تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 149 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 149

149 : تفسير الصفحة رقم 149 من القرآن الكريم

** وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتّىَ يَبْلُغَ أَشُدّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىَ وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ
قال عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما أنزل الله {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} و{إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلم} الاَية, فانطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه, فجعل يفضل الشيء فيحبس له حتى يأكله, ويفسد, فاشتد ذلك عليهم, فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله {ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم} قال: فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم رواه أبو داود, وقوله تعالى: {حتى يبلغ أشده} قال الشعبي ومالك وغير واحد من السلف: يعني حتى يحتلم, وقال السدي: حتى يبلغ ثلاثين سنة, وقيل أربعون سنة, وقيل ستون سنة, قال: وهذا كله بعيد ها هنا والله أعلم, وقوله تعالى: {وأوفوا الكيل والميزان بالقسط} يأمر تعالى بإقامة العدل في الأخذ والإعطاء, كما توعد على تركه في قوله تعالى: {ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين} وقد أهلك الله أمة من الأمم كانوا يبخسون المكيال والميزان.
وفي كتاب الجامع لأبي عيسى الترمذي: من حديث الحسين بن قيس أبي علي الرحبي, عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحاب الكيل والميزان «إنكم وليتم أمراً هلكت فيه الأمم السالفة قبلكم» ثم قال: لا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث الحسين وهو ضعيف في الحديث. وقد روي بإسناد صحيح عن ابن عباس موقوفاً, قلت وقد رواه ابن مردويه في تفسيره من حديث شريك عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنكم معشر الموالي قد بشركم الله بخصلتين بهما هلكت القرون المتقدمة: المكيال والميزان» وقوله تعالى: {لا نكلف نفساً إلا وسعه} أي من اجتهد في أداء الحق وأخذه, فإن أخطأ بعد استفراغ وسعه وبذل جهده فلا حرج عليه, وقد روى ابن مردويه من حديث بقية عن ميسرة بن عبيد عن عمرو بن ميمون بن مهران عن أبيه عن سعيد بن المسيب, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاَية {وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفساً إلا وسعه} فقال «من أوفى على يده في الكيل والميزان والله يعلم صحة نيته بالوفاء فيهما لم يؤاخذ وذلك تأويل وسعها» هذا مرسل غريب, وقوله {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} كقوله {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط} الاَية, وكذا التي تشبهها في سورة النساء, يأمر تعالى بالعدل في الفعال والمقال على القريب والبعيد, والله تعالى يأمر بالعدل لكل أحد في كل وقت وفي كل حال, وقوله {وبعهد الله أوفو} قال ابن جرير: يقول وبوصية الله التي أوصاكم بها فأوفوا, وإيفاء ذلك أن تطيعوه فيما أمركم ونهاكم وتعملوا بكتابه وسنة رسوله, وذلك هو الوفاء بعهد الله {ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون} يقول تعالى: هذا أوصاكم به وأمركم به وأكد عليكم فيه {لعلكم تذكرون} أي تتعظون وتنتهون عما كنتم فيه قبل هذا, وقرأ بعضهم بتشديد الذال وآخرون بتخفيفها.

** وَأَنّ هَـَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتّبِعُوهُ وَلاَ تَتّبِعُواْ السّبُلَ فَتَفَرّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله {ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} وفي قوله {أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} ونحو هذا في القرآن, قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والتفرقة, وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله ونحو هذا, قاله مجاهد وغير واحد.
وقال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا الأسود بن عامر شاذان, حدثنا أبو بكر هو ابن عياش, عن عاصم هو ابن أبي النجود, عن أبي وائل, عن عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه: قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً بيده, ثم قال «هذا سبيل الله مستقيماً» وخط عن يمينه وشماله ثم قال «هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه, ثم قرأ {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}, وكذا رواه الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار عن أبي بكر بن عياش به, وقال: صحيح ولم يخرجاه, وهكذا رواه أبو جعفر الرازي وورقاء وعمرو بن أبي قيس, عن عاصم عن أبي وائل شقيق سلمة عن ابن مسعود مرفوعاً به نحوه, وكذا رواه يزيد بن هارون ومسدد والنسائي, عن يحيى بن حبيب بن عربي وابن حبان من حديث ابن وهب, أربعتهم عن حماد بن زيد عن عاصم عن أبي وائل عن ابن مسعود به, وكذا رواه ابن جرير عن المثنى عن الحماني عن حماد بن زيد به, ورواه الحاكم عن أبي بكر بن إسحاق عن إسماعيل بن إسحاق القاضي عن سليمان بن حرب عن حماد بن زيد به كذلك, وقال: صحيح ولم يخرجاه. وقد روى هذا الحديث النسائي والحاكم من حديث أحمد بن عبد الله بن يونس, عن أبي بكر بن عياش عن عاصم عن زر عن عبد الله بن مسعود به مرفوعاً, وكذا رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث يحيى الحماني عن أبي بكر بن عياش عن عاصم عن زر به, فقد صححه الحاكم كما رأيت من الطريقين, ولعل هذا الحديث عن عاصم بن أبي النجود عن زر وعن أبي وائل شقيق بن سلمة, كلاهما عن ابن مسعود به والله أعلم.
وقال الحاكم: وشاهد هذا الحديث حديث الشعبي, عن جابر من وجه غير معتمد, يشير إلى الحديث الذي قال الإمام أحمد وعبد بن حميد واللفظ لأحمد: حدثنا عبد الله بن محمد وهو أبو بكر بن أبي شيبة, أنبأنا أبو خالد الأحمر عن مجاهد عن الشعبي عن جابر, قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فخط خطاّ هكذا أمامه فقال «هذا سبيل الله» وخطين عن يمينه وخطين عن شماله وقال «هذه سبل الشيطان» ثم وضع يده في الخط الأوسط, ثم تلا هذه الاَية {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} ورواه أحمد وابن ماجه: في كتاب السنة من سننه, والبزار عن أبي سعيد عبد الله بن سعيد عن أبي خالد الأحمر به, قلت: ورواه الحافظ بن مردويه من طريقين عن أبي سعيد الكندي, حدثنا أبو خالد عن مجالد عن الشعبي عن جابر, قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً, وخط عن يمينه خطاً وخط عن يساره خطاً, ووضع يده على الخط الأوسط, وتلا هذه الاَية {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه} ولكن العمدة على حديث ابن مسعود مع ما فيه من الاختلاف إن كان مؤثراً, وقد روي موقوفاً عليه, قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى, حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن أبان عن عثمان, أن رجلاً قال لابن مسعود ما الصراط المستقيم ؟ قال: تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه وطرفه في الجنة, وعن يمينه جواد وعن يساره جواد ثم رجال يدعون من مر بهم, فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إلى النار ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة, ثم قرأ ابن مسعود {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} الاَية, وقال ابن مردويه: حدثنا أبو عمرو, حدثنا محمد بن عبد الوهاب, حدثنا آدم, حدثنا إسماعيل بن عياش, حدثنا أبان بن عياش عن مسلم بن عمران عن عبد الله بن عمر, سأل عبد الله عن الصراط المستقيم فقال ابن مسعود: تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه وطرفه في الجنة, وذكر تمام الحديث كما تقدم والله أعلم.
وقد روي من حديث النواس بن سمعان نحوه, قال الإمام أحمد: حدثني الحسن بن سوار أبو العلاء, حدثنا ليث يعني ابن سعد عن معاوية بن صالح, أن عبد الرحمن بن جبير بن نفير حدثه عن أبيه عن النواس بن سمعان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً, وعن جنبي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة, وعلى الأبواب ستور مرخاة وعلى باب الصراط داع يدعو: يا أيها الناس هلموا ادخلوا الصراط المستقيم جميعاً ولا تفرقوا وداع يدعو من فوق الصراط فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال ويحك لا تفتحه فإنك إن فتحته تلجه فالصراط الإسلام والسوران حدود الله والأبواب المفتحة محارم الله, وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله, والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم» ورواه الترمذي والنسائي عن علي بن حجر, زاد النسائي وعمرو بن عثمان كلاهما عن بقية بن الوليد عن يحيى بن سعد عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير عن النواس بن سمعان به, وقال الترمذي: حسن غريب.
وقوله تعالى: {فاتبعوه ولا تتبعوا السبل} إنما وحد سبيله لأن الحق واحد, ولهذا جمع السبل لتفرقها وتشعبها كما قال تعالى: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان الواسطي, حدثنا يزيد بن هارون, حدثنا سفيان بن حسين عن الزهري عن أبي إدريس الخولاني عن عبادة بن الصامت, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أيكم يبايعني على هؤلاء الاَيات الثلاث ؟» ثم تلا {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} حتى فرغ من ثلاث آيات ثم قال «ومن وفى بهن فأجره على الله,ومن انتقص منهن شيئاً فأدركه الله في الدنيا كانت عقوبته ومن أخره إلى الاَخرة كان أمره إلى الله إن شاء آخذه وإن شاء عفا عنه».

** ثُمّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لّعَلّهُمْ بِلِقَآءِ رَبّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَهَـَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتّبِعُوهُ وَاتّقُواْ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ
قال ابن جرير: {ثم آتينا موسى الكتاب} تقديره ثم قل يا محمد مخبراً عنا أنا آتينا موسى الكتاب, بدلالة قوله {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} قلت: وفي هذا نظر, وثم ههنا إنما هي لعطف الخبر بعد الخبر لا للترتيب ههنا كما قال الشاعر:
قل لمن ساد ثم ساد أبوهثم قد ساد قبل ذلك جده
وههنا لما أخبر الله سبحانه عن القرآن بقوله {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه} عطف بمدح التوراة ورسولها, فقال: ثم آتينا موسى الكتاب, وكثيراً ما يقرن سبحانه بين ذكر القرآن والتوراة, كقوله تعالى: {ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة وهذا كتاب مصدق لساناً عربي} وقوله أول هذه السورة {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثير} الاَية, وبعدها {وهذا كتاب أنزلناه مبارك} الاَية.
وقال تعالى مخبراً عن المشركين {فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى} قال تعالى: {أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون} وقال تعالى مخبراً عن الجن أنهم قالوا {يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق} الاَية, وقوله تعالى: {تماماً على الذين أحسن وتفصيل} أي آتيناه الكتاب الذي أنزلناه إليه تماماً كاملاً جامعاً, لما يحتاج إليه في شريعته كقوله {وكتبنا له في الألواح من كل شيء} الاَية, وقوله تعالى: {على الذي أحسن} أي جزاء على إحسانه في العمل وقيامه بأوامرنا وطاعتنا كقوله {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} وكقوله {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إمام} وكقوله {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون}.
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس {ثم آتينا موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن} يقول أحسن فيما أعطاه الله. وقال قتادة من أحسن في الدنيا تمم له ذلك في الاَخرة, واختار ابن جرير أن تقديره {ثم آتينا موسى الكتاب تمام} على إحسانه فكأنه جعل الذي مصدرية كماقيل في قوله تعالى: {وخضتم كالذي خاضو} أي كخوضهم وقال ابن رواحة:
وثبت الله ما آتاك من حسنفي المرسلين ونصراً كالذي نصروا
وقال آخرون: الذي ههنا بمعنى الذين, قال ابن جرير: وذكر عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرؤها تماماً على الذين أحسنوا, وقال ابن أبي نجيح: عن مجاهد تماماً على الذي أحسن, قال على المؤمنين والمحسنين, وكذا قال أبو عبيدة وقال البغوي المحسنون الأنبياء والمؤمنون, يعني أظهرنا فضله عليهم قلت: كقوله تعالى {قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي} ولا يلزم اصطفاؤه على محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والخليل عليهما السلام لأدلة أخرى.
قال ابن جرير وروى أبو عمرو بن العلاء عن يحيى بن يعمر أنه كان يقرؤها تماماً على الذي أحسن رفعاً بتأويل على الذي هو أحسن ثم قال وهذه قراءة لا أستجيز القراءة بها وإن كان لها في العربية وجه صحيح, وقيل: معناه تماماً على إحسان الله إليه زيادة على ما أحسن إليه حكاه ابن جرير والبغوي ولا منافاة بينه وبين القول الأول, وبه جمع ابن جرير كما بيناه, ولله الحمد. وقوله تعالى: {وتفصيلاً لكل شيء وهدى ورحمة} فيه مدح لكتابه الذي أنزله الله عليه {لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون} فيه الدعوة إلى اتباع القرآن يرغب سبحانه عباده في كتابه ويأمرهم بتدبره والعمل به والدعوة إليه ووصفه بالبركة لمن اتبعه وعمل به في الدنيا والاَخرة لأنه حبل الله المتين.

** أَن تَقُولُوَاْ إِنّمَآ أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَىَ طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنّآ أَهْدَىَ مِنْهُمْ فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيّنَةٌ مّن رّبّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمّن كَذّبَ بِآيَاتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوَءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ
قال ابن جرير: معناه وهذا كتاب أنزلناه لئلا تقولوا {إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلن} يعني لينقطع عذركم كقوله تعالى: {ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك} الاَية, وقوله تعالى: {على طائفتين من قبلن} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هم اليهود والنصارى وكذا قال مجاهد والسدي وقتادة وغير واحد وقوله {وإن كنا عن دراستهم لغافلين} أي وما كنا نفهم ما يقولون لأنهم ليسوا بلساننا ونحن في غفلة وشغل مع ذلك عما هم فيه. وقوله {أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم} أي وقطعنا تعللكم أن تقولوا لو أنا أنزل علينا ما أنزل عليهم لكنا أهدى منهم فيما أوتوه كقوله {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم} الاَية, وهكذا قال ههنا {فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة} يقول: فقد جاءكم من الله على لسان محمد صلى الله عليه وسلم النبي العربي قرآن عظيم فيه بيان للحلال والحرام وهدى لما في القلوب ورحمة من الله لعباده الذين يتبعونه ويقتفون ما فيه.
وقوله تعالى: {فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنه} أي لم ينتفع بما جاء به الرسول ولا اتبع ما أرسل به ولا ترك غيره بل صدف عن اتباع آيات الله أي صدف الناس وصدهم عن ذلك قاله السدي, وعن ابن عباس ومجاهد وقتادة وصدف عنها أعرض عنها وقول السدي ههنا فيه قوة لأنه قال {فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنه} كما تقدم في أول السورة {وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم} وقال تعالى: {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذاباً فوق العذاب} وقال في هذه الاَية الكريمة {سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون} وقد يكون المراد فيما قال ابن عباس ومجاهد وقتادة {فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنه} أي لا آمن بها ولا عمل بها كقوله تعالى: {فلا صدّق ولا صلى ولكن كذب وتولى} وغير ذلك من الاَيات الدالة على اشتمال الكافر على التكذيب بقلبه وترك العمل بجوارحه ولكن كلام السدي أقوى وأظهر, والله أعلم, لأن الله قال {فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنه} كقوله تعالى: {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذاباً فوق العذاب بما كانوا يفسدون}.