تفسير الطبري تفسير الصفحة 138 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 138
139
137
 الآية : 82
القول في تأويل قوله تعالى: {الّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوَاْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مّهْتَدُونَ }..
اختلف أهل التأويل في الذي أخبر تعالى ذكره عنه أنه قال هذا القول, أعني: الّذِينَ آمَنُوا وَلمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ... الاَية. فقال بعضهم: هذا فصل القضاء من الله بين إبراهيم خليله عليه السلام وبين من حاجّه من قومه من أهل الشرك بالله, إذ قال لهم إبراهيم: وكَيْفَ أخافُ ما أشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أنّكُمْ أشْرَكْتُمْ باللّهِ ما لَمْ يُنَزّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطانا فَأيّ الفَرِيقَيْنِ أحَق بالأمْنِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟ فقال الله تعالى فاصلاً بينه وبينهم: الذين صدّقوا الله, وأخلصوا له العبادة, ولم يَخْلِطوا عبادتهم إياه وتصديقهم له بظلم, يعني: بشرك, ولم يشركوا في عبادته شيئا, ثم جعلوا عبادتهم لله خالصا أحقّ بالأمن من عقابه مكروه عبادته من الذين يشركون في عبادتهم إياه الأوثان والأصنام, فإنهم الخائفون من عقابه مكروه عبادتهم أما في عاجل الدنيا فإنهم وجلون من حلول سُخْط الله بهم, وأما في الاَخرة فإنهم الموقنون بأليم عذاب الله. ذكر من قال ذلك:
10580ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة بن الفضل, قال: حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: يقول الله تعالى ذكره: الّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ: أي الذين أخلصوا كإخلاص إبراهيم صلى الله عليه وسلم لعبادة الله وتوحيده. ولم يَلْبِسُوا إيمانَهُمْ بظُلْمٍ أي بشرك, أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ الأمن من العذاب والهدى في الحجة بالمعرفة والاستقامة يقول الله تعالى: وَتِلْكَ حُجّتُنا آتَيْناها إبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إنّ رَبّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ.
10581ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا بن وهب, قال: قال بن زيد, في قوله: فأيّ الفَرِيقَيْنِ أحَق بالأَمْنِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ قال: فقال الله وقضى بينهم: الّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ قال: بشرك, قال: أولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وهم مُهْتَدُونَ فأما الذنوب فليس يبرى منها أحد.
وقال آخرون: هذا جواب من قوم إبراهيم صلى الله عليه وسلم لإبراهيم حين قال لهم: أيّ الفريقين أحقّ بالأمن؟ فقالوا له: الذين آمنوا بالله فوحدوه أحقّ بالأمن إذا لم يلبسوا إيمانهم بظلم. ذكر من قال ذلك:
10582ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج: فأيّ الفَرِيقَيْنِ أحَقّ بالأَمْنِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أمن يعبد ربا واحدا أم من يعبد أربابا كثيرة؟ يقول قومه: الّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ بعبادة الأوثان, وهي حجة إبراهيم أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنَ وَهُمْ مُهْتَدُونَ.
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب, قول من قال: هذا خبر من الله تعالى عن أول الفريقين بالأمن, وفصل قضاء منه بين إبراهيم صلى الله عليه وسلم وبين قومه, وذلك أن ذلك لو كان من قول قوم إبراهيم الذين كانوا يعبدون الأوثان ويشركونها في عبادة الله, لكانوا قد أقرّوا بالتوحيد واتبعوا إبراهيم على ما كانوا يخالفونه فيه من التوحيد, ولكنه كما ذكرت من تأويله بدءا.
واختلف أهل التأويل في المعنى الذي عناه الله تعالى بقوله: ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ فقال بعضهم: بشرك. ذكر من قال ذلك:
10583ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن إدريس, قال: حدثنا الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة, عن عبد الله قال: لما نزلت هذه الاَية: الّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ شقّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا تَرَوْنَ إلى قَوْلِ لُقْمَانَ: إنّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ؟». قال أبو كريب, قال ابن إدريس: حدثنيه أولاً أبي عن أبان بن تغلب عن الأعمش, ثم سمعته قيل له: من الأعمش؟ قال: نعم.
حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي قال: ثني عمي يحيى بن عيسى, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة, عن عبد الله, قال: لما نزلت: الّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ شقّ ذلك على المسلمين, فقالوا: يا رسول الله ما منا أحد إلا وهو يظلم نفسه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لَيْسَ بِذَلِكَ, ألا تَسْمَعُونَ إلى قَوْلِ لُقْمَانَ لابْنِهِ: إنّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ؟».
حدثنا هناد, قال: حدثنا وكيع, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة, عن عبد الله, قال: لما نزلت هذه الاَية: الّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ شقّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ كَمَا تَظُنّونَ, وإنّمَا هُوَ كَمَا قالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ: لا تُشْرِكْ باللّهِ إنّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ».
حدثنا هناد, قال: حدثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة, عن عبد الله, قال: لما نزلت هذه الاَية: الّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ شقّ ذلك على الناس, فقالوا يا رسول الله, وأينا لا يظلم نفسه؟ فقال: «إنّهُ لَيْسَ كَمَا تَعْنُونَ, أَلَمْ تَسْمَعُوا ما قالَ العَبْدُ الصّالِحُ: يا بُنَيّ لا تُشْرِكْ باللّهِ إنّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ؟ إنما هُوَ الشّرْك».
10584ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة, في قوله: الّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ قال: بشرك.
10585ـ حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي, قال: حدثنا فضيل, عن منصور, عن إبراهيم, في قوله: الّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ قال: بشرك.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا جرير عن الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة, عن عبد الله, قال: لما نزلت هذه الاَية: الّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ شقّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقالوا: أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ بِذَلِكَ, ألَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَ لُقْمَانَ: إنّ الشّرْكَ لِظُلْمٌ عَظِيمٌ؟».
10586ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا جرير وابن إدريس, عن الشيباني, عن أبي بكر بن أبي موسى, عن الأسود بن هلال, عن أبي بكر الّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ قال: بشرك.
حدثنا هناد, قال: حدثنا قبيصة, عن يونس بن أبي إسحاق, عن أبي بكر: الّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ قال: بشرك.
10587ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا وكيع, عن سعيد بن عبيد الطائي, عن أبي الأشعر العبدي, عن أبيه, أن زيد بن صُوْحان سأل سلمان, فقال: يا أبا عبد الله آية من كتاب الله قد بلغت مني كلّ مبلغ: الّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ؟ فقال سلمان: هو الشرك بالله تعالى. فقال زيد: ما يسرني بها أنى لم أسمعها منك وأن لي مثل كل شيء أمسيت أملكه.
10588ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سعيد بن عبيد, عن أبي الأشعر, عن أبيه, عن سلمان, قال: بشرك.
10589ـ حدثنا ابن بشار وابن وكيع, قالا: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, قال: حدثنا سفيان, قال: حدثنا نُسير بن ذُعْلوق, عن درسب, عن حذيفة, في قوله: ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ قال: بشرك.
حدثني المثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: أخبرنا هشيم, عن أبي إسحاق الكوفيّ, عن رجل, عن عيسى, عن حذيفة, في قوله: وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ قال: بشرك.
10590ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عارم أبو النعمان, قال: حدثنا حماد بن زيد, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير وغيره, أن ابن عباس كان يقول: الّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ قال: بشرك.
حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس, قوله: الّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ يقول: بكفر.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال ثني أبي, عن أبيه, عن بن عباس: الّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ يقول: لم يلبسوا إيمانهم, وقال إنّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ.
10591ـ حدثنا نصر بن عليّ الجهضمي, قال: ثني أبي, بن قال: حدثنا جرير بن حازم, عن عليّ بن زيد, عن المسيب: أن عمر بن الخطاب قرأ: الّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ فلما قرأها فزع, فأتى أبيّ بن كعب, فقال: يا أبا المنذر قرأت من آية من كتاب الله من يَسلم؟ فقال: ما هي؟ فقرأ عليه فأينا لا يظلم نفسه؟ فقال: عفر الله لك, أما سمعت الله تعالى يقوله: إنّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ؟ إنما هو: ولم يلبسوا إيمانهم بشرك.
10592ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يزيد بن هارون, عن حماد بن سلمة, عن عليّ بن زيد بن جدعان, يوسف بن مهران, عن ابن عباس: أن عمر دخل منزله, فقرأ في المصحف فمرّ بهذه الاَية: الّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ فأتى أُبّيّا فأخبره, فقال: يا أمير المؤمنين إنما هو الشرك.
10593ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا الحجاج بن المنهال, قال: حدثنا حماد, عن عليّ بن زيد, عن يوسف بن مهران عن مهران: أن عمر بن الخطاب كان إذا دخل بيته نشر المصحف فقرأه, فدخل ذات يوم فقرأ, فأتى على هذه الاَية: الّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُلَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ فاشتغل وأخذ رداءه, ثم أتى أبيّ بن كعب, فقال: يا أبا المنذر فتلا هذه الاَية: الّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ وقد ترى أنا نظلم ونفعل ونفعل؟ فقال: يا أمير المؤمنين, إن هذا ليس بذاك, يقول الله تعالى: إنّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ إنما ذلك الشرك.
10594ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا بن فضيل, عن مطرف, عن أبي عثمان عمرو بن سالم, قال: قرأ عمر بن الخطاب هذه الاَية: الّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ فقال عمر: قد أفلح من لم يَلْبس إيمانه بظلم فقال أبيّ: يا أمير المؤمنين: ذاك الشرك.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أسباط, عن محمد بن مطرف, عن بن سالم, قال: عمر بن الخطاب فذكره نحوه.
10595ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن أبي ميسرة, في قوله: آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ قال: بشرك.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبي إسحاق, عن أبي ميسرة, مثله.
10596ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا حسين, عن عليّ, عن زائدة, عن الحسن بن عبيد الله, عن إبراهيم: ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ قال: بشرك.
10597ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: الّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ: أي بشرك.
حدثنا بن وكيع, قال: حدثنا حميد, عن أبيه, عن أبي إسحاق, عن أبي ميسرة, مثله.
10598ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: الّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ قال: بعبادة الأوثان.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
10599ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ قال: بشرك.
10600ـ حدثني يونس بن عبد الأعلى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ قال: بشرك.
حدثني محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الأعمش, أن بن مسعود قال لما نزلت: ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ كبر ذلك على المسلمين, فقالوا: يا رسول الله, ما منا أحد إلا وهو يظلم نفسه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما سَمِعْتُمْ قَوْلَ لُقْمَان: إنّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ».
حدثنا بن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبي بزّة, عن مجاهد, في قوله: ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ قال: عبادة الأوثان.
10601ـ حدثنا بن وكيع, قال: حدثنا محمد بن بشر, عن مسعر, عن أبي حصين, عن أبي عبد الرحمن, قال: بشرك.
10602ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, قال: قال بن إسحاق: ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ قال بشرك.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولم يخلطوا إيمانهم بشيء من معاني الظلم. وذلك فِعْلُ ما نهى الله عن فعله أو ترك ما أمر الله بفعله وقالوا: الاَية على العموم, لأن الله لم يخصّ به معنى من معاني الظلم. قالوا: فإن قال لنا قائل: أفلا أمن في الاَخرة إلا لمن لم يعص الله في صغيرة ولا كبيرة, وإلا لمن لقى الله ولا ذنب له؟ قلنا: إن الله عنى بهذه الاَية خاصا من خلقه دون الجميع منهم والذي عنى بها وأراده بها خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم, فأما غيره فإنه إذا لقي الله لا يشرك به شيئا فهو في مشيئته إذا كان قد أتى بعض معاصيه التي لا تبلغ أن تكون كفرا, فإن شاء لم يؤمنه من عذابه, وإن شاء تفضل عليه فعفا عنه. قالوا: وذلك قول جماعة من السلف وإن كانوا مختلفين في المعنى بالاَية, فقال بعضهم: عنى بها إبراهيم. وقال بعضهم: عنى بها المهاجرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال: عَنَى بهذه الاَية: إبراهيم خليل الرحمن صلى الله عليه وسلم:
10603ـ حدثنا بن وكيع, قال: حدثنا يحيى بن يمان وحميد بن عبد الرحمن, عن قيس بن الربيع, عن زياد بن علاقة, عن زياد بن حرملة, عن عليّ, قال: هذه الاَية لإبراهيم صلى الله عليه وسلم خاصة, ليس لهذه الأمة منها شيء.
وذكر من قال: عُنِيَ بها المهاجرون خاصة:
10604ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يحيى بن يمان وحميد بن عبد الرحمن, عن قيس بن الربيع, عن سماك, عن عكرمة: الّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ قال: هي لمن هاجر إلى المدينة.
وأولى القولين بالصحة في ذلك, ما صح في ذلك, ما صحّ به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهو الخبر الذي رواه بن مسعود عنه أنه قال: «الظّلْمُ الّذِي ذَكَرَهُ اللّهُ تَعَالى فِي هَذَا المَوْضِعِ هُوَ الشّرْكُ».
وأما قوله: أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ فإنه يعني: هؤلاء الذين آمنوا ولم يخلطوا إيمانهم بشرك, لهم الأمن يوم القيامة من عذاب الله, وَهُمْ مُهْتَدُونَ يقول: وهم المصيبون سبيل الرشاد والسالكون طريق النجاة.
الآية : 83
القول في تأويل قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَىَ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مّن نّشَآءُ إِنّ رَبّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ }..
يعني تعالى ذكره بقوله: وَتِلْكَ حُجّتُنا قوله إبراهيم لمخاصميه من قومه المشركين: أيّ الفريقين أحقّ بالأمن, أمن يعبد ربا واحدا مخلصا له الدين والعبادة أم من يعبد أربابا كثيرة؟ وإجابتهم إياه بقولهم: بل من يعبد ربا واحدا مخلصا له الدين والعبادة أم من يعبد أربابا كثيرة؟ وإجابتهم إياه بقولهم: بل من يعبد ربا واحدا أحقّ بالأمن وقضاؤهم له على أنفسهم, فكان في ذلك قطع عذرهم وانقطاع حجتهم واستعلاء حجة إبراهيم عليهم, فهي الحجة التي آتاها الله إبراهيم على قومه كالذي:
10605ـ حدثني الحارث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا سفيان الثوريّ, عن رجل, عن مجاهد: وَتِلْكَ حُجّتُنا آتَيْناها إبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ قال: هي الّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ.
10606ـ حدثني الحارث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا يحيى بن زكريا, عن ابن جريج, عن مجاهد, قال: قال إبراهيم حين سأل: أي الفريقين أحقّ بالأمن؟ قال: هي حجة إبراهيم. وقوله: وآتَيْنَاها إبْرَاهِيمَ على قَوْمِه يقول: لقناها إبراهيم وبصرناه إياها وعرفناه على قومه. نَرْفَعُ درجاتٍ مِنَ نَشَاءُ.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الحجاز والبصرة: نَرْفَعُ درجاتٍ مِنَ نَشَاءُ بإضافة الدرجات إلى من, بمعنى: نرفع الدرجات لمن نشاء. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة نَرْفَعُ درجاتٍ مِنَ نَشَاءُ بتنوين «الدرجات», بمعنى نرفع من نشاء درجات. والدرجات: جمع درجة وهي المرتبة, وأصل ذلك مراقي السلم ودرجه, ثم تستعمل في ارتفاع المنازل والمراتب.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: هما قراءتان قد قرأ بكلّ واحدة منهما أئمة من القرّاء متقارب معناهما وذلك أن من رُفِعت درجته فقد رُفع في الدّرجَ. ومن رُفع في الدرج فقد رُفِعت درجته, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب في ذلك فمعنى الكلام إذن: وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه فرفعنا بها درجته عليهم وشرّفناه بها عليهم في الدنيا والاَخرة فأما في الدنيا فآتيناه فيها أجره, وأما في الاَخرة فهو من الصالحين, نَرْفَعُ درجاتٍ مِنَ نَشَاءُ أي بما فعل من ذلك وغيره.
وأما قوله: إنّ رَبّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ فإنه يعني: إن ربك يا محمد حكيم في سياسته خلقه وتلقينه أنبياءه الحجج على أممهم المكذّبة لهم الجاحدة توحيد ربهم, وفي غير ذلك من تدبيره, عليم بما يئول إليه أمر رسله, والمرسل إليهم من ثَبات الأمم على تكذيبهم إياهم وهلاكهم على ذلك وإنابتهم وتوبتهم منه بتوحيد الله تعالى وتصديق رسله والرجوع إلى طاعته, يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: تأسّ يا محمد في نفسك وقومك المكذبيك والمشركين بأبيك خليلي إبراهيم صلى الله عليه وسلم, واصبر على ما ينوبك منهم صبره, فإني بالذي يئول إليه أمرك وأمرهم عالم التدبير فيك وفيهم حكيم.
الآية : 84
القول في تأويل قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرّيّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىَ وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ }..
يقول تعالى ذكره: فجزينا إبراهيم صلى الله عليه وسلم على طاعته إيانا وإخلاصه توحيد ربه, ومفارقته فين قومه المشركين بالله, بأن رفعنا درجته في عليين, وآتيناه أجره في الدنيا ووهبنا له أولادا خصصناهم بالنبوّة, وذريّة شرّفناهم منا بالكرامة وفضلناهم على العالمين, منهم ابنه إسحاق, وابن ابنه يعقوب. كُلاّ هَدَيْنَا يقول: هدينا جميعهم لسبيل الرشاد, فوفقناهم للحقّ والصواب من الأديان. وَنُوحا هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ يقوله: وهدينا لمثل الذي هدينا إبراهيم وإسحاق ويعقوب من الحقّ والصواب فوفقناه له, نوحا من قبل إبراهيم وإسحاق ويعقوب. وَمِنْ ذُرّيّتِهِ دَاوُدَ والهاء التي في قوله: وَمِنْ ذُرّيّتِهِ من ذكر نوح, وذلك أن الله تعالى ذكر في سياق الاَيات التي تتلو هذه الاَية لوطا, فقال: وإسْمَاعِيلَ واليَسَعَ وَيُونُس وَلُوطا وَكُلاّ فَضّلْنا على العالَمِينَ ومعلوم أن لوطا لم يكن من ذرية إبراهيم صلى الله عليه وسلم أجمعين. فإذا كان ذلك, وكان معطوفا على أسماء من سمينا من ذرّيته, كان لا شكّ أنه لو أريد بالذرية ذرّية إبراهيم لما دخل يونس ولوط فيهم, ولا شكّ أن لوطا ليس من ذرّية إبراهيم ولكنه من ذرّية نوح, فلذلك وجب أن تكون الهاء في «الذرّية» من ذكر نوح.
فتأويا الكلام: ونوحا وفقنا للحق والصواب من قبل إبراهيم وإسحاق ويعقوب, وهدينا أيضا من ذرّية نوح داود وسليمان. وداود: هو داود بن إيشا. وسليمان هو ابنه سليمان بن داود وأيوب هو أيوب بن موص بن روح بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم. ويوسف: هو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. وموسى: هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب. وهارون: أخو موسى. وكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِنَ يقول تعالى ذكره: جزينا نوحا بصبره على ما امتحن به فينا بأن هديناه فوفقناه لإصابة الحقّ الذي خذلنا عنه من عصانا فخالف أمرنا ونهينا من قومه, وهدينا من ذرّيته مِنْ بعده مَن ذكر تعالى ذكره من أنبيائه لمثل الذي هديناه له. وكما جزينا هؤلاء بحسن طاعتهم إيانا وصبرهم على المحن فينا, كذلك نجزي بالإحسان كلّ محسن.
الآية : 85
القول في تأويل قوله تعالى: {وَزَكَرِيّا وَيَحْيَىَ وَعِيسَىَ وَإِلْيَاسَ كُلّ مّنَ الصّالِحِينَ }..
يقول تعالى ذكره: وهدينا أيضا لمثل الذي هدينا له نوحا من الهدى والرشاد من ذرّيته زكريا بن أزن ابن بركيا ويحيى بن زكريا, وعيسى ابن مريم ابنة عمران بن أشيم بن أمور بن حزقيا, وإلياس.
واختلفوا في إلياس, فكان ابن إسحاق يقول: هو إلياس بن يسى بن فنخاص بن العيزار بن هارون ابن عمران ابن أخي موسى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم. وكان غيره يقول: هو إدريس وممن ذكر ذلك عنه عبد الله بن مسعود.
10607ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن عبيدة بن ربيعة, عن عبد الله بن مسعود, قال: إدريس: هو إلياس, وإسرائيل: هو يعقوب.
وأما أهل الأنساب فآنهم يقولون: إدريس جدّ نوح بن لمْك بن متوشلخ بن أخنوخ وأخنوخ: هو إدريس بن يرد بن مهلائيل. وكذلك رُوِي عن وهب بن منبه.
والذي يقول أهل الأنساب أشبه بالصواب, وذلك أن الله تعالى نسب إليه في هذه الاَية إلى نوح وجعله من ذرّيته ونوح: ابن إدريس عند أهل العلم, فمحال أن يكون جدّ أبيه منسوبا إلى أنه من ذريته.
وقوله: كُلّ مِنَ الصّالِحِينَ يقول: من ذكرناه من هؤلاء الذين سمينا من الصالحين, يعني: زكريا, ويحيى, وعيسى, وإلياس صلى الله عليهم.
الآية : 86
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاّ فَضّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ }..
يقول تعالى ذكره: وهدينا أيضا من ذرّية نوح إسماعيل, وهو إسماعيل بن إبراهيم والليسع: هو اليسع بن أخطوب بن العجوز.
واختلف القرّاء في قراءة اسمه, فقرأته عامة قرّاء الحجاز والعراق: واليَسَعَ بلام واحدة مخففة. وقد زعم قوم أنه «يفعل», من قول القائل: وَسِعَ يَسَعُ, ولا تكاد العرب تُدخِلُ الألف واللام على اسم يكون على هذه الصورة, أعني: على «يَفْعل», لا يقولون: رأيت اليزيد, ولا أتاني التجيب, ولا مررت باليشكر, إلا في ضرورة شعر, وذلك أيضا إذا تُحُرّي به المدح, كما قال بعضهم:
وَجَدْنا الوَلِيدَ بْنَ اليَزِيدَ مُبارَكاشَدِيدا بأعْباءِ الخِلاَفَةِ كاهِلُهْ
فأدخل في «اليزيد» الألف واللام, وذلك لإدخاله إياهما في الوليد, فأتبعه اليزيد بمثل لفظه.
وقرأ ذلك جماعة من قرّاء الكوفيين: واللّيْسَعَ بلامين وبالتشديد, وقالوا: إذا قرىء كذلك كان أشبه بأسماء العجم. وأنكروا التخفيف وقالوا: لا نعرف في كلام العرب اسما على «يفعل» فيه ألف ولام.
والصواب من القراءة في ذلك عندي قراءة من قرأه بلام واحدة مخففة, لإجماع أهل الأخبار على أن ذلك هو المعروف من اسمه دون التشديد, مع أنه اسم أعجميّ فينطق به على ما هو به. وإنما لا يستقيم دخول الألف واللام فيما جاء من أسماء العرب على «يفعل», وأما الاسم الذي يكون أعجميّا فإنما ينطق به على ما سموا به, فإن غُير منه شيء إذا تكلمت العرب فإنما يغير بتقويم حرف منه من غير حذف ولا زيادة فيه ولا نقصان, واللّيسع إذا شدّد لحقته زيادة لم تكن فيه قبل التشديد. وأخرى أنه لم يحفظ عن أحد من أهل العلم علمنا أنه قال: اسمه «ليسع», فيكون مشدّدا عند دخول الألف واللام اللتين تدخلان للتعريف ويُونُسَ هو يونس بن متى ولُوطا وكلاّ فَضّلْنا من ذرية نوح ونوحا, لهم بيّنا الحقّ ووفقناهم له. وفضلنا جميعهم عَلى العَالَمِينَ يعني: على عالم أزمانهم.
الآية : 87
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرّيّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ }..
يقول تعالى ذكره: وهدينا أيضا من آباء هؤلاء الذين سماهم تعالى ذكره ومن ذرّياتهم وإخوانهم آخرين سواهم لم يسمهم للحقّ والدين الخالص الذي لا شرك فيه, فوفقناهم له. وَاجْتَبَيْنَاهُمْ يقول: واخنترناهم لديننا وبلاغ رسالتنا إلى من أرسلناهم إليه, كالذي اخترنا ممن سمينا يقال منه: اجتبى فلان لنفسه كذا: إذا اختاره واصطفاه يجتبيه اجتباء. وكان مجاهد يقول في ذلك, ما:
10608ـ حدثني به محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله الله تعالى ذكره: وَاجْتَبَيْنَاهُمْ قال: أخلصناهم.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن بن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
وَهَدَيْنَاهُمْ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ يقول: وسدّدناهم فأرشدناهم إلى طريق غير معوّج, وذلك دين الله الذي لا عوج فيه, وهو الإسلام الذي ارتضاه الله ربنا لأنبيائه, وأمر به عباده.
الآية : 88
القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }..
يعني تعالى ذكره بقوله: ذَلِكَ هُدَى اللّهِ هذا الهدى الذي هديت به من سميت من الأنبياء والرسل فوفقتهم به لإصابة الدين الحقّ, الذي نالوا بإصابتهم إياه رضا ربهم وشرف الدنيا وكرامة الاَخرة, هو هدى الله, يقول: هو توفيق الله ولطفه, الذي يوفق به من يشاء ويلطف به لمن أحبّ من خلقه, حتى يُنِيب إلى طاعة الله وإخلاص العمل له وإقراره بالتوحيد ورفض الأوثان والأصنام. وَلَوْ أشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ يقول: ولو أشرك هؤلاء الأنبياء الذين سميناهم بربهم تعالى ذكره, فعبدوا معه غيره, لَحَبِطَ عَنْهُمْ يقول: لبطل, فذهب عنهم أجر أعمالهم التي كانوا يعلمون, لأن الله لا يقبل مع الشرك به عملاً.
الآية : 89
القول في تأويل قوله تعالى: {أُوْلَـَئِكَ الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنّبُوّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـَؤُلآءِ فَقَدْ وَكّلْنَا بِهَا قَوْماً لّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ }..
يعني تعالى ذكره بقوله: أُولَئِكَ هؤلاء الذين سميناهم من أنبيائه ورسله نوحا وذرّيته الذين هداهم لدين الإسلام واختارهم لرسالته إلى خلقه, هم الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يعني بذلك صحف إبراهيم وموسى وزَبور داود وإنجيل عيسى صلوات الله عليهم أجمعين. والحُكْمَ يعني: الفهم بالكتاب ومعرفة ما فيه من الأحكام. ورُوِي عن مجاهد في ذلك ما:
10609ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم, قال: حدثنا أبان, قال: حدثنا مالك بن شدّاد, عن مجاهد: والحُكْمَ والنّبُوّةَ قال: الحكم: هو اللبّ.
وعنى بذلك مجاهد إن شاء الله ما قلت لأن اللبّ هو العقل, فكأنه أراد: أن الله آتاهم العقل بالكتاب, وهو بمعنى ما قلنا أنه الفهم به. وقد بينا معنى النبوّة والحكم فيما مضى بشواهدهما, فأغنى ذلك عن إعادته.
القول في تأويل قوله تعالى: فإنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاَءِ فَقَدْ وَكّلْنا بِهَا قَوْما لَيْسُوا بِهَا بكافِرِينَ.
يقول تعالى ذكره: فإن يكفر يا محمد بآيات كتابي الذي أنزلته إليك, فيجحد هؤلاء المشركون العادلون بربهم, كالذي:
10610ـ حدثني عليّ بن داود, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس: فإنْ يَكْفُرْ بِها هَؤُلاءِ يقول: إن يكفروا بالقرآن.
ثم اختلف أهل التأويل في المعنى بهؤلاء, فقال بعضهم: عُني بهم كفار قريش, وعنى بقوله: فَقَدْ وَكّلْنَا بها قَوْما لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرينَ الأنصار. ذكر من قال ذلك:
10611ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا سليمان, قال: حدثنا أبو هلال, عن قتادة, في قوله الله تعالى: فإنْ يَكْفُرْ بهَا هَؤلاءِ قال: أهل مكة, فقد وكلنا بها أهل المدينة.
10612ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عبدة بن سليمان, عن جويبر, عن الضحاك: فَقَدْ وَكّلْنا بِها قَوْما لَيْسُوا بِها بكافِرينَ قال: الأنصار.
حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرحمن بن مغراء, عن جويبر, عن الضحاك: فإنْ يَكْفُرْ بهَا هَؤلاءِ قال: إن يكفر بها أهل مكة, فقد وكلنا بها أهل المدينة الأنصار ليسوا بها بكافرين.
10613ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: فإنْ يَكْفُرْ بهَا هَؤلاءِ يقول: إن يكفر بها قريش فقد وكلنا بها الأنصار.
10614ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج: فإنْ يَكْفُرْ بهَا هَؤلاءِ أهل مكة فَقَدْ وَكّلْنا بِها قَوْما لَيْسُوا بِهَا بِكافِرينَ أهل المدينة.
10615ـ حدثني محمد بن سعد, قال: حدثنا أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: فإنْ يَكْفُرْ بهَا هَؤلاءِ فَقَدْ وَكّلْنَا بِها قَوْما لَيْسُوا بها بِكافِرِينَ قال: كان أهل المدينة قد تبوّؤا الدار والإيمان قبل أن يقدم عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلما أنزل الله عليهم الاَيات جحد بها أهل مكة, فقال الله تعالى: فإنْ يَكْفُرْ بهَا هَؤلاءِ فَقَدْ وَكّلْنَا بِها قَوْما لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ. قال عطية: ولم أسمع هذا من ابن عباس, ولكن سمعته من غيره.
10616ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس: فإنْ يَكْفُرْ بهَا هَؤلاءِ يعن أهل مكة. يقول: إن يكفروا بالقرآن فَقَدْ وَكّلْنَا بها قَوْما لَيْسُوا بِها بِكَافِرِينَ يعني أهل المدينة والأنصار.
وقال آخرون: معنى ذلك: فإن يكفر بها أهل مكة, فقد وكلنا بها الملائكة. ذكر من قال ذلك:
10617ـ حدثنا بن وكيع, قال: حدثنا أبو أسامة, عن عوف, عن أبي رجاء: فإنْ يَكْفُرْ بهَا هَؤلاءِ فَقَدْ وَكّلْنَا بِها قَوْما لَيْسُوا بِها بِكَافِرِينَ قال: هم الملائكة.
حدثنا بن بشار, قال: حدثنا محمد بن جعفر وابن أبي عديّ, وعبد الوهاب, عن عوف, عن أبي رجاء, مثله.
وقال آخرون: عني بقوله: فإنْ يَكْفُرْ بهَا هَؤلاءِ يعني قريشا, وبقوله: فَقَدْ وَكّلْنَا بِها قَوْما الأنبياء الذين سماهم في الاَيات التي مضت قبل هذه الاَية. ذكر من قال ذلك:
10618ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: فإنْ يَكْفُرْ بهَا هَؤلاءِ يعني أهل مكة, فَقَدْ وَكّلْنَا بِها قَوْما لَيْسُوا بِها بِكَافِرِينَ وهم الأنبياء الثمانية عشر الذين قال الله: أولَئِكَ الّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: فإنْ يَكْفُرْ بهَا هَؤلاءِ قال: يعني: قوم محمد, ثم قال: فَقَدْ وَكّلْنَا بِها قَوْما لَيْسُوا بِها بِكَافِرِينَ يعني: النبيين الذين قصّ قبل هذه الاَية قصصهم, ثم قال: أولَئِكَ الّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ.
وأولى هذه الأقوال في تأويل ذلك بالصواب, قول من قال: عنى بقوله: فإنْ يَكْفُرْ بهَا هَؤلاءِ كفار قريش, فَقَدْ وَكّلْنَا بِها قَوْما لَيْسُوا بِها بِكَافِرِينَ يعني به: الأنبياء الثمانية عشر الذين سماهم الله تعالى ذكره في الاَيات قبل هذه الاَية. وذلك أن الخبر في الاَيات قبلها عنهم مضى وفي التي بعدها عنهم ذكر, فما بينهما بأن يكون خبرا عنهم أَوْلَى وأحقّ من أن يكون خبرا عن غيرهم.
فتأويل الكلام إذا كان ذلك كذلك: فإن يكفر قومك من قريش يا محمد بآياتنا, وكذّبوا وجحدوا حقيقتها, فقد ساتحفظناها واسترعينا القيام بها رسلنا وأنبياءنا من قبلك الذين لا يجحدون حقيقتها ولا يكذّبون بها, ولكنهم يصدّقون بها ويؤمنون بصحتها. وقد قال بعضم: معنى قوله: فَقَدْ وَكّلْنَا بِها قَوْما: رزقناها قوما.
الآية : 90
القول في تأويل قوله تعالى: {أُوْلَـَئِكَ الّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرَىَ لِلْعَالَمِينَ }..
يقول تعالى ذكره: أُولَئِكَ: هؤلاء القوم الذين وكلنا بآياتنا وليسوا بها بكافرين, هم الذين هداهم الله لدينه الحقّ, وحفظ ما وكلوا بحفظه من آيات كتابه والقيام بحدوده واتباع حلاله وحرامه والعمل بما فيه من أمر الله والانتهاء عما فيه من نهيه, فوقهم جلّ ثناؤه لذلك. فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ يقول تعالى ذكره: فبالعمل الذي عملوا والمنهاج الذي سلكوا وبالهدى الذي هديناهم والتوفيق الذي وفقناهم, اقتده يا محمد: أي فاعمل وخذ به واسكله, فإنه عملٌ للّه فيه رضا ومنهاج من سلكه اهتدى.
وهذا التأويل على مذهب من تأوّل قوله: فَقَدْ وَكّلْنَا بِها قَوْما لَيْسُوا بِها بِكَافِرينَ أنهم الأنبياء المسَمّوْنَ في الاَيات المتقدمة, وهو القول الذي اخترناه في تأويل ذلك. وأما على تأويل من تأوّل ذلك أن القوم الذين وكلوا بها هم أهل المدينة, أو أنهم هم الملائكة, فإنهم جعلوا قوله: فإنْ يَكْفُرْ بِها هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكّلْنَا بِها قَوْما لَيْسُوا بهَا بِكافِرِينَ اعتراضا بين الكلامين, ثم ردّوا قوله: أُولَئِكَ الّذِينَ هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ على قوله: أُولَئِكَ الّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتَابَ والحُكْمَ والنّبُوةَ. ذكر من قال ذلك:
10619ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قوله: وَوَهَبْنَا لَهُ إسْحاق وَيَعْقُوبَ... إلى قوله: أُولَئِكَ الّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ يا محمد.
10620ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال بن زيد, في قوله: أُولَئِكَ الّذِينَ هَدَى اللّهُ يا محمد, فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ولا تقتد بهؤلاء.
10621ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: ثني أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قال: ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: أُولَئِكَ الّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ.
10622ـ حدثنا عليّ بن داود, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قال: ثم قال في الأنبياء الذين سماهم في هذه الاَية: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ.
ومعنى الاقتداء في كلام العرب بالرجل: اتباع أثره والأخذ بهديه, يقال: فلان يقدو فلانا إذا نحا نحوه واتبع أثره, قِدَةً وقُدْوَةً وقِدْوَة وقِدْية.
القول في تأويل قوله تعالى: قُلْ لا أسألُكُمْ عَلَيْهِ أجْرا إنْ هُوَ إلاّ ذِكْرَى للْعَالمِينَ.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء الذين أمرتك أن تذكرهم بآياتي أن تَبسل نفس بما كسبت من مشكري قومك يا محمد: لا أسألكم على تذكيري إياكم والهدى الذي أدعوكم إليه والقرآن الذي جئتكم به, عوضا أعتاضه منكم عليه وأجرا آخذه منكم, وما ذلك مني إلا تذكير لكم ولكلّ من كان مثلكم ممن هو مقيم على باطل بأس الله أن يحلّ بكم وسخطه أن ينزل بكم على شرككم به وكفركم, وإنذار لجميعكم بين يدي عذاب شديد, لتذكروا وتنزجوا