تفسير الطبري تفسير الصفحة 160 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 160
161
159
 الآية : 74
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاذْكُرُوَاْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوّأَكُمْ فِي الأرْضِ تَتّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوَاْ آلاَءَ اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ }.
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل صالح لقومه واعظا لهم: وَاذْكُرُوا أيها القوم نعمة الله عليكم, إذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ يقول تخلفون عادا في الأرض بعد هلاكها. وخلفاء: جمع خليفة, وإنما جمع خليفة خلفاء وفعلاء إنما هي جمع فعيل, كما الشركاء جمع شريك, والعلماء جمع عليم, والحلماء جمع حليم لأنه ذهب بالخليفة إلى الرجل, فكأن واحدهم خليف, ثم جمع خلفاء. فأما لو جمعت الخليفة على أنها نظيرة كريمة وحليلة ورغيبة قيل خلائف, كما يقال: كرائم وحلائل ورغائب, إذ كانت من صفات الإناث, وإنما جمعت الخليفة على الوجهين اللذين جاء بهما القرآن, لأنها جمعت مرّة على لفظها, ومرّة على معناها.
وأما قوله: وَبَوّأكُمْ فِي الأرْضِ فإنه يقول: وأنزلكم في الأرض, وجعل لكم فيها مساكن وأزواجا. تَتّخذُونَ منْ سُهُولِهَا قُصُورا وَتَنْحِتُونَ الجِبالَ بُيُوتا ذكر أنهم كانوا ينقبون الصخر مساكن, كما:
11580ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وتَنْحِتون الجِبالِ بُيُوتا كانوا ينقبون في الجبال البيوت.
وقوله: فاذْكُرُوا آلأَ اللّهِ يقول: فاذكروا نعمة الله التي أنعمها عليكم. وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْض مُفْسِدِينَ وكان قتادة يقول في ذلك, ما:
11581ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ يقول: لا تسيروا في الأرض مفسدين.
وقد بينت معنى ذلك بشواهده واختلاف المختلفين فيه فيما مضى, بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
الآية : 75-76
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ الْمَلاُ الّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنّ صَالِحاً مّرْسَلٌ مّن رّبّهِ قَالُوَاْ إِنّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الّذِينَ اسْتَكْبَرُوَاْ إِنّا بِالّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ }.
يعني جلّ ثناؤه بقوله: قالَ المَلأُ الّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ قال الجماعة الذين استكبروا من قوم صالح عن اتّباع صالح والإيمان بالله وبه, للّذِينَ اسْتُضْعِفُوا يعني: لأهل المسكنة من تباع صالح والمؤمنين به منهم, دون ذوي شرفهم وأهل السؤدد منهم: أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه أرسله الله إلينا وإليكم؟ قال الذين آمنوا بصالح من المستضعفين منهم: إنا بما أَرْسَلَ الله به صالحا من الحقّ والهدى مؤمنون يقول: مصدّقون مقرّون أنه من عند الله وأن الله أمر به وعن أمر الله دعانا صالح إليه. قال الذين استكبروا عن أمر الله وأمر رسوله صالح: إنّا أيها القوم بالّذِي آمَنْتُمْ بِهِ يقول: صدّقتم به من نبوّة صالح, وأن الذي جاء به حقّ من عند الله كَافِرُونَ يقول: جاحدون منكرون, لا نصدّق به ولا نقرّ.
الآية : 77
القول في تأويل قوله تعالى: {فَعَقَرُواْ النّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ وَقَالُواْ يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ }.
يقول تعالى ذكره: فعقرت ثمود الناقة التي جعلها الله لهم آية. وَعَتَوْا عَنْ أمْرِ رَبّهِمْ يقول: تكبروا وتجبروا عن اتباع الله, واستعلَوْا عن الحقّ. كما:
11582ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: وَعَتَوْا علوّا عن الحقّ لا يبصرونه.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قال: قال مجاهد: عَتَوْا عَنْ أمْر رَبّهِمْ: علوّا في الباطل.
حدثني الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا أبو سعد, عن مجاهد في قوله: وَعَتَوْا عَنْ أمْرِ رَبّهِمْ قال: عتوا في الباطل وتركوا الحقّ.
حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: وَعَتَوْا عَنْ أمْرِ رَبّهِمْ قال: علوّا في الباطل.
وهو من قولهم: جبار عات: إذا كان عاليا في تجبره. وَقالُوا يا صَالِحُ ائْتِنا بِمَا تَعِدُنا يقول: قالوا: جئنا يا صالح بما تعدنا من عذاب الله ونقمته استعجالاً منهم للعذاب أنْ كُنْتَ مِنَ المُرْسَلِينَ يقول: إن كنت لله رسولاً إلينا, فإن الله ينصر رسله على أعدائه. فعجل ذلك لهم كما استعجلوه, يقول جلّ ثناؤه: فَأخَذَتْهُمُ الرّجْفَةُ فَأصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ.
الآية : 78
القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الرّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ }.
يقول تعالى ذكره: فأخذت الذين عقروا الناقة من ثمود الرجفة, وهي الصيحة, والرجفة: الفَعْلة, من قول القائل: رجَف بفلان كذا يَرْجُف رَجْفا, وذلك إذا حرّكه وزعزعه, كما قال الأخطل:
إمّا تَرَيْنِـي حنَانِـي الشّيْبُ مِنْ كِبَرٍ
كالنّسْرِ أرْجُفُ وَالإنْسانُ مَهْدُودُ
وإنـما عنى بـالرجفة ههنا: الصيحة التـي زعزعتهم وحرّكتهم للهلاك, لأن ثمود هلكت بـالصيحة فـيـما ذكر أهل العلـم. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
11583ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قول الله: الرجفة, قال: الصيحة.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
11584ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: فَأخَذَتْهُمُ الرّجْفَةُ وهي الصيحة.
حدثنـي الـحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا أبو سعد, عن مـجاهد: فَأخَذَتْهُمُ الرّجْفَةُ قال: الصيحة.
وقوله: فَأصْبَحُوا فِـي دَارِهِمْ جاثِمِينَ يقول: فأصبح الذين أهلك الله من ثمود فـي دارهم, يعنـي فـي أرضهم التـي هلكوا فـيها وبلدتهم ولذلك وحد الدار ولـم يجمعها فـيقول «فـي دورهم». وقد يجوز أن يكون أريد بها الدور, ولكن وجه بـالواحدة إلـى الـجمع, كما قـيـل: وَالعَصْرِ إنّ الإنْسانَ لَفِـي خُسْرٍ.
وقوله: جاثِمِينَ يعنـي: سقوطا صرعى لا يتـحرّكون لأنهم لا أرواح فـيهم قد هلكوا, والعرب تقول للبـارك علـى الركبة: جاثم, ومنه قول جرير:
عَرَفْتُ الـمُنْتَأَى وعَرَفْتُ مِنهامَطايا القِدْرِ كالـحِدَإِ الـجُثُوم
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
11585ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: فَأصْبَحُوا فِـي دَارِهِمْ جاثِمِينَ قال: ميتـين.
الآية : 79
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَتَوَلّىَ عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاّ تُحِبّونَ النّاصِحِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: فأدبر صالـح عنهم حين استعجلوه العذاب وعقروا ناقة الله خارجا عن أرضهم من بـين أظهرهم لأن الله تعالـى ذكره أوحى إلـيه: إنـي مهلكهم بعد ثلاثة. وقـيـل: إنه لـم تهلك أمة ونبـيها بـين أظهرها, فأخبر الله جلّ ثناؤه عن خروج صالـح من بـين قومه الذين عتوا علـى ربهم حين أراد الله إحلال عقوبته بهم, فقال: فتولّـى عنهم صالـح, وقال لقومه ثمود: لقد أبلغتكم رسالة ربـي, وأدّيت إلـيكم ما أمرنـي بأدائه إلـيكم ربـي من أمره ونهيه, ونصحت لكم فـي أدائي رسالة الله إلـيكم فـي تـحذيركم بأسه بإقامتكم علـى كفركم به وعبـادتكم الأوثان, وَلَكِنْ لا تُـحِبّونَ النّاصحِينَ لكم فـي الله الناهين لكم عن اتبـاع أهوائكم الصادّين لكم عن شهوات أنفسكم.
الآية : 80
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّن الْعَالَمِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: ولقد أرسلنا لوطا. ولو قـيـل: معناه: واذكر لوطا يا مـحمد إذ قال لقومه إذ لـم يكون فـي الكلام صلة الرسالة كما كان فـي ذكر عاد وثمود كان مذهبـا.
وقوله: إذْ قالَ لِقَوْمِه يقول: حين قال لقومه من سدوم, وإلـيهم كان أرسل لوط: أتَأْتُونَ الفـاحِشَةَ, وكانت فـاحشتهم التـي كانوا يأتونها التـي عاقبهم الله علـيها: إتـيان الذكور. ما سَبَقَكُمْ بها مِنْ أحَد مِنَ العالَـمِينَ يقول: ما سبقكم بفعل هذه الفـاحشة أحد من العالـمين. وذلك كالذي:
11586ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا إسماعيـل بن علـية, عن ابن أبـي نـجيح, عن عمرو بن دينار, قوله: ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أحَدٍ مِنَ العالَـمِينَ قال: ما رؤي ذكر علـى ذكر حتـى كان قوم لوط.
الآية : 81
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ شَهْوَةً مّن دُونِ النّسَآءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مّسْرِفُونَ }.
يخبر بذلك تعالـى ذكره عن لوط أنه قال لقومه, توبـيخا منه لهم علـى فعلهم: إنّكُمْ أيها القوم لَتأْتون الرّحالَ فِـي أدبـارهم, شَهْوَةً منكم لذلك, مِنْ دُونِ الذي أبـاحه الله لكم وأحله من النّساءِ بَلْ أنْتُـمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ يقول: إنكم لقوم تأتون ما حرم الله علـيكم وتعصونه بفعلكم هذا, وذلك هو الإسراف فـي هذا الـموضع. والشهوة: الفَعلة, وهي مصدر من قول القائل: شهيت هذا الشيء أشهاه شهوة ومن ذلك قول الشاعر:
وأشْعَثَ يَشْهَى النّوْمَ قُلْتُ لَهُ ارْتَـحِل
إذَا ما النّـجُومُ أعْرَضَتْ واسْبَطَرّتِ
فَقامَ يَجُرّ البُرْدَ لَوْ أنّ نَفْسَهُ
يُقالُ لَهُ خُذْها بِكَفّـيْكَ خَرّتِ