تفسير الطبري تفسير الصفحة 130 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 130
131
129
 الآية : 19
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ أَيّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيّ هَـَذَا الْقُرْآنُ لاُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَىَ قُل لاّ أَشْهَدُ قُلْ إِنّمَا هُوَ إِلَـَهٌ وَاحِدٌ وَإِنّنِي بَرِيءٌ مّمّا تُشْرِكُونَ }..
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يكذبون ويجحدون نبوّتك من قومك: أيّ شيء أعظم شهادة وأكبر, ثم أخبرهم بأن أكبر الأشياء شهادة الله الذي لا يجوز أن يقع في شهادته ما يجوز أن يقع في شهادة غيره من خلقه من السهو والخطأ والغلط والكذب, ثم قل لهم: إن الذي هو أكبر الأشياء شهادة شهيد بيني وبينكم, بالمحقّ منا من المبطل والرشيد منا في فعله وقوله من السفيه, وقد رضينا به حكما بيننا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
10299ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى: أيّ شَيْءٍ أكْبَرُ شَهادَةً قال: أمر محمد أن يسأل قريشا, ثم أمر أن يخبرهم فيقول: اللّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, نحوه.
القول في تأويل قوله تعالى: وأُوحِيَ إليّ هَذَا القُرآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء المشركين الذين يكذّبونك: اللّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وأُحِيَ إليّ هَذَا القُرْآنُ لاِنْذِرَكُمْ بهِ عقابه, وأنذر به من بلغه من سائر الناس غيركم, إن لم ينته إلى العمل بما فيه وتحليل حلاله وتحريم حرامه والإيمان بجميعه, نزولَ نقمة الله به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
10300ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: أيّ شَيْءٍ أكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وأُحِيَ إليّ هَذَا القُرآنُ لاِنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «يا أيّها النّاسُ بَلّغُوا وَلَوْ آيَةً مِنْ كِتابِ الله, فإنّهُ مَنْ بَلَغَهُ آيَةٌ مِنْ كِتابِ اللّهِ فقد بلغه أمْرُ اللّهِ, أخَذَهُ, أوْ تَرَكَهُ».
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, في قوله: لاِنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «بَلّغُوا عَنِ اللّهِ, فَمَنْ بَلَغَهُ آيَةٌ مِنْ كِتابِ اللّهِ, فَقَدْ بَلَغَهُ أمْرُ اللّهِ».
10301ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا وكيع, وحدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن موسى بن عبيدة, عن محمد بن كعب القرظي: لاِنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ قال: من بلغه القرآن فكأنما رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم. ثم قرأ: وَمَنْ بَلَغَ أئِنّكُمْ لَتَشْهَدُونَ.
10302ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا حميد بن عبد الرحمن, عن حسن بن صالح, قال: سألت ليثا: هل بقي أحد لم تبلغه الدعوة؟ قال: كان مجاهد يقول: حيثما يأتي القرآن فهو داع وهو نذير. ثم قرأ: لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أئِنّكُمْ لَتَشْهَدُونَ.
10303ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: وَمَنْ بَلَغَ: من أسلم من العجم وغيرهم.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا خالد بن يزيد, قال: حدثنا أبو معشر, عن محمد بن كعب في قوله:لاِنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ قال: من بلغه القرآن, فقد أبلغه محمد صلى الله عليه وسلم.
10304ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: وأُحِيَ هَذَا القُرآنُ لاِنْذِرَكُمْ بِهِ يعني أهل مكة, وَمَنْ بَلَغَ يعني: ومن بلغه هذا القرآن فهو له نذير.
حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: سمعت سفيان الثورّي يحدّث, لا أعلمه إلاّ عن مجاهد, أنه قال في قوله: وأُحِيَ هَذَا القُرآنُ لاِنْذِرَكُمْ بِهِ العرب وَمَنْ بَلَغَ العجم.
10305ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: لاِنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أما «من بلغ»: فمن بلغه القرآن فهو له نذير.
10306ـ حدثني يونس بن عبد الأعلى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: وأُحِيَ هَذَا القُرآنُ لاِنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ قال: يقول: من بلغه القرآن فأنا نذيره. وقرأ: يا أيّها النّاسُ إنّي رَسُولُ اللّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعا قال: فمن بلغه القرآن, فرسول الله صلى الله عليه وسلم نذيره.
فمعنى هذا الكلام: لأنذركم بالقرآن أيها المشركون, وأنذر من بلغه القرآن من الناس كلهم, ف «مَنْ» موضع نصب بوقوع «أنذر» عليه, و «بلغ» في صلته, وأسقطت الهاء العائدة على «مَنْ» في قوله: «بَلَغَ» لاستعمال العرب ذلك في صلات «من, وما, والذي».
القول في تأويل قوله تعالى: أئِنّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أنّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أشْهَدُ قُلْ إنّمَا هُوَ إلَهٌ وَاحِدٌ وَإنّنِي بَرِىءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء المشركين الجاحدين نبوّتك, العادلين بالله ربا غيره: أئنكم أيها المشركون لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى, يقول: تشهدون أن معه معبودات غيره من الأوثان والأصنام. وقال: «أُخْرَى» ولم يقل: «أخر» والاَلهة جمع, لأن الجموع يلحقها التأنيث, كما قال تعالى: فَمَا بالُ القُرُونِ الأُولى ولم يقل «الأُوَل», ولا «الأوّلين». ثم قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد, لا أشهد بما تشهدون أن مع الله آلهة أخرى, بل أجحد ذلك وأنكره. إنّما هُوَ إلَهٌ وَاحِدٌ يقول: إنما هو معبود واحد, لا شريك له فيما يستوجب على خلقه من العبادة. وَإنّنِي بَرِىءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ يقول: قل وإنني بريء من كلّ شريك تدعونه لله وتضيفونه إلى شركته وتعبدونه معه, لا أعبد سوى الله شيئا ولا أدعو غيره إلها. وقد ذكر أن هذه الاَية نزلت في قوم من اليهود بأعيانهم من وجه لم تثبت صحته. وذلك ما:
10307ـ حدثنا به هناد بن السريّ وأبو كريب, قالا: حدثنا يونس بن بكير, قال: ثني محمد بن إسحاق قال: ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, قال: ثني سعيد بن جبير أو عكرمة, عن ابن عباس, قال: جاء النحام بن زيد وقردم بن كعب وبحريّ بن عمير, فقالوا: يا محمد أما تعلم مع الله إلها غيره؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا إلَهَ إلاّ اللّهُ بِذَلِكَ بُعِثْتُ, وَإلى ذلكَ أدْعُو» فأنزل الله تعالى فيهم وفي قولهم: قُلْ أيّ شَيْءٍ أكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إلى قوله: لا يؤْمِنون.
الآية : 20
القول في تأويل قوله تعالى: {الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ الّذِينَ خَسِرُوَاْ أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }..
يقول تعالى ذكره: الذين آتيناهم الكتاب التوراة والإنجيل, يعرفون أنما هو إله واحد لا جماعة الاَلهة, وأن محمدا نبيّ مبعوث, كما يعرفون أبناءهم. وقوله: الّذِينَ خَسِروا أنْفُسَهُمْ من نعت «الذين» الأولى, ويعني بقوله: خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ أهلكوها وألقوها في نار جهنم بإنكارهم محمدا أنه لله رسول مرسل, وهم بحقيقة ذلك عارفون فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ يقول: فهم بخسارتهم بذلك أنفسهم لا يؤمنون. وقد قيل: إن معنى خسارتهم أنفسهم: أن كل عبد له منزل في الجنة ومنزل في النار فإذا كان يوم القيامة جعل الله لأهل الجنة منازل أهل النار في الجنة, وجعل لأهل النار منازل أهل الجنة في النار, فذلك خسران الخاسرين منهم لبيعهم منازلهم من الجنة بمنازل أهل الجنة من النار, بما فرط منهم في الدنيا من معصيتهم الله وظلمهم أنفسهم, وذلك معنى قول الله تعالى: الّذِينَ يَرِثُونَ الفِرْدَوْسِ هُمْ فِيها خالِدُونَ
وبنحو ما قلنا في معنى قوله: الّذِينَ آتيْناهُمُ الكِتابِ يَعْرِفُونَهُ كما يَعْرِفُونَ أبْناءَهم قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
10308ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: الّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابٍ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أبْناءَهُمْ يعرفون أنّ الإسلام دين الله, وأن محمدا رسول الله, يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل.
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, عن معمر, عن قتادة, في قوله: الّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كما يَعْرِفُونَ أبْناءَهُمْ النصارى واليهود, يعرفون رسول الله في كتابهم, كما يعرفون أبناءهم.
10309ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: الّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كما يَعْرِفُونَ أبْناءَهُمْ
10310ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قوله: الّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كما يَعْرِفُونَ أبْناءَهُمْ: يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: زعم أهل المدينة عن أهل الكتاب ممن أسلم, أنهم قالوا: والله لنحن أعرف به من أبنائنا من أجل الصفة والنعت الذي نجده في الكتاب وأما أبناؤنا فلا ندري ما أحدث النساء.
الآية : 21
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذّبَ بِآيَاتِهِ إِنّهُ لاَ يُفْلِحُ الظّالِمُونَ }..
يقول تعالى ذكره: ومن أشدّ اعتداء وأخطأُ فعلاً وأخطل قولاً مِمّنِ افْتَرَى على اللّهِ كَذِبا, يعني: ممن اختلق على الله قيل باطل, واخترق من نفسه عليه كذبا, فزعم أن له شريكا من خلقه وإلها يعبد من دونه كما قاله المشركون من عبدة الأوثان, أو ادّعى له ولدا أو صاحبة كما قالته النصارى. أوْ كَذّبَ بآياتِهِ يقول: أو كذّب بحججه وأعلامه وأدلته التي أعطاها رسله على حقيقة نبوّتهم كذّبت بها اليهود. إنّه لا يُفْلِحُ الظّالِمُونَ يقول: إنه لا يفلح القائلون على الله الباطل, ولا يدركون البقاء في الجنان, والمفترون عليه الكذب والجاحدون بنبوّة أنبيائه.
الآية : 22
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمّ نَقُولُ لِلّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ }..
يقول تعالى ذكره: إن هؤلاء المفترين على الله كذبا والمكذّبين بآياته, لا يفلحون اليوم في الدنيا ولا يوم نحشرهم جميعا, يعني: ولا في الاَخرة. ففي الكلام محذوف قد استغني بذكر ما ظهر عما حذف.
وتأويل الكلام: إنه لا يفلح الظالمون اليوم في الدنيا وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعا فقوله: «ويوم نحشرهم», مردود على المراد في الكلام, لأنه وإن كان محذوفا منه فكأنه فيه لمعرفة السامعين بمعناه. ثم نَقُولُ للّذِينَ أشْرَكُوا أيْنَ شُرَكاؤُكُم يقول: ثم نقول إذا حشرنا هؤلاء المفترين على الله الكذب بادّعائهم له في سلطانه شريكا والمكذّبين بآياته ورسله, فجمعنا جميعهم يوم القيامة: أيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أنهم لكم آلهة من دون الله, افتراء وكذبا, وتدعونهم من دونه أربابا, فأتوا بهم إن كنتم صادقين.
الآية : 23
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبّنَا مَا كُنّا مُشْرِكِينَ }..
يقول تعالى ذكره: ثم لم يكن قولهم إذ قلنا لهم: أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون إجابة منهم لنا عن سؤالنا إياهم ذلك إذ فتناهم فاختبرناهم, إلاّ أنْ قالُوا وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ كذبا منهم في أيمانهم على قيلهم ذلك.
ثم اختلف القراء في قراءة ذلك, فقرأته جماعة من قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين: «ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتَهُمْ» بالنصب, بمعنى: لم يكن اختبارنا لهم إلاّ قيلهم وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ غير أنهم يقرءون تَكُنْ بالتاء على التأنيث وإن كانت للقول لا للفتنة لمجاورته الفتنة وهي خبر, وذلك عند أهل العربية شاذّ غير فصيح في الكلام وقد رُوِي بيت للبيد بنحو ذلك, وهو قوله:
فَمَضَى وَقَدّمَها وكانَتْ عادَةًمنهُ إذا هيَ عَرّدَتْ إقْدامُها
فقال: «وكانت» بتأنيث الإقدام لمجاورته قوله: عادة.
وقرأ ذلك جماعة من قرّاء الكوفيين: «ثمّ لَمْ يَكُنْ» بالياء «فِتْنَتَهُمْ» بالنصب إلاّ أنْ قالُوا بنحو المعنى الذي قصده الاَخرون الذين ذكرنا قراءتهم, غير أنهم ذكروا يكون لتذكير أن وهذه القراءة عندنا أولى القراءتين بالصواب, لأن «أنْ» أثبت في المعرفة من الفتنة.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ فقال بعضهم: معناه: ثم لم يكن قولهم. ذكر من قال ذلك:
10311ـ حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, قال: قال قتادة في قوله: ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ قال: مقالتهم. قال معمر: وسمعت غير قتادة يقول: معذرتهم.
10312ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس, قوله: ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ قال: قولهم.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إلاّ أنْ قالُوا... الاَية, فهو كلامهم, قالوا: واللّهِ رَبّنَا ما كُنَا مُشْرِكِينَ.
10313ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد يقول: حدثنا عبيد بن سليمان, قال سمعت الضحاك: ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ يعني كلامهم.
وقال آخرون: معنى ذلك معذرتهم. ذكر من قال ذلك:
10314ـ حدثنا ابن بشار وابن المثنى, قالا: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن قتادة: ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ قال: معذرتهم.
حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إلاّ أنْ قالُوا وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ يقول: اعتذارهم بالباطل والكذب.
والصواب من القول في ذلك أن يقال معناه: ثم لم يكن قيلهم عند فتنتنا إياهم اعتذارا مما سلف منهم من الشرك بالله, إلا أنْ قالُوا وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ فوضعت الفتنة موضع القول لمعرفة السامعين معنى الكلام. وإنما الفتنة: الاختبار والابتلاء, ولكن لما كان الجواب من القوم غير واقع هنالك إلاّ عند الاختبار, وضعت الفتنة التي هي الاختبار موضع الخبر عن جوابهم ومعذرتهم.
واختلفت القرّاء أيضا في قراءة قوله: وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة وبعض الكوفيين والبصريين: وَاللّهِ رَبّنا خفضا على أن «الرب» نعت لله. وقرأ ذلك جماعة من التابعين: «واللّهِ رَبّنا» بالنصب بمعنى: والله يا ربنا, وهي قراءة عامة قرّاء أهل الكوفة.
وأولى القراءتين عندي بالصواب في ذلك قراءة من قرأ: «وَاللّهِ رَبّنا» بنصب الربّ, بمعنى: يا ربنا. وذلك أن هذا جواب من المسئولين المقول لهم: أيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمونَ وكان من جواب القوم لربهم: والله يا ربنا ما كنا مشركين, فنفوا أن يكونوا قالوا ذلك في الدنيا. يقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضلّ عنهم ما كانوا يفترون, ويعني بقوله: ما كُنّا مُشْرِكِينَ ما كنا ندعو لك شريكا ولا ندعو سواك.
الآية : 24
القول في تأويل قوله تعالى: {انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَىَ أَنفُسِهِمْ وَضَلّ عَنْهُمْ مّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ }..
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: انظر يا محمد فاعلم كيف كذب هؤلاء المشركون العادلون بربهم الأوثان والأصنام في الاَخرة, عند لقاء الله على أنفسهم بقيلهم: والله يا ربنا ما كنا مشركين, واستعملوا هنالك الأخلاق التي كانوا بها متخلقين في الدنيا من الكذب والفرية.
ومعنى النظر في هذا الموضع: النظر بالقلب لا النظر بالبصر, وإنما معناه: تبين, فاعلم كيف كذبوا في الاَخرة. وقال: «كذبوا», ومعناه: يكذبون, لأنه لما كان الخبر قد مضى في الاَية قبلها صار كالشيء الذي قد كان ووجد. وضَلّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ يقول: وفارقهم الأنداد والأصنام وتبرّءوا منها, فسلكوا غير سبيلها لأنها هلكت, وأعيد الذين كانوا يعبدونها اجتزاء, ثم أخذوا بما كانوا يفترونه من قيلهم فيها على الله وعبادتهم إياه وإشراكهم إياها في سلطان الله, فضلّت عنهم, وعوقب عابدوها بفريتهم. وقد بينا فيما مضى أن معنى الضلال: الأخذ على غير الهدى. وقد ذكر أن هؤلاء المشركين يقولون هذا القول عند معاينتهم سعة رحمة الله يومئذٍ. ذكر الرواية بذلك.
10315ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, قال: حدثنا عمرو, عن مطرف, عن المنهال بن عمرو, عن سعيد بن جبير, قال: أتى رجل ابن عباس, فقال: قال الله: وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ فإنه لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلاّ أهل الإسلام فقالوا: تعالو لنجحد قالُوا وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ فختم الله على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم وَلا يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثا.
10316ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله تعالى: وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ قال: قول أهل الشرك حين رأوا الذنوب تغفر, ولا يغفر الله لمشرك, انظر كيف كذبوا على أنفسهم بتكذيب الله إياهم.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, بنحوه.
10317ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ ثم قال: ولا يَكْتُمونَ الله حَدِيثا بجوارحهم.
10318ـ حدثنا ابن وكيع, قال حدثنا أبي, عن حمزة الزيات, عن رجل يقال له هشام, عن سعيد بن جبير: ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إلاّ أنْ قالُوا وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ قال: حلفوا واعتذروا, قالوا: والله ربنا.
حدثني المثنى, قال: حدثنا قبيصة بن عقبة, قال: حدثنا سفيان, عن سعيد بن جبير, قال: أقسموا واعتذروا: والله ربنا.
حدثنا هناد, قال: حدثنا وكيع, عن حمزة الزيات, عن رجل يقال له هشام, عن سعيد بن جبير بنحوه.
10319ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا أبو معاوية, عن سفيان بن زياد العصفري, عن سعيد بن جبير, في قوله: وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ قال: لما أمر بإخراج رجال من النار من أهل التوحيد, قال من فيها من المشركين: تعالوا نقول: لا إله إلاّ الله, لعلنا نخرج مع هؤلاء قال: فلم يصدّقوا, قال: فحلفوا: وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ قال: فقال الله: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا على أنْفُسِهِمْ وَضَلّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ.
10320ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَضَلّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ: أي يشركون به.
حدثنا الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا المنهال بن عمرو, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, في قوله: وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ قال: لما رأى المشركون أنه لا يدخل الجنة إلاّ مسلم, قالوا: تعالوا إذا سئلنا قلنا وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ. فسئلوا, فقالوا ذلك, فختم الله على أفواههم وشهدت عليهم جوارحهم بأعمالهم, فودّ الذين كفروا حين رأوا ذلك لَوْ تُسَوّى بِهِمُ الأرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثا.
حدثني الحرث, قال: ثني عبد العزيز, قال: حدثنا مسلم بن خلف, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: يأتي على الناس يوم القيامة ساعة لما رأى أهل الشرك أهل التوحيد يُغْفر لهم, فيقولوا: وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ قال: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا على أنْفُسِهِمْ وَضَلّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ.
حدثني الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال حدثنا سفيان عن رجل, عن سعيد بن جبير, أنه كان يقول: وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ يخفضها. قال: أقسموا واعتذروا. قال الحرث: قال عبد العزيز, قال سفيان مرّة أخرى, ثني هشام, عن سعيد بن جبير.
الآية : 25
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَىَ قُلُوبِهِمْ أَكِنّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِيَ آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلّ آيَةٍ لاّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتّىَ إِذَا جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الّذِينَ كَفَرُوَاْ إِنْ هَـَذَآ إِلاّ أَسَاطِيرُ الأوّلِينَ }..
يقول تعالى ذكره: ومن هؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام من قومك يا محمد من يستمع إليك, يقول: من يستمع القرآن منك, ويستمع ما تدعوه إليه من توحيد ربك وأمره ونهيه, ولا يفقه ما تقول ولا يوعيه قلبه, ولا يتدبره ولا يصغي له سمعه ليتفقهه فيفهم حجج الله عليه في تنزيله الذي أنزله عليك, إنما يسمع صوتك وقراءتك وكلامك, ولا يعقل عنك ما تقول لأن الله قد جعل على قلبه أكنّة. وهي جمع كنان, وهو الغطاء مثل سنان وأسنة, يقال منه: أكننت الشيء في نفسي بالألف, وكنَنَتُ الشيء إذا غطيته, ومن ذلك بَيْضٌ مَكْنُونٌ وهو الغطاء, ومنه قول الشاعر:
تَحْتَ عَيْنٍ كِنانُناظِلّ بُرْدٍ مُرَحّلُ
يعني غطاءهم الذي يكنّهم.
وفِي آذَانهِمْ وَقْرا يقول تعالى ذكره: وجعل في آذانهم ثقلاً وصمما عن فهم ما تتلو عليهم والإصغاء لما تدعوهم إليه. والعرب تفتح الواو من «الوَقْر» في الأذن: وهو الثقل فيها, وتكسرها في الحمل, فتقول: هو وِقْر الدابة, ويقال من الحِمل: أوقرت الدابة فهي مُوقَرة, ومن السمع: وقرت سمعه فهو موقور, ومنه قول الشاعر:
(ولي هامَةٌ قَدْ وَقَرَ الضّرْبُ سَمْعَها )
وقد ذكر سماعا منهم: وقَرَتْ أذنه: إذا ثقلت, فهي موقورة, وأوقَرت النخلة فهي مُوقر, كما قيل: امرأة طامث وحائض, لأنه لاحظّ فيه للمذكر, فإذا أريد أن الله أوقرها قيل موقرة. وقال تعالى ذكره: وَجَعَلْنا على قُلوبِهِمْ أكِنّةً أنْ يَفْقَهُوهُ بمعنى: أن لا يفقهوه, كما قال: يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ أنْ تَضِلّوا بمعنى: أن لا تضلوا, لأن الكنّ إنما جعل على القلب لئلا يفقهه لا ليفقهه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
10321ـ حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة: وَجَعَلْنا على قُلوبِهِمْ أكِنّةً أنْ يَفْقَهُوهُ وفِي آذَانِهِمْ وَقْرا قال: يسمعونه بآذانهم ولا يعون منه شيئا, كمثل البهيمة التي تسمع النداء ولا تدري ما يقال لها.
10322ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وَجَعَلْنا على قُلوبِهِمْ أكِنّةً أنْ يَفْقَهُوهُ وفِي آذَانِهِمْ وَقْرا أما أكنة: فالغطاء, أكنّ قلوبهم لا يفقهون الحقّ, وفِي آذَانِهِمْ وَقْرا قال صمم.
10323ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إلَيْكَ قال: قريش.
حدثني المثنى, قال: حدثنا حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
القول في تأويل قوله تعالى: وَإنْ يَرَوْا كُلّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حتى إذَا جَاءُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الّذِينَ كَفَرُوا إنْ هَذَا إلاّ أساطِيرُ الأوّلِينَ.
يقول تعالى ذكره: وإن هؤلاء العادلون بربهم الأوثان والأصنام, الذين جعلت على قلوبهم أكنة أن يفقهوا عنك ما يسمعون منك, كُلّ آيَةٍ: يقول: كل حجة وعلامة تدلّ أهل الحِجا والفهم على توحيد الله وصدق قولك وحقيقة نبّوتك لا يُؤْمِنُوا بِها يقول: لا يصدّقون بها ولا يقرّون بأنها دالة على ما هي عليه دالة. حتى إذَا جَاءُوكَ يُجادِلُونَكَ يقول: حتى إذا صاروا إليك بعد معاينتهم الاَيات الدالة على حقيقة ما جئتهم به يجادلونك, يقول: يخاصمونك. يَقُولُ الّذِينَ كَفَرُوا يعني بذلك الذين جحدوا آيات الله وأنكروا حقيقتها, يقولون لنبيّ الله صلى الله عليه وسلم إذا سمعوا حجج الله التي احتجّ بها عليهم وبيانه الذي بينه لهم: إنْ هَذَا إلاّ أساطِيرُ الأوّلِينَ أي ما هذا إلاّ أساطير الأوّلين. والأساطير: جمع إسْطارة وأُسْطورة مثل أفكوهة وأضحوكة, وجائز أن يكون الواحد أسطارا مثل أبيات وأبابيت وأقوال وأقاويل, من قول الله تعالى: وكِتابٍ مَسْطُورٍ من سَطَرَ يَسْطُرْ سَطْرا. فإن كان من هذا, فإن تأويله: ما هذا إلاّ ما كتبه الأوّلون. وقد ذكر عن ابن عباس وغيره أنهم كانوا يتأوّلونه بهذا التأويل, ويقولون معناه: إن هذا إلاّ أحاديث الأوّلين.
10324ـ حدثني بذلك المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس.
10325ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, أما: أساطِيرُ الأوّلِينَ فأساجيع الأوّلين.
وكان بعض أهل العلم وهو أبو عبيدة معمر بن المثنى بكلام العرب يقول: الإسطارة: لغة الخرافات والترّهات. وكان الأخفش يقول: قال بعضهم: واحده أسطورة, وقال بعضهم: إسطارة قال: ولا أراه إلاّ من الجمع الذي ليس له واحد, نحو العبابيد والمذاكير والأبابيل. قال: وقال بعضهم: واحد الأبابيل: إبّيل وقال بعضهم: إبّوْل, مثل عِجّوْل, ولم أجد العرب تعرف له واحدا, وإنما هو مثل عباديد لا واحد لها. وأما الشماطيط, فإنهم يزعمون أن واحده شِمْطاط, قال: وكلّ هذه لها واحد, إلاّ أنه لم يستعمل ولم يتكلم به, لأن هذا المثال لا يكون إلاّ جمعا قال: وسمعت العرب الفصحاء تقول: أرسل خيله أبابيل, تريد جماعات, فلا تتكلم بها موحدة. وكانت مجادلتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ذكرها الله في هذه الاَية فيما ذكر, ما:
10326ـ حدثني به محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: حتى إذَا جَاءُوكَ يُجادِلُونَكَ... الاَية: قال: هم المشركون يجادلون المسلمين في الذبيحة, يقولون: أما ما ذبحتم وقتلتم فتأكلون, وأما ما قتل الله فلا تأكلون, وأنتم تتبعون أمر الله تعالى.
الآية : 26
القول في تأويل قوله تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ }..
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ويَنأوْنَ عَنْهُ فقال بعضهم: معناه: هؤلاء المشركون المكذّبون بآيات الله, ينهون الناس عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم والقبول منه, وينأون عنه: يتباعدون عنه. ذكر من قال ذلك:
10327ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا حفص بن غياث وهانيء بن سعيد, عن حجاج, عن سالم, عن ابن الحنفية: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ويَنْأَوْنَ عَنْهُ قال: يتخلفون عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ولا يجيبونه, وينهون الناس عنه.
10328ـ حدثنا المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ويَنْأَوْنَ عَنْهُ يعني: ينهون الناس عن محمد أن يؤمنوا به. ويَنْأَوْنَ عَنْهُ يعني: يتباعدون عنه.
10329ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ويَنْأَوْنَ عَنْهُ أن يتبع محمد ويتباعدون هم منه.
10330ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ويَنْأَوْنَ عَنْهُ يقول: لا يلقونه, ولا يدعون أحدا يأتيه.
10331ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ يقول في قوله: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ يقول: عن محمد صلى الله عليه وسلم.
10332ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ويَنْأَوْنَ عَنْهُ جمعوا النهي والنأي. والنأي: التباعد.
وقال بعضهم: بل معناه: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ عن القرآن أن يُسمع له ويعمل بما فيه. ذكر من قال ذلك:
10333ـ حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, في قوله: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ قال: ينهون عن القرآن, وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم. ويَنْأَوْنَ عَنْهُ ويتباعدون عنه.
10334ـ حدثنا محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ قال قريش عن الذكر. ويَنْأَوْنَ عَنْهُ يقول يتباعدون.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ويَنْأَوْنَ عَنْهُ قريش عن الذكر, ينأون عنه: يتباعدون.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ويَنْأَوْنَ عَنْهُ قال: ينهون عن القرآن وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم, ويتباعدون عنه.
10335ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: يَنْأَوْنَ عَنْهُ قال: ينأون عنه: يبعدون.
وقال آخرون: معنى ذلك: وهم ينهون عن أذى محمد صلى الله عليه وسلم, وينأون عنه: يتباعدون عن دينه واتباعه. ذكر من قال ذلك:
10336ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا وكيع وقبيصة, وحدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن حبيب بن أبي ثابت, عمن سمع ابن عباس يقول: نزلت في أبي طالب, كان ينهى عن محمد أن يُؤْذَي وينأي عما جاء به أن يؤمن به.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن حبيب بن أبي ثابت, قال: ثني من سمع ابن عباس يقول: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ويَنْأَوْنَ عَنْهُ قال: نزلت في أبي طالب ينهي عنه أن يؤذي, وينأي عما جاء به.
حدثنا الحسن بن يحيى, أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوريّ, عن حبيب بن أبي ثابت, عمن سمع ابن عباس: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ويَنْأَوْنَ عَنْهُ قال: نزلت في أبي طالب كان ينهي المشركين أن يؤذوا محمدا, وينأي عما جاء به.
10337ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا عبدة, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن القاسم بن مخيمرة, قال: كان أبو طالب ينهي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ولا يصدّقه.
10338ـ حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي ومحمد بن بشر, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن القاسم بن مخيمرة, في قوله: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ويَنْأَوْنَ عَنْهُ قال: نزلت في أبي طالب. قال ابن وكيع: قال بشر: كان أبو طالب ينهي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يؤذي, ولا يصدّق به.
حدثنا هناد, قال: حدثنا يونس بن بكير, عن أبي محمد الأسديّ, عن حبيب بن أبي ثابت, قال: ثني من سمع ابن عباس يقول في قول الله تعالى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ويَنْأَوْنَ عَنْهُ نزلت في أبي طالب كان ينهي عن أذى محمد, وينأى عما جاء به أن يتبعه.
10339ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا وكيع, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن القاسم بن مخيمرة, في قوله: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ويَنْأَوْنَ عَنْهُ قال: نزلت في أبي طالب.
10340ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عبيد الله بن موسى, عن عبد العزيز بن سياه, عن حبيب, قال: ذاك أبو طالب, في قوله: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ويَنْأَوْنَ عَنْهُ.
10341ـ حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: ثني سعيد بن أبي أيوب, قال: قال عطاء بن دينار في قوله الله: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ويَنْأَوْنَ عَنْهُ أنها نزلت في أبي طالب, أنه كان ينهى الناس عن إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وينأى عما جاء به من الهدى.
وأولى هذه الأقوال بتأويل الاَية, قول من قال: تأويله: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم من سواهم من الناس, وينأوْنَ عن اتباعه. وذلك أن الاَيات قبلها جرت بذكر جماعة المشركين العادلين به, والخبر عن تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والإعراض عما جاءهم به من تنزيل الله ووحيه, فالواجب أن يكون قوله: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ خبرا عنهم, إذ لم يأتنا ما يدلّ على انصراف الخبر عنهم إلى غيرهم, بل ما قبل هذه الاَية وما بعدها يدلّ على صحة ما قلنا من أن ذلك خبر عن جماعة مشركي قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أن يكون خبرا عن خاصّ منهم.
وإذ كان ذلك كذلك, فتأويل الاَية: وإن ير هؤلاء المشركون يا محمد كلّ آية لا يؤمنوا بها, حتى إذا جاءوك يجادلونك, يقولون: إن هذا الذي جئتنا به إلا أحاديث الأوّلين وأخبارهم, وهم ينهون عن استماع التنزيل وينأون عنك, فيبعدون منك ومن اتباعك. وإنْ يُهْلِكُونَ إلاّ أَنْفُسَهُمْ يقول: وما يهلكون بصدّهم عن سبيل الله وإعراضهم عن تنزيله وكفرهم بربهم إلا أنفسهم لا غيرها, وذلك أنهم يكسبونها بفعلهم ذلك سخط الله وأليم عقابه وما لا قبل لها به. وَما يَشْعُرُونَ يقول: وما يدرون ما هم مكسبوها من الهلاك والعطب بفعلهم. والعرب تقول لكلّ من بعد عن شيء: قد نأي عنه, فهو ينأي نأيا, ومسموع منهم: نَأَيْتُك بمعنى نأيت عنك وأما إذا أرادوا: أبعدتك عني, قالوا: أنأيتك. ومن نأيتك بمعنى نأيت عنك قول الحطيئة:
نَأَتْكَ أُمامَةُ إلا سُؤَالاَوأبْصَرْتَ مِنْها بطَيْفٍ خَيالاَ
الآية : 27
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النّارِ فَقَالُواْ يَلَيْتَنَا نُرَدّ وَلاَ نُكَذّبَ بِآيَاتِ رَبّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }..
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وَلَوْ تَرَى يا محمد هؤلاء العادلين بربهم الأصنام والأوثان الجاحدين نبوّتك الذين وصفت لك صفتهم, إذْ وُقِفُوا يقول: إذ حبسوا, على النّارِ يعني في النار, فوضعت «على» موضع «في» كما قال: وَاتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ على مُلْكِ سَلَيْمانَ بمعنى في ملك سليمان. وقيل: وَلَوْ تَرَى إذْ وُقِفُوا ومعناه: إذا وقفوا لما وصفنا قبل فيما مضى أن العرب قد تضع «إذ» مكان «إذا», و«إذا» مكان «إذ», وإن كان حظّ «إذ» أن تصاحب من الأخبار ما قد وجد فقضى, وحظّ «إذا» أن تصاحب من الأخبار ما لم يوجد, ولكن ذلك كما قال الراجز وهو أبو النجم:
مدّ لنا في عُمْرِهِ ربّ طَهَثمّ جَزَاهُ اللّهُ عَنّا إذْ جَزَى جنّاتِ عَدْنٍ في العلاليّ العُلا
فقال: «ثم جزاه الله عنا إذ جزى», فوضع «إذ» مكان «إذا». وقيل: «وُقِفوا» ولم يقل «أوقفوا», لأن ذلك هو الفصيح من كلام العرب, يقال: وقفت الدابة وغيرها بغير ألف إذا حبستها, وكذلك وقفت الأرض إذا جعلتها صدقة حبيسا, بغير ألف. وقد:
10342ـ حدثني الحارث, عن أبي عبيد, قال: أخبرني اليزيديّ والأصمعيّ كلاهما, عن أبي عمرو, قال: ما سمعت أحدا من العرب يقول: «أوقفت الشيء» بالألف. قال: إلا أني لو رأيت رجلاً بمكان, فقلت: ما أوقفك هاهنا؟ بالألف لرأيته حسنا. فَقَالُوا يا لَيْتَنَا نُرَدّ يقول: فقال هؤلاء المشركون بربهم إذ حبسوا في النار: يا ليتنا نردّ إلى الدنيا حتى نتوب ونراجع طاعة الله, وَلا نُكَذّبَ بآياتِ رَبّنا يقول: ولا نكذّب بحجج ربنا ولا نجحدها, وَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ يقول: ونكون من المصدّقين بالله وحججه ورسله, متبعي أمره ونهيه.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الحجاز والمدينة والعراقيين: «يا لَيْتَنا نُرَدّ وَلا نُكَذّبُ بآياتِ رَبّنا وَنَكُونُ مِنَ المُؤْمِنِينَ» بمعنى: يا ليتنا نردّ, ولسنا نكذّب بآيات ربنا ولكن نكون من المؤمنين. وقرأ ذلك بعض قرّاء الكوفة: يا لَيْتَنا نُرَدّ وَلا نُكَذّبَ بآياتِ رَبّنا وَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ بمعنى يا ليتنا نردّ, وأن لا نكذّب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين.
وتأوّلوا في ذلك شيئا:
10343ـ حدّثنيه أحمد بن يوسف, قال: حدثنا القاسم بن سلام, قال: حدثنا حجاج, عن هارون, قال: في حرف ابن مسعود: «يا لَيْتَنا نُرَدّ فَلا نُكَذّبَ» بالفاء.
وذكر عن بعض قرّاء أهل الشام أنه قرأ ذلك: «يا لَيْتَنا نُرَدّ وَلا نُكَذّبُ» بالرفع ونَكُونَ بالنصب. كأنه وجه تأويله إلى أنهم تمنوا الردّ وأن يكونوا من المؤمنين, وأخبروا أنهم لا يكذّبون بآيات ربهم إن ردّوا إلى الدنيا.
واختلف أهل العربية في معنى ذلك منصوبا ومرفوعا, فقال بعض نحويي البصرة: وَلا نُكَذّبَ بآياتِ رَبّنا وَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ نصب لأنه جواب للتمني, وما بعد الواو كما بعد الفاء. قال: وإن شئت رفعت وجعلته على غير التمني, كأنهم قالوا: ولا نكذّب والله بآيات ربنا, ونكون والله من المؤمنين هذا إذا كان على ذا الوجه كان منقطعا من الأوّل. قال: والرفع وجه الكلام, لأنه إذا نصب جعلها واو عطف, فإذا جعلها واو عطف, فكأنهم قد تمنوا أن لا يكذبوا وأن يكونوا من المؤمنين. قال: وهذا والله أعلم لا يكون, لأنهم لم يتمنوا هذا, إنما تمنوا الردّ, وأخبروا أنهم لا يكذّبون ويكونون من المؤمنين. وكان بعض نحويي الكوفة يقول: لو نصب «نكذّب» و «نكون» على الجواب بالواو لكان صوابا قال: والعرب تجيب بالواو و«ثم», كما تجيب بالفاء, يقولون: ليت لي مالاً فأعطيك, وليت لي مالاً وأعطيك وثم أعطيك. قال: وقد تكون نصبا على الصرف, كقولك: لا يسعني شيء ويعجز عنك.
وقال آخر منهم: لا أحبّ النصب في هذا, لأنه ليس بتمنّ منهم, إنما هو خبر أخبروا به عن أنفسهم ألا ترى أن الله تعالى قد كذبهم فقال: وَلَوْ رُدّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وإنما يكون التكذيب للخبر لا للتمني. وكان بعضهم ينكر أن يكون الجواب بالواو, وبحرف غير الفاء, وكان يقول: إنما الواو موضع حال, لا يسعني شيء ويضيق عنك: أي وهو يضيق عنك. قال: وكذلك الصرف في جميع العربية. قال: وأما الفاء فجواب جزاء, ما قمت فآتيك: أي لو قمت لأتيناك. قال: فهذا حكم الصرف والفاء. قال: وأما قوله: وَلا نُكَذّبَ ونكُونَ فإنما جاز, لأنهم قالوا: يا ليتنا نردّ في غير الحال التي وقُفِنْا فيها على النار, فكان وقفهم في تلك, فتمنوا أن لا يكونوا وقفوا في تلك الحالة. وكأن معنىّ صاحب هذه المقالة في قوله هذا: ولو ترى إذ وُقِفوا على النار, فقالوا: قد وقفنا عليها مكذّبين بآيات ربنا كفارا, فيا ليتنا نردّ إليها فنوقف عليها غير مكذّبين بآيات ربنا ولا كفارا. وهذا تأويل يدفعه ظاهر التنزيل, وذلك قول الله تعالى: وَلَوْ رُدّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وإنّهُم لكاذِبُونَ فأخبر الله تعالى أنهم في قيلهم ذلك كذبة, والتكذيب لا يقع في التمني, ولكن صاحب هذه المقالة أظنّ به أنه لم يتدبر التأويل ولزم سنن العربية. والقراءة التي لا أختار غيرها في ذلك: «يا لَيْتَنا نُرَدّ وَلا نُكَذّبَ بآياتِ رَبّنا وَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ» بالرفع في كليهما, بمعنى: يا ليتنا نردّ, ولسنا نكذّب بآيات ربنا إن رددنا, ولكنا نكون من المؤمنين على وجه الخبر منهم عما يفعلون إن هم ردّوا إلى الدنيا, لا على التمني منهم أن لا يكذّبوا بآيات ربهم ويكونوا من المؤمنين لأن الله تعالى ذكره قد أخبر عنهم أنهم لو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه, وأنهم كذبة في قيلهم ذلك. ولو كان قيلهم ذلك على وجه التمني لاستحال تكذيبهم فيه, لأن التمني لا يكذّب, وإنما يكون التصديق والتكذيب في الأخبار. وأما النصب في ذلك, فإني أظنّ بقارئه أنه برجاء تأويل قراءة عبد الله التي ذكرناها عنه, وذلك قراءته ذلك: «يا لَيْتَنا نُرَدّ فَلا نُكَذّبَ بآياتِ رَبّنا وَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ» على وجه جواب التمني بالفاء. وهو إذا قرىء بالفاء كذلك لا شكّ في صحة إعرابه, ومعناه في ذلك أن تأويله إذا قرىء كذلك: لو أنا رُددنا إلى الدنيا ما كذّبنا بآيات ربنا, ولكنا من المؤمنين. فإن يكن الذي حَكَي عن العرب من السماء منهم الجواب بالواو و«ثم» كهئية الجواب بالفاء صحيحا, فلا شكّ في صحة قراءة من قرأ ذلك: يا لَيْتَنا نُرَدّ وَلا نُكَذّبَ بآياتِ رَبّنا وَنَكُونَ نصبا على جواب التمني بالواو, على تأويل قراءة عبد الله ذلك بالفاء, وإلا فإن القراءة بذلك بعيدة المعنى من تأويل التنزيل. ولست أعلم سماع ذلك من العرب صحيحا, بل المعروف من كلامها الجواب بالفاء والصرف بالواو