تفسير الطبري تفسير الصفحة 131 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 131
132
130
 الآية : 28
القول في تأويل قوله تعالى: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنّهُمْ لَكَاذِبُونَ }..
يقول تعالى ذكره: ما قصد هؤلاء العادلين بربهم الجاحدين نبوّتك يا محمد في قيلهم إذْ وقفوا على النار: يا ليتنا نردّ ولا نكذّب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين, الأسي والندمَ على ترك الإيمان بالله والتصديق بك لكن بهم الإشفاق مما هو نازل بهم من عقاب الله وأليم عذابه على معاصيهم التي كانوا يخفونها عن أعين الناس ويسترونها منهم, فأبداها الله منهم يوم القيامة وأظهرها على رءوس الأشهاد, ففضحهم بها ثم جازاهم بها جزاءهم. يقول: بَلْ بَدَا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ من أعمالهم السيئة التي كانوا يخفونها, مِنْ قَبْلُ ذلك في الدنيا, فظهرت. وَلَوْ رُدّوا يقول: ولو ردّوا إلى الدنيا فأمهلوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ يقول: لرجعوا إلى مثل العمل الذي كانوا يعملونه في الدنيا قبل ذلك من جحود آيات الله والكفر به والعمل بما يسخط عليهم ربهم. وإنّهُمْ لَكاذِبُونَ في قيلهم: لو رُددنا لم نكذّب بآيات ربنا وكنا من المؤمنين, لأنهم قالوه حين قالوه خشية العذاب لا إيمانا بالله.
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
10344ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: بَلْ بَدَا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ يقول: بدت لهم أعمالهم في الاَخرة التي أخفوها في الدنيا.
10345ـ حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, في قوله: بَلْ بَدَا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ قال: من أعمالهم.
10346ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَلَوْ رُدّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ يقول: ولو وصل الله لهم دنيا كدنياهم, لعادوا إلى أعمالهم أعمال السوء.
الآية : 29
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُوَاْ إِنْ هِيَ إِلاّ حَيَاتُنَا الدّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ }..
وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن هؤلاء المشركين العادلين به الأوثان والأصنام الذين ابتدأ هذه السورة بالخبر عنهم, يقول تعالى ذكره: وَقالُوا إنْ هِيَ إلاّ حَياتُنا الدّنيْا يخبر عنهم أنهم ينكرون أن الله يحي خلقه بعد أن يميتهم, ويقولون: لا حياة بعد الممات ولا بعث ولا نشور بعد الفناء. فهم بجحودهم ذلك وإنكارهم ثواب الله وعقابه في الدار الاَخرة, لا يبالون ما أتوا وما ركبوا من إثم ومعصية لأنهم لا يرجون ثوابا على إيمان بالله وتصديق برسوله وعمل صالح بعد موت, ولا يخافون عقابا على كفرهم بالله ورسوله وسيّىء من عمل يعملونه. وكان ابن زيد يقول: هذا خبر من الله تعالى عن هؤلاء الكفرة الذين وُقفوا على النار, أنهم لو ردّوا إلى الدنيا لقالوا: إنْ هِيَ حيَاتُنا الدّنيَا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ.
10347ـ حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَلَوْ رُدّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وقالوا حين يردّون: إنْ هِيَ إلاّ حياتُنا الدّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ.
الآية : 30
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَىَ رَبّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَـَذَا بِالْحَقّ قَالُواْ بَلَىَ وَرَبّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ }..
يقول تعالى ذكره: لَوْ تَرَى يا محمد هؤلاء القائلين: ما هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين, إذْ وُقِفُوا يوم القيامة: أي حبسوا, على رَبّهِمْ يعني: على حكم الله وقضائه فيهم. قالَ ألَيْسَ هَذَا بالحَقّ يقول: فقيل لهم: أليس هذا البعث والنشر بعد الممات الذي كنتم تنكرونه في الدنيا حقا؟ فأجابوا فقالُوا بَلى والله إنه لحقّ. قالَ فَذُوقُوا العَذَابَ يقول: فقال الله تعالى ذكره لهم: فذوقوا العذاب الذي كنتم به في الدنيا تكذّبون, بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ يقول: بتكذيبكم به وجحودكموه الذي كان منكم في الدنيا.
الآية : 31
القول في تأويل قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الّذِينَ كَذّبُواْ بِلِقَآءِ اللّهِ حَتّىَ إِذَا جَآءَتْهُمُ السّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَحَسْرَتَنَا عَلَىَ مَا فَرّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىَ ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ }..
يعني تعالى ذكره بقوله:قَدْ خَسِرَ الّذِينَ كَذّبُوا بِلِقاءِ اللّهِ قد هلك ووكس في بيعهم الإيمان بالكفر الذين كذّبوا بلقاء الله, يعني: الذين أنكروا البعث بعد الممات والثواب والعقاب والجنة والنار, من مشركي قريش ومن سلك سبيلهم في ذلك. حتى إذَا جاءَتْهُمُ السّاعَةُ يقول: حتى إذا جاءتهم الساعة التي يبعث الله فيها الموتى من قبورهم. وإنما أدخلت الألف واللام في «الساعة», لأنها معروفة المعنى عند المخاطبين بها, وأنها مقصود بها قصد الساعة التي وصفت. ويعني بقوله: بَغْتَةً: فجأة من غير علم مَن تفجؤه بوقت مفاجأتها إياه, يقال منه: بغتّه أبغته بَغْتَة: إذا أخذتَه, كذلك قالُوا يا حَسْرَتَنا على ما فَرّطْنا فِيها يقول تعالى ذكره: وكس الذين كذّبوا بلقاء الله, ببيعهم منازلهم من الجنة بمنازل من اشتروا منازله من أهل الجنة من النار, فإذا جاءتهم الساعة بغتة, قالوا إذا عاينوا ما باعوا وما اشتروا وتبيّنوا خسارة صفقة بيعهم التي سلفت منهم في الدنيا تندما وتلهفا على عظيم الغبن الذي غَبنوه أنفسهم وجليل الخسران الذي لا خسران أجلّ منه: يا حَسْرَتَنا على ما فَرّطْنا فِيها يقول: يا ندامتنا على ما ضيعنا فيها يعني في صفقتهم تلك. والهاء والألف في قوله: فِيها من ذكر الصفقة, ولكن اكتفى بدلالة قوله: قَدْ خَسِرَ الّذِينَ كَذّبُوا بِلِقاءِ اللّهِ عليها من ذكرها, إذ كان معلوما أن الخسران لا يكون إلا في صفقة بيع قد خسرت. وإنما معنى الكلام: قد وكس الذين كذّبوا بلقاء الله, ببيعهم الإيمان الذي يستوجبون به من الله رضوانه وجنته بالكفر الذي يستوجبون به منه سخطه وعقوبته, ولا يشعرون ما عليهم من الخسران في ذلك حتى تقوم الساعة, فإذا جاءتهم الساعة بغتة فرأوا ما لحقهم من الخسران في بيعهم قالوا حينئذ تندما. يا حَسْرَتَنا على ما فَرّطْنا فِيها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
10348ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قوله: يا حَسْرَتَنا على ما فَرّطْنا فِيها أما «يا حسرتنا»: فندامتنا على ما فرّطنا فيها فضيعنا من عمل الجنة.
10349ـ حدثنا محمد بن عمارة الأسديّ, قال: حدثنا يزيد بن مهران, قال: حدثنا أبو بكر بن عياش, عن الأعمش, عن أبي صالح, عن أبي سعيد, عن النبيّ صلى الله عليه وسلم, في قوله: يا حَسْرَتَنا قال: «يَرَى أهْلُ النّارِ مَنازِلَهُمْ مِنَ الجَنّةِ فَيَقُولُونَ يا حَسْرَتَنا».
القول في تأويل قوله تعالى: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ ألا ساءَ ما يَزِرُونَ.
يقول تعالى ذكره: وهؤلاء الذين كذّبوا بلقاء الله يَحْمِلُونَ أوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ. وقوله وَهُمْ من ذكرهم. يَحْمِلُونَ أوْزَارَهُمْ يقول: آثامهم وذنوبهم, واحدها وِزْر, يقال منه: وَزَرَ الرجل يَزِرُ: إذا أثم, فإن أريد أنهم أثموا قيل: قد وُزِرَ القوم فهم يُوزَرُونَ وهم موزورون. وقد زعم بعضهم: أن الوزر: الثقل والحمل. ولست أعرف ذلك كذلك في شاهد ولا من رواية ثقة عن العرب. وقال تعالى ذكره: على ظُهُورِهِمْ لأن الحمل قد يكون على الرأس والمنكب وغير ذلك, فبّين موضع حملهم ما يحملون من ذلك, وذكر أن حملهم أوزارهم يومئذ على ظهورهم نحو الذي:
10350ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا الحكم بن بشير بن سلمان, قال: حدثنا عمرو بن قيس الملائي, قال: إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله عمله في أحسن صورة وأطيبه ريحا, فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: لا, إلا أن الله قد طيب ريحك وحسن صورتك. فيقول: كذلك كنت في الدنيا, أنا عملك الصالح, طالما ركبتك في الدنيا فاركبني أنت اليوم وتلا: يَوْمَ نَحْشُرُ المُتّقِينَ إلى الرّحْمَنِ وَفْدا. وإن الكافر يستقبله أقبح شيء صورة وأنتنه ريحا, فيقول: هل تعرفني؟ فيقول: لا إلا أن الله قد قبّح صورتك وأنتن ريحك. فيقول: كذلك كنت في الدنيا, أنا عملك السيىء طالما ركبتني في الدنيا فأنا اليوم أركبك وتلا: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ ألا ساءَ ما يَزِرُونَ.
10351ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ قال: ليس من رجل ظالم يموت فيدخل قبره إلا جاء رجل قبيح الوجه أسود اللون منتن الريح عليه ثياب دنسة, حتى يدخل معه قبره, فإذا رآه قال له: ما أقبح وجهك قال: كذلك كان عملك قبيحا. قال: ما أنتن ريحك قال: كذلك كان عملك منتنا. قال: ما أدنس ثيابك قال: فيقول: إن عملك كان دنسا. قال: من أنت؟ قال: أنا عملك. قال: فيكون معه في قبره فإذا بعث يوم القيامة, قال له: إني كنت أحملك في الدنيا باللذات والشهوات, فأنت اليوم تحملني. قال: فيركب على ظهره فيسوقه حتى يدخله النار فذلك قوله: يَحْمِلُونَ أوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ.
وأما قوله تعالى: ألا ساءَ ما يَزِرُونَ فإنه يعني: ألا ساء الوزر الذي يزرون: أي الإثم الذي يأثمونه بكفرهم بربهم. كما:
10352ـ حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, في قوله: ألا ساءَ ما يَزِرُونَ قال: ساء ما يعملون.
الآية : 32
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدّنْيَآ إِلاّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدّارُ الاَخِرَةُ خَيْرٌ لّلّذِينَ يَتّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }..
وهذا تكذيب من الله تعالى ذكره هؤلاء الكفار المنكرين البعث بعد الممات في قولهم إنْ هِيَ إلاّ حَياتُنا الدّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ, يقول تعالى ذكره مكذبا لهم في قيلهم ذلك: ما الحَياةُ الدّنْيا أيها الناس, إلاّ لَعِبٌ وَلهْوٌ يقول: ما باغي لذّات الحياة التي أدنيت لكم وقرّبت منكم في داركم هذه ونعيمها وسرورها فيها والمتلذّذ بها والمنافس عليها, إلا في لعب ولهو لأنها عما قليل تزول عن المستمتع بها والمتلذّذ فيها بملاذها, أو تأتيه الأيام بفجائعها وصروفها فتُمِرّ عليه وتكدرُ كاللاعب اللاهي الذي يسرع اضمحلال لهوه ولعبه عنه, ثم يعقبه منه ندما ويورثه منه ترحا. يقول: لا تغترّوا أيها الناس بها, فإن المغترّ بها عما قليل يندم. وللدّارُ الاَخِرَةُ خَيْرٌ للّذِينَ يَتّقُونَ يقول: وللعمل بطاعته والاستعداد للدار الاَخرة بالصالح من الأعمال التي تبقي منافعها لأهلها ويدوم سرور أهلها فيها, خير من الدار التي تفني فلا يبقى لعمالها فيها سرور ولا يدوم لهم فيها نعيم. للّذِينَ يَتّقُونَ يقول: للذين يخشون الله فيتقونه بطاعته واجتناب معاصيه والمسارعة إلى رضاه. أفَلا تَعْقِلُونَ يقول: أفلا يعقل هؤلاء المكذّبون بالبعث حقيقة ما نخبرهم به من أن الحياة الدنيا لعب ولهو, وهم يرون من يُخْترم منهم ومن ينهلك فيموت ومن تنوبه فيها النوائب وتصيبه المصائب وتفجعه الفجائع؟ ففي ذلك لمن عقل مدّكر ومزدجر عن الركون إليها واستعباد النفس لها, ودليل واضح على أن لها مدبرا ومصرفا يلزم الخلقَ إخلاصُ العبادة له بغير إشراك شيء سواه معه.
الآية : 33
القول في تأويل قوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنّهُ لَيَحْزُنُكَ الّذِي يَقُولُونَ فَإِنّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ وَلَـَكِنّ الظّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ }..
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قد نعلم يا محمد إنه ليحزنك الذي يقول المشركون, وذلك قولهم له: إنه كذّاب, فإنهم لا يكذّبونك.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك بمعنى: أنهم لا يكذّبونك فيما أتيتهم به من وحي الله, ولا يدفعون أن يكون ذلك صحيحا بل يعلمون صحته, ولكنهم يجحدون حقيقته قولاً فلا يؤمنون به. وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يحكي عن العرب أنهم يقولون: أكذبت الرجل: إذا أخبرت أنه جاء بالكذب ورواه. قال: ويقولون: كذبته: إذا أخبرت أنه كاذب. وقرأته جماعة من قرّاء المدينة والعراقيين والكوفة والبصرة: فإنّهُمْ لا يُكَذّبونَكَ بمعنى: أنهم لا يكذّبونك علما, بل يعلمون أنك صادق, ولكنهم يكذّبونك قولاً, عنادا وحسدا.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان قد قرأ بكلّ واحدة منهما جماعة من القرّاء, ولكل واحدة منهما في الصحة مخرج مفهوم. وذلك أن المشركين لا شكّ أنه كان منهم قوم يكذّبون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدفعونه عما كان الله تعالى خصه به من النبوّة فكان بعضهم يقول: هو شاعر, وبعضهم يقول: هو كاهن, وبعضهم يقول: هو مجنون وينفي جميعهم أن يكون الذي أتاهم به من وحي السماء ومن تنزيل ربّ العالمين قولاً. وكان بعضهم قد تبين أمره وعلم صحة نبوّته, وهو في ذلك يعاند ويجحد نبوّته حسدا له وبغيا. فالقارىء: «فإنهم لا يُكْذِبُونك» يعني به: أن الذين كانوا يعرفون حقيقة نبوّتك وصدق قولك فيما تقول, يجحدون أن يكون ما تتلوه عليهم من تنزيل الله ومن عند الله قولاً, وهم يعلمون أن ذلك من عند الله علما صحيحا مصيبٌ. لما ذكرنا من أنه قد كان فيهم من هذه صفته. وفي قول الله تعالى في هذه السورة: الّذِينَ آتَيْناهُمْ الكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كمَا يَعْرِفونَ أبْناءَهُمْ أوضح الدليل على أنه قد كان فيهم العناد في جحود نبوّته صلى الله عليه وسلم, مع علم منهم به وصحة نبوّته. وكذلك القارىء: «فإنهم لا يُكَذّبُونَكَ»: يعني: أنهم لا يكذّبون رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عنادا لا جهلاً بنبوّته وصدق لهجته مصيبٌ. لما ذكرنا من أنه قد كان فيهم مَن هذه صفته. وقد ذهب إلى كلّ واحد من هذين التأويلين جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال: معنى ذلك: فإنهم لا يكذّبونك, ولكنهم يجحدون الحقّ على علم منهم بأنك نبيّ لله صادق.
10353ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا أبو معاوية, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن أبي صالح, في قوله: قَدْ نَعْلَمُ إنّهُ لَيَحْزُنُكَ الّذِي يَقُولُونَ فإنّهُمْ لا يُكَذّبُونَكَ قال: جاء جبريل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو جالس حزين, فقال له: ما يحزنك؟ فقال: «كذّبني هؤلاء». قال: فقال له جبريل: إنهم لا يكذّبونك هم يعلمون أنك صادق, وَلَكِنّ الظّالِمِينَ بآياتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو معاوية, عن إسماعيل, عن أبي صالح, قال: جاء جبريل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو جالس حزين, فقال له: ما يحزنك؟ فقال: «كذّبني هَؤلاءِ». فقال له جبريل: إنهم لا يكذّبونك, إنهم ليعلمون أنك صادق, وَلَكِنّ الظّالِمِينَ بآياتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ.
10354ـ حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, في قوله: وَلَكِنّ الظّالِمِينَ بآياتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ قال: يعلمون أنك رسول الله ويجحدون.
10355ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط: عن السديّ, في قوله: قَدْ نَعْلَمُ إنّهُ لَيَحْزُنُكَ الّذِي يَقُولُونَ فإنّهُمْ لا يُكَذّبونَكَ وَلَكِنّ الظّالِمِينَ بآياتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ لما كان يوم بدر, قال الأخنس بن شريق لبني زهرة: يا بني زهرة, إن محمدا ابن أختكم, فأنتم أحقّ من كفّ عنه فإنه إن كان نبيا لم تقاتلونه اليوم؟ وإن كان كاذبا كنتم أحقّ من كفّ عن ابن أخته, قفوا ههنا حتى ألقي أبا الحكم, فإن غلب محمد صلى الله عليه وسلم رجعتم سالمين, وإن غُلب محمد فإن قومكم لا يصنعون بكم شيئا فيؤمئذ سمي الأخنس, وكان اسمه أبيّ. فالتقى الأخنس وأبو جهل, فخلا الأخنس بأبي جهل, فقال: يا أبا الحكم, أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس ههنا من قريش أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا. فقال أبو جهل: ويحك, والله إن محمدا لصادق, وما كذب محمد قطّ, ولكن إذا ذهب بنوقصيّ باللواء والحجابة والسقاية والنبوّة, فماذا يكون لسائر قريش؟ فذلك قوله: فإنّهُمْ لا يُكَذّبُونَكَ وَلَكِنّ الظّالِمِينَ بآياتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ فآيات الله محمد صلى الله عليه وسلم.
10356ـ حدثني الحرث بن محمد, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا قيس, عن سالم الأفطس, عن سعيد بن جبير: فإنّهُمْ لا يُكَذّبُونَكَ قال: ليس يكذّبون محمدا, وَلَكِنّ الظّالِمِينَ بآياتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ.
ذكر من قال ذلك بمعنى: فإنهم لا يكذّبونك ولكنهم يكذّبون ما جئت به:
10357ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, قال: حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن ناجية, قال: قال أبو جهل للنبيّ صلى الله عليه وسلم: ما نتهمك, ولكن نتهم الذي جئت به. فأنزل الله تعالى: فإنّهُمْ لا يُكَذّبُونَكَ وَلَكِنّ الظّالِمِينَ بآياتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يحيى بن آدم, عن سفيان, عن أبي إسحاق, عن ناجية بن كعب: أن أبا جهل قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذّبك, ولكن نكذّب الذي جئت به. فأنزل الله تعالى: فإنّهُمْ لا يُكَذّبُونَكَ وَلَكِنّ الظّالِمِينَ بآياتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ.
وقال آخرون: معنى ذلك: فإنهم لا يبطلون ما جئتهم به. ذكر من قال ذلك:
10358ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا إسحاق بن سليمان, عن أبي معشر, عن محمد بن كعب: فإنّهُمْ لا يُكَذّبُونَكَ قال: لا يبطلون ما في يديك.
وأما قوله: وَلَكِنّ الظّالِمِينَ بآياتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ فإنه يقول: ولكن المشركين بالله بحجج الله وآي كتابه ورسوله يجحدون, فينكرون صحة ذلك كله. وكان السديّ يقول: الاَيات في هذا الموضع معنيّ بها محمد صلى الله عليه وسلم, وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه قبل.
الآية : 34
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىَ مَا كُذّبُواْ وَأُوذُواْ حَتّىَ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نّبَإِ الْمُرْسَلِينَ }..
وهذا تسلية من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم, وتعزية له عما ناله من المساءة بتكذيب قومه إياه على ما جاءهم به من الحقّ من عند الله. يقول تعالى ذكره: إن يكذّبك يا محمد هؤلاء المشركون من قومك, فيجحدوا نبوّتك, وينكروا آيات الله أنها من عنده, فلا يحزنك ذلك, واصبر على تكذيبهم إياك وما تلقى منهم من المكروه في ذات الله, حتى يأتي نصر الله, فقد كُذّبت رسل من قبلك أرسلتهم إلى أممهم فنالوهم بمكروه, فصبروا على تكذيب قومهم إياهم ولم يثنهم ذلك من المضيّ لأمر الله الذي أمرهم به من دعاء قومهم إليه, حتى حكم الله بينهم وبينهم ولا مُبَدّلَ لكَلِمَاتِ الله ولا مغير لكلمات الله. وكلماته تعالى: ما أنزل الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من وعده إياه النصر على من خالفه وضادّه, والظفر على من تولى عنه وأدبر. ولَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإ المُرْسَلِينَ يقول: ولقد جاءك يا محمد من خبر من كان قبلك من الرسل وخبر أممهم, وما صنعتُ بهم حين جحدوا آياتي وتمادوا في غيهم وضلالهم أنباء. وترك ذكر «أنباء» لدلالة «من» عليها, يقول تعالى ذكره: فانتظر أنت أيضا من النصرة والظفر مثل الذي كان مني كان قبلك من الرسل, إذ كذّبهم قومك, واقتد بهم في صبرهم على ما لقوا من قومهم.
وبنحو ذلك تأوّل من تأوّل هذه الاَية من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
10359ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبرُوا على ما كُذّبُوا يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم كما تسمعون, ويخبره أن الرسل قد كذبت قبله فصبروا على ما كذّبوا حتى حكم الله وهو خير الحاكمين.
10360ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك: وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ قال: يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم.
10361ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جرير: وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ... الاَية, قال: يعزّي نبيه صلى الله عليه وسلم.
الآية : 35
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأرْضِ أَوْ سُلّماً فِي السّمَآءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَىَ فَلاَ تَكُونَنّ مِنَ الْجَاهِلِينَ }..
يقول تعالى ذكره: إن كان عظم عليك يا محمد إعراض هؤلاء المشركين عنك وانصرافهم عن تصديقك فيما جئتهم به من الحقّ الذي بعثتك به, فشقّ ذلك عليك ولم تصبر لمكروه ما ينالك منهم فَإنِ اسْتَطَعْتَ أنْ تَبْتَغِيَ نَفَقا فِي الأرْضِ يقول: فإن استطعت أن تتخذ سَرَيا في الأرض, مثل نافقاء اليربوع, وهي أحد جِحَرَتِه, فتذهب فيه أوْ سُلّما فِي السّماءِ يقول: أو مصعدا تصعد فيه كالدرج وما أشبهها, كما قال الشاعر:
لا يُحْرِزُ المَرْءَ أحْجاءُ البلادِ وَلايُبْنَي لَهُ في السّمَوَاتِ السّلاليمُ
فَتَأْتِيَهُمْ بآيَةٍ يعني بعلامة وبرهان على صحة قولك غير الذي أتيتك, فافعل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
10362ـ حدثنا المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: وَإنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إعْرَاضُهُمْ فإنِ اسْتَطَعْتَ أنْ تَبْتَغِيَ نَفَقا فِي الأرْضِ أوْ سُلّما فِي السّماءِ والنفق: السرب, فتذهب فيه فتأتيهم بآية, أو تجعل لك سلما في السماء, فتصعد عليه فتأتيهم بآية أفضل مما أتيناهم به فافعل.
10363ـ حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: فإنِ اسْتَطَعْتَ أنْ تَبْتَغِيَ نَفَقا فِي الأرْضِ قال: سربا, أوْ سُلّما فِي السّماءِ قال: يعني الدرج.
10364ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وَإنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إعْرَاضُهُمْ فإنِ اسْتَطَعْتَ أنْ تَبْتَغِيَ نَفَقا فِي الأرْضِ أوْ سُلّما فِي السّماءِ أما النفق: فالسرب, وأما السلم: فالمصعد.
10365ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس, قوله: نَفَقا فِي الأرْضِ قال: سربا.
وترك جواب الجزاء, فلم يذكر لدلالة الكلام عليه ومعرفة السامعين بمعناه, وقد تفعل العرب ذلك فيما كان يفهم معناه عند المخاطبين به, فيقول الرجل منهم للرجل: إن استطعت أن تنهض معنا في حاجتنا إن قدرت على معونتنا, ويحذف الجواب, وهو يريد: إن قدرت على معونتنا فافعل, فأما إذا لم يعرف المخاطب والسامع معنى الكلام إلا بإظهار الجواب لم يحذفوه, لا يقال: إن تقم, فتسكت وتحذف الجواب لأن المقول ذلك له لا يعرف جوابه إلا بإظهاره, حتى يقال: إن تقم تصب خيرا, أو: إن تقم فحسن, وما أشبه ذلك. ونظير ما في الاَية مما حذف جوابه وهو مراد لفهم المخاطب لمعنى الكلام قول الشاعر:
فَبحَظَ مِمّا نَعِيشُ ولا تَذْهَبْ بكِ التّرّهاتُ في الأهْوَالِ
والمعنى: فبحظّ مما نعيش فعيشي.
القول في تأويل قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللّهُ لَجَمَعَهُمْ على الهُدَى فَلا تَكُونَنّ مِنَ الجاهِلِينَ.
يقول تعالى ذكره: إن الذين يكذّبونك من هؤلاء الكفار يا محمد فيحزنك تكذيبهم إياك, لو أشاء أن أجمعهم على استقامة من الدين وصواب من محجة الإسلام حتى تكون كلمة جميعكم واحدة وملتكم وملتهم واحدة, لجمعْتهم على ذلك, ولم يكن بعيدا عليّ لأني القادر على ذلك بلطفي, ولكني لم أفعل ذلك لسابق علمي في خلقي ونافذ قضائي فيهم من قبل أن أخلقهم وأصوّر أجسامهم. فَلا تَكُونَنّ يا محمد مِنَ الجاهِلِينَ يقول: فلا تكوننّ ممن لا يعلم أن الله لو شاء لجمع على الهدى من الكافرين به اختيارا لا اضطرارا, فإنك إذا علمت صحة ذلك لم يكبر عليك إعراض من أعرض من المشركين عما تدعوه إليه من الحقّ وتكذيب من كذّبك منهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
10366ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس: يقول الله سبحانه: لو شئت لجمعتهم على الهدى أجمعين.
وفي هذا الخبر من الله تعالى الدلالة الواضحة على خطإ ما قال أهل التفويض من القدرية المنكرون أن يكون عند الله لطائف لمن شاء توفيقه من خلقه, يُلطف بها له حتى يهتدي للحقّ, فينقاد له وينيب إلى الرشاد, فيذعن به ويؤثره على الضلال والكفر بالله وذلك أنه تعالى ذكره أخبر أنه لو شاء الهداية لجميع من كفر به حتى يجتمعوا على الهدى فعل, ولا شكّ أنه لو فعل ذلك بهم كانوا مهتدين لا ضلالاً, وهم لو كانوا مهتدين كان لا شكّ أن كونهم مهتدين كان خيرا لهم. وفي تركه تعالى ذكره أن يجمعهم على الهدى ترك منه أن يفعل بهم في دينهم بعض ما هو خير لهم فيه مما هو قادر على فعله بهم وقد ترك فعله بهم, وفي تركه فعل ذلك بهم أوضح الدليل أنه لم يعطهم كلّ الأسباب التي بها يصلون إلى الهداية ويتسببون بها إلى الإيمان