تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 160 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 160

159

قوله: 74- "واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد" أي استخلفكم في الأرض أو جعلكم ملوكاً فيها، كما تقدم في قصة هود "وبوأكم في الأرض" أي جعل لكم فيها مباءة، وهي المنزل الذي تسكنونه "تتخذون من سهولها قصوراً" أي تتخذون من سهولة الأرض قصوراً، أو هذه الجملة مبينة لجملة: "وبوأكم في الأرض"، وسهول الأرض ترابها يتخذون منه اللبن والآجر ونحو ذلك فيبنون به القصور "وتنحتون الجبال بيوتاً" أي تتخذون في الجبال التي هي صخور بيوتاً تسكنون فيها، وقد كانوا لقوتهم وصلابة أبدانهم ينحتون الجبال فيتخذون فيها، كهوفاً يسكنون فيها لأن الأبنية والسقوف كانت تفنى قبل فناء أعمارهم، وانتصاب بيوتاً على أنها حال مقدرة أو على أنها مفعول ثان لتنحتون على تضمينه معنى تتخذون. قوله: "فاذكروا آلاء الله" تقدم تفسيره في القصة التي قبل هذه. قوله: "ولا تعثوا في الأرض مفسدين" العثي والعثو لغتان، وقد تقدم تحقيقه في البقرة بما يغني عن الإعادة.
75- "قال الملأ الذين استكبروا من قومه": أي قال الرؤساء المستكبرون من قوم صالح للمستضعفين الذين استضعفهم المستكبرون، و "لمن آمن منهم" بدل من الذين استضعفوا بإعادة حرف الجر بدل البعض من الكل، لأن من المستضعفين من ليس بمؤمن هذا على عود ضمير منهم إلى الذين استضعفوا، فإن عاد إلى قومه كان بدل كل من المستضعفين، ومقول القول: "أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه" قالوا هذا عن طريق الاستهزاء والسخرية. قوله: "قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون" أجابوهم بأنهم مؤمنون برسالته مع كون سؤال المستكبرين لهم إنما هو عن العلم منهم هل تعلمون برسالته أم لا مسارعة إلى إظهار ما لهم من الإيمان وتنبيهاً على أن كونه مرسلاً أمر واضح مكشوف لا يحتاج إلى السؤال عنه.
فأجابوا تمرداً وعناداً بقولهم: 76- "إنا بالذي آمنتم به كافرون" وهذه الجمل المعنوية يقال: مستأنفة لأنها جوابات عن سؤالات مقدرة كما سبق بيانه.
قوله: 77- "فعقروا الناقة" العقر: الجرح، وقيل: قطع عضو يؤثر في تلف النفس، يقال عقرت الفرس: إذا ضربت قوائمه بالسيف، وقيل أصل العقر: كسر عرقوب البعير ثم قيل للنحر عقر، لأن العقر سبب النحر في الغالب، وأسند العقر إلى الجميع مع كون العاقر واحداً منهم، لأنهم راضون بذلك موافقون عليه. وقد اختلف في عاقر الناقة ما كان اسمه، فقيل: قدار بن سالف، وقيل غير ذلك "وعتوا عن أمر ربهم" أي استكبروا، يقال عتا يعتو عتواً: استكبر، وتعتى فلان: إذا لم يطع، والليل العاتي: الشديد الظلمة "وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا" من العذاب "إن كنت من المرسلين" هذا استعجال منهم للنقمة وطلب منهم لنزول العذاب وحلول البلية بهم.
78- "فأخذتهم الرجفة" أي الزلزلة، يقال: رجف الشيء يرجف رجفاناً، وأصله حركة مع صوت، ومنه "يوم ترجف الراجفة"، وقيل: كانت صيحة شديدة خلعت قلوبهم "فأصبحوا في دارهم" أي بلدهم "جاثمين" لاصقين بالأرض على ركبهم ووجوههم كما يجثم الطائر، وأصل الجثوم للأرنب وشبهها، وقيل: للناس والطير. والمراد أنهم أصبحوا في دورهم ميتين لا حراك بهم.
79- "فتولى عنهم" صالح عند اليأس من إجابتهم "وقال" لهم هذه المقالة "لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين" ويحتمل أنه قال لهم هذه المقالة بعد موتهم على طريق الحكاية لحالهم الماضية، كما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم من التكليم لأهل قليب بدر بعد موته، أو قالها لهم عند نزول العذاب بهم، وكأنه كان مشاهداً لذلك فتحسر على ما فاتهم من الإيمان والسلامة من العذاب، ثم أبان عن نفسه أنه لم يأل جهداً في إبلاغهم الرسالة ومحض النصح، لكن أبوا ذلك فلم يقبلوا منه فحق عليهم العذاب، ونزل بهم ما كذبوا به واستعجلوه. وقد أخرج عبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي الطفيل قال: قالت ثمود لصالح ائتنا بآية إن كنت من الصادقين، قال: اخرجوا، فخرجوا إلى هضبة من الأرض فإذا هي تمخض كما تمخض الحامل، ثم إنها انفرجت فخرجت الناقة من وسطها، فقال لهم صالح: "هذه ناقة الله لكم آية" فلما ملوها عقروها "فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام". وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة: أن صالحاً قال لهم حين عقروا الناقة: تمتعوا ثلاثة أيام ثم قال لهم: آية هلاككم أن تصبح وجوهكم غداً مصفرة، وتصبح اليوم الثاني محمرة، ثم تصبح اليوم الثالث مسودة، فأصبحت كذلك، فلما كان اليوم الثالث أيقنوا بالهلاك فتكفنوا وتحنطوا، ثم أخذتهم الصيحة فأهمدتهم. وقال عاقر الناقة: لا أقتلها حتى ترضوا أجمعين، فجعلوا يدخلون على المرأة في خدرها فيقولون أترضين؟ فتقول: نعم، والصبي حتى رضوا أجمعون، فعقرها. وأخرج أحمد والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه عن جابر بن عبد الله "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر قام فخطب فقال:يا أيها الناس لا تسألوا نبيكم عن الآيات. فإن قوم صالح سألوا نبيهم أن يبعث إليهم آية فبعث الله لهم الناقة، فكانت ترد من هذا الفج فتشرب ماءهم يوم وردها ويحتلبون من لبنها مثل الذي كانوا يأخذون من مائها يوم غبها وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم فعقروها، فوعدهم الله العذاب بعد ثلاثة أيام وكان وعد من الله غير مكذوب، ثم جاءتهم الصيحة فأهلك الله من كان منهم تحت مشارق الأرض ومغاربها، إلا رجلاً كان في حرم الله فمنعه حرم الله من عذاب الله، فقيل يا رسول الله من هو؟ فقال: أبو رغال، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه". قال ابن كثير: هذا الحديث على شرط مسلم. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه من حديث أبي الطفيل مرفوعاً مثله. وأخرج أحمد من حديث ابن عمر قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالحجر:لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم" وأصل الحديث في الصحيحين من غير وجه، وفي لفظ لأحمد من هذا الحديث قال: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على تبوك نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود. وأخرج أحمد وابن المنذر نحوه مرفوعاً من حديث أبي كبشة الأنماري. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله: "ولا تمسوها بسوء" قال: لا تعقروها. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "وتنحتون من الجبال بيوتاً" قال: كانوا ينقبون في الجبال البيوت. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "وعتوا عن أمر ربهم" قال: غلوا في الباطل "فأخذتهم الرجفة" قال: الصيحة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد "فأصبحوا في دارهم جاثمين" قال: ميتين. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة مثله.
قوله: 80- "ولوطاً" معطوف على ما سبق: أي وأرسلنا لوطاً أو منصوب بفعل مقدر: أي واذكر لوطاً وقت قال لقومه. قال الفراء: لوط مشتق من قولهم: هذا أليط بقلبي: أي ألصق. قال الزجاج: زعم بعض النحويين أن لوطاً يجوز أن يكون مشتقاً من لطت الحوض إذا ملسته بالطين، وهذا غلط، لأن الأسماء الأعجمية لا تشتق. وقال سيبويه نوح ولوط أسماء أعجمية إلا أنها خفيفة، فلذلك صرفت، ولوط هو ابن هاران بن تارخ، فهو ابن أخي إبراهيم، بعثه الله إلى أمة تسمى سدوم "أتأتون الفاحشة" أي الخصلة الفاحشة المتمادية في الفحش والقبح، قال: ذلك إنكاراً عليهم وتوبيخاً لهم "ما سبقكم بها من أحد من العالمين" أي لم يفعلها أحد قبلكم، فإن اللواط لم يكن في أمة من الأمم قبل هذه الأمة، و من مزيدة للتوكيد للعموم في النفي، وإنه مستغرق لما دخل عليه، والجملة مسوقة لتأكيد النكير عليهم والتوبيخ لهم.
قوله: 81- "إنكم لتأتون الرجال شهوة" قرأ نافع وحفص على الخبر بهمزة واحدة مكسورة. وقرأ الباقون بهمزتين على الاستفهام المقتضي للتوبيخ والتقريع، واختار القراءة الأولى أبو عبيد والكسائي وغيرهما، واختار الخليل وسيبويه القراءة الثانية، فعلى القراءة الأولى تكون هذه الجملة مبينة لقوله: "أتأتون الفاحشة" وكذلك على القراءة الثانية مع مزيد الاستفهام وتكريره المفيد للمبالغة في التقريع والتوبيخ، وانتصاب شهوة على المصدرية: أي تشتهونهم شهوة، ويجوز أن يكون مصدراً في موضع الحال: أي مشتهين، ويجوز أن يكون مفعولاً له: أي لأجل الشهوة، وفيه أنه لا غرض لهم بإتيان هذه الفاحشة إلا مجرد قضاء الشهوة من غير أن يكون لهم في ذلك غرض يوافق العقل، فهم في هذا كالبهائم التي ينزو بعضها على بعض لما يتقاضاها من الشهوة "من دون النساء" أي متجاوزين في فعلكم هذا للنساء اللاتي هن محل لقضاء الشهوة وموضع لطلب اللذة، ثم أضرب عن الإنكار المتقدم إلى الإخبار بما هم عليه من الإسراف الذي تسبب عنه إتيان هذه الفاحشة الفظيعة.