلاة العصر: بالله الذي لا إله إلاّ هو, ما قبضنا له غير هذا ولا كتمنا قال: فمكثنا ما شاء الله أن نمكث, ثم ظهر معهما على إناء من فضة منقوش مموّه بذهب, فقال أهله: هذا من متاعه, قالا: نعم, ولكنا اشتريناه منه ونسينا أن نذكره حين حلفنا, فكرهنا أن نكذّب أنفسنا فترافعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فنزلت الاَية الأخرى: فإن عُثِرَ على أنّهُما اسْتَحَقّا إثْما فَآخَرَانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الّذِينَ اسْتَحَقّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيانِ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من أهل الميت أن يحلفا على ما كتما وغَيّبا ويستحقانه. ثم إن تميما الداريّ أسلم وبايع النبيّ صلى الله عليه وسلم, وكان يقول: صدق الله ورسوله, أنا أخذت الإناء.
10174ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيّةِ اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ... الاَية كلها, قال: هذا شيء حين لم يكن الإسلام إلاّ بالمدينة, وكانت الأرض كلها كفرا, فقال الله تعالى: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيّةِ اثْنانِ ذَوَا عَدْل مِنْكُمْ من المسلمين, أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ من غير أهل الإسلام, إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَأصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ المَوْتِ قال: كان الرجل يخرج مسافرا والعرب أهل كفر, فعسى أن يموت في سفره فيسند وصيته إلى رجلين منهم, فيقسمان بالله إن ارتبتم في أمرهما إذا قال الورثة: كان مع صاحبنا كذا وكذا, فيقسمان بالله: ما كان معه إلاّ هذا الذي قلنا. فإنْ عُثِرَ على أنّهُما اسْتَحَقّا إثْما إنما حلفا على باطل وكذب. فَآخَرَانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الّذِينَ اسْتَحَقّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيانِ بالميت فَيُقْسِمانِ باللّهِ لَشَهادَتَنَا أحَقّ مِنْ شَهادَتِهِما وَما اعْتَدَيْنا إنّا إذا لَمِنَ الظّالِمِينَ ذكرنا أنه كان مع صاحبنا كذا وكذا, قال هؤلاء: لم يكن معه. قال: ثم عثر على بعض المتاع عندهما, فلما عثر على ذلك ردّت القَسَامة على وارثه, فأقسما, ثم ضمن هذان. قال الله تعالى: ذَلِكَ أدْنَى أنْ يَأْتُوا بالشّهادَةِ على وَجْهِها أوْ يَخافُوا أنْ تُرَدّ أيمَانٌ فتبطل أيمانُهم, وَاتّقُوا اللّهَ وَاسْمَعوا وَاللّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ الكاذبين الذين يحلفون على الكذب. وقال ابن زيد: قدم تميم الداريّ وصاحب له, وكانا يومئذٍ مشركين ولم يكونا أسلما, فأخبرا أنهما أوصى إليهما رجل, وجاءا بتركته, فقال أولياء الميت: كان مع صاحبنا كذا وكذا, وكان معه إبريق فضة وقال الاَخران: لم يكن معه إلاّ الذي جئنا به. فحلفا خلف الصلاة. ثم عثر عليهما بعد والإبريق معهما فلما عثر عليهما ردّت القسامة على أولياء الميت بالذي قالوا مع صاحبهم, ثم ضمنها الذي حلف ليه الأوليان.
10175ـ حدثنا الربيع, قال: حدثنا الشافعيّ, قال: أخبرنا سعيد بن معاذ بن موسى الجعفريّ, عن بكير بن معروف, عن مقاتل بن حيان, قال بكر: قال مقاتل: أخذت هذا التفسير عن مجاهد والحسن والضحاك في قول الله: اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أن رجلين نصرانيين من أهل دَارِين, أحدهما تميمي والاَخر يماني, صاحبَهما مولى لقريش في تجارة, فركبوا البحر ومع القرشيّ مال معلوم قد علمه أولياؤه من بين آنية وبزَ ورِقَة. فمرض القرشيّ, فجعل وصيته إلى الداريّين, فمات. وقبض الداريان المال والوصية, فدفعاه إلى أولياء الميت, وجاءا ببعض ماله. وأنكر القوم قلة المال, فقالوا للداريّين: إن صاحبنا قد خرج معه بمال أكثر مما اتيتمونا به, فهل باع شيئا أو اشترى شيئا فوُضِعَ فيه؟ أو هل طال مرضه فأنفق على نفسه؟ قالا: لا. قالوا: فإنكما خنتمانا فقبضوا المال ورفعوا أمرهما إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم, فأنزل الله تعالى: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ... إلى آخر الاَية. فلما نزل: أن يُحبسا من بعد الصلاة, أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم فقاما بعد الصلاة, فحلفا بالله ربّ السموات ما ترك مولاكم من المال إلاّ ما أتيناكم به, وإنا لا نشتري بأيماننا ثمنا قليلاً من الدنيا ولو كان ذا قُربى, ولا نكتم شهادة الله, إنّا إذن لمن الاَثمين فلما حلفا خُلّي سبيلهما. ثم إنهم وجدوا بعد ذلك إناء من آنية الميت, فأُخِذ الداريان فقالا: اشتريناه منه في حياته وكذبا, فكُلّفا البينة فلم يقدرا عليها. فرفعوا ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم, فأنزل الله تعالى: فإن عُثِرَ يقول: فإن اطّلع على أنهما استحقا إثما, يعني الداريّين إن كَتَما حقّا, فآخران من أولياء الميت يقومان مقامهما من الذين استحقّ عليهم الأوليان, فيقسمان بالله إن مال صاحبنا كان كذا وكذا, وإن الذي يُطْلَب قِبَل الدار يّين لحقّ, وما اعتدينا, إنّا إذن لمن الظالمين. هذا قول الشاهدين أولياء الميت, ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها, يعني: الداريين والناس أن يعودوا لمثل ذلك.
قال أبو جعفر: ففيما ذكرنا من هذه الأخبار التي روينا دليل واضح على صحة ما قلنا من أن حكم الله تعالى باليمين على الشاهدين في هذا الموضع, إنما هو من أجل دعوى ورثته على المسنَد إليهما الوصية خيانة فيما دفع الميت من ماله إليهما, أو غير ذلك مما لا يبرأ فيها المدّعي ذلك قبله إلاّ بيمين, وإن نقل اليمين إلى ورثة الميت, بما أوجبه الله تعالى بعد أن عثر على الشاهدين أنهما استحقّا إثما في أيمانهما, ثم ظُهِر على كذبهما فيها, إنّ القوم ادّعوا فيما صحّ أنه كان للميت دعوى من انتقال ملك عنه إليهما ببعض ما تزول به الأملاك, مما يكون اليمين فيها على ورثة الميت دون المدّعَى, وتكون البينة فيها على المدعي وفساد ما خالف في هذه الاَية ما قلنا من التأويل. وفيها أيضا البيان الواضح على أن معنى الشهادة التي ذكرها الله تعالى في أوّل هذه القصة إنما هي اليمين, كما قال الله تعالى في مواضع أخر: والّذِينَ يَرْمونَ أَزْوَاجَهُمْ ولَمْ يكُنْ لهُمْ شُهَدَاءُ إلاّ أنْفُسُهُمْ فشَهادَةُ أحَدِهِمْ أرْبَعُ شَهاداتٍ باللّهِ إنّهُ لمِنَ الصّادقينَ, فالشهادة في هذا الموضع معناها القسم من قول القائل: أشهد بالله إنه لمن الصادقين, وكذلك معنى قوله: شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إنما هو قَسَم بينكم, إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيّةِ أن يقسم اثْنان ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ إن كانا ائتمنا على ما قال, فارتيب بهما, أو ائتمن آخران من غير المؤمنين فاتهما. وذلك أن الله تعالى لمّا ذكر نقل اليمين من اللذين ظهر على خيانتهما إلى الاَخرين, قال: فَيُقْسِمانِ باللّهِ لَشَهادَتُنا أحَقّ مِنْ شَهادَتِهِما. ومعلوم أن أولياء الميت المدّعين قِبَل اللذين ظهر على خيانتهما, غير جائز أن يكون شهداء بمعنى الشهادة التي يؤخذ بها في الحكم حقّ مدّعى عليه لمدّع, لأنه لا يعلم لله تعالى حكم قضى فيه لأحد بدعواه, ويمينه على مدّعًى عليه بغير بينة ولا إقرار من المدّعى عليه ولا برهان. فإذا كان معلوما أن قوله: لشَهادَتُنا أحَقّ مِنْ شَهادَتِهِما إنما معناه: قسمنا أحقّ من قسمهما, وكان قسم اللذين عثر على أنهما أثما هو الشهادة التي ذكر الله تعالى في قوله: أحَقّ مِنْ شَهادَتِهِما صح أن معنى قوله: شَهادَةِ بَيْنِكُمْ بمعنى الشهادة في قوله: لَشَهادَتُنا أحَقّ مِنْ شَهادَتِهِما وأنها بمعنى القسم.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: مِنَ الّذِينَ اسْتَحَقّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيانِ فقرأ ذلك قرّاء الحجاز والعراق والشام: «مِنَ الّذِينَ اسْتُحِقّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيانِ» بضم التاء. ورُوِي عن عليّ وأبي بن كعب والحسن البصري أنهم قرءوا ذلك: مِنَ الّذِينَ اسْتَحَقّ عَلَيْهِمُ بفتح التاء.
واختلفت أيضا في قراءة قوله: الأوْلَيانِ فقرأته عامّة قرّاء أهل المدينة والشام والبصرة: الأوْلَيانِ, وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة: «الأولين». وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك: «مِنَ الّذِينَ اسْتَحَقّ عَلَيْهِمُ الأَوّلانِ».
وأولى القراءتين بالصواب في قوله: «مِنَ الّذِينَ اسْتُحِقّ عَلَيْهِم» قراءة من قرأ بضمّ التاء, لإجماع الحجة من القرّاء عليه, مع مساعدة عامّة أهل التأويل على صحة تأويله, وذلك إجماع عامتهم على أن تأويله: فآخران من أهل الميت الذين استحقّ المؤتمنان على مال الميت الإثم فيهم, يقومان مقام المستحقّ الإثم فيهما بخيانتهما ما خانا من مال الميت. وقد ذكرنا قائل ذلك أو أكثر قائليه فيما مضى قبل, ونحن ذاكروا باقيهم إن شاء الله تعالى ذلك.
10176ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى: شَهادَةُ بَيْنِكُمْ أن يموت المؤمن فيحضر موته مسلمان أو كافران لا يحضره غير اثنين منهم, فإن رضي ورثته ما عاجل عليه من تركته فذاك, وحلف الشاهدان إن اتهما لصادقان, فإن عثر وجد لطخ حلف الاثنان الأوليان من الورثة, فاستحقا, وأبطلا أيمان الشاهدين.
وأحسب أن الذين قرءوا ذلك بفتح التاء, أرادوا أن يوجهوا تأويله إلى: فَآخران يقومان مقامهما مقام المؤتمنين اللذين عثر على خيانتهما في القسم والاستحقاق به عليهما دعواهما قبلهما من الذين استحقّ على المؤتمنين على المال على خيانتهما القيام مقامهما في القسم والاستحقاق في الأوليان بالميت. وكذلك كانت قراءة من رُوِيت هذه القراءة عنه, فقرأ ذلك: مِنَ الّذِينَ استَحَقّ بفتح التاء على معنى: الأوليان بالميت وماله. وذلك مذهب صحيح وقراءة غير مدفوعة صحتها, غير أنا نختار الأخرى لإجماع الحجة من القرّاء عليها مع موافقتها التأويل الذي ذكرنا عن الصحابة والتابعين.
10177ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يحيى بن آدم, عن إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن أبي عبد الرحمن وكريب عن عليّ, أنه كان يقرأ: «مِنَ الّذِينَ اسْتُحِقّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيانِ».
10178ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا مالك بن إسماعيل, عن حماد بن زيد, عن وائل مولى أبي عبيد, عن يحيى بن عقيل عن يحيى بن يعمر, عن أبيّ بن كعب, أنه كان يقرأ: «مِنَ الّذِينَ اسْتُحِقّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيانِ».
وأما أولى القراءات بالصواب في قوله: الأَوْلَيانِ عندي, فقراءة من قرأ: الأوْلَيانِ بصحة معناها وذلك لأن معنى: فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق فيهم الإثم, ثم حذف «الإثم» وأقيم مقامه «الأوليان», لأنهما هما اللذان ظلما وأثما فيهما بما كان من خيانة اللذين استحقا الإثم وعثر عليهما بالخيانة منهما فيما كان ائتمنهما عليه الميت, كما قد بينا فيما مضى من فعل العرب مثل ذلك من حذفهم الفعل اجتزاء بالاسم, وحذفهم الاسم اجتزاء بالفعل. ومن ذلك ما قد ذكرنا في تأويل هذه القصة, وهو قوله: شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيّةِ اثْنانِ ومعناه: أن يشهد اثنان, وكما قال: فَيُقْسِمان باللّهِ إنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي به ثَمَنا فقال «به», فعاد بالهاء على اسم «الله» وإنما المعنى: لا نشتري بقسمنا بالله, فاجتزىء بالعود على اسم الله بالذكر, والمراد به: لا نشتري بالقسم بالله استغناء بفهم السامع بمعناه عن ذكر اسم القسم. وكذلك اجتزىء بذكر الأوليين من ذكر الإثم الذي استحقه الخائنان لخيانتهما إياها, إذ كان قد جرى ذكر ذلك بما أغنى السامع عند سماعه إياه عن إعادته, وذلك قوله: فإنْ عُثِرَ على أنّهُما اسْتَحَقّا إثْما. وأما الذين قرءوا ذلك «الأوّلين» فإنهم قصدوا في معناه إلى الترجمة به عن «الذين», فأخرجوا ذلك على وجه الجمع, إذ كان «الذين» جمعا وخفضا, إذ كان «الذين» مخفوضا. وذلك وجه من التأويل, غير أنه إنما يقال للشيء أوّل إذا كان له آخر هو له أوّل, وليس للذين استحقّ عليهم الإثم آخرهم له أوّل, بل كانت أيمان الذين عثر على أنهما استحقا إثما قبل إيمانهم, فهم إلى أن يكونوا إذ كانت أيمانهم آخرا أولى أن يكونوا آخرين من أن يكونوا أوّلين وأيمانهم آخرة لأولى قبلها. وأما القراءة التي حكيت عن الحسن, فقراءة عن قراءة الحجة من القرّاء شاذّة, وكفى بشذوذها عن قراءتهم دليلاً على بعدها من الصواب.
واختلف أهل العربية في الرافع لقوله: الأوْلَيانِ إذا قرىء كذلك, فقال بعض نحويي البصرة: يزعم أنه رفع ذلك بدلاً من «آخران» في قوله: فآخَرَانِ يَقومانِ مَقامَهُما وقال: إنما جاز أن يبدل الأوليان وهو معرفة من آخران وهو نكرة, لأنه حين قال: يَقُومانِ مَقامهمَا مِنَ الّذِينَ اسْتحقّ عَلَيْهِم كان كأنه قد حدّهما حتى صارا كالمعرفة في المعنى, فقال: «الأوْلَيانِ», فأجرى المعرفة عليهما بدلاً. قال: ومثل هذا مما يجري على المعنى كثير. واستشهد لصحة قوله ذلك بقول الراجز:
عَلَيّ يوْمَ يمْلِكُ الأمُورَاصَوْمَ شُهورٍ وَجَبتْ نُذورَاوبَادِنا مُقَلّدا مَنْحورَا
قال: فجعله «عليّ واجب», لأنه في المعنى قد أوجب.
وكان بعض نحويي الكوفة ينكر ذلك ويقول: لا يجوز أن يكون «الأوليان» بدلاً من «آخران» من أجل أنه قد نَسَق «فيقسمان» على «يقومان» في قوله: فَآخَرَانِ يَقُومانِ فلم يتمّ الخبر عند من قال: لا يجوز الإبدال قبل إتمام الخبر, كما قال: غير جائز «مررت برجل قام زيد وقعد» وزيد بدل من رجل.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: «الأوليان» مرفوعان بما لم يسمّ فاعله, وهو قوله: «اسْتُحِقّ عَلَيْهِم» وأنهما موضع الخبر عنهما, فعمل فيهما ما كان عاملاً في الخبر عنهما وذلك أن معنى الكلام: فآخران يقومان مقامهما من الذين استحقّ عليهم الإثم بالخيانة, فوضع «الأوليان» موضع «الإثم» كما قال تعالى في موضع آخر: أجَعَلْتُمْ سقايَةَ الحاجّ وعِمارَةَ المَسْجِدِ الحَرَام كمَنْ آمَنَ باللّهِ واليَوْمِ الاَخِرِ ومعناه: أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كإيمان من آمن بالله واليوم الاَخر؟ وكما قال: وأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ العِجْلَ بِكُفْرِهِمْ, وكما قال بعض الهذليين:
يُمَشّي بَيْنَنا حانُوتُ خَمْرٍمِنَ الخُرْسِ الصّرَاصِرَةِ القِطاطِ
وهو يعني صاحب حانوت خمر, فأقام الحانوت مقامه لأنه معلوم أن الحانوت لا يمشي, ولكن لما كان معلوما عنده أنه لا يخفى على سامعه ما قصد إليه من معناه حذف الصاحب, واجتزأ بذكر الحانوت منه, فكذلك قوله: «مِنَ الّذِينَ اسْتُحِقّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيانِ» إنما هو من الذين استحقّ فيهم خيانتهما, فحذفت «الخيانة» وأقيم «المختانان» مقامها, فعمل فيهما ما كان يعمل في المحذوف ولو ظهر. وأما قوله: «عليهم» في هذا الموضع, فإن معناها: فيهم, كما قال تعالى: وَاتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ على مُلْكِ سُلَيْمانَ يعني: في ملك سليمان, وكما قال: ولأُصَلّبَنّكُمْ فِي جُذُوعِ النّخْلِ ف «في» توضع موضع «على», و «على» في موضع «في» كل واحدة منهما تعاقب صاحبتها في الكلام, ومنه قول الشاعر:
مَتَى ما تُنْكِرُوها تَعْرِفُوهاعلى أقْطارِها عَلَقٌ نَفِيثُ
وقد تأوّلت جماعة من أهل التأويل قول الله تعالى: «فإنْ عُثَر على أنّهُما اسْتَحَقّا إثْما فَآخَرَانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الّذِينَ اسْتُحِقّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيانِ» أنهما رجلان آخران من المسلمين, أو رجلان أعدل من المُقسِمَين الأوّلين. ذكر من قال ذلك:
10179ـ حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا عبد الأعلى, قال: حدثنا داود بن أبي هند, عن عامر, عن شريح في هذه الاَية: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيّة اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ قال: إذا كان الرجل بأرض غُرْبة, ولم يجد مسلما يشهده على وصيته, فأشهد يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا, فشهادتهم جائزة. فإن جاء رجلان مسلمان, فشهدا بخلاف شهادتهم, أجيزت شهادة المسلمين وأبطلت شهادة الاَخرين.
10180ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: فإنْ عُثِرَ أي اطلع منهما على خيانة على أنهما كذبا أو كتما, فشهد رجلان هما أعدل منهما بخلاف ما قالا, أجيزت شهادة الاَخرين وأبطلت شهادة الأوّلين.
10181ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا جرير, عن عبد الملك, عن عطاء, قال: كان ابن عباس يقرأ: «مِنَ الّذِينَ اسْتُحِقّ عَلَيْهِمُ الأوّلَيْنِ» قال: كيف يكون «الأَوْلَيان», أرأيت لو كان الأوليان صغيرين؟
حدثنا هناد وابن وكيع, قال: حدثنا عبدة, عن عبد الملك, عن عطاء, عن ابن عباس, قال: كان يقرأ: «مِنَ الّذِينَ اسْتُحِقّ عَلَيْهِمُ الأوّلَيْنِ» قال: وقال: أرأيت لو كان الأوليان صغيرين, كيف يقومان مقامهما؟
قال الإمام أبو جعفر: فذهب ابن عباس فيما أرى إلى نحو القول الذي حكيت عن شريح وقتادة, من أن ذلك رجلان آخران من المسلمين يقومان مقام النصرانِييّن, أو عَدْلان من المسلمين هما أعدل وأجوز شهادة من الشاهدين الأوّلين أو المُقسِمَين. وفي إجماع جميع أهل العلم على أن لا حكم لله تعالى يجب فيه على شاهد يمين فيما قام به من الشهادة, دليل واضح على أن غير هذا التأويل الذي قاله الحسن ومن قال بقوله في قول الله تعالى: فَآخَرَانِ يَقُومانِ مَقامَهُما أولى به.
وأما قوله الأوْلَيانِ فإن معناه عندنا: الأولى بالميت من المقسمين الأوّلين فالأولى, وقد يحتمل أن يكون معناه: الأولى باليمين منهما فالأولى, ثم حذف «منهما» والعرب تفعل ذلك فتقول: فلان أفضل, وهي تريد أفضل منك, وذلك إذا وضع أفعل موضع الخبر. وإن وقع موقع الاسم وأدخلت فيه الألف واللام, فعلوا ذلك أيضا إذا كان جوابا لكلام قد مضى, فقالوا: هذا الأفضل, وهذا الأشرف يريدون هو الأشرف منك. وقال ابن زيد: معنى ذلك: الأوليان بالميت.
10182ـ حدثني يونس, عن ابن وهب, عنه.
القول في تأويل قوله تعالى: فَيُقْسِمانِ باللّهِ لَشَهادَتُنا أحَقّ مِنْ شَهادتِهِم وَما اعْتَدَيْنا إنّا إذَنْ لَمِنَ الظّالِمِينَ.
يقول تعالى ذكره: فيُقسم الاَخران اللذان يقومان مقام اللذين عثر على أنهما استحقا إثما بخيانتهما مال الميت الأوليان باليمين والميت من الخائنين: لَشَهادَتُنا أحَقّ مِنْ شَهادَتِهِما يقول: لأيماننا أحقّ من أيمان المقسمين المستحقين الإثم وأيمانهما الكاذبة في أنهما قد خانا في كذا وكذا من مال ميتنا, وكذا في أيمانهما التي حلفا بها. وَما اعْتَدَيْنا يقول: وما تجاوزنا الحقّ في أيماننا. وقد بينا أن معنى الاعتداء: المجاوزة في الشيء حدّه. إنّا إذَنْ لَمِنَ الظّالِمِينَ يقول: إنا إن كنا اعتدينا في أيماننا, فحلفنا مبطلين فيها كاذبين, لمِنَ الظّالِمِينَ يقول: لَمِنْ عِدَادِ مَنْ يأخذ ما ليس له أخذه, ويقتطع بأيمانه الفاجرة أموال الناس.
الآية : 108
القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَىَ أَن يَأْتُواْ بِالشّهَادَةِ عَلَىَ وَجْهِهَآ أَوْ يَخَافُوَاْ أَن تُرَدّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتّقُوا اللّهَ وَاسْمَعُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }..
يعني تعالى ذكره بقوله: ذلكَ: هذا الذي قلت لكم في أمر الأوصياء إذا ارتبتم في أمرهم واتهمتموهم بخيانة المال من أوصى إليهم من حَبْسهم بعد الصلاة, واستحلافكم إياهم على ما ادّعى قِبَلهم أولياء الميت أدْنى لَهُم أنْ يَأْتُوا بالشّهادَةِ على وجهِها يقول: هذا الفعل إذا فعلتم بهم أقرب لهم أن يصدقُوا في أيمانهم, ولا يكتموا, ويقرّوا بالحقّ, ولا يخونوا. أوْ يَخافُوا أنْ تُرَدّ أيمَانٌ بَعْدَ أيمَانِهِمْ يقول أو يخافوا هؤلاء الأوصياء إن عُثِر عليهم أنهم استحقوا إثما في أيمانهم بالله, أن تردّ أيمانهم على أولياء الميت بعد أيمانهم التي عثر عليها أنها كذب, فيستحقوا بها ما ادّعوا قِبَلهم من حقوقهم, فيصدقوا حينئذٍ في أيمانهم وشهادتهم مخافة الفضيحة على أنفسهم وحذرا أن يستحقّ عليهم ما خانوا فيه أولياء الميت وورثته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل وقد تقدمت الرواية بذلك عن بعضهم, نحن ذاكرو الرواية في ذلك عن بعض من بقي منهم.
10183ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس: فإن عُثِرَ على أنّهُما اسْتَحَقّا إثْما يقول: إن اطلع على أن الكافرين كذبا, فآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا يقول: من الأولياء, فحلفا بالله أن شهادة الكافرين باطلة وأنّا لم نعتدِ, فتردّ شهادة الكافرين وتجوز شهادة الأولياء. يقول تعالى ذكره: ذلك أدنى أن يأتي الكافرون بالشهادة على وجهها, أو يخافوا أن تردّ أيمان بعد أيمانهم. وليس على شهود المسلمين أقسام, وإنما الأقسام إذا كانوا كافرين.
10184ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ذَلِكَ أدْنَى أنْ يَأْتُوا بالشّهادَةِ... الاَية, يقول: ذلك أحرى أن يصدقوا في شهادتهم, وأن يخافوا العقاب.
10185ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: أوْ يَخافُوا أنْ تُرَدّ أيمَانٌ بَعْدَ أيمَانِهِمْ قال: فتبطل أيمانهم, وتؤخذ أيمان هؤلاء.
وقال آخرون: معنى ذلك: تحبسونهما من بعد الصلاة, ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها, وعلى أنهما استحقا إثما, فآخران يقومان مقامهما. ذكر من قال ذلك:
10186ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قال: يوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما, فيحلفان بالله لا نشتري به ثمنا قليلاً ولو كان ذا قُربى, ولا نكتم شهادة الله, إنا إذن لمن الاَثمين, إنّ صاحبكم لبهذا أوصى, وإن هذه لتركته فيقول لهما الإمام قبل أن يحلفا: إنكما إن كنتما كتمتما أو خنتما فضحتكما في قومكما ولم أجز لكما شهادة وعاقبتكما. فإن قال لهما ذلك, فإن ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها.
القول في تأويل قوله تعالى: وَاتّقُوا اللّهَ وَاسمَعُوا وَاللّهُ لا يَهدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ.
يقول تعالى ذكره: وخافوا الله أيها الناس, وراقبوه في أيمانكم أن تحلفوا بها كاذبة وأن تذهبوا بها مال من يحرم عليكم ماله, وأن تخونوا من ائتمنكم. واسمَعُوا يقول: اسمعوا ما يقال لكم وما توعظون به, فاعملوا به وانتهوا إليه. وَاللّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ يقول: والله لا يوفق من فسق عن أمر ربه فخالفه وأطاع الشيطان وعصى ربه.
وكان ابن زيد يقول: الفاسق في هذا الموضع: هو الكاذب.
10187ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: وَاللّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسقِينَ: الكاذبين يحلفون على الكذب.
وليس الذي قال ابن زيد من ذلك عندي بمدفوع, إلاّ أن الله تعالى عمّ الخبر بأنه لا يهدي جميع الفساق, ولم يخصص منهم بعضا دون بعض بخبر ولا عقل, فذلك على معاني الفسق كلها حتى يخصص شيئا منها ما يجب التسليم له فيسلم له.
ثم اختلف أهل العلم في حكم هاتين الاَيتين, هل هو منسوخ, أو هو محكم ثابت؟ فقال بعضهم: هو منسوخ. ذكر من قال ذلك:
10188ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن إدريس, عن رجل, قد سماه, عن حماد, عن إبراهيم, قال: هي منسوخة.
10189ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قال: هي منسوخة. يعني هذه الاَية: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ... الاَية.
وقال جماعة: هي محكمة وليست بمنسوخة. وقد ذكرنا قول أكثرهم فيما مضى.
والصواب من القول في ذلك أن حكم الاَية منسوخ, وذلك أن من حكم الله تعالى ذكره الذي عليه أهل الإسلام, من لدن بعث الله تعالى ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم, إلى يومنا هذا, أن من ادّعِيَ عليه دعوى مما يملكه بنو آدم أن المدّعى عليه لا يبرئه مما ادّعِيَ عليه إلاّ اليمين إذا لم يكن للمدّعي بينة تصحح دعواه, وأنه إن اعترف وفي يدي المدّعى سلعة له, فادّعى أنها له دون الذي في يده, فقال الذي هي في يده: بل هي لي اشتريتها من هذا المدّعي, أن القول قول من زعم الذي هي في يده أنه اشتراها منه دون من هي في يده مع يمينه إذا لم يكن للذي هي في يده بينة تحقق به دعواه الشراء منه. فإذ كان ذلك حكم الله الذي لا خلاف فيه بين أهل العلم, وكانت الاَيتان اللتان ذكر الله تعالى ذكره فيهما أمر وصية الموصي إلى عدلين من المسلمين أو إلى آخرَيْن من غيرهم, إنما ألزَم النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما ذكر عنه الوصيين اليمين حين ادّعى عليهما الورثة ما ادّعوا ثم لم يُلزم المدّعى عليهما شيئا إذ حلفا, حتى اعترفت الورثة في أيديهما ما اعترفوا من الجام أو الإبريق أو غير ذلك من أموالهم فزعما أنهما اشترياه من ميتهم, فحينئذٍ ألزم النبيّ صلى الله عليه وسلم ورثة الميت اليمين, لأن الوصيين تحوّلا مدّعِيَين بدعواهما ما وجدا في أيديهما من مال الميت أنه لهما اشتريا ذلك منه فصارا مقرّين بالمال للميت مدّعيين منه الشراء, فاحتاجا حينئذٍ إلى بينة تصحح دعواهما وورثة الميت ربّ السلعة أولى باليمين منهما, فذلك قوله تعالى: فإنْ عُثرَ على أنّهُما اسْتَحَقّا إثْما فآخَرَانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الّذِينَ اسْتَحَقّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ باللّهِ لَشَهادَتُنا أحَقّ مِنْ شَهادَتِهِما... الاَية. فإذ كان تأويل ذلك كذلك فلا وجه لدعوى مدّع أن هذه الاَية منسوخة, لأنه غير جائز أن يقضى على حكم من أحكام الله تعالى ذكره أنه منسوخ إلاّ بخبر يقطع العذر إما من عند الله أو من عند رسوله صلى الله عليه وسلم, أو بورود النقل المستفيض بذلك, فأما ولا خبر بذلك, ولا يدفع صحته عقل, فغير جائز أن يقضى عليه بأنه منسوخ