تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 130 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 130

129

قوله: 19- "قل أي شيء أكبر شهادة" أي مبتدأ، وأكبر خبره، وشهادة تمييز، والشيء يطلق على القديم والحادث، والمحال والممكن. والمعنى: أي شهيد أكبر شهادة، فوضع شيء موضع شهيد، وقيل إن "شيء" هنا موضوع موضع اسم الله. والمعنى: لله أكبر شهادة: أي انفراده بالربوبية، وقيام البراهين على توحيده أكبر شهادة وأعظم فهو شهيد بيني وبينكم، وقيل إن قوله: "الله شهيد بيني وبينكم" هو الجواب، لأنه إذا كان الشهيد بينه وبينهم كان أكبر شهادة له صلى الله عليه وسلم، وقيل إنه قد تم الجواب عند قوله: "قل الله" يعني الله أكبر شهادة، ثم ابتدأ فقال: "شهيد بيني وبينكم" أي هو شهيد بيني وبينكم. قوله: "وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ" أي أوحى الله إلي هذا القرآن الذي تلوته عليكم لأجل أن أنذركم به وأنذر به من بلغ إليه: أي كل من بلغ إليه من موجود ومعدوم سيوجد في الأزمنة المستقبلة، وفي هذه الآية من الدلالة على شمول أحكام القرآن لمن سيوجد كشمولها لمن قد كان موجوداً وقت النزول ما لا يحتاج معه إلى تلك الخزعبلات المذكورة في علم أصول الفقه، وقرأ أبو نهيك "وأوحي" على البناء للفاعل، وقرأ ابن عداة على البناء للمفعول. قوله: " أإنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى " الاستفهام للتوبيخ والتقريع على قراءة من قرأ بهمزتين على الأصل أو بقلب الثانية، وأما من قرأ على الخبر فقد حقق عليهم شركهم، وإنما قال: "آلهة أخرى" لأن الآلهة جمع والجمع يقع عليه التأنيث، كذا قال الفراء، ومثله قوله تعالى: "ولله الأسماء الحسنى" وقال: "فما بال القرون الأولى"، "قل لا أشهد" أي فأنا لا أشهد معكم فحذف لدلالة الكلام عليه، وذلك لكون هذه الشهادة باطلة، ومثله "فإن شهدوا فلا تشهد معهم" وما في "مما تشركون" موصولة أو مصدرية: أي من الأصنام التي تجعلونها آلهة، أو من إشراككم بالله.
قوله: 20- "الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم" الكتاب للجنس فيشمل التوراة والإنجيل وغيرهما: أي يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال به جماعة من السلف، وإليه ذهب الزجاج، وقيل إن الضمير يرجع إلى الكتاب: أي يعرفونه معرفة محققة بحيث لا يلتبس عليهم منه شيء، و "كما يعرفون أبناءهم" بيان لتحقق تلك المعرفة وكمالها وعدم وجود شك فيها، فإن معرفة الآباء للأبناء هي البالغة إلى غاية الإتقان إجمالاً وتفصيلاً. قوله: "الذين خسروا أنفسهم" في محل رفع على الابتداء، وخبره "فهم لا يؤمنون" ودخول الفاء في الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط: وقيل إن الموصول خبر مبتدأ محذوف، وقيل هو نعت للموصول الأول. وعلى الوجهين الأخيرين يكون "فهم لا يؤمنون" معطوفاً على جملة "الذين آتيناهم الكتاب". والمعنى على الوجه الأول أن الكفار الخاسرين لأنفسهم بعنادهم وتمردهم لا يؤمنون بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الوجهين الأخيرين أن أولئك الذين آتاهم الله الكتاب هم الذين خسروا أنفسهم بسبب ما وقعوا فيه من البعد عن الحق وعدم العمل بالمعرفة التي ثبتت لهم فهم لا يؤمنون.
قوله: 21- "ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً" أي اختلق على الله الكذب فقال: إن في التوراة أو الإنجيل ما لم يكن فيهما "أو كذب بآياته" التي يلزمه الإيمان بها من المعجزة الواضحة البينة، فجمع بين كونه كاذباً على الله ومكذباً بما أمره الله بالإيمان به، ومن كان هكذا فلا أحد من عباد الله أظلم منه، والضمير في "إنه لا يفلح الظالمون" للشأن. وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سلمان الفارسي قال: إنا نجد في التوراة أن الله خلق السموات والأرض، ثم جعل مائة رحمة قبل أن يخلق الخلق، ثم خلق الخلق فوضع بينهم رحمة واحدة وأمسك عنده تسعاً وتسعين رحمة فبها يتراحمون، وبها يتعاطفون، وبها يتباذلون، وبها يتزاورون وبها تحن الناقة، وبها تنتج البقرة، وبها تيعر الشاة، وبها تتابع الطير، وبها تتابع الحيتان في البحر، فإذا كان يوم القيامة جمع تلك الرحمة إلى ما عنده، ورحمته أفضل وأوسع. وقد أخرج مسلم وأحمد وغيرهما عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خلق الله يوم خلق السموات والأرض مائة رحمة: منها رحمة يتراحم بها الخلق، وتسعة وتسعون ليوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة"، وثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما قضى الله الخلق كتب كتاباً فوضعه عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي". وقد روي من طرق أخرى بنحو هذا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "وله ما سكن في الليل والنهار" يقول: ما استقر في الليل والنهار، وفي قوله: "قل أغير الله أتخذ ولياً" قال: أما الولي فالذي تولاه ويقر له بالربوبية. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "فاطر السموات والأرض" قال: بديع السموات والأرض. وأخرج أبو عبيد في فضائله وابن جرير وابن الأنباري عنه قال: كنت لا أدري ما فطر السموات والأرض؟ حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها، يقول: أنا ابتدأتها. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "وهو يطعم ولا يطعم" قال: يرزق ولا يرزق. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "من يصرف عنه" قال: من يصرف عنه العذاب. وأخرج أبو الشيخ عن السدي في قوله: "وإن يمسسك بخير" يقول: بعافية. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال:" جاءالنمام بن زيد وقردم بن كعب وبحري بن عمرو فقالوا: يا محمد ما تعلم مع الله إلهاً غيره؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:لا إله إلا الله، بذلك بعثت وإلى ذلك أدعو، فأنزل الله: "قل أي شيء أكبر شهادة"الآية". وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: "وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به" يعني أهل مكة "ومن بلغ" يعني من بلغه هذا القرآن من الناس فهو له نذير. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن أنس قال: لما نزلت هذه الآية "وأوحي إلي هذا القرآن" كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر والنجاشي وكل جبار يدعوهم إلى الله عز وجل وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم والخطيب وابن النجار عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بلغه القرآن فكأنما شافهته به، ثم قرأ "وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ"". وأخرج ابن أبي شيبة وابن الضريس وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن محمد بن كعب القرظي قال: "من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم" وفي لفظ: "من بلغه القرآن حتى تفهمه وتعقله كان كمن عاين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الأسماء والصفات عن مجاهد في قوله: "وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به" قال: العرب "ومن بلغ" قال: العجم. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: قال النضر وهو من بني عبد الدار: إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزى، فأنزل الله "ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً" الآية.
قوله: 22- "ويوم نحشرهم" قرأ الجمهور بالنون في الفعلين، وقرئ بالياء فيهما، وناصب الظرف محذوف مقدر متأخراً: أي يوم نحشرهم كان كيت وكيت، والاستفهام في "أين شركاؤكم" للتقريع والتوبيخ للمشركين. وأضاف الشركاء إليهم، لأنها لم تكن شركاء لله في الحقيقة بل لما سموها شركاء أضيفت إليهم، وهي ما كانوا يعبدونه من دون الله أو يعبدونه مع الله. قوله: "الذين كنتم تزعمون" أي تزعمونها شركاء، فحذف المفعولان معاً، ووجه التوبيخ بهذا الاستفهام أن معبوداتهم غابت عنهم في تلك الحال أو كانت حاضرة ولكن لا ينتفعون بها بوجه من الوجوه، فكان وجودها كعدمها.
قوله: 23- "ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين". قال الزجاج: تأويل هذه الآية أن الله عز وجل أخبر بقصص المشركين وافتتانهم بشركهم، ثم أخبر أن فتنتهم لم تكن حتى رأوا الحقائق إلا أن انتفوا من الشرك، ونظير هذا في اللغة أن ترى إنساناً يحب غاوياً. فإذا وقع في هلكة تبرأ منه فتقول: ما كانت محبتك إياه إلا أن تبرأ منه انتهى. فالمراد بالفتنة على هذا كفرهم: أي لم تكن عاقبة كفرهم الذي افتخروا به وقاتلوا عليه إلا ما وقع منهم من الجحود والحلف على نفيه بقوله: "والله ربنا ما كنا مشركين" وقيل المراد بالفتنة هنا جوابهم: أي لم يكن جوابهم إلا الجحود والتبري، فكان هذا الجواب فتنة لكونه كذباً، وجملة "ثم لم تكن فتنتهم" معطوفة على عامل الظرف المقدر كما مر والاستثناء مفرغ، وقرئ "فتنتهم" بالرفع والنصب، و "يكن" و "تكن" والوجه ظاهر. وقرئ " لم تكن فتنتهم " وقرئ "ربنا" بالنصب على النداء.
24- "انظر كيف كذبوا على أنفسهم" بإنكار ما وقع منهم في الدنيا من الشرك "وضل عنهم ما كانوا يفترون" أي زال وذهب افتراؤهم وتلاشى وبطل ما كانوا يظنونه من أن الشركاء يقربوهم إلى الله، هذا على أن ما مصدرية، وقيل هي موصولة عبارة عن الآلهة: أي فارقهم ما كانوا يعبدون من دون الله فلم يغن عنهم شيئاً، وهذا تعجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم من حالهم المختلفة ودعواهم المتناقضة، وقيل لا يجوز أن يقع منهم كذب في الآخرة لأنها دار لا يجري فيها غير الصدق، فمعنى "والله ربنا ما كنا مشركين" نفي شركهم عند أنفسهم، وفي اعتقادهم ويؤيد هذا قوله تعالى: "ولا يكتمون الله حديثاً".
قوله: 25- "ومنهم من يستمع إليك" هذا كلام مبتدأ لبيان ما كان يصنعه بعض المشركين في الدنيا، والضمير عائد إلى الذين أشركوا: أي وبعض الذين أشركوا يستمع إليك حين تتلو القرآن "وجعلنا على قلوبهم أكنة" أي فعلنا ذلك بهم مجازاة على كفرهم، والأكنة: الأغطية جمع كنان مثل الأسنة والسنان، كننت الشيء في كنه: إذا جعلته فيه، وأكننته أخفيته، وجملة "وجعلنا على قلوبهم أكنة" أي فعلنا ذلك بهم مجازاة على كفرهم، والأكنة: الأغطية جمع كنان مثل الأسنة والسنان، كننت الشيء في كنه: إذا جعلته فيه، وأكننته أخفيته، وجملة "جعلنا على قلوبهم أكنة" مستأنفة للإخبار بمضمونها، أو في محل نصب على الحال: أي وقد جعلنا على قلوبهم أغطية كراهة أن يفقهوا القرآن، أو لئلا يفقهوه، والوقر: الصمم، يقال: وقرت أذنه تقر وقراً: أي صمت. وقرأ طلحة بن مصرف "وقراً" بكسر الواو: أي جعل في آذانهم ما سدها عن استماع القول على التشبيه بوقر البعير، وهو مقدار ما يطيق أن يحمله، وذكر الأكنة والوقر تمثيل لفرط بعدهم عن فهم الحق وسماعه كأن قلوبهم لا تعقل وأسماعهم لا تدرك "وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها" أي لا يؤمنوا بشيء من الآيات التي يرونها من المعجزات ونحوها لعنادهم وتمردهم. قوله: " حتى إذا جاؤوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين " حتى هنا هي الابتدائية التي تقع بعدها الجمل، وجملة يجادلونك في محل نصب على الحال، والمعنى: أنهم بلغوا من الكفر والعناد أنهم إذا جاءوك مجادلين لم يكتفوا بمجرد عدم الإيمان، بل يقولون إن هذا إلا أساطير الأولين، وقيل حتى هي الجارة وما بعدها في محل جر، والمعنى: حتى وقت مجيئهم مجادلين يقولون إن هذا إلا أساطير الأولين، وهذا غاية التكذيب ونهاية العناد، والأساطير. قال الزجاج: واحدها أسطار. وقال الأخفش: أسطورة. وقال أبو عبيدة: أسطارة. وقال النحاس: أسطور. وقال القشيري: أسطير. وقيل هو جمع لا واحد له كعباديد وأبابيل، والمعنى: ما سطره الأولون في الكتب من القصص والأحاديث. قال الجوهري: الأساطير الأباطيل والترهات.
قوله: 26- " وهم ينهون عنه وينأون عنه " أي ينهى المشركون الناس عن الإيمان بالقرآن أو بمحمد صلى الله عليه وسلم ويبعدون هم في أنفسهم عنه. وقيل إنها نزلت في أبي طالب فإنه كان ينهى الكفار عن أذية النبي صلى الله عليه وسلم ويبعد هو عن إجابته "وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون" أي ما يهلكون بما يقع منهم من النهي والنأي إلا أنفسهم بتعريضها لعذاب الله وسخطه، والحال أنهم ما يشعرون بهذا البلاء الذي جلبوه على أنفسهم.
قوله: 27- "ولو ترى إذ وقفوا على النار" الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من تتأتى منه الرؤية، وعبر عن المستقبل يوم القيامة بلفظ الماضي تنبيهاً على تحقق وقوعه كما ذكره علماء المعاني، و "وقفوا" معناه حبسوا، يقال: وقفته وقفا ووقت وقوفاً، وقيل معنى: "وقفوا على النار" أدخلوها فتكون على بمعنى في، وقيل هي بمعنى الباء: أي وقفوا بالنار أي بقربها معاينين لها، ومفعول ترى محذوف، وجواب لو محذوف ليذهب السامع كل مذهب، والتقدير: لو تراهم إذ وقفوا على النار لرأيت منظراً هائلاً وحالاً فظيعاً "فقالوا يا ليتنا نرد" أي إلى الدنيا "ولا نكذب بآيات ربنا" أي التي جاءنا بها رسوله صلى الله عليه وسلم "ونكون من المؤمنين" بها العاملين بما فيها، والأفعال الثلاثة داخلة تحت التمني: أي تمنوا الرد، وأن لا يكذبوا، وأن يكونوا من المؤمنين برفع الأفعال الثلاثة كما هي قراءة الكسائي وأهل المدينة وشعبة وابن كثير وأبي عمرو. وقرأ حفص وحمزة بنصب نكذب ونكون بإضمار أن بعد الواو على جواب التمني، واختار سيبويه القطع في "ولا نكذب" فيكون غير داخل في التمني، والتقدير: ونحن لا نكذب على معنى الثبات على ترك التكذيب: أي لا نكذب رددنا أو لم نرد، قال: وهو مثل دعني ولا أعود: أي لا أعود على كل حال تركتني أو لم تتركني. واستدل أبو عمرو بن العلاء على خروجه من التمني بقوله: "وإنهم لكاذبون" لأن الكذب لا يكون في التمني. وقرأ ابن عامر "ونكون" بالنصب وأدخل الفعلين الأولين في التمني. وقرأ أبي " ولا نكذب بآيات ربنا ". وقرأ هو وابن مسعود " يا ليتنا نرد ولا نكذب " بالفاء والنصب، والفاء ينصب بها في جواب التمني كما ينصب بالواو كما قال الزجاج، وقال أكثر البصريين: لا يجوز الجواب إلا بالفاء.