تفسير الطبري تفسير الصفحة 140 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 140
141
139
 الآية : 95
القول في تأويل قوله تعالى:
{إِنّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبّ وَالنّوَىَ يُخْرِجُ الْحَيّ مِنَ الْمَيّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيّتِ مِنَ الْحَيّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنّىَ تُؤْفَكُونَ }
وهذا تنبيه من الله جلّ ثناؤه هؤلاء العادلين به الاَلهة والأوثان على موضع حجته عليهم, وتعريف منه لهم خطأ ما هم عليه مقيمون من إشراك الأصنام في عبادتهم إياه. يقول تعالى ذكره: إن الذي له العبادة أيها الناس دون كلّ ما تعبدون من الاَلهة والأوثان, هو الله الذي فلق الحبّ, يعنِي: شقّ الحبّ من كلّ ما ينبت من النبات, فأخرج منه الزرع والنوى من كلّ ما يغرس مما له نواة, فأخرج منه الشجر. والحبّ جمع حبة, والنوى: جمع النواة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك.
10654ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: إنّ اللّهَ فالِقُ الحَبّ والنّوَى أما فالق الحبّ والنوى: ففالق الحبّ عن السنبلة, وفالق النواة عن النخلة.
10655ـ حدثني محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: فالِقُ الحَبّ والنّوَى قال: يفلق الحبّ والنوى عن النبات.
10656ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: فالِقُ الحَبّ والنّوَى قال: الله فالق ذلك, فلقه فأنبت منه ما أنبت فلق النواة فأخرج منها نبات نخلة, وفلق الحبة فأخرج نبات الذي خلق.
وقال آخرون: معنى «فالق» خالق. ذكر من قال ذلك.
10657ـ حدثنا هناد بن السريّ, قال: حدثنا مروان بن معاوية, عن جويبر, عن الضحاك, في قوله: إنّ اللّهَ فالِقُ الحَبّ والنّوَى قال: خالق الحبّ والنوى.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا المحاربي, عن جويبر, عن الضحاك, مثله.
10658ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: إنّ اللّهَ فالِقُ الحَبّ والنّوَى قال: خالق الحبّ والنوى.
وقال آخرون: معنى ذلك أنه فلق الشقّ الذي في الحبة والنواة. ذكر من قال ذلك.
10659ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي جريج, عن مجاهد, في قول الله: فالِقُ الحَبّ والنّوَى قال: الشقان اللذان فيهما.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
10660ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا معلى بن أسد, قال: حدثنا خالد, عن حصين, عن أبي مالك, في قول الله: إنّ اللّهَ فالِقُ الحَبّ والنّوَى قال: الشقّ الذي يكون في النواة وفي الحنطة.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى, عن القاسم ابن أبي بزّة, عن مجاهد: فالِقُ الحَبّ وَالنّوَى قال: الشقان اللذان فيهما.
10661ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ, قال: ثني عبيد بن سليمان, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: فالِقُ الحَبّ والنّوَى يقول: خالق الحبّ والنوى, يعني: كل حبة.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي ما قدمنا القول به, وذلك أن الله جلّ ثناؤه أتبع ذلك بإخباره عن إخراجه الحيّ من الميت والميت من الحيّ, فكان معلوماً بذلك أنه إنما عنى بإخباره عن نفسه أنه فالق الحبّ عن النبات والنوى عن الغروس والأشجار, كما هو مخرج الحيّ من الميت والميت من الحيّ. وأما القول الذي حُكي عن الضحاك في معنى فالق أنه خالق, فقولٌ إن لم يكن أراد به أنه خالق منه النبات والغروس بفلقه إياه, لا أعرف له وجهاً, لأنه لا يُعرف في كلام العرب فلق الله الشيء بمعنى: خلق.
القول في تأويل قوله تعالى: يُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ ومُخْرِجُ المَيّتِ مِنَ الحَيّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأنّى تُؤْفَكُونَ.
يقول تعالى ذكره: يخرج السنبل الحيّ من الحبّ الميت, ومخرج الحبّ الميت من السنبل الحيّ, والشجر الحيّ من النوى الميت, والنوى الميت من الشجر الحيّ. والشجر ما دام قائماً على أصوله لم يجفّ والنبات على ساقه لم ييبس, فإن العرب تسميه حيّا, فإذا يبس وجفّ أو قطع من أصله سموه ميتاً.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك.
10662ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, أما: يُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ فيخرج السنبلة الحية من الحبة الميتة, ويخرج الحبة الميتة من السنبلة الحية, ويخرج النخلة الحية من النواة الميتة, ويخرج النواة الميتة من النخلة الحية.
10663ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن السديّ, عن أبي مالك: يُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ ومُخْرِجُ المَيّتِ مِنَ الحَيّ قال: النخلة من النواة والنواة من النخلة, والحبة من السنبلة والسنبلة من الحبة.
وقال آخرون بما:
10664ـ حدثني به المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن عليّ ابن أبي طلحة, عن ابن عباس: قوله: إنّ اللّهَ فالِقُ الحَبّ والنّوَى يُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ ومُخْرِجُ المَيّتِ مِنَ الحَيّ قال: يخرج النطفة الميتة من الحيّ, ثم يخرج من النطفة بشراً حيّا.
وإنما اخترنا التأويل الذي اخترنا في ذلك, لأنه عقيب قوله: إنّ اللّهَ فالِقُ الحَبّ والنّوَى على أن قوله: يُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ ومُخْرِجُ المَيّتِ مِنَ الحَيّ وإن كان خبراً من الله عن إخراجه من الحبّ السنبل ومن السنبل الحبّ, فإنه داخل في عمومه ما رُوي عن ابن عباس في تأويل ذلك وكلّ ميت أخرجه الله من جسم حيّ, وكلّ حيّ أخرجه الله من جسم ميت.
وأما قوله: ذَلِكُمُ اللّهُ فإنه يقول: فاعل ذلك كله الله جلّ جلاله. فَأنّى تُؤْفَكُونَ يقول: فأيّ وجوه الصدّ عن الحقّ أيها الجاهلون تصدّون عن الصواب وتُصرفون, أفلا تتدبرون فتعلمون أنه لا ينبغي أن يجعل لمن أنعم عليكم بفلق الحبّ والنوى, فأخرج لكم من يابس الحبّ والنوى زروعاً وحروثاً وثماراً تتغذون ببعضه وتفكهون ببعضه, شريك في عبادته ما لا يضرّ ولا ينفع ولا يسمع ولا يبصر؟
الآية : 96
القول في تأويل قوله تعالى:
{فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ الْلّيْلَ سَكَناً وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ }.
يعني بقوله: فالِقُ الإصْباحِ شاقّ عمود الصبح عن ظلمة الليل وسواده. والإصباح: مصدر من قول القائل: أصبحنا إصباحاً.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال عامة أهل التأويل. ذكر من قال ذلك.
10665ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا المحاربي, عن جويبر, عن الضحاك: فالِقُ الإصْباحِ قال: إضاءة الصبح.
10666ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: فالِقُ الإصْباحِ قال: إضاءة الفجر.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن بن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
10667ـ حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, في قوله: فالِقُ الإصْباحِ قال: فالق الصبح.
10668ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, في قوله: فالِقُ الإصْباحِ يعني بالإصباح: ضوء الشمس باالنهار, وضوء القمر بالليل.
10669ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, قال: حدثنا عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى, عن القاسم ابن أبي بزّة, عن مجاهد: فالِقُ الإصْباحِ قال: فالق الصبح.
حدثنا به ابن حميد مرّة بهذا الإسناد, عن مجاهد, فقال في قوله: فالِقُ الإصْباحِ قال: إضاءة الصبح.
10670ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا بن وهب, قال: قال بن زيد, في قوله: فالِقُ الإصْباحِ قال: فلق الإصباح عن الليل.
10671ـ حدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ, يقول: حدثنا عبيد بن سليمان, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: فالِقُ الإصْباحِ يقول: خالق النور, نور النهار.
وقال آخرون: معنى ذلك: خالق الليل والنهار. ذكر من قال ذلك:
10672ـ حدثنا محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس في قوله: «فالقُ الإصباحِ وجاعلُ الليلِ سكَنا» يقول: خلق الليل والنهار, وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ في قوله: فالِقُ الإصْباحِ بفتح الألف كأنه تأوّل ذلك بمعنى جمع صبح, كأنه أراد صبح كلّ يوم, فجعله أصباحاً ولم يبلغنا عن أحد سواه أنه قرأ كذلك. والقراءة التي لا نستجيز غيرها بكسر الألف فالِقُ الإصْباحِ لإجماع الحجة من القراءة وأهل التأويل على صحة ذلك ورفض خلافه.
وأما قوله: «وَجاعِلُ اللّيْلِ سَكَناً» فإن القرّاء اختلفت في قراءته, فقرأ ذلك عامة قرّاء الحجاز والمدينة وبعض البصريين: «وَجاعِلُ اللّيْلِ» بالألف. على لفظ الاسم ورفعه عطفاً على «فالق», وخفض «الليل» بإضافة «جاعل» إليه, ونصب «الشمس» و «القمر» عطفاً على موضع «الليل» لأن «الليل» وإن كان مخفوضاً في اللفظ فإنه في موضع النصب, لأنه مفعول «جاعل», وحَسُن عطف ذلك على معنى الليل لا على لفظه, لدخول قوله: سَكَناً بينه وبين الليل قال الشاعر:
قُعُوداً لَدَى الأبْوَابِ طُلاّبَ حاجَةٍعَوَانٍ مِنَ الحاجاتِ أوْ حاجَةً بِكْرَا
فنصب الحاجة الثانية عطفاً بها على معنى الحاجة الأولى, لا على لفظها لأن معناها النصب وإن كانت في اللفظ خفضاً. وقد يجيء مثل هذا أيضاً معطوفاً بالثاني على معنى الذي قبله لا على لفظه, وإن لم يكن بينهما حائل, كما قال بعضهم:
فَبَيْنَا نَحْنُ نَنْظُرُهُ أتانَامُعَلّقَ شَكْوَةٍ وزِنادَ رَاعِ
وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين: وَجَعَلَ اللّيْلَ سَكَناً والشّمْسَ على «فَعَلَ» بمعنى الفعل الماضي ونصب «الليل». والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار, متفقتا المعنى غير مختلفتيه, فبأيتهما قرأ القارىء فهو مصيب في الإعراب والمعنى. وأخبر جلّ ثناؤه أنه جعل الليل سكناً, لأنه يسكن فيه كلّ متحرك بالنهار ويهدأ فيه, فيستقرّ في مسكنه ومأواه.
القول في تأويل قوله تعالى: والشّمْسَ والقَمَرَ حُسْباناً.
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في ذلك, فقال بعضهم: معنى ذلك: وجعل الشمس والقمر يجريان في أفلاكهما بحساب. ذكر من قال ذلك:
10673ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن عليّ بن أبي طلحة, عن بن عباس: والشّمْسَ والقَمَرَ حُسْباناً يعني: عدد الأيام والشهور والسنين.
10674ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه عن بن عباس: والشّمْسَ والقَمَرَ حُسْباناً قال: يجريان إلى أجل جُعِل لهما.
10675ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السدي والشّمْسَ والقَمَرَ حُسْباناً يقول: بحساب.
10676ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, في قوله: والشّمْسَ والقَمَرَ حُسْباناً قال: الشمس والقمر في حساب, فإذا خلت أيامهما فذاك آخر الدهر وأوّل الفزع الأكبر ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ.
10677ـ حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, في قوله: والشّمْسَ والقَمَرَ حُسْباناً قال: يدوران في حساب.
10678ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن بن جريج, عن مجاهد: والشّمْسُ والقَمَرُ حُسْباناً قال: هو مثل قوله: كُلّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ, ومثل قوله: والشّمْسَ والقَمَرَ حُسْباناً.
وقال آخرون: معنى ذلك: وجعل الشمس والقمر ضياء. ذكر من قال ذلك:
10679ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: والشّمْسَ والقَمَرَ حُسْباناً أي ضياء.
وأولى القولين في تأويل ذلك عندي بالصواب تأويل من تأوّله: وجعل الشمس والقمر يجريان بحساب وعدد لبلوغ أمرها ونهاية آجالهما, ويدوران لمصالح الخلق التي جُعِلا لها.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالاَية, لأن الله تعالى ذِكره ذكر قبله أياديه عند خلقه وعظم سلطانه, بفلقه الإصباح لهم وإخراج النبات والغراس من الحبّ والنوى, وعقب ذلك بذكره خلق النجوم لهدايتهم في البرّ والبحر, فكان وصفه إجراء الشمس والقمر لمنافعهم أشبه بهذا الموضع من ذكر إضاءتهما لأنه قد وصف ذلك قبلُ قوله: فالِقُ الإصْباحِ فلا معنى لتكريره مرّة أخرى في آية واحدة لغير معنى. والحسبان في كلام العرب: جمع حساب, كما الشبهان جمع شهاب وقد قيل: إن الحسبان في هذا الموضع مصدر من قول القائل: حَسَبْتُ الحِساب أحْسُبه حِساباً وحُسْباناً. وحُكي عن العرب على الله حُسْبان فلان وحِسْبَته: أي حسابه. وأحسب أن قتادة في تأويل ذلك بمعنى الضياء, ذهب إلى شيء يرْوَى عن ابن عباس في قوله: أوْ يُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السّماءِ قال: ناراً, فوجه تأويل قوله: والشّمْسَ والقَمَرَ حُسْباناً إلى ذلك التأويل. وليس هذا من ذلك المعنى في شيء. وأما «الحِسْبان» بكسر الحاء: فإنه جمع الحِسبانة: وهي الوسادة الصغيرة, وليست من الأوليين أيضاً في شيء, يقال: حَسِبته: أجلسته عليها, ونصب قوله: حُسْباناً بقوله: وَجَعَلَ. وكان بعض البصريين يقول: معناه: و والشّمْسَ والقَمَرَ حُسْباناً أي بحساب, فحذف الباء كما حذفها من قوله: هُوَ أعْلَمُ مَنْ يَضِلّ عَنْ سَبِيلهِ: أي أعلم بمن يضلّ عن سبيله.
القول في تأويل قوله تعالى: ذلك تَقْدِيرُ العَزِيرِ العَلِيمِ.
يقول تعالى ذكره: وهذا الفعل الذي وصفه أنه فعله, وهو فَلْقُه الإصباح وَجَعْلُه الليل سكَناً والشمس والقمر حُسباناً, تقدير الذي عزّ سلطانه, فلا يقدر أحد أراده بسوء وعقاب أو انتقام من الامتناع منه, العليم بمصالح خلقه وتدبيرهم لا تقدير الأصنام والأوثان التي لا تسمع ولا تبصر ولا تفقه شيئاً ولا تعلقه ولا تضرّ ولا تنفع, وإن أريدت بسوء لم تقدر على الامتناع منه ممن أرادها به. يقول جلّ ثناؤه: وأخلِصوا أيها الجهلة عبادتكم لفاعل هذه الأشياء, ولا تشركوا في عبادته شيئاً غيره.
الآية : 97
القول في تأويل قوله تعالى:
{وَهُوَ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ النّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصّلْنَا الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }.
يقول تعالى ذكره: والله الذي جعل لكم أيها الناس النجوم أدلة في البرّ والبحر إذا ضللتم الطريق, أو تحيرتم فلم تهتدوا فيها ليلا تستدلون بها على المحجة, فتهتدون بها إلى الطريق والمحجة فتسلكونه, وتنجون بها من ظلمات ذلك, كما قال جلّ ثناؤه: وَعَلاماتٍ وَبالنّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ: أي من ضلال الطريق في البرّ والبحر, وعنى بالظلمات: ظلمة الليل, وظلمة الخطأ والضلال, وظلمة الأرض أو الماء. وقوله: قَدْ فَصّلْنَا الاَياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يقول قد ميزنا الأدلة وفرّقنا الحجج فيكم وبيناها أيها لناس ليتدبرها أولو العلم بالله منكم ويفهمها أولو الحجاج منكم, فينيبوا من جهلهم الذي هم عليه مقيمون, وينزجروا عن خطأ فعلهم الذي هم عليه ثابتون, ولا يتمادوا عناداً للّه مع علمهم بأن ما هم عليه مقيمون خطأ في غيهم.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
10680ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: وَهُوَ الّذِي جَعَلَ لَكُمْ النّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ البَرّ والبَحْرِ قال: يضلّ الرجل وهو في الظلمة والجور عن الطريق.
الآية : 98
القول في تأويل قوله تعالى:
{وَهُوَ الّذِيَ أَنشَأَكُم مّن نّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصّلْنَا الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ }.
يقول تعالى ذكره: وإلهكم أيها العادلون بالله غيره الّذي أنْشأكُمْ يعني: الذي ابتدأ خلقكم من غير شيء فأوجدكم بعد أن لم تكونوا شيئاً مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ يعني: من آدم عليه السلام كما:
10681ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السّديّ: مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ قال: آدم عليه السلام.
10682ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَهُوَ الّذِي أنْشأكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ من آدم عليه السلام.
وأما قوله: مُسْتَقَرّ ومُسْتَوْدَعٌ فإن أهل التأويل في تأويله مختلفون فقال بعضهم: معنى ذلك: وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة, فمنكم مستقرّ في الرحم ومنكم مستودع في القبر, حتى يبعثه الله لنشر القيامة. ذكر من قال ذلك:
10683ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا أبو معاوية, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن إبراهيم, عن عبد الله: يَعْلَمُ مُسْتَقَرّها ومُسْتَوْدَعَها قال: مستقرّها في الأرحام, ومستودعها حيث تموت.
حدثني يعقوب, قال: حدثنا هشيم, عن إسماعيل, عن إبراهيم, عن عبد الله أنه قال: المستودع حيث تموت, والمستقرّ: ما في الرحم.
حدثت عن عبيد الله بن موسى, عن إسرائيل, عن السّديّ, عن مرّة, عن عبد الله بن مسعود, قال: المستقرّ الرحم, والمستودع: المكان الذي تموت فيه.
10684ـ حدثني محمد بن عبيد المحاربي, قال: حدثنا محمد بن فضيل وعليّ بن هاشم, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن إبراهيم: يَعْلَمُ مُسْتَقَرّها ومُسْتَوْدَعَها قال: مستقرّها في الأرحام, ومستودعها في الأرض حيث تموت فيها.
10685ـ حدثنا أبو كريب وأبو السائب, قالا: حدثنا بن إدريس, عن ليث, عن مِقْسِم, قال: مستقرّها في الصلب حيث تأوي إليه, ومستودعها حيث تموت.
وقال آخرون: المستودع: ما كان في أصلاب الاَباء, والمستقرّ: ما كان في بطون النساء وبطون الأرض أو على ظهورها. ذكر من قال ذلك:
10686ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا بن علية, قال: حدثنا كلثوم بن جبر, عن سعيد بن جبير, في قوله: فَمُسْتَقَرّ ومُسْتَوْدَعٌ قال: مستودَعون ما كانوا في أصلاب الرجال, فإذا قرّوا في أرحام النساء أو على ظهر الأرض أو في بطنها, فقد استقرّوا.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا بن عطية, عن كلثوم بن جبر, عن سعيد بن جبير: مُسْتَقَرّ ومُسْتَوْدَعٌ قال: المستودعون: ما كانوا في أصلاب الرجال, فإذا قرّوا في أرحام النساء أو على ظهر الأرض فقد استقروا.
10687ـ حدثنا محمد بن المثنى,, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن المغيرة بن النعمان, عن سعيد بن جبير, قال: قال بن عباس: يَعْلَمُ مُسْتَقَرّها ومُسْتَوْدَعَها قال: المستودع في الصلب والمستقرّ: ما كان على وجه الأرض أو في الأرض.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فمستقرّ في الأرض على ظهورها ومستوع عند الله. ذكر من قال ذلك:
10688ـ حدثنا بن وكيع, قال: حدثنا يحيى بن سمان, عن سفيان, عن المغيرة, عن أبي الخير تميم بن حَذْلَم, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: «المستقرّ»: الأرض, و «المستودع» عند الرحمن.
10689ـ حدثنا بن وكيع, قال: حدثنا عبيد الله, عن إسرائيل, بن أبي نجيح, عن مجاهد, قال: «المستقرّ» الأرض, و «المستودع»: عند ربك.
10690ـ حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا ابن عيينة, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن إبراهيم, قال: عبد الله: مستقرّها في الدنيا, ومستودعها في الاَخرة يعني: فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَع.
10691ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: أخبرنا بن المبارك, عن شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير, قال: «المستودع»: في الصلب, و «المستقرّ»: في الاَخرة وعلى وجه الأرض.
وقال آخرون: معنى ذلك: فمستقرّ في الرحم ومستودع في الصلب. ذكر من قال ذلك:
10692ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا أبو الأحوص, عن أبي الحرث, عن عكرمة, عن ابن عباس, في قول الله: فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَع قال: مستقرّ في الرحم, ومستودع في صلب لم يخلق وسيخلق.
10693ـ حدثنا بن وكيع, قال: حدثنا جرير, عن يحيى الجابر, عن عكرمة: فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَع قال: المستقر: الذي قد استقرّ في الرحم, والمستودع: الذي قد استودع في الصلب.
10694ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن مغيرة, عن أبي الخير تميم, عن سعيد بن جبير, قال بن عباس: سَلْ فقلت: فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَع؟ قال: المستقرّ: في الرحم, والمستودع: ما استودع في الصلب.
حدثنا أبو كريب وأبو السائب, قالا: حدثنا ابن إدريس, عن قابوس, عن أبيه, عن ابن عباس, في قوله: فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَع قال: المستقرّ: الرحم, والمستودع: ما كان عند ربّ العالمين مما هو خالقه ولم يخلق.
حدثني يعقوب, قال: حدثنا هشيم, قال: أخبرنا أبو بشر, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, في قوله: يَعْلَمُ مُسْتَقَرّها وَمُسْتَوْدَعَها قال: المستقرّ: ما كان في الرحم مما هو حيّ ومما قد مات والمستودع: ما في الصلب.
10695ـ حدثني يعقوب, قال: حدثنا هشيم, قال: أخبرنا أبو بشر, عن سعيد بن جبير, قال: قال لي بن عباس, وذلك قبل أن يخرج وجهي: أتزوجت يا بن جبير؟ قال: قلت: لا, وما أريد ذاك يومي هذا. قال: فقال: أما إنه مع ذلك سيخرج ما كان في صلبك من المستودعين.
حدثنا بن بشار, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير, قال: قال لي ابن عباس: تزوّجتَ؟ قلت: لا. قال: فضرب ظهري وقال: ما كان من مستودع في ظهرك سيخرج.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَع قال: المستقرّ في الأرحام, والمستودع في الصلب لم يخلق وهو خالقه.
حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس: فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَع قال: المستقرّ في الرحم, والمستودع: ما استودع في أصلاب الرجال والدواب.
10696ـ حدثنا بن وكيع, قال: حدثنا جرير, عن ليث, عن مجاهد, قال: المستقرّ: ما استقرّ في الرحم والمستودع: ما استودع في الصلب.
حدثنا بن وكيع, قال: حدثنا جرير, عن مغيرة, عن أبي الخير تميم, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, بنحوه.
10697ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا عبيدة بن حميد, عن عمار الدهني, عن رجل, عن كريب, قال: دعاني بن عباس, فقال: اكتب: «بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله بن عباس إلى فلان حبر تيماء سلام عليك, فإني أحمد إليك الله, الذي لا إله إلا هو, أما بعد» قال: فقلت: تبدؤه تقول: السلام عليك؟ فقال: إن الله هو السلام. ثم قال: اكتب «سلام عليك, أما بعد فحدّثني عن مستقرّ ومستودع». قال: ثم بعثني بالكتاب إلى اليهودي, فأعطيته إياه فلما نظر إليه قال: مرحباً بكتاب خليلي من المسلمين فذهب بي إلى بيته, ففتح أسفاطاً له كبيرة, فجعل يطرح تلك الأشياء لا يلتفت إليها. قال: قلت: ما شأنك؟ قال: هذه أشياء كتبها اليهود حتى أخرج سفر موسى عليه السلام, قال: فنظر إليه مرتّين, فقال: المستقرّ: الرحم. قال: ثم قرأ: ونُقِرّ فِي الأرْحَام ما نَشاءُ, وقرأ: وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرّ ومَتَاعٌ قال: مستقرّة فوق الأرض, ومستقره في الرحم, ومستقرّة تحت الأرض, حتى يصير إلى الجنة أو إلى النار.
10698ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا قبيصة, عن سفيان, عن ابن جريج, عن عطاء: فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَعٌ قال: المستقرّ: ما استقرّ في أرحام النساء, والمستودع: ما استودع في أصلاب الرجال.
حدثنا بن وكيع, قال: حدثنا عبد الله, عن سفيان, عن بن جريج, عن عطاء, قال: المستقرّ: الرحم, والمستودع: في أصلاب الرجال.
حدثنا بن وكيع, قال: حدثنا روح بن عبادة, عن ابن جريج, عن عطاء, وعن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قال: المستقرّ: الرحم, والمستودع: في الأصلاب.
حدثني محمد بن عروة, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: ثني عيسى, عن بن أبي نجيح, عن مجاهد: فَمُسْتَقَرّ: ما استقرّ في أرحام النساء وَمُسْتَوْدَع ما كان في أصلاب الرجال.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن بن أبي نجيح, عن مجاهد, بنحوه.
حدثنا بن حميد وابن وكيع قالا: حدثنا جرير, عن ليث, عن مجاهد, قال: المستقرّ: ما استقرّ في الرحم, والمستودع: ما استودع في الصلب.
حدثنا بن وكيع, قال: حدثنا يحيى بن يمان, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قال: المستقرّ: الرحم, والمستودع: الصلب.
10699ـ حدثنا بن وكيع, قال: حدثنا معاذ بن معاذ, عن ابن عون, قال: أتينا إبراهيم عند المساء, فأخبرونا أنه قد مات فقلنا: هل سأله أحد عن شيء؟ قالوا: عبد الرحمن بن الأسود عن المستقرّ والمستودع فقال: المستقر في الرحم, والمستودع: في الصلب.
حدثنا حميد بن مسعدة, قال: حدثنا بشر بن المفضل, قال: حدثنا ابن عون, قال: أتيتنا إبراهيم, وقد مات, قال: فحدثني بعضهم أن عبد الرحمن بن الأسود سأله قبل أن يموت عن المستقرّ والمستودع, فقال المستقرّ: في الرحم, والمستودع: في الصلب.
حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا بن علية, عن ابن عون, قال: أتينا منزل إبراهيم, فسألنا عنه, فقالوا: قد توفي, وسأله عبد الرحمن بن الأسود, فذكره نحوه.
حدثني به يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا بن علية, عن ابن عون, أنه بلغه أن عبد الرحمن بن الأسود سأل إبراهيم, عن ذلك, فذكر نحوه.
حدثنا عبيد الله بن محمد الفريابي, قال: حدثنا ضمرة بن ربيعة, عن العلاء بن هارون, قال: انتهيت إلى منزل إبراهيم حين قبض, فقلت لهم: هل سأله أحد عن شيء, قالوا: سأله عبد الرحمن بن الأسود عن مستقرّ ومستودع, فقال: أما المستقرّ: فما استقرّ في أرحام النساء, والمستودع: ما في أصلاب الرجال.
حدثنا أبو كريب وأبو السائب, قالا: حدثنا بن إدريس, عن ليث, عن مجاهد في فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَع قال: المستقرّ: الرحم, والمستودع: الصلب.
10700ـ حدثني يونس, قال: ثني سفيان, عن رجل حدثه عن سعيد بن جبير, قال: قال لي بن عباس: ألا تنكح؟ ثم قال: أنا إني أقول لك هذا وإني لأعلم أن الله مخرج من صلبك ما كان فيه مستودعاً.
10701ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قال: المستقر في الرحم, والمستودع: في الصلب.
حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, عن ابن عباس: فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَعٌ قال: مستقر في الرحم, ومستودع: في الصلب.
10702ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَع قال: مستقرّ: في الرحم, ومستودع: في الصلب.
10703ـ حدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ, يقول: حدثنا عبيد بن سليمان, عن الضحاك: فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَع أما «مستقر»: فما استقرّ في الرحم, وأما «مستودع» في الصلب.
10704ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَع قال: مستقرّ في الأرحام, ومستودع: في الأصلاب.
10705ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا الحجاج بن المنهال, قال: حدثنا حماد, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير وأبي حمزة, عن إبراهيم, قالا: «مستقر ومستودع», المستقرّ: في الرحم, والمستودع: في الصلب.
وقال آخرون: المستقر: في القبر, والمستودع: في الدنيا. ذكر من قال ذلك:
10706ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: كان الحسن يقول: مستقرّ: في القبر, ومستودع: في الدنيا. وأوشك أن يلحق بصاحبه.
وأولى التأويلات في ذلك بالصواب, أن يقال: إن الله جلّ ثناؤه عمّ بقوله: فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَع كلّ خلقه الذي أنشأ من نفس واحدة مستقرّاً ومستودعاً, ولم يخصص من ذلك معنى دون معنى. ولا شك أن من بني آدم مستقراً في الرحم ومستودعاً في الصلب, ومنهم من هو مستقرّ على ظهر الأرض أو بطنها ومستودع في أصلاب الرجال, ومنهم مستقرّ في القبر مستودع على ظهر الأرض, فكلّ مستقرّ أو مستودع بمعنى من هذه المعاني فداخل في عموم قوله: فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَعٌ ومراد به: إلا أن يأتي خبر يجب التسليم له بأنه معنى به معنى دون معنى وخاصّ دون عامّ.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَع فقرأت ذلك عامة قراء أهل المدينة والكوفة: فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَع بمعنى: فمنهم من استقره الله في مقرّه فهو مستقرّ, ومنهم من استودعه الله فيما استودعه فيه. وقرأ ذلك بعض أهل المدينة وبعض أهل البصرة: «فمُسْتَقِرٌ» بكسر القاف بمعنى: فمنهم من استقر فهو مستودع فيه في مقرّه فهو مستقِرّ به.
وأولى القراءتين بالصواب عندي وإن كان لكليهما عندي وجه صحيح: فمُسْتَقَرّ بمعنى: استقرّه الله في مستقرّه, ليأتلف المعنى فيه وفي «المستودع» في أن كلّ واحد منهما لم يسمّ فاعله, وفي إضافة الخبر بذلك إلى الله في أنه المستقرّ هذا والمستودع هذا وذلك أن الجميع مجمعون على قراءة قوله: وَمُسْتَوْدَعٌ بفتح الدال على وجه ما لم يسمّ فاعله, فإجراء الأوّل, أعني قوله: «فمستقرّ» عليه أشبه من عدوله عنه.
وأما قوله: قَدْ فَصّلْنَا الاَياتِ لقَوْمٍ يَفْقَهُونَ يقول تعالى: قد بينا الحجج وميزنا الأدلة والأعلام وأحكمناها لقوم يفقهون مواقع الحجج ومواضع العبر ويفهمون الاَيات والذكر, فإنهم إذا اعتبروا بما نبهتهم عليه من إنشائي من نفس واحدة ما عاينوا من البشر وخلقي ما خلقت منها من عجائب الألوان والصور, علموا أن ذلك من فعل من ليس له مثل ولا شرك فيشركوه في عبادتهم إياه. كما:
10707ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: قَدْ فَصّلْنا الاَياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ يقول: قد بينا الاَيات لقوم يفقهون.
الآية : 99
القول في تأويل قوله تعالى:
{وَهُوَ الّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مّتَرَاكِباً وَمِنَ النّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنّاتٍ مّنْ أَعْنَابٍ وَالزّيْتُونَ وَالرّمّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوَاْ إِلِىَ ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنّ فِي ذَلِكُمْ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }.
يقول تعالى ذكره: والله الذي له العبادة خالصة لا شركة فيه لشيء سواه, هو الإله الّذي أَنْزَلَ مِنَ السّمَاء مَاءً فأخْرَجْنا به نَبَاتَ كُلّ شَيْءٍ فأخرجنا بالماء الذي أنزلناه من السماء من غذاء الأنعام والبهائم والطير والوحشس, وأرزاق بني آدم وأقواتهم ما يتغذّون به ويأكلونه فينبتون عليه وينمون.
وإنما معنى قوله: فَأخْرَجْنَا بِهِ نَباتَ كُلّ شَيْءٍ: فأخرجنا به ما ينبت به كلّ شيء وينمو عليه ويصلح. ولو قيل معناه: فأخرجنا به نبات جميع أنواع النبات فيكون كلّ شيء هو أصناف النبات, كان مذهباً وإن كان الوجه الصحيح هو القول الأوّل.
وقوله: فأخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً يقول: فأخرجنا منه يعني من الماء الذي أنزلناه من السماء خضراً رطباً من الزرع والخَضِرُ: هو الأخضر, كقول العرب: أرنيها نَمرَةً أُرِكْها مَطِرَةً, يقال: خَضِرَت الأرضُ خَضَراً وَخَضارة, والخضر: رطب البقول, ويقال: نخلة خضيرة: إذا كانت ترمي ببسرها أخضر قبل أن ينضج, وقد اختُضر الرجل واغتضر: إذا مات شابّا مصححاً, ويقال: هو لك خضراً مضراً: أي هنيئاً مريئاً. قوله: نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّا مُتَرَكِباً يقول: نخرج من الخضر حبّا, يعني: ما في السنبل, سنبل الحنطة والشعير والأرز, وما أشبه ذلك من السنابل التي حبها يركب بعضه بعضاً.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
10708ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قوله: مِنْه خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّا مُتَرَاكِباً فهذا السنبل.
القول في تأويل قوله تعالى: وَمِنَ النّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ.
يقول تعالى ذكره: ومن النخل من طلعها قنوان دانية ولذلك رفعت «القنوان». والقنوان: جمع قِنْو, كما الصنوان: جمع صِنْو, وهو العِذْق, يقال للواحد: هو قِنو وقُنْو وقَنَا: يثنى قِنوانِ, ويجمع قِنوانٌ وقُنْوانٌ, قالوا في جمع قليله: ثلاثة أقناء, والقِنْوان: من لغة الحجاز, والقنوان: من لغة قيس وقال امرؤ القيس:
فأثّتْ أعالِيهِ وآدَتْ أُصُولُهُوَمالَ بِقِنْوَانٍ مِنَ البُسْرِ أحْمَرَا وقنيان جميعاً وقال آخر: لَهَا ذَنَبٌ كالْقِنْوِ قَدْ مَذِلَتْ بِهِوأسْحَمَ للتّخْطارِ بَعْدَ التّشَذّرِ
وتميم تقول: قنيان بالياء. ويعني بقوله: «دانية»: قريبة متهدلة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
10709ـ حدثنا المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس: قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ يعني بالقنوان الدانية: قصار النخل لاصقة عذوقها بالأرض.
10710ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: مِنْ طَلْعِها قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ قال: عذوق متهدلة.
حدثنا محمد بن الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ يقول: متهدلة.
10711ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا وكيع, وحدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبي إسحاق, عن البراء, في قوله: قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ قال: قريبة.
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوري, عن أبي إسحاق, عن البراء بن عازب: قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ قال: قريبة.
حدثني محمد بن سعيد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: وَمِنَ النّخْلِ مِنْ طَلُعِها قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ قال: الدانية لتهدّل العذوق من الطلع.
10712ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ, قال: حدثنا عبيد بن سليمان, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: وَمِنَ النّخْلِ مِنْ طَلْعها قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ يعني: النخل القصار الملتزقة بالأرض, والقنوان: طلعه.
القول في تأويل قوله تعالى: وَجَنّاتٍ مِنْ أعْنَابٍ والزّيْتُونَ والرّمّانِ مُشْتَبِهاً وَغيرَ مُتَشابِه.
يقول تعالى ذكره: وأخرجنا أيضاً جنات من أعناب, يعني: بساتين من أعناب.
واختلف القرّاء في قراءة ذلك, فقرأه عامة القرّاء: وَجَنّاتٍ نصباً, غير أن التاء كسرت لأنها تاء جمع المؤنث, وهي تخفض ي موضع النصب. وقد:
10713ـ حدثني الحارث, قال: حدثنا القاسم بن سلام, عن الكسائي, قال: أخبرنا حمزة, عن الأعمش, أنه قرأ: وَجَنّاتٍ مِنْ أعْنَابٍ بالرفع, فرفع «جنات» على إتباعها «القنوان» في الإعراب, وإن لم تكن من جنسها, كما قال الشاعر:
ورأيْت زَوْجَكِ في الوَغَىمُتَقَلّداً سَيْفاً وَرُمْحَا
والقراءة التي لا أتجيز أن يُقرأ ذلك إلا بها النصب وَجَنّاتٍ مِنْ أعْنَابٍ لإجماع الحجة من القرّاء على تصويبها والقراءة بها ورفضهم ما عداها, وبُعْد معنى ذلك من الصواب إذ قرىء رفعاً. وقوله: والزّيْتُونَ والرّمّانِ عطف بالزيتون على «الجنات» بمعنى: وأخرجنا الزيتون والرمان مشتبهاً وغير متشابه.
وكان قتادة يقول في معنى مُشْتَبِهاً وَغيرَ مُتَشابِه ما:
10714ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَجَنّاتٍ مِنْ أعْنَابٍ والزّيْتُونَ والرّمّانِ مُشْتَبِهاً وَغيرَ مُتَشابِه قال: مشتبهاً ورقه, مختلفاً تمره.
وجائز أن يكون مراداً به: مشتبهاً في الخلق مختلفاً في الطعم ومعنى الكلام: وشجر الزيتون والرمان, فاكتفى من ذكر الشجر بذكر ثمره, كما قيل: وَاسأل القَرْيَةَ فاكتفى بذكر القرية من ذكر أهلها, لمعرفة المخاطبين بذلك بمعناه.
القول في تأويل قوله تعالى: انْظُرُوا إلى ثَمَرِهِ إذَا أثْمَرَ وَيَنْعِهِ.
اختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة وبعض أهل البصرة: انْظُرُوا إلى ثَمَرِهِ بفتح الثاء والميم, وقرأه بعض قراء أهل مكة وعامة قرّاء الكوفيين: إلى ثُمُرِهِ بضم الثاء والميم. فكأنّ من فتح الثاء والميم من ذلك وجّه معنى الكلام: انظروا إلى ثمر هذه الأشجار التي سمينا من النخل والأعناب والزيتون والرمان إذا أثمر وأن الثّمَر جمع ثمرة, كما القَصَب جمع قصبة, والخشب جمع خشبة. وكأن من ضمّ الثاء والميم, وجه ذلك إلى أنه جمع ثمار, كما الحُمُر جمع حمار, والجُرُب جمع جراب. وقد:
10715ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد, عن ابن إدريس, عن الأعمش, عن يحيى بن وثاب, أنه كان يقرأ: «إلى ثُمُرِهِ» يقول: هو أصناف المال.
10716ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, حدثنا بن أبي حماد, قال: حدثنا محمد بن عبيد الله, عن قيس بن سعد, عن مجاهد, قال الثّمُر: هو المال, والثّمَر: ثمر النخل.
وأولى القراءتين في ذلك عند بالصواب, قراءة من قرأ: انْظُرُوا إلى ثُمُرِهِ بضمّ الثاء والميم, لأن الله جلّ ثناؤه وصف أصنافاً من المال, كما قال يحيى بن وثاب. وكذلك حبّ الزرع المتراكب, وقنوان النخل الدانية, والجنات من الأعناب والزيتون والرمان, فكان ذلك أنواعاً من الثمر, فجمعت الثمرة ثَمراً ثم جمع الثمر ثماراً, ثم جمع ذلك فقيل: «انظروا إلى ثُمُره», فكان ذلك جمع الثمار, والثمار جمع الثمرة, وإثماره: عقد الثمر.
وأما قوله: وَيَنْعِهِ فإنه نضجه وبلوغه حين يبلغ. وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يقول في «يَنْعِهِ» إذا فتحت ياؤه: هو جمع يانع, كما التّجْر: جمع تاجر, والصّحْب: جمع صاحب. وكان بعض أهل مكة ينكر ذلك ويرى أنه مصدر, من قولهم: ينع الثمر فهو يَيْنَع يَنْعاً, ويحكي في مصدره عن العرب لغات ثلاثاً: يَنْع, ويُنْعٌ, ويَنَع, وكذلك في النّضْج النّضْج والنّضَج.
وأما في قراءة من قرأ ذلك: «ويَانِعِهِ» فإنه يعني به: وناضجه وبالغه وقد يجوز في مصدره ينُوعاً, ومسموع عند العرب: أينعت الثمرة تونع إيناعاً ومن لغة اللذين قالوا يَنَع, قول الشاعر:
فِي قِبابٍ عِنْدَ دَسْكَرَةٍحَوْلَهَا الزّيْتُونُ قَدْ يَنَعا
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
10717ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ويَنْعِهِ يعني: إذا نضج.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: انْطُرُوا إلى ثَمَرِهِ إذَا أثْمَرَ وَيَنْعِهِ قال: ينعه: نضجه.
10718ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: انْظُرُوا إلى ثَمَرِهِ إذَا أثْمَرَ ويَنْعِهِ أي نضجه.
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, في قوله: وَيَنْعِهِ قال: نضجه.
10719ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: ويَنْعِهِ يقول: ونضجه.
10720ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ, قال: حدثنا عبيد بن سليمان, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: وَيَنْعِهِ قال: يعني: نضجه.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عباس: وَيَنْعِهِ قال: نضجه.
القول في تأويل قوله تعالى: إنّ فِي ذَلكَ لاَياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.
يقول تعالى ذكره: إن في إنزال الله تعالى من السماء الماء الذي أخرج به نبات كلّ شيء, والخضر الذي أخرج منه الحبّ المتراكب, وسائر ما عدّد في هذه الاَية من صنوف خلقه لاَيَاتٍ يقول: في ذلكم أيها الناس إذا أنتم نظرتم إلى ثمره عند عقد ثمره, وعند ينعه وانتهائه, فرأيتم اختلاف أحواله وتصرّفه في زيادته ونموّه, علمتم أن له مدبراً ليس كمثله شيء, ولا تصلح العبادة إلاّ له دون الاَلهة والأنداد, وكان فيه حجج وبرهان وبيان لَقوْمٍ يُؤْمِنُونَ يقول: لقوم يصدّقون بوحدانية الله وقدرته على ما يشاء. وخصّ بذلك تعالى ذكره القوم الذين يؤمنون, لأنهم هم المنتفعون بحجج الله والمعتبرون بها, دون من قد طبع على قلبه فلا يعرف حقّا من باطل ولا يتبين هدى من ضلالة.
الآية : 100
القول في تأويل قوله تعالى:
{وَجَعَلُواْ للّهِ شُرَكَآءَ الْجِنّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىَ عَمّا يَصِفُونَ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه: وجعل هؤلاء العادلون بربهم الاَلهة والأنداد لله شُرَكَاءَ الجِنّ كما قال جلّ ثناؤه: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وبينَ الجِنّةِ نَسَباً. وفي الجنّ وجهان من النصب: أحدهما أن يكون تفسيراً للشركاء, والاَخرة: أن يكون معنى الكلام: «وجعلوا لله الجنّ شركاء وهو خالقهم».
واختلفوا في قراءة قوله: وَخَلَقَهُمْ فقرأته قرّاء الأمصار: وَخَلَقَهُمْ على معنى أن الله خلقهم منفردّا بخلقه إياهم. وذكر عن يحيى بن يعمر ما:
10721ـ حدثني به أحمد بن يوسف, قال: حدثنا القاسم بن سلام, قال: حدثنا حجاج, عن هارون, عن واصل مولى أبي عيينة, عن يحيى بن عقيل, عن يحيى بن يعمر, أنه قال: «شُرَكَاءَ الجِنّ وخَلْقَهُمْ»
بجزم اللام بمعنى أنهم قالوا: إن الجنّ شركاء لله في خلقه إيانا.
وأولى القراءتين بالصواب قراءة من قرأ ذلك وَخَلَقَهُمْ لإجماع الحجة من القرّاء عليها.
وأما قوله: وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بغيرِ عِلْم فإنه يعني بقوله: خَرَقُوا اختلقوا, يقال: اختلق فلان على فلان كذباً واخترقه: إذا افتعله وافتراه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك.
10722ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: وَجَعَلُوا لِلّهِ شُرَكَاءَ الجِنّ والله خلقهم وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ يعني أنهم تخرّصوا.
10723ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بغيرِ عِلْمٍ قال: جعلو له بنين وبنات بغير علم.
10724ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بغيرِ عِلْم قال: كذبوا.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
10725ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَجَعَلُوا لِلّهِ شُرَكَاءَ الجِنّ كذَبوا, سبحانه وتعالى عما يصفون عما يكذّبون أما العرب فجعلوا له البنات ولهم ما يشتهون من الغلمان, وأما اليهود فجعلوا بينه وبين الجنة نسباً, ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون.
10726ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بغيرِ عِلْمٍ قال: خرصوا له بنين وبنات.
10727ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بغيرِ عِلْمٍ يقول: قطعوا له بنين وبنات, قالت العرب: الملائكة بناة الله, وقالت اليهود والنصارى: المسيح وعزيز ابنا الله.
10728ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بغيرِ عِلْمٍ قال: خرقوا: كذبوا لم يكن لله بنون ولا بنات, قالت النصارى: المسيح ابن الله, وقال المشركون: الملائكة بنات الله, فكلّ خرقوا الكذب. وخرقوا: اخترقوا.
10729ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قوله: وَجَعَلُوا لِلّهِ شُرَكَاءَ الجِنّ قال: قول الزنادقة. وَخَرَقُوا لَهُ قال ابن جريج: قال مجاهد: خرقوا: كذبوا.
10730ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو أسامة, عن جويبر, عن الضحاك: وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ قال: وصفوا له.
10731ـ حدثنا عمران بن موسى, قال: حدثنا عبد الوارث, عن أبي عمر: وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ قال: تفسيرها: وكذبوا.
فتأويل الكلام إذن: وجعلو لله الجنّ وشركاء في عبادتهم إياه, وهو المنفر, بخلقهم بغير شريك ولا معين ولا ظهير. وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ يقول: وتخرّصوا لله كذباً, فافتعلوا له بنين وبنات بغير علم منهم بحقيقة ما يقولون, ولكن جهلاً بالله وبعظمته وأنه لا ينبعي لمن كان إلهاً أن يكون له بنون وبنات ولا صاحبة, ولا أن يشركه في خلقه شريك.
القول في تأويل قوله تعالى: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمّا يَصِفُونَ.
يقول تعالى ذكره: تنزّه الله وعلا فارتفع عن الذي يصفه به هؤلاء الجهلة من خلقه في ادّعائهم له شركاء من الجنّ واختراقهم له بنين وبنات وذلك لا ينبغي أن يكون من صفته لأن ذلك من صفة خلقه الذين يكون منهم الجماع الذي يحدث عنه الأولاد, والذين تضطرّهم لضعفهم الشهوات إلى اتخاذ الصاحبة لقضاء اللذّات, وليس الله تعالى ذكره بالعاجز فيضطره شيءٌ إلى شيءٍ, ولا بالضعيف المحتاج فتدعوه حاجته إلى النساء إلى اتخاذ صاحبة لقضاء لذّة. وقوله: تَعَالَى تفاعل من العلوّ والارتفاع. ورُوِي عن قتادة في تأويل قوله: عَمّا يَصِفُونَ أنه يكذّبون.
10732ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمّا يَصِفُونَ عما يكذبون.
وأحسب أن قتادة عنى بتأويله ذلك كذلك, أنهم يكذبون في وصفهم الله بما كانوا يصفونه من ادّعائهم له بنين وبنات, لا أنه وجه تأويل الوصف إلى الكذب.
الآية : 101
القول في تأويل قوله تعالى:
{بَدِيعُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنّىَ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
يقول تعالى ذكره: الله الذي جعل هؤلاء الكفرة به له الجنّ شركاء وخرقوا له بنين وبنات بغير علم, بَدِيعُ السّمَواتِ والأَرْضِ يعني مبتدعها ومحدثها وموجدها بعد أن لم تكن. كما:
10733ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: بَدِيعُ السّمَوَاتِ والأرْضِ قال: هو الذي ابتدع خلقهما جلّ جلاله فخلقهما ولم تكونا شيئاً قبله.
أنّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلمْ تَكُنْ لَهْ صَاحِبَةٌ والولد إنما يكون من الذكر من الأنثى, ولا ينبغي أن يكون لله سبحانه صاحبة فيكون له ولد وذلك أنه هو الذي خلق كل شيء. يقول: فإذا كان لا شيء إلاّ الله خلقه, فأنى يكون لله ولد ولم تكن له صاحبة فيكون له منها ولد
القول في تأويل قوله تعالى: وَخَلقَ كُلّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
يقول تعالى ذكره: والله خلق كلّ شيء ولا خالق سواه, وكلّ ما تدّعون أيها العادلون بالله الأوثان من دونه خلقه وعبيده, ملكاً كان الذي تدعونه ربّا وتزعمون أنه له ولد أو جنيّا أو إنسيّا.
وَهُوَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يقول: والله الذي خلق كلّ شيء, لا يخفى عليه ما خلق ولا شيء منه, ولا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء, عالم بعددكم وأعمالكم وأعمال من دعوتموه ربّا أو لله ولداً, وهو محصيها عليكم وعليهم حتى يجازي كلاّ بعمله