تفسير الطبري تفسير الصفحة 149 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 149
150
148
 الآية : 152
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتّىَ يَبْلُغَ أَشُدّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىَ وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ }.
يعني جلّ ثناؤه بقوله: ولاَ تَقْرَبُوا مالَ اليَتِيم إلاّ بالتي هي أحْسَن ولا تقربوا ماله إلا بما فيه صلاحه وتثميره. كما:
11078ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا الحماني, قال: حدثنا شريك, عن ليث, عن مجاهد: وَلا تَقْرَبُوا مالَ اليَتيمِ إلاّ بالتي هِيَ أحْسَنُ قال: التجارة فيه.
11079ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وَلا تَقْرَبُوا مالَ اليَتِيمِ إلاّ بالتي هِيَ أحْسَنُ فليثمّر ماله.
11080ـ حدثني الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا فضيل بن مرزوق العنزي, عن سليط بن بلال, عن الضحاك بن مزاحم, في قوله: وَلا تَقْرَبُوا مالَ اليَتِيم إلاّ بالتي هِيَ أحْسَنُ قال: يبتغي له فيه, ولا يأخذ من ربحه شيئا.
11081ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَلا تَقْرَبُوا مالَ اليَتِيمِ إلاّ بالتي هيَ أحْسَنُ قال: التي هي أحسن: أن يأكل بالمعروف إن افتقر, وإن استغنى فلا يأكل قال الله: وَمَنْ كانَ غَنِيّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيرا فَليْأْكُلْ بالمَعْرُوف. قال: وسئل عن الكسوة فقال: لم يذكر الله الكسوة إنما ذكر الأكل.
وأما قوله: حتى يَبْلُغَ أشُدّهُ فإن الأشدّ جمع شدّ, كما الأضرّ جمع ضرّ, وكما الأشرّ جمع شرّ. والشدّ: القوّة, وهو استحكام قوّة شبابه وسنه, كما شدّ النهار ارتفاعه وامتداده, يقال: أتيته شدّ النهار ومدّ النهار, وذلك حين امتداده وارتفاعه وكان المفضل فيما بلغني ينشد بيت عنترة:
عَهْدِي بِه شَدّ النّهار كأنّمَاخُضِبَ اللّبانُ ورأسُهُ بالعِظْلِم
ومنه قول الاَخر:
يُطِيفُ بِهِ شَدّ النّهار ظَعِينَةٌطَويلَةُ أنْقاء اليَدَيْن سَحُوقُ
وكان بعص البصريين يزعم أن الأشدّ اسم مثل الاَنك. فأما أهل التأويل فإنهم مختلفون في الحين الذي إذا بلغه الإنسان قيل بلغ أشدّه, فقال بعضهم: يقال ذلك له إذا بلغ الحلم. ذكر من قال ذلك:
11082ـ حدثني أحمد بن عبد الرحمن, قال: حدثنا عمي, قال: أخبرني يحيى بن أيوب, عن عمرو بن الحرث, عن ربيعة, في قوله: حتى يَبْلُغَ أشُدّهُ قال: الحلم.
11083ـ حدثني أحمد بن عبد الرحن, قال: حدثنا عمي, قال: ثني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, عن أبيه, مثله. قال ابن وهب: وقال لي مالك مثله.
11084ـ حُدثت عن الحماني, قال: حدثنا هشيم, عن مجاهد, عن عامر: حتى يَبْلُغَ أشُدّهُ قال: الأشدّ: الحلم, حيث تكتب له الحسنات وتكتب عليه السيئات.
وقال آخرون: إنما يقال ذلك له إذا بلغ ثلاثين سنة. ذكر من قال ذلك:
11085ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: حتى يَبْلُغَ أشُدّهُ قال: أما أشدّه: فثلاثون سنة, ثم جاء بعدها: حتى إذَا بَلَغُوا النّكاحَ.
وفي الكلام محذوف ترك ذكره اكتفاء بدلالة ما ظهر عما حذف. وذلك أن معنى الكلام: ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن, حتى يبلغ أشدّه, فإذا بلغ أشده فآنستم منه رشدا فادفعوا إليه ماله. لأنه جلّ ثناؤه لم ينه أن يُقرَب مال اليتيم في حال يتمه إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشدّه ويحلّ لوليه بعد بلوغه أشدّه أن يرقبه بالتي هي أسوأ, ولكنه نهاهم أن يقربوا حياطة منه له وحفظا عليه ليسلموه إليه إذا بلغ أشدّه.
القول في تأويل قوله تعالى: وأوْفُوا الكَيْلَ والمِيزَانَ بالقِسْطِ لا نُكَلّفُ نَفْسا إلاّ وُسعَها.
يقول تعالى ذكره: قل تعالوا أتل ما حرّم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا, وأن أوفوا الكيل والميزان, يقول: لا تبخسوا الناس الكيل إذا كلتوهم والوزن إذا وزنتموهم, ولكن أوفوهم حقوقهم وإيفاؤهم ذلك: إعطاوهم حقوقهم تامّة بالقسط, يعني: بالعدل. كما:
11086ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: بالقِسْطِ بالعدل.
وقد بيّنا معنى القسط بشواهده فيما مضى وكرهنا إعادته.
وأما قوله: لا نُكَلّفُ نَفْسا إلا وُسْعَها فإنه يقول: لا نكلف نفسا من إيفاء الكيل والوزن إلا ما يسعها, فيحلّ لها, ولا تحرَج فيه. وذلك أن الله جلّ ثناؤه علم من عباده أن كثيرا منهم تضيق نفسه عن أن تطيب لغيره بما لا يجب عليها له, فأمر المعطى بإيفاء ربّ الحقّ حقه الذي هو له ولم يكلفه الزيادة لما في الزيادة عليه من ضيق نفسه بها, وأمر الذي له الحقّ بأخد حقه ولم يكلفه الرضا بأقلّ منه, لما في النقصان عنه من ضيق نفسه, فلم يكلف نفسا منهما إلا ما لا حرج فيه ولا ضيق, فلذلك قال: لا نُكَلّفُ نَفْسا إلاّ وُسْعَها. وقد استقصينا بيان ذلك بشواهده في موضع غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته.
القول في تأويل قوله تعالى: وَإذَا قُلْتُمْ فاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أوْفُوا ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ.
يعني تعالى ذكره بقوله: وَإذَا قُلْتُمْ فاعْدِلُوا: وإذا حكمتم بين الناس فتكلمتم, فقولوا الحقّ بينهم, واعدلوا وأنصفوا ولا تجوروا ولو كان الذي يتوجه الحقّ عليه والحكم ذا قرابة لكم, ولا يحملنكم قرابة قريب أو صداقة صديق حكمتم بينه وبين غيره, أن تقولوا غير الحقّ فيما احتكم إليكم فيه. وَبِعَهْدِ اللّهِ أوْفُوا يقول: وبوصية الله التي أوصاكم بها فأوفوا وإيفاء ذلك أن يطيعوه فيما أمرهم به ونهاهم, وأن يعملوا بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, وذلك هو الوفاء بعهد الله.
وأما قوله: ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل للعادلين بالله الأوثان والأصنام من قومك: هذه الأمور التي ذكرت لكم في هاتين الاَيتين, هي الأشياء التي عهد إلينا ربنا ووصاكم بها ربكم وأمركم بالعمل بها, لا بالبحائر والسوائب والوصائل والحام وقتل الأولاد ووأد البنات واتباع خطوات الشيطان. لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ يقول: أمركم بهذه الأمور التي أمركم بها في هاتين الاَيتين ووصاكم بها وعهد إليكم فيها, لتتذكروا عواقب أمركم بهذه الأمور التي أمركم بها في هاتين الاَيتين, ووصاكم بها وعهد إليكم فيها, لتتذكروا عواقب أمركم وخطأ ما أنتم عليه مقيمون, فتنزجروا عنها وترتدعوا وتنيبوا إلى طاعة ربكم. وكان ابن عباس يقول: هذه الاَيات هنّ الاَيات المحكمات.
11087ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن عليّ بن صالح, عن أبي إسحاق, عن عبد الله بن قيس, عن ابن عباس, قال: هنّ الاَيات المحمات, قوله: قُلْ تَعالُوْا أتْلُ ما حَرّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ أنْ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيئْا.
11088ـ حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار, قالا: حدثنا وهب بن جرير, قال: حدثنا أبي, قال: سمعت يحيى بن أيوب, يحدّث عن يزيد بن أبي حبيب, عن مرثد بن عبد الله, عن عبيد الله بن عديّ بن الخيار, قال: سمع كعب الأحبار رجلاً يقرأ: قُلْ تَعالَوْا أتْلُ ما حَرّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ فقال: والذي نفس كعب بيده, إن هذا لأوّل شيء في التوراة «بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ قُلْ تَعالَوْا أتْلُ ما حَرّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ».
11089ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن أبيه, عن سعيد بن مسروق, عن رجل, عن الربيع بن خيثم أنه قال لرجل: هل لك في صحيفة عليها خاتم محمد؟ ثم قرأ هؤلاء الاَيات: قُلْ تَعَالُوا أتْلُ ما حَرّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ أنْ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا إسحاق الرازي, عن أبي سنان, عن عمرو بن مرّة, قال: قال الربيع: ألا أقرأ عليكم صحيفة من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لم يقل خاتمها. فقرأ هذه الاَيات: قُلْ تَعالَوْا أتْلُ ما حَرّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ.
11090ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا جرير, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة, قال: جاء إليه نفر فقالوا: قد جالست أصحاب محمد فحدّثنا عن الوحي فقرأ عليهم هذه الاَيات من الأنعام: قُلْ تَعالَوْا أتْلُ ما حَرّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ أنْ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا قالوا: ليس عن هذا نسألك قال: فما عندنا وحي غيره.
11091ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: قال: هؤلاء الاَيات التي أوصى بها من محكم القرآن.
11092ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَإذَا قُلْتُمْ فاعْدِلُوا قال: قولوا الحقّ.
الآية : 153
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنّ هَـَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتّبِعُوهُ وَلاَ تَتّبِعُواْ السّبُلَ فَتَفَرّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ }.
يقول تعالى ذكره: وهذا الذي وصاكم به ربكم أيها الناس في هاتين الاَيتين من قوله: قُلْ تَعَالَوْا أتْلُ ما حَرّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ وأمركم بالوفاء به, هو صراطه, يعني طريقه ودينه الذي ارتضاه لعباده. مُسْتَقِيما يعني: قويما لا اعوجاج به عن الحقّ. فاتّبِعُوهُ يقول: فاعملوا به, واجعلوه لأنفسكم منهاجا تسلكونه فاتبعوه. وَلا تَتّبِعُوا السّبُلَ يقول: ولا تسلكوا طريقا سواه, ولا تركبوا منهجا غيره, ولا تبغوا دينا خلافه من اليهودية والنصرانية والمجوسية وعبادة الأوثان وغير ذلك من الملل, فإنها بدع وضلالات. فَتَفَرّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ يقول: فيشتت بكم إن اتبعتم السبل المحدثة التي ليست لله بسبل ولا طلاق ولا أديان, اتباعكم عن سبيله, يعني: عن طريقه ودينه الذي شرعه لكم وارتضاه, وهو الإسلام الذي وصّى به الأنبياء وأمر به الأمم قبلكم. ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ يقول تعالى ذكره: هذا الذي وصاكم به ربكم من قوله لكم: إنّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيما فاتّبِعُوهُ وَلا تَتّبِعُوا السّبُلَ وصاكم به لعلكم تتقون, يقول: لتتقوا الله في أنفسكم فلا تهلكوها, وتحذروا ربكم فيها فلا تسخطوه عليها فيحلّ بكم نقمته وعذابه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
11093ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: وَلا تَتّبِعُوا السّبُلَ فَتَفَرّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ قال: البدع والشبهات.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو أسامة, عن شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: وَلا تَتّبِعُوا السّبُلَ: البدع والشبهات.
11094ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: حدثنا معاوية, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: فاتّبِعُوهُ وَلا تَتّبِعُوا السّبُلَ فَتَفَرّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ, وقوله: وأقِيمُوا الدّينَ وَلا تَتَفَرّقُوا فِيهِ ونحو هذا في القرآن, قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والفرقة, وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله.
11095ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ولاَ تَتّبِعُوا السّبُلَ فَتَفَرّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ يقول: لا تتبعوا الضلالات.
11096ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا الحماني, قال: حدثنا حماد, عن عاصم, عن أبي وائل, عن عبد الله, قال: خطّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطّا, فقال: «هَذَا سَبِيلُ اللّهِ» ثم خطّ عن يمين ذلك الخطّ وعن شماله خطوطا, فقال: «هَذِهِ سُبُلٌ على كُلّ سَبِيلٍ مِنْها شَيْطَانٌ يَدْعُوا إلَيْها». ثم قرأ هذه الاَية: وأنّ هَذَا صِرَاطي مُسْتَقِيما فاتّبِعُوهُ وَلا تَتّبِعُوا السّبُلَ فَتَفَرّقَ بكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ.
11097ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: وَأنّ هَذَا صِرَاطي مُسْتَقِيما فاتّبِعُوهُ وَلا تَتّبِعُوا السّبُلَ فَتَفَرّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ: الإسلام, وصراطه: الإسلام. نهاهم أن يتبعوا السبل سواه, فَتَفَرّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ: عن الإسلام.
11098ـ حدثني محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن أبان: أن رجلاً قال لابن مسعود: ما الصراط المستقيم؟ قال: تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه, وطرفه في الجنة, وعن يمينه جوادّ, وعن يساره جوادّ, وثمّ رجال يدعون من مرّ بهم, فمن أخذ في تلك الجوادّ انتهت به إلى النار, ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة. ثم قرأ ابن مسعود: وَأن هَذَا صِرَاطي مُسْتَقِيما... الاَية.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: وَأنّ هَذَا صِرَاطي مُسْتَقِيما فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين: وأنّ بفتح الألف من «أن, وتشديد النون, ردّا على قوله: أنْ لا تُشْركُوا بِهِ شَيْئا بمعنى: قل تعالوا أتل ما حرّم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا, وأن هذا صراطي مستقيما. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين: «وَإنّ» بكسر الألف من «إن», وتشديد النون منها على الابتداء وانقطاعها عن الأول, إذ كان الكلام قد انتهى بالخبر عن الوصية التي أوصى الله بها عباده دونه عندهم.
والصواب من القول في ذلك عندي: أنهما قراءتان مستفيضتان في قرّاء الأمصار وعوامّ المسلمين صحيح معنياهما, فبأيّ القراءتين قرأ القارىء فهو مصيب الحقّ في قراءته. وذلك أن الله تعالى ذكره قد أمر باتباع سبيله, كما أمر عباده بالأشياء. وإن أدخل ذلك مدخل فيما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين: تَعالَوْا أتْلُ ما حَرّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ وما أمركم به, ففتح على ذلك «أن» فمصيب. وإن كسرها إذ كانت «التلاوة» قولاً وإن كان بغير لفظ القول لبعدها من قوله: «أتل», وهو يريد إعمال ذلك فيه فمصيب. وإن كسرها بمعنى ابتداء وانقطاع عن الأوّل «والتلاوة», وأن ما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بتلاوته على من أمر بتلاوة ذلك عليهم قد انتهى دون ذلك, فمصيب. وقد قرأ ذلك عبد الله بن أبي إسحاق البصريّ: «وأنْ» بفتح الألف من «أن», وتخفيف النون منها, بمعنى: قل تعالوا أتل ما حرّم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا, وأن هذا صراطي فخففها إذ كانت «أن» في قوله: أنْ لا تُشْركُوا بِهِ شَيْئا مخففة, وكانت «أن» في قوله: وأنّ هَذَا صِرَاطي معطوفة عليها, فجعلها نظيرة ما عطفت عليه. وذلك وإن كان مذهبا, فلا أحبّ القراءة به لشذوذها عن قراءة قرّاء الأمصار وخلاف ما هم عليه في أمصارهم.
الآية : 154
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لّعَلّهُمْ بِلِقَآءِ رَبّهِمْ يُؤْمِنُونَ }.
يعني جلّ ثناؤه بقوله: ثُمّ آتَيْنا مُوسَى الكِتابَ ثم قل بعد ذلك يا محمد: آتى ربك موسى الكتاب. فترك ذكر «قل», إذ كان قد تقدم في أوّل القصة ما يدلّ على أنه مراد فيها, وذلك قوله: قُلْ تَعالَوْا أتْلُ ما حَرّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ فقصّ ما حرّم عليهم وأحلّ, ثم قال: ثم قل: آتينا موسى, فحذف «قل» لدلالة قوله: «قل» عليه, وأنه مراد في الكلام.
وإنما قلنا ذلك مراد في الكلام, لأن محمدا صلى الله عليه وسلم لا شكّ أنه بعث بعد موسى بدهر طويل وأنه إنما أمر بتلاوة هذه الاَيات على من أمر بتلاوتها عليه بعد مبعثه, ومعلوم أن موسى أوتي الكتاب من قبل أمر الله محمدا بتلاوة هذه الاَيات على من أمر بتلاوتها عليه, و«ثم» في كلام العرب حرف يدلّ على أنه ما بعده من الكلام والخبر بعد الذي قبلها.
ثم اختلف أهل التأويل في معنى قوله: تَماما على الّذِي أحْسَنَ فقال بعضهم: معناه: تماما على المحسنين. ذكر من قال ذلك:
11099ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: تماما على الّذِي أحْسَنَ قال: على المؤمنين.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن نجيح, عن مجاهد: تَماما على الّذي أحْسَنَ المؤمنين والمحسنين.
وكأن مجاهدا وجه تأويل الكلام ومعناه إلى أن الله جلّ ثناؤه أخبر عن موسى أنه آتاه الكتاب فضيلة على ما آتى المحسنين من عباده.
فإن قال قائل: فكيف جاز أن يقال: على الّذِي أحْسَنَ فيوحد «الذي», والتأويل على الذين أحسنوا؟ قيل: إن العرب تفعل ذلك خاصة في الذي وفي الألف واللام إذا أرادت به الكلّ والجميع, كما قال جلّ ثناؤه: وَالعَصْرِ إنّ الإنْسانَ لَفي خُسْرٍ وكما قالوا: أكثر الذي هم فيه في أيدي الناس. وقد ذُكِر عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرأ ذلك: «تَماما على الّذِينَ أحْسَنُوا» وذلك من قراءته كذلك يؤيد قول مجاهد. وإذا كان المعنى كذلك, كان قوله: «أحْسَنَ» فعلاً ماضيا, فيكون نصبه لذلك. وقد يجوز أن يكون «أحسن» في موضع خفض, غير أنه نصب, إذ كان «أفعل», و«أفعل» لا يجرى في كلامها. فإن قيل: فبأيّ شيء خفض؟ قيل: ردّا على «الذي» إذ لم يظهر له ما يرفعه. فيكون تأويل الكلام حينئذٍ: ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي هو أحسن, ثم حذف «هو», وجاور «أحسن» «الذي», فعرف بتعريفه, إذ كان كالمعرفة من أجل أن الألف واللام لا يدخلانه, «والذي» مثله, كما تقول العرب: مررت بالذي خير منك وشرّ منك, وكما قال الراجز:
إنّ الزّبَيْرِيّ الّذِي مِثْلُ الحَلَمْمَسّى بأسْلابِكُمْ أهْلَ العَلَمْ
فأتبع «مثل» «الذي» في الإعراب. ومن قال ذلك لم يقل: مررت بالذي عالم, لأن «عالما» نكرة «والذي» معرفة, ولا تتبع نكرة معرفة.
وقال آخرون: معنى ذلك: تماما على الذي أحسن موسى فيما امتحنه الله به في الدنيا من أمره ونهيه. ذكر من قال ذلك:
11100ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: ثُمّ آتَيْنا مُوسَى الكَتابَ تَمَاما على الّذِين أحْسَنَ فيما أعطاه الله.
11101ـ حدثني محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ثُمّ آتَيْنا مُوسَى الكِتابَ تَمَاما على الّذِي أحْسَنَ قال: من أحسن في الدنيا تمم الله له ذلك في الاَخرة.
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد عن قتادة قوله: ثُمّ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ تَمَاما على الّذِي أحْسَنَ يقول: من أحسن في الدنيا تمت عليه كرامته الله في الاَخرة.
وعلى هذا التأويل الذي تأوّله الربيع تماما على ما أحسن موسى, أي آتيناه الكتاب لأتمم له كرامتي في الاَخرة تماما على إحسانه في الدنيا في عبادة الله والقيام بما كلفه به من طاعته.
وقال آخرون في ذلك: معناه: ثم آتينا موسى الكتاب تماما على إحسان الله إلى أنبيائه وأياديه عندهم. ذكر من قال ذلك:
11102ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ثُمّ آتَيْنا مُوسَى الكِتابَ تمَاما على الّذِي أحْسَنَ قال: تماما من الله وإحسانه الذي أحسن إليهم وهداهم للإسلام, وآتاهم ذلك الكتاب تماما لنعمته عليه وإحسانه.
«وأحسن» على هذا التأويل أيضا في موضع نصب على أنه فعل ماض. «والذي» على هذا القول والقول الذي قاله الربيع بمعنى: «ما». وذكر عن يحيى بن يعمُر أنه كان يقرأ ذلك: «تَمَاما على الّذِي أحْسَنُ» رفعا, بتأويل: على الذي هو أحسن.
11103ـ حدثني بذلك أحمد بن يوسف, قال: حدثنا القاسم بن سلام, قال: حدثنا الحجاج, عن هارون, عن أبي عمرو بن العلاء, عن يحيى بن يعمُر.
قال أبو جعفر: وهذه قراءة لا أستجيز القراءة بها وإن كان لها في العربية وجه صحيح, لخلافها ما عليه الحجة مجمعة من قرأة الأمصار.
وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال: معناه: ثم آتينا موسى الكتاب تماما لنعمنا عنده على الذي أحسن موسى في قيامه بأمرنا ونهينا لأن ذلك أظهر معانيه في الكلام, وأن إيتاء موسى كتابه نعمة من الله عليه ومنة عظيمة, فأخبر جلّ ثناؤه أنه أنعم بذلك عليه لما سلف له من صالح عمل وحسن طاعة. ولو كان التأويل على ما قاله ابن زيد كان الكلام: ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسنّا, أو: ثم آتى الله موسى الكتاب تماما على الذي أحسن. وفي وصفه جلّ ثناؤه نفسه بإيتائه الكتاب ثم صرفه الخبر بقوله: «أحسن», إلى غير المخبر عن نفسه بقرب ما بين الخبرين, الدليل الواضح على أن القول غير القول الذي قاله ابن زيد. وأما ما ذكر عن مجاهد من توجيهه «الذي» إلى معنى الجميع فلا دليل في الكلام يدلّ على صحة ما قال من ذلك, بل ظاهر الكلام بالذي اخترنا من القول أشبه. وإذا تنوزع في تأويل الكلام كان أولى معانيه به أغلبه على الظاهر, إلا أن يكون من العقل أو الخبر دليل واضح على أنه معنىّ به غير ذلك.
وأما قوله: وَتَفْصِيلاً لِكُلّ شَيْءٍ فإنه يعني: وتبيينا لكل شيء من أمر الدين الذي أمروا به.
فتأويل الكلام إذن: ثم آتينا موسى التوراة تماما لنعمنا عنده وأيادينا قِبَله, تتمّ به كرامتنا عليه على إحسانه وطاعته ربه وقيامه بما كلفه من شرائع دينه, وتبيينا لكلّ ما لقومه وأتباعه إليه الحاجة من أمر دينهم. كما:
11104ـ حدثني بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَتَفْصِيلاً لِكُلّ شَيْءٍ فيه حلاله وحرامه.
القول في تأويل قوله تعالى: وَهُدًى وَرَحمَةً لَعَلّهُمْ بِلِقاءِ رَبّهِمْ يُؤْمِنُونَ.
يقول تعالى ذكره: آتينا موسى الكتاب تماما وتفصيلاً لكلّ شيء. وَهُدًى يعني بقوله «وهدى»: تقويما لهم على الطريق المستقيم, وبيانا لهم سبل الرشاد لئلا يضلوا. وَرَحْمَةً يقول: ورحمة منا بهم, ورأفة, لننجيهم من الضلالة وعمى الحيرة.
وأما قوله: لَعَلّهُمْ بِلِقَاءِ رَبّهِمْ يُؤْمِنُونَ فإنه يعني: إيتائي موسى الكتاب تماما لكرامة الله موسى على إحسان موسى, وتفصيلاً لشرائع دينه, وهدى لمن اتبعه ورحمة لمن كان منهم ضالاّ, لينجيه الله به من الضلالة, وليؤمن بلقاء ربه إذا سمع مواعظ الله التي وعظ بها خلقه فيه, فيرتدع عما هو عليه مقيم من الكفر به, وبلقائه بعد مماته, فيطيع ربه, ويصدّق بما جاءه به نبيه موسى صلى الله عليه وسلم.
الآية : 155
القول في تأويل قوله تعالى: {وَهَـَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتّبِعُوهُ وَاتّقُواْ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ }.
يعني جلّ ثناؤه بقوله: وَهَذا كِتابٌ أنْزَلْناهُ مُبارَكٌ وهذا القرآن الذي أنزلناه إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. كتاب أنزلناه مبارك. فاتّبِعُوهُ يقول: فاجعلوه إماما تتبعونه وتعملون بما فيه أيها الناس. وَاتّقُوا يقول: واحذروا الله في أنفسكم أن تضيعوا العمل بما فيه, وتتعدّوا حدوده, وتستحلوا محارمه. كما:
11105ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَهَذَا كِتابٌ أنْزَلْناهُ مُبارَكٌ وهو القرآن الذي أنزله الله على محمد عليه الصلاة والسلام. فاتّبِعُوهُ يقول: فاتبعوا حلاله وحرموا حرامه.
وقوله: لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ يقول: لترحموا فتنّجوا من عذاب الله وأليم عقابه.
الآية : 156
القول في تأويل قوله تعالى: {أَن تَقُولُوَاْ إِنّمَآ أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَىَ طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ }.
اختلف أهل العربية في العامل في «أن» التي في قوله: أنْ تَقُولُوا وفي معنى هذا الكلام, فقال بعض نحوّيي البصرة: معنى ذلك: ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن كراهية أن تقولوا: إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا.
وقال بعض نحويي الكوفة: بل ذلك في موضع نصب بفعل مضمر, قال: ومعنى الكلام: فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون اتقوا أن تقولوا. قال: ومثله بقول الله أن تَحْبَطَ أعْمَالُكُمْ وأنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ.
وقال آخرون منهم: هو في موضع نصب. قال: ونصبه من مكانين, أحدهما «أنزلناه لئلا يقول: إنما أنزل الكتاب على». والاَخر من قوله: اتّقوا قال: ولا يصلح في موضع أن كقوله: يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ أنْ تَضِلّوا.
وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال: نصب «أن» لتعلقها بالإنزال, لأن معنى الكلام: وهذا كتاب أنزلناه مبارك لئلا تقولوا: إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا. فأما الطائفتان اللتان ذكرهما الله, وأخبر أنه إنما أنزل كتابه على نبيه محمد, لئلا يقول المشركون: لم ينزل علينا كتاب فنتبعه, ولم نؤمر ولم ننه, فليس علينا حجة فيما نأتي ونذر, إذ لم يأت من الله كتاب ولا رسول, وإنما الحجة على الطائفتين اللتين أنزل عليهما الكتاب من قبلنا, فإنهما اليهود والنصارى.
وكذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
11106ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: أنْ تَقُولُوا إنّمَا أُنْزِلَ الكِتابُ على طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وهم اليهود والنصارى.
11107ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: أنْ تَقُولُوا إنّمَا أُنْزِلَ الكِتابُ على طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا اليهود والنصارى نخاف أن تقوله قريش.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج عن مجاهد: أنْ تَقُولُوا إنّمَا أُنْزِلَ الكِتابُ على طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلنا قال: اليهود والنصارى قال: أن تقول قريش.
11108ـ حدثنا بشر,قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: أنْ تَقُولُوا إنّما أُنْزِلَ الكِتابُ على طائفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وهم اليهود والنصارى.
11109ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: إنّمَا أُنْزِلَ الكِتابُ على طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا أما الطائفتان: فاليهود والنصارى.
وأما وَإنْ كُنّا عَنْ دِرَاستِهِمْ لغَافِلِينَ فإنه يعني: أن تقولوا: وقد كنا عن تلاوة الطائفتين الكتاب الذي أنزلت عليهم غافلين, لا ندري ما هي, ولا نعلم ما يقرءون وما يقولون وما أنزل إليهم في كتابهم, لأنهم كانوا أهله دوننا, ولم نعن به, ولم نؤمر بما فيه, ولا هو بلساننا, فيتخذوا ذلك حجة. فقطع الله بانزاله القرآن على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم حجتهم تلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
11110ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس: وَإنْ كُنّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغافِلِينَ يقول: وإن كنا عن تلاوتهم لغافلين.
11111ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَإنْ كُنّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أي عن قراءتهم.
11112ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: وَإنْ كُنّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغافِلِينَ قال: الدراسة: القراءة والعلم وقرأ: وَدَرَسُوا ما فِيهِ قال: علموا ما فيه لم يأتوه بجهالة.
11113ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وَإنْ كُنّا عَنْ دِرَاسَتهمْ لَغافِلينَ يقول: وإن كنا عن قراءتهم لغافلين لا نعلم ما هي.
الآية : 157
القول في تأويل قوله تعالى: {أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنّآ أَهْدَىَ مِنْهُمْ فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيّنَةٌ مّن رّبّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمّن كَذّبَ بِآيَاتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوَءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ }.
يقول تعالى ذكره: وهذا كتاب أنزلناه مبارك, لئلا يقول المشركون من عبدة الأوثان من قريش: إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا, أو لئلا يقولوا: لَوْ أنّا أنْزِلَ عَلَيْنا الكِتابَ كما أنزل على هاتين الطائفتين من قبلنا, فأمرنا فيه ونهينا, وبَيّن لنا فيه خطأ ما نحن فيه من صوابه. لَكُنّا أهْدَى مِنْهُمْ: أي لكنا أشدّ استقامة على طريق الحقّ واتباعا للكتاب, وأحسن عملاً بما فيه من الطائفتين اللتين أنزل عليهما الكتاب من قبلنا. يقول الله: فَقَدْ جاءَكُمْ بَيّنَةٌ مِنْ رَبّكُمْ يقول: فقد جاءكم كتاب بلسانكم عربيّ مبين, حجة عليكم واضحة بينة من ربكم. وَهُدًى يقول: وبيان للحقّ, وفرقان بين الصواب والخطأ. وَرَحْمَةً لمن عمل به واتبعه. كما:
11114ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: أوْ تَقُولُوا لَوْ أنّا أُنْزِلَ عَلَيْنا الكَتابُ لَكُنّا أهدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيّنَةٌ مِنْ رَبّكُمْ يقول: قد جاءكم بينة لسان عربيّ مبين, حين لم تعرفوا دراسة الطائفتين, وحين قلتم: لو جاءنا كتاب لكنا أهدى منهم.
11115ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: أوْ تَقُولُوا لَوْ أنّا أُنْزِلَ عَلَيْنا الكِتابُ لَكُنّا أهْدَى مِنْهُمْ فهذا قول كفار العرب, فَقَدْ جاءَكُمْ بَيّنَةٌ مِنْ رَبّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ.
القول في تأويل قوله تعالى: فَمَنْ أظْلَمُ مِمّنْ كَذّبَ بآياتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجزْي الّذِينَ يَصْدِفُونَ.
يقول جلّ ثناؤه: فمن أخطأُ فعلاً وأشدّ عدوانا منكم أيها المشركون, المكذّبون بحجج الله وأدلته وهي آياته. وَصَدَفَ عَنْها يقول: وأعرض عنها بعد ما أتته, فلم يؤمن بها ولم يصدّق بحقيقتها. وأخرج جلّ ثناؤه الخبر بقوله: فَمَنْ أظْلَمُ مِمّنْ كَذّبَ بآياتِ اللّهِ مخرج الخبر عن الغائب, والمعنّى به المخاطبون به من مشركي قريش.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: وَصَدَفَ عَنْها قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
11116ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: وَصَدَفَ عَنْها يقول: أعرض عنها.
11117ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا: يعرضون عنها, والصدف: الإعراض.
11118ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَصَدَفَ عَنْها أعرض عنها, سَنَجْزِي الّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ العَذَابِ بِمَا كانُوا يَصْدِفُونَ أي يعرضون.
11119ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وَصَدَفَ عَنْها فصدّ عنها.
وقوله: سَنَجزِي الّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الَعَذَابِ يقول: سيثيب الله الذين يعرضون عن آياته وحججه ولا يتدبرونها ولا يتعرّفون حقيقتها فيؤمنوا بما دلتهم عليه من توحيد الله وحقية نبوّة نبيه وصدق ما جاءهم به من عند ربهم سُوءَ العَذَاب يقول: شديد العقاب, وذلك عذاب النار التي أعدّها الله لكفرة خلقه به. بِمَا كانُوا يَصْدِفُونَ يقول: يفعل الله ذلك بهم, جزاء بما كانوا يعرضون عن آياته في الدنيا فلا يقبلون ما جاءهم به نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم