تفسير الطبري تفسير الصفحة 137 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 137
138
136
 الآية : 74
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ أَتَتّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنّيَ أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ }..
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر يا محمد لحجاجك الذي تحاجّ به قومك وخصومتك إياهم في آلهتهم وما تراجعهم فيها, مما نلقيه إليك ونعلمكه من البرهان, والدلالة على باطل ما عليه قومك مقيمون وصحة ما أنت عليه مقيم من الدين وحقية ما نت عليهم محتج, حجاجَ إبراهيم خليلي قومه, ومراجعته إياهم في باطل ما كانوا عليه مقيمين من عبادة الأوثان, وانقطاعه إلى الله والرضا به واليا وناصرا دون الأصنام فاتخِذْهُ إماما واقْتَدِ به, واجعل سيرته في قومك لنفسك مثالاً, إذ قال لأبيه مفارقا لدينه وعائبا عبادته الأصنام دون بارئه وخالقه: يا آزر.
ثم اختلف أهل العلم في المعنيّ بآزر, وما هو؟ اسم أم صفة؟ وإن كان اسما, فمن المسمى به؟ فقال بعضهم: هو اسم أبيه. ذكر من قال ذلك:
10547ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وَإذْ قالَ إبْراهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ قال: اسم أبيه آزر.
10548ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة بن الفضل, قال: ثني محمد بن إسحاق, قال: آزر: أبو إبراهيم. وكان فيما ذكر لنا والله أعلم رجلاً من أهل كُوثَى, من قرية بالسواد, سواد الكوفة.
10549ـ حدثني ابن البرقي, قال: حدثنا عمرو بن أبي سلمة, قال: سمعت سعيد بن عبد العزيز يذكر, قال: هو آزر, وهو تارح, مثل إسرائيل ويعقوب.
وقال آخرون: إنه ليس أبا إبراهيم. ذكر من قال ذلك:
10550ـ حدثنا محمد بن حميد وسفيان بن وكيع, قالا: حدثنا جرير, عن ليث, عن مجاهد, قال: ليس آزر أبا إبراهيم.
حدثني الحرث, قال: ثني عبد العزيز, قال: حدثنا الثوريّ, قال: أخبرني رجل, عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: وَإذْ قالَ إبْراهِيمُ لأَبيهِ آزَرَ قال: آزر لم يكن بأبيه إنما هو صنم.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يحيىبن يمان, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قال: آزر: اسم صنم.
10551ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قال: وَإذْ قالَ إبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ قال: اسم أبيه. ويقال: لا, بل اسمه تارج, واسم الصنم آزر يقول: أتتخذ آزر أصناما آلهة.
وقال آخرون: هو سبّ وعيب بكلامهم, ومعناه: معوجّ. كأنه تأوّل أنه عابه بزيغه واعوجاجه عن الحقّ.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الأمصار: وَإذْ قالَ إبْرَاهِيمُ لأَبيهِ آزَرَ بفتح «آزر» على إتباعه الأب في الخفض, ولكنه لما كان اسما أعجميا فتحوه إذ لم يجرّوه وإن كان في موضع خفض. وذكر عن أبي زيد المديني والحسن البصري أنهما كانا يقرآن ذلك: «آزرُ», بالرفع على النداء, بمعنى: «يا آزرُ». فأما الذي ذكر عن السديّ من حكايته أن آزر اسم صنم, وإنما نصبه بمعنى: «أتتخذ آزر أصناما آلهة, فقول من الصواب من جهة العربية بعيد وذلك أن العرب لا تنصب اسما بفعل بعد حرف الاستفهام, لا تقول: أخاك أكلمت, وهي تريد: أكلمت أخاك.
والصواب من القراءة في ذلك عندي, قراءة من قرأ بفتح الراء من «آزر», على إتباعه إعراب «الأب», وأنه في موضع خفض, ففُتح إذ لم يكن جاريا لأنه اسم عجميّ. وإنما أجيزت قراءة ذلك كذلك لإجماع الحجة من القراء عليه.
وإذ كان ذلك هو الصواب من القراءة وكان غير جائز أن يكون منصوبا بالفعل الذي بعد حرف الاستفهام, صحّ لك فتحه من أحد وجهين: إما أن يكون اسما لأبي إبراهيم صلوات الله عليه وعلى جميع أنبيائه ورسله, فيكون في موضع خفض ردّا على الأب, ولكنه فتح لما ذكرت من أنه لما كان اسما أعجميّا ترك إجراؤه, ففتح كما فتح العرب في أسماء العجم. أو يكون نعتا له, فيكون أيضا خفضا بمعنى تكرير اللام عليه, ولكنه لما خرج مخرج أحمر وأسود ترك إجراؤه وفعل له كما يفعل بأشكاله. فيكون تأويل الكلام حينئذ: وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر: أتتخذ أصناما آلهة؟ وإن لم يكون له وجهة في الصواب إلاّ أحد هذين الوجهين, فأولى القولين بالصواب منهما عندي, قول من قال: هو اسم أبيه لأن الله تعالى أخبر أنه أبوه. وهو القول المحفوظ من قول أهل العلم دون القول الاَخر الذي زعم قائله أنه نعت.
فإن قال قائل: فإن أهل الأنساب إنما ينسبون إبراهيم إلى تارح, فكيف يكون آزر اسما له والمعروف به من الاسم تارح؟ قيل له: غير محال أن يكون له اسمان, كما لكثير من الناس في دهرنا هذا, وكان ذلك فيما مضى لكثير منهم. وجائز أن يكون لقبا, والله تعالى أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: أتَتّخِذُ أصْناما آلِهَة إنّي أرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ.
وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن قيل إبراهيم لأبيه آزر أنه قال: أتتخذ أصناما آلهة تعبدها وتتخذها ربّا دون الله الذي خلقك فسوّاك ورزقك والأصنام: جمع صنم, التمثال من حجر أو خشب أو من غير ذلك في صورة إنسان, وهو الوثن. وقد يقال للصورة المصوّرة على صورة الإنسان في الحائط غيره: صنم ووثن. إنّي أرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ يقول: إني أراك يا آزر وقومك الذين يعبدون معك الأصنام ويتخذونها آلهة في ضَلالٍ يقول: في زوال عن محجة الحق, وعدول عن سبيل الصواب مُبِين يقول: يتبين لمن أبصره أنه جور عن قصد السبيل وزوال عن محجة الطريق القويم. يعني بذلك: أنه قد ضلّ هو وهم عن توحيد الله وعبادته الذي استوجب عليهم إخلاص العبادة له بآلائه عندهم, دون غيره من الاَلهة والأوثان.
الآية : 75
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِيَ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ }..
يعني تعالى ذكره بقوله: وكَذَلِكَ: وكما أريناه البصيرة في دينه والحقّ في خلاف ما كانوا عليه من الضلال, نريه ملكوت السموات والأرض, يعني ملكه وزيدت فيه التاء كما زيدت في «الجبروت» من الجبر, وكما قيل: رهبوت خير من رحموت, بمعنى: رهبة خير من رحمة. وحكي عن العرب سماعا: له ملكوت اليمن والعراق, بمعنى: له ملك ذلك.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: نُرِي إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السّمَوَاتِ والأرْضِ فقال بعضهم: معنى ذلك: نريه خلق السموات والأرض. ذكر من قال ذلك:
10552ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: حدثنا معاوية بن صالح, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: نُرِي إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السّمَوَاتِ والأرْضِ: أي خلق السموات والأرض.
10553ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وكَذَلِكَ نُرِي إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السّمَوَاتِ والأرْضِ: أي خلق السموات والأرض, وليكون من الموقنين.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: وكَذَلِكَ نُرِي إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السّمَوَاتِ والأرْضِ يعني بملكوت السموات والأرض: خلق السموات والأرض.
وقال آخرون: معنى الملكوت: الملك بنحو التأويل الذي أوّلناه. ذكر من قال ذلك:
10554ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا عمر بن أبي زائدة, قال: سمعت عكرمة, وسأله رجل عن قوله: وَكَذَلِكَ نُرِى إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السّمَوَاتِ والأرْضِ قال: هو الملك, غير أنه بكلام النبَط «ملكوتَا».
10555ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن ابن أبي زائدة, عن عكرمة, قال: هي بالنبطية: «ملكوتا».
وقال آخرون: معنى ذلك: آيات السموات والأرض. ذكر من قال ذلك:
10556ـ حدثنا هناد بن السريّ, قال: حدثنا وكيع, عن سفيان, عن منصور, عن مجاهد: نُرِى إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السّمَوَاتِ والأرْضِ قال: آيات السموات والأرض.
حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله تعالى ذكره: وكَذَلِكَ نُرِى إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السّمَوَاتِ والأرْضِ قال: آيات.
10557ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: وكَذَلِكَ نُرِى إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السّمَوَاتِ والأرْضِ قال: تفرّجت لإبراهيم السموات السبع. حتى العرش, فنظر فيهن. وتفرّجت له الأرضون السبع, فنظر فيهنّ.
10558ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط عن السديّ: وكَذَلِكَ نُرِى مَلَكُوتَ السّمَوَاتِ والأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ قال: أقيم على صخرة, وفتحت له السموات, فنظر إلى مُلك الله فيها حتى نظر إلى مكانه في الجنة وفتحت له الأرضون حتى نظر إلى أسفل الأرض, فذلك قوله: وآتَيْناه أجْرَهُ فِي الدّنْيا يقول: آتيناه مكانه في الجنة. ويقال: أجره: الثناء الحسن.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن القاسم بن أبي بزّة, عن مجاهد, قوله: وكَذَلِكَ نُرِى إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السّمَوَاتِ والأرْضِ قال: فرجت له السموات فنظر إلى ما فيهن حتى انتهى بصره إلى العرش وفرّجت له الأرضون السبع فنظر ما فيهن.
10559ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن سالم, عن سعيد بن جبير: وكَذَلِكَ نُرِى إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السّمَوَاتِ والأرْضِ قال: كشف له عن أديم السموات والأرض حتى نظر إليهنّ على صخرة, والصخرة على حوت, والحوت على خاتم ربّ العزّة لا إله إلاّ الله.
10560ـ حدثنا هناد وابن وكيع, قالا: حدثنا أبو معاوية, عن عاصم, عن أبي عثمان, عن سلمان, قال: لما رأى إبراهيم ملكوت السموات والأرض, رأى عبدا على فاحشة, فدعا عليه فهلك ثم رأى آخر على فاحشة, فدعا عليه فهلك ثم رأى آخر على فاحشة, فدعا عليه فهلك, فقال: أنزلوا عبدى لا يهلك عبادي
10561ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا قبيصة, عن سفيان, عن طلحة بن عمرو, عن عطاء, قال: لما رفع الله إبراهيم في الملكوت في السموات, أشرف فرأى عبدا يزنى, فدعا عليه فهلك ثم رفع فأشرف فرأى عبدا يزنى, فدعا عليه فهلك ثم رفع فأشرف فرأى عبدا يزنى, فدعا عليه, فنودي: على رَسْلك يا إبراهيم فإنك عبد مستجاب لك وإني من عبدى على ثلاث: إما أن يتوب إليّ فأتوب عليه, وإما أن أخرج منه ذرّية طيبة, وإما أن يتمادى فيما هو فيه, فأنا من ورائه
10562ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا ابن أبي عديّ وحمد بن جعفر, وعبد الوهاب, عن عوف, عن أسامة: أن إبراهيم خليل الرحمن حدّث نفسه أنه أرحم الخلق, وأن الله رفعه حتى أشرف على أهل الأرض, فأبصر أعمالهم فلما رآهم يعملون بالمعاصي, قال: اللهمّ دمّر عليهم فقال له ربه: أنا أرحم بعبادي منك, اهبط فلعلهم أن يتوبوا إليّ ويرجعوا
وقال آخرون: بل معنى ذلك ما أخبر تعالى أنه أراه من النجوم والقمر والشمس. ذكر من قال ذلك:
10563ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو خالد الأحمر, عن جويبر, عن الضحاك: وكَذَلِكَ نُرِى إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السّمَوَاتِ والأرْضِ قال: الشمس والقمر والنجوم.
10564ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفان, عن منصور, عن مجاهد: وكَذَلِكَ نُرِى إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السّمَوَاتِ والأرْضِ قال: الشمس والقمر.
10565ـ حدثنا المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: وكَذَلِكَ نُرِى إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السّمَوَاتِ والأرْضِ يعني به: نريه الشمس والقمر والنجوم.
10566ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة, قال: خُبِىء إبراهيمُ عليه السلام من جبار من الجبابرة, فجُعل له رزقه في أصابعه, فإذا مصّ أصبعا من أصابعه وجد فيها رزقا. فلما خرج أراه الله ملكوت السموات والأرض فكان ملكوت السموات: الشمس والقمر والنجوم, وملكوت الأرض: الجبال والشجر والبحار.
حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: ذكر لنا أن نبيّ الله إبراهيم عليه السلام فُرّ به من جبار مترف, فجعل في سَرَب, وجعل رزقه في أطرافه, فجعل لا يمُصّ أصبعا من أصابعه إلاّ وجد فيها رزقا فلما خرج من ذلك السّرَب أراه الله ملكوت السموات, فأراه شمسا وقمرا ونجوما وسحابا وخلقا عظيما وأراه ملكوت الأرض, فأراه جبالاً وبحورا وأنهارا وشجرا ومن كلّ الدواب, وخلقا عظيما.
وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب, قول من قال: عنى الله تعالى بقوله: وكَذَلِكَ نُرِى إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السّمَوَاتِ والأرْضِ أنه أراه ملك السموات والأرض, وذلك ما خلق فيهما من الشمس والقمر والنجوم والشجر والدوابّ وغير ذلك من عظيم سلطانه فيهما, وجلّى له بواطن الأمور وظواهرها لما ذكرنا قبل من معنى الملكوت في كلام العرب فيما مضى قبل.
وأما قوله: وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ فإنه يعني: أنه أراه ملكوت السموات والأرض ليكون ممن يتوحد بتوحيد الله, ويعلم حقية ما هداه له وبصره إياه من معرفة وحدانيته وما عليه قومه من الضلالة من عبادتهم واتخاذهم آلهة دون الله تعالى.
وكان ابن عباس يقول في تأويل ذلك, ما:
10567ـ حدثني به محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ أنه جلى له الأمر سرّه وعلانيته, فلم يَخف عليه شيء من أعمال الخلائق فلما جعل يلعن أصحاب الذنوب, قال الله: إنك لا تستطيع هذا, فردّه الله كما كان قبل ذلك.
فتأويل ذلك على هذا التأويل: أريناه ملكوت السموات والأرض, ليكون ممن يوقن علم كلّ شيء حسّا لا خبرا.
10568ـ حدثني العباس بن الوليد, قال: أخبرني أبي, قال: حدثنا أبو جابر, قال: وحدثنا الأوزاعي أيضا قال: ثني خالد بن اللجلاج, قال: سمعت عبد الرحمن بن عياش يقول: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة, فقال له قائل: ما رأيت أسعد منك الغداة قال: «وَمالي وَقَدْ أتانِي رَبي فِي أحْسَنِ صُورَةٍ, فقال: ففِيمَ يَخْتَصِمُ الملأُ الأعْلَى يا مُحَمّدُ؟ قُلْتُ: أنْتَ أعْلَمُ فَوضَعَ يَدَهُ بينَ كَتِفَيّ, فَعَلِمْتُ ما فِي السّمَوَاتِ والأرْضِ». ثم تلا هذه الاَية: وكَذَلِكَ نُرِي إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السّمَوَاتِ والأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ.
الآية : 76
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمّا جَنّ عَلَيْهِ الْلّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـَذَا رَبّي فَلَمّآ أَفَلَ قَالَ لآ أُحِبّ الاَفِلِينَ }..
يقول تعالى ذكره: فلما واراه الليل وجَنّةُ, يقال منه: جنّ عليه الليل, وجنّه الليل, وأجنّه, وَأجَنّ عليه, وإذا ألقيت «على» كان الكلام بالألف أفصح منه بغير الألف, «أجنه الليل» أفصح من «أجن عليه», و «جنّ عليه الليل» أفصح من «جنّه», وكل ذلك مقبول مسموع من العرب. وجَنّه الليل في أسد وأجنّه وجنّه في تميم, والمصدر من جنّ عليه جَنّا وجُنُونا وجَنَانا, ومن أجنّ إجْنانا, ويقال: أتى فلان في جِنّ الليل, والجنّ من ذلك, لأنهم استَجنّوا عن أعين بني آدم فلا يُرَوْن وكلّ ما توارى عن أبصار الناس فإن العرب تقول فيه: قد جَنّ ومنه قول الهُذليّ:
وَماءٍ وَرَدْتُ قُبَيْلَ الكَرَىوَقَدْ جَنّهُ السّدَفُ الأدْهَمُ
وقال عَبِيد:
وَخَرْقٍ تَصِيحُ البومُ فِيهِ معَ الصّدَىمَخُوفٍ إذا ما جَنّهُ اللّيْلُ مَرْهُوبِ
ومنه: أجننت الميت: إذا واريته في اللحد, وجننته. وهو نظير جنون الليل في معنى: غطيته. ومنه قيل للترس: مِجَنّ, لأنه يَجُنّ من استجنّ به فيغطيه ويواريه.
وقوله: رَأى كَوْكَبا يقول: أبصر كوكبا حين طلع قالَ هَذَا رَبي. فرُوي عن ابن عباس في ذلك, ما:
10569ـ حدثني به المثنى, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: وكَذَلِكَ نُرِي إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السّمَوَاتِ والأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ يعني به: الشمس والقمر والنجوم. فَلَمّا جَنّ عَلَيْهِ اللّيْلُ رَأى كَوْكَبا قالَ هَذَا رَبي فعبده حتى غاب, فلما غاب قال: لا أحبّ الاَفلين فلما رأى القمر بازغا قال: هذا ربي فعبده حتى غاب فلما غاب قال: لئن لم يهدني ربي لأكوننّ من القوم الضالّين. فلما رأى الشمس بازغة قال: هذا ربي, هذا أكبر فعبدها حتى غابت فلما غابت قال: يا قوم إني بريء مما تشركون.
10570ـ حدثني بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: فَلَمّا جَنّ عَلَيْهِ اللّيْلُ رأى كَوْكَبا قالَ هَذَا رَبي فَلَمّا أفَلَ قالَ لا أُحِبّ الاَفِلِينَ علم أن ربه دائم لا يزول فقرأ حتى بلغ: هَذَا رَبي هَذَا أكْبَرُ رأى خلقا هو أكبر من الخلقين الأوّلين وأنور.
وكان سبب قيل إبراهيم ذلك, ما:
10571ـ حدثني به محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة بن الفضل, قال: ثني محمد بن إسحاق, فيما ذكر لنا والله أعلم: أن آزر كان رجلاً من أهل كُوثَى من قرية بالسواد سوادِ الكوفة, وكان إذ ذاك مُلْك المشرق لنمرود بن كنعان فلما أراد الله أن يبعث إبراهيم حُجّة على قومه ورسولاً إلى عباده, ولم يكن فيما بين نوح وإبراهيم نبيّ إلاّ هود وصالح فلما تقارب زمان إبراهيم الذي أراد الله ما أراد, أتى أصحابُ النجوم نمرود, فقالوا له: تعلّمْ أنا نجد في عِلْمنا أن غلاما يولد في قريتك هذه يقال له إبراهيم, يفارق دينكم ويكسر أوثانكم في شهر كذا وكذا من سنة كذا وكذا. فلما دخلت السنة التي وصف أصحاب النجوم لنمرود, بعث نمرود إلى كلّ امرأة حبلى بقريته, فحبسها عنده, إلاّ ما كان من أمّ إبراهيم امرأة آزر, فإنه لم يعلم بحبلها, وذلك أنها كانت امرأة حَدَثَة فيما يُذْكَر لم يعرف الحبل في بطنها. ولما أراد الله أن يبلغ بولدها أراد أن يقتل كلّ غلام ولد في ذلك الشهر من تلك السنة حذَرا على ملكه, فجعل لا تلد امرأة غلاما في ذلك الشهر من تلك السنة إلاّ أمر به فذُبح فلما وَجَدت أمّ إبراهيم الطّلْق, خرجت ليلاً إلى مغارة كانت قريبا منها, فولدت فيها إبراهيم, وأصلحت من شأنه ما يُصْنَع مع المولود, ثم سدّت عليه المغارة, ثم رجعت إلى بيتها. ثم كانت تطالعه في المغارة, فتنظر ما فعل, فتجده حيّا يمصّ إبهامه, يزعمون والله أعلم أن الله جعل رزق إبراهيم فيها وما يجيئه من مصه. وكان آزر فيما يزعمون, سأل أمّ إبراهيم عن حملها ما فعل؟ فقالت: ولدت غلاما فمات. فصدّقها, فسكت عنها. وكان اليوم فيما يذكرون على إبراهيم في الشباب كالشهر والشهر كالسنة, فلم يلبث إبراهيم في المغارة إلاّ خمسة عشر شهرا, حتى قال لأمه: أخرجيني أنظر فأخرجته عِشاء, فنظر وتفكر في خلق السموات والأرض, وقال: إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني وسقاني لربي, ما لي إله غيره ثم نظر في السماء فرأى كوكبا, قال: هذا ربي ثم أتبعه ينظر إليه ببصره, حتى غاب, فلما أفل: لا أحبّ الاَفلين ثم طلع القمر فرآه بازغا, قال: هذا ربي ثم أتبعه بصره حتى غاب, فلما أفَلَ قال: لئن لم يهدني ربي لأكوننّ من القوم الضالين فلما دخل عليه النهار وطلعت الشمس, أَعْظَمَ الشمس, ورأى شيئا هو أعظم نورا من كلّ شيء رآه قبل ذلك, فقال: هذا ربي, هذا أكبر فلما أفلت قال: يا قوم إني برىء مما تشركون, إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين. ثم رجع إبراهيم إلى أبيه آزر وقد استقامت وجهته وعرف ربه وبرىء من دين قومه, إلاّ أنه لم يبادئهم بذلك. وأخبر أنه ابنه, وأخبرته أمّ إبراهيم أنه ابنه, وأخبرته بما كانت صنعت من شأنه, فسُرّ بذلك آزر وفرح فرحا شديدا. وكان آزر يصنع أصنام قومه التي يعبدونها, ثم يعطيها إبراهيمَ يبيعها, فيذهب بها إبراهيم فيما يذكرون, فيقول: من يشتري ما يضرّه ولا ينفعه؟ فلا يشتريها منه أحد, وإذا بارت عليه, وذهب بها إلى نهر فضرب فيه رءوسها, وقال: اشربي استهزاءً بقومه وما هم عليه من الضلالة حتى فشا عيبه إياها واستهزاؤه بها في قومه وأهل قريته, من غير أن يكون ذلك بلغ نُمرود الملك.
وأنكر قوم من غير أهل الرواية هذا القول الذي رُوي عن ابن عباس, وعمن رُوِي عنه من أن إبراهيم قال للكوكب أو للقمر: هذا ربي وقالوا: غير جائز أن يكون لله نبيّ ابتعثه بالرسالة أتى عليه وقت من الأوقات وهو بالغ إلاّ وهو لله موحد وبه عارف ومن كلّ ما يعبد من دونه برىء. قالوا: ولو جاز أن يكون قد أتى عليه بعض الأوقات وهو به كافر لم يجز أن يختصه بالرسالة, لأنه لا معنى فيه إلاّ وفي غيره من أهل الكفر به مثله, وليس بين الله وبين أحد من خلقه مناسبة فيحابيه باختصاصه بالكرامة. قالوا: وإنما أكرم من أكرم منهم لفضله في نفسه, فأثابه لاستحقاقه الثواب بما أثابه من الكرامة. وزعموا أن خبر الله عن قيل إبراهيم عند رؤيته الكوكب أو القمر أو الشمس: «هذا ربي», لم يكن لجهله بأن ذلك غير جائز أن يكون ربه وإنما قال ذلك على وجه الإنكار منه أن يكون ذلك ربه, وعلى العيب لقومه في عبادتهم الأصنام, إذ كان الكوكب والقمر والشمس أضوأَ وأحْسَنَ وأبهجَ من الأصنام, ولم تكن مع ذلك معبودة, وكانت آفلة زائلة غير دائمة, والأصنام التي دونها في الحسن وأصغر منها في الجسم, أحقّ أن لا تكون معبودة ولا آلهة. قالوا: وإنما قال ذلك لهم معارضة, كما يقول أحد المتناظرين لصاحبه معارضا له في قول باطل قال به بباطل من القول على وجه مطالبته إياه بالفرقان بين القولين الفاسدين عنده اللذين يصحح خصمه أحدهما ويدّعي فساد الاَخر. وقال آخرون منهم: بل ذلك كان منه في حال طفوليته وقبل قيام الحجة عليه, وتلك حال لا يكون فيها كفر ولا إيمان. وقال آخرون منهم: وإنما معنى الكلام: أهذا ربي على وجه الإنكار والتوبيخ أي ليس هذا ربي. وقالوا: قد تفعل العرب مثل ذلك, فتحذف الألف التي تدلّ على معنى الاستفهام. وزعموا أن من ذلك قول الشاعر:
رفُونِي وقالُوا يا خُوَيلِدُ لا تُرَعْفقلتُ وأنكرْتُ الوُجُوهَ هُمُ هُمُ
يعني: «أهم هم»؟ قالوا: ومن ذلك قول أوس:
لَعَمْرُكَ ما أدْرِي وإنْ كُنْتَ دَارِياشُعَيْثُ بنُ سَهْمٍ أمْ شُعَيْثُ ابنُ مِنْقَرِ
بمعنى: أشعيث بن سهم؟ فحذف الأولف. ونظائر ذلك. وأما تذكير «هذا» في قوله: فَلَمّا رأى الشمْسَ بازِغَةً قالَ هَذَا رَبي فإنما هو على معنى: هذا الشيء الطالع ربي.
وفي خبر الله تعالى عن قيل إبراهيم حين أفل القمر: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبي لأَكُونَنّ مِنَ القَوْمِ الضّالّينَ الدليل على خطأ هذه الأقوال التي قالها هؤلاء القوم. وأن الصواب من القول في ذلك: الإقرار بخبر الله تعالى الذي أخبر به عنه والإعراض عما عداه.
وأما قوله فَلَمّا أفَلَ فإن معناه: فلما غاب وذهب. كما:
10572ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة بن الفضل, قال: قال ابن إسحاق: الأفول: الذهاب, يقال منه: أفَلَ النجم يأفُلُ ويأْفِلُ أُفُولاً وأَفْلاً: إذا غاب ومنه قول ذي الرّمة.
مصابيحُ لَيْسَتْ باللّوَاتِي يَقُودُهانُجُومٌ وَلا بالاَفلاتِ الدّوَالِكِ
ويقال: أين أفلت عنا؟ بمعنى: أين غبت عنا.
الآية : 77
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمّآ رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـَذَا رَبّي فَلَمّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لّمْ يَهْدِنِي رَبّي لأكُونَنّ مِنَ الْقَوْمِ الضّالّينَ }..
يقول تعالى ذكره: فلما طلع القمر فرآه إبراهيم طالعا وهو بزوغه, يقال منه: بزغت الشمس تبزُغ بُزوغا إذا طلعت, وكذلك القمر. قالَ هَذَا رَبي فَلَمّا أفَلَ يقول: فلما غاب, قالَ إبراهيم: لَئنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبي ويوفقني لإصابة الحقّ في توحيده لأَكُوننّ مِنَ القَوْمِ الضّالّينَ: أي من القوم الذين أخطئوا الحقّ في ذلك, فلم يصيبوا الهدى, وعبدوا غير الله. وقد بينا معنى الضلال في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
الآية : 78
القول في تأويل قوله تعالى:
{فَلَماّ رَأَى الشّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـَذَا رَبّي هَـَذَآ أَكْبَرُ فَلَمّآ أَفَلَتْ قَالَ يَقَوْمِ إِنّي بَرِيَءٌ مّمّا تُشْرِكُونَ }..
يعني تعالى ذكره (بقوله): فَلَمّا رأى الشّمْسَ بازِغَةً فلما رأى إبراهيم الشمس طالعة, قالَ هَذا الطالع رَبي هَذَا أكْبَرُ يعني: هذا أكبر من الكوكب والقمر, فحذف «ذلك» لدلالة الكلام عليه. فَلَمّا أفَلَتْ يقول: فلما غابت, قالَ إبراهيم لقومه: يا قَوْمَ إنّي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ: أي من عبادة الاَلهة والأصنام ودعائه إلها مع الله تعالى.
الآية : 79
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنّي وَجّهْتُ وَجْهِيَ لِلّذِي فَطَرَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }..
وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن خليله إبراهيم عليه السلام, أنه لما تبين له الحقّ وعرفه, شهد شهادة الحقّ, وأظهر خلاف قومه أهل الباطل وأهل الشرك بالله, ولم يأخذه في الله لومة لائم, ولم يستوحش من قيل الحقّ والثبات عليه, مع خلاف جميع قومه لقوله وإنكارهم إياه عليه, وقال لهم: يا قوم إني بريء مما تشركون مع الله الذي خلقني وخلقكم في عبادته من آلهتكم وأصنامكم, إني وجهت وجهي في عبادتي إلى الذي خلق السموات والأرض, الدائم الذي يبقى ولا يفنى ويحيي ويميت, لا إلى الذي يفنَى ولا يبقَى ويزول ولا يدوم ولا يضرّ ولا ينفع. ثم أخبرهم تعالى ذكره أن توجيهه وجهه لعبادته بإخلاص العبادة له والاستقامة في ذلك لربه على ما يجب من التوحيد, لا على الوجه الذي يوجه له وجهه من ليس بحنيف, ولكنه به مشرك, إذ كان توجيه الوجه لا على التحنيف غير نافع موجهه بل ضارّه ومهلكه. وَما أنا مِنَ المُشْرِكِينَ يقول: ولست منكم أي لست ممن يدين دينكم ويتبع ملتكم أيها المشركون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن زيد يقول.
10573ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قول قوم إبراهيم لإبراهيم: تركت عبادة هذه؟ فقال: إنّي وَجّهْتُ وَجْهِيَ للّذِي فَطَرَ السّمَوَاتِ والأرْضَ فقالوا: ما جئت بشيء ونحن نعبده ونتوجهه, فقال: لاحَنِيفا قال: مخلصا, لا أشركه كما تشركون.
الآية : 80
القول في تأويل قوله تعالى: {وَحَآجّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجّوَنّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاّ أَن يَشَآءَ رَبّي شَيْئاً وَسِعَ رَبّي كُلّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكّرُونَ }..
يقول تعالى ذكره: وجادل إبراهيم قومه في توحيد الله وبراءته من الأصنام وكان جدالهم إياه قولهم: إن آلهتهم التي يعبدونها خير من إلهه. قالَ إبراهيم: أتُحاجّونِي فِي اللّهِ يقول: أتجادلونني في توحيدي الله وإخلاصي العمل له دون ما سواه من آلهة, وَقَدْ هَدَانِ يقول: وقد وفقني ربي لمعرفة وحدانيته, وبصّرني طريق الحقّ حتى ألِفْتُ أن لا شيء يستحقّ أن يُعْبد سواه. ولا أخَافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ يقول: ولا أرهب من آلهتكم التي تدعونها من دونه شيئا ينالني في نفسي من سوء ومكروه وذَلك أنهم قالوا له: إنا نخاف أن تمسك آلهتنا بسوء من بَرَص أو خَبْل, لذكرك إياها بسوء فقال لهم إبراهيم: لا أخاف ما تشركون بالله من هذه الاَلهة أن تنالني بضرّ ولا مكروه, لأنها لا تنفع ولا تَضرّ إلاّ أنْ يَشاءَ رَبي شَيْئا يقول: ولكن خوفي من الله الذي خلقني وخلق السموات والأرض, فإنه إن شاء أن ينالني في نفسي أو مالي بما شاء من فناء أو بقاء أو زيادة أو نقصان أو غير ذلك نالني به, لأنه القادر على ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن جريج يقول.
10574ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج: وَحاجّهُ قَوْمُهُ قال أتُحاجّونِي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ قال: دعا قومه مع الله آلهة, وخوّفوه بآلهتهم أن يصيبه منها خبل, فقال إبراهيم: أتُحاجّونِي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ قال: قد عرفت ربي, لا أخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ.
وَسِعَ رَبي كُلّ شَيْءٍ عِلْما يقول: وعلم ربي كلّ شيء فلا يخفى عليه شيء, لأنه خالق كلّ شيء, وليس كالاَلهة التي لا تضرّ ولا تنفع ولا تفهم شيئا, وإنما هي خشبة منحوتة وصورة ممثّلة. أفَلا تَتَذَكّرُونَ يقول: أفلا تعتبرون أيها الجهلة فتعقلوا خطأ ما أنتم عليه مقيمون من عبادتكم صورة مصوّرة وخشبة منحوتة, لا تقدر على ضرّ ولا على نفع ولا تفقه شيئا ولا تعقله, وترككم عبادة من خلقكم وخلق كلّ شيء, وبيده الخير وله القدرة على كلّ شيء والعالم لكلّ شيء.
الآية : 81
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقّ بِالأمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }..
وهذا جواب إبراهيم لقومه حين خوّفوه من آلهتهم أن تمسه لذكره إياها بسوء في نفسه بمكروه, فقال لهم: وكيف أخاف وأرهب ما أشركتموه في عبادتكم ربكم فعبدتموه من دونه وهو لا يضرّ ولا ينفع ولو كانت تنفع أو تضرّ لدفعت عن أنفسها كسرى إياها وضربى لها بالفأس, وأنتم لا تخافون الله الذي خلقكم ورزقكم وهو القادر على نفعكم وضرّكم في إشراككم في عبادتكم إياه ما لَمْ يُنَزّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطانا يعني: ما لم يعطكم على إشراككم إياه في عبادته حجة, ولم يضع لكم عليه برهانا, ولم يجعل لكم به عذرا. فَأيّ الفَرِيقَيْنِ أحَقّ بالأَمْنِ يقول: أنا أحقّ بالأمن من عاقبة عبادتي ربي مخلصا له العبادة حنيفا له ديني بريئا من عبادة الأوثان والأصنام, أم أنتم الذين تعبدون من دون الله أصناما لم يجعل الله لكم بعبادتكم إياها برهانا ولا حجة؟ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يقول: إن كنتم تعلمون صدق ما أقول وحقيقة ما أحتجّ به عليكم, فقولوا وأخبروني أيّ الفريقين أحقّ بالأمن.
وبنحو الذي قلنا في ذلك, كان محمد بن إسحاق يقول فيما:
10575ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سَلَمة, قال: قال محمد بن إسحاق, في قوله: وكَيْفَ أخافُ ما أشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أنّكُمْ أشْركْتُمْ باللّهِ يقول: كيف أخاف وثنا تعبدون من دون الله لا يضرّ ولا ينفع, ولا تخافون أنتم الذي يضرّ وينفع, وقد جعلتم معه شركاء لا تضرّ ولا تنفع. فَأيّ الفَرِيقَيْنِ أحَقّ بالأمْنِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ: أي بالأمن من عذاب الله في الدنيا والاَخرة الذي يعبد, الذي بيده الضرّ والنفع؟ أم الذي يعبد ما لا يضرّ ولا ينفع؟ يضرب لهم الأمثال, ويصرّف لهم العبر, ليعلموا أن الله هو أحقّ أن يُخاف ويعبد مما يعبدون من دونه.
10576ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, قال: أفلج الله إبراهيم عليه السلام حين خاصمهم, فقال: وكَيْفَ أخافُ ما أشْرَكْتُمْ وَلا تَخافونَ أنّكمْ أشْرَكْتُمْ باللّهِ ما لَمْ يُنَزّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطانا فَأيّ الفَرِيقَيْنِ أحَقّ بالأمْنِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. ثم قال: وَتِلْكَ حُجّتُنا آتَيْناها إبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ.
10577ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة مالك قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: قول إبراهيم حين سألهم: أيّ الفَرِيقَينِ أحَقّ بالأمْنِ هي حجة إبراهيم عليه السلام.
حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى عن إبراهيم حين سألهم: فَأيّ الفَرِيقَيْنِ أحَقّ بالأمْنِ قال: وهي حجة إبراهيم عليه السلام.
10578ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قال: فَأيّ الفَرِيقَيْنِ أحَقّ بالأَمْنِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أمن يعبد ربا واحدا, أم من يعبد أربابا كثيرة؟ يقول قومه: الذين آمنوا بربّ واحد.
10579ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: فَأيّ الفَرِيقَيْنِ أحَقّ بالأَمْنِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أمن خاف غير الله ولم يخفه؟ أم من خاف الله ولم يخف غيره؟ فقال الله تعالى: الّذِينَ آمَنُوا وَلمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ... الاَية