تفسير الطبري تفسير الصفحة 185 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 185
186
184
 الآية : 62
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِن يُرِيدُوَاْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الّذِيَ أَيّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ }.
يقول تعالى ذكره: وإن يرد يا محمد هؤلاء الذين أمرتك بأن تنبذ إليهم على سواء, إن خفت منهم خيانة, وبمسالمتهم إن جنحوا للسلم خداعك والمكر بك فإنّ حَسْبَكَ اللّهُ يقول: فإن الله كافيكهم وكافيك خداعهم إياك, لأنه متكفل بإظهار دينك على الأديان ومتضمن أن يجعل كلمته العليا وكلمة أعدائه السفلى. هُوَ الّذِي أيّدَكَ بِنَصْرِهِ يقول: الله الذي قوّاك بنصره إياك على أعدائه, وبالمؤْمِنِينَ يعني بالأنصار.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
12688ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: وَإنْ يُرِيدُوا أن يَخْدَعُوكَ قال: قريظة.
12689ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: وَإنْ يُرِيدُوا أنْ يَخْدَعُوكَ فإنّ حَسْبَكَ اللّهُ هو من وراء ذلك.
12690ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: هُوَ الّذِي أيّدَكَ بِنَصْرِهِ قال: بالأنصار.
الآية : 63
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَلّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً مّآ أَلّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـَكِنّ اللّهَ أَلّفَ بَيْنَهُمْ إِنّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }.
يريد جلّ ثناؤه بقوله: وألّفَ بينَ قُلُوِبهِمْ وجمع بين قلوب المؤمنين من الأوس والخزرج بعد التفرّق والتشتت على دينه الحقّ, فصيرهم به جميعا بعد أن كانوا أشتاتا, وإخوانا بعد أن كانوا أعداء.
وقوله: لَوْ أنْفَقْتَ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا ما ألّفْتَ بينَ قُلُوِبهِمْ يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لو أنفقت يا محمد ما في الأرض جميعا من ذهب وورق وعرض, ما جمعت أنت بين قلوبهم بحيلك, ولكن الله جمعها على الهدى, فائتلفت واجتمعت تقوية من الله لك وتأييدا منه ومعونة على عدوّك. يقول جلّ ثناؤه: والذي فعل ذلك وسببه لك حتى صاروا لك أعوانا وأنصارا ويدا واحدة على من بغاك سوءا هو الذي إن رام عدوّ منك مراما يكفيك كيده وينصرك عليه, فثق به وامض لأمره وتوكل عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
12691ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وألّفَ بينَ قُلُوِبهِمْ قال: هؤلاء الأنصار ألف بين قلوبهم من بعد حرب فيما كان بينهم.
12692ـ حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن بشير بن ثابت رجل من الأنصار, أنه قال في هذه الاَية: لَوْ أنْفَقْتَ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا ما ألّفْتَ بينَ قُلُوِبهِمْ يعني الأنصار.
12693ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: وألّفَ بينَ قُلُوِبهِمْ على الهدى الذي بعثك به إليهم. لَوْ أنْفَقْتَ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا ما ألّفْتَ بينَ قُلُوِبهِمْ وَلَكِنّ اللّهَ ألّفَ بَيْنَهُمْ بدينه الذي جمعهم عليه, يعني الأوس والخزرج.
12694ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن يمان, عن إبراهيم الجزري, عن الوليد بن أبي مغيث, عن مجاهد قال: إذا التقى المسلمان فتصافحا غفر لهما. قال: قلت لمجاهد: بمصافحة يغفر لهما؟ فقال مجاهد: أما سمعته يقول: لَوْ أنْفَقْتَ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا ما ألّفْتَ بينَ قُلُوِبهِمْ؟ فقال الوليد لمجاهد: أنت أعلم مني.
12695ـ حدثنا عبد الكريم بن أبي عُمير, قال: ثني الوليد, عن أبي عمرو, قال: ثني عبدة بن أبي لبابة, عن مجاهد, ولقيته وأخذ بيدي, فقال: إذا تراءى المتحابان في الله فأخذ أحدهما بيد صاحبه وضحك إليه, تحاتت خطاياهما كما يتحاتّ ورق الشجر. قال عبدة: فقلت له: إن هذا ليسير قال: لا تقل ذلك, فإن الله يقول: لَوْ أنْفَقْتَ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا ما ألّفْتَ بينَ قُلُوِبهِمْ. قال عبدة: فعرفت أنه أفقه مني.
12696ـ حدثني محمد بن خلف, قال: حدثنا عبيد الله بن موسى, قال: حدثنا فضيل بن غزوان, قال: أتيت أبا إسحاق, فسلمت عليه فقلت: أتعرفني؟ فقال فضيل: نعم لولا الحياء منك لقبلتك.
12697ـ حدثني أبو الأحوص, عن عبد الله, قال: نزلت هذه الاَية في المتحابين في الله: لَوْ أنْفَقْتَ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا ما ألّفْتَ بينَ قُلُوِبهِمْ.
12698ـ حدثني يعقوب, قال: حدثنا ابن علية, قال: أخبرنا ابن عون, عن عمير بن إسحاق, قال: كنا نتحدث أن أول ما يرفع من الناس أو قال عن الناس الألفة.
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم, قال: حدثنا أيوب بن سويد, عن الأوزاعي, قال: ثني عبدة بن أبي لبابة, عن مجاهد, ثم ذكر نحو حديث عبد الكريم, عن الوليد.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو أسامة وابن نمير وحفص بن غياث, عن فضيل بن غزوان, عن أبي إسحاق, عن أبي الأحوص, قال: سمعت عبد الله يقول: لَوْ أنْفَقْتَ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا ما ألّفْتَ بينَ قُلُوِبهِمْ... الاَية, قال: هم المتحابون في الله.
وقوله: إنّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ يقول: إن الله الذي ألف بين قلوب الأوس والخزرج بعد تشتت كلمتهما وتعاديهما وجعلهم لك أنصارا عزيز لا يقهره شيء ولا يردّ قضاءه رادّ, ولكنه ينفذ في خلقه حكمه. يقول: فعليه فتوكل, وبه فثق, حَكِيمٌ في تدبير خلقه.
الآية : 64
القول في تأويل قوله تعالى: {يَأَيّهَا النّبِيّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا أيها النبيّ حسبك الله, وحسب من اتبعك من المؤمنين الله. يقول لهم جلّ ثناؤه: ناهضوا عدوّكم, فإن الله كافيكم أمرهم, ولا يهولنكم كثرة عددهم وقلة عددكم, فإن الله مؤيدكم بنصره.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
12699ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا مؤمل بن إسماعيل, قال: حدثنا سفيان, عن شوذب بن معاذ, عن الشعبيّ في قوله: يا أيّها النّبيّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتّبَعَكَ منَ المُؤْمِنِينَ قال: حسبك الله وحسب من اتبعك من المؤمنين الله.
حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم الأودي, قال: حدثنا عبيد الله بن موسى, قال: أخبرنا سفيان, عن شوذب, عن الشعبيّ, في قوله: يا أيّها النّبيّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتّبَعَكَ منَ المُؤْمِنِينَ قال: حسبك الله وحسب من معك.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عبيد الله, عن سفيان, عن شوذب, عن عامر, بنحوه, إلا أنه قال: حسبك الله وحسب من شهد معك.
12700ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, عن ابن زيد, في قوله: يا أيّها النّبيّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتّبَعَكَ منَ المُؤْمِنِينَ قال: يا أيها النبيّ حسبك الله وحسب من اتبعك من المؤمنين, إنّ حسبك أنت وهم الله.
ف«مَنْ» من قوله: وَمَنِ اتّبَعَكَ منَ المُؤْمِنِينَ على هذا التأويل الذي ذكرناه عن الشعبي نصب عطفا على معنى الكاف في قوله: حَسْبُكَ اللّهُ لا على لفظه, لأنها في محل خفض في الظاهر وفي محل نصب في المعنى, لأن معنى الكلام: يكفيك الله, ويكفي من اتبعك من المؤمنين. وقد قال بعض أهل العربية في «مَن»: إنها في موضع رفع على العطف على اسم الله, كأنه قال: حسبك الله ومتبعوك إلى جهاد العدوّ من المؤمنين دون القاعدين عنك منهم. واستشهد على صحة قوله ذلك بقوله: حَرّضِ المُؤْمِنينَ على القِتالِ.
الآية : 65-66
القول في تأويل قوله تعالى: {يَأَيّهَا النّبِيّ حَرّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مّنكُمْ مّئَةٌ يَغْلِبُوَاْ أَلْفاً مّنَ الّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لاّ يَفْقَهُونَ * الاَنَ خَفّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مّنكُمْ مّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوَاْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا أيّها النّبِيّ حَرّضِ المُؤْمِنِينَ على القِتالِ حُثّ متبعيك ومصدقيك على ما جئتهم به من الحق على قتال من أدبر وتولى عن الحق من المشركين. إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عشْرُونَ رجلاً صَابِرُونَ عند لقاء العدوّ, يحتسبون أنفسهم ويثبتون لعدوّهم يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ من عدوّهم ويقهروهم. وَإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ عند ذلك يَغْلِبُوا منهم ألفا. بأنّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ يقول: من أجل أن المشركين قوم يقاتلون على غير رجاء ثواب ولا لطلب أجر ولا احتساب لأنهم لم يفقهوا أن الله موجب لمن قاتل احتسابا وطلب موعودا لله في المعاد ما وعد المجاهدين في سبيله, فهم لا يثبتون إذا صدقوا في اللقاء خشية أن يقتلوا فتذهب دنياهم. ثم خفف تعالى ذكره عن المؤمنين إذ علم ضعفهم فقال لهم: الاَنَ خَفّفَ اللّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أنّ فِيكُمْ ضَعْفا يعني أن في الواحد منهم عن لقاء العشرة من عدوّهم ضعفا, فإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابرَةٌ عند لقائهم للثبات لهم, يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ منهم, إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ ألْفٌ يَغْلِبُوا ألْفَيْنِ منهم بإذْنِ اللّهِ يعني بتخلية الله إياهم لغلبتهم ومعونته إياهم. وَاللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ لعدوّهم وعدوّ الله, احتسابا في صبره وطلبا لجزيل الثواب من ربه, بالعون منه له والنصر عليه.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
12701ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا محمد بن محبب, قال: حدثنا سفيان, عن ليث, عن عطاء في قوله: إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ قال: كان الواحد لعشرة, ثم جعل الواحد باثنين لا ينبغي له أن يفرّ منهما.
12702ـ حدثنا سعيد بن يحيى, قال: حدثنا أبي, قال: حدثنا ابن جريج, عن عمرو بن دينار, عن ابن عباس, قال: جعل على المسلمين على الرجل عشرة من الكفار, فقال: إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ فخفف ذلك عنهم, فجعل على الرجل رجلان. قال ابن عباس: فما أحبّ أن يعلم الناس تخفيف ذلك عنهم.
12703ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, قال: قال محمد بن إسحاق, ثني عبد الله بن أبي نجيح المكيّ, عن عطاء بن أبي رباح, عن عبد الله بن عباس, قال: لما نزلت هذه الاَية ثقلت على المسلمين وأعظموا أن يقاتل عشرون مئتين ومئة ألفا, فخفف الله عنهم, فنسخها بالاَية الأخرى فقال: الاَنَ خَفّفَ اللّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أنّ فِيكُمْ ضَعْفا فإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ وَإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ ألْفٌ يَغْلِبُوا ألْفَيْنِ قال: وكانوا إذا كانوا على الشطر من عدوّهم لم ينبغ لهم أن يفرّوا منهم, وإن كانوا دون ذلك لم يجب عليهم أن يقاتلوا, وجاز لهم أن يتحوّزوا عنهم.
12704ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ قال: كان لكل رجل من المسلمين عشرة لا ينبغي له أن يفرّ منهم, فكانوا كذلك حتى أنزل الله: الاَنَ خَفّفَ اللّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أنّ فِيكُمْ ضَعْفافإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ فعبأ لكل رجل من المسلمين رجلين من المشركين, فنسخ الأمر الأوّل. وقال مرّة أخرى في قوله: إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ فأمر الله الرجل من المؤمنين أن يقاتل عشرة من الكفار, فشقّ ذلك على المؤمنين ورحمهم الله, فقال: إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ وَإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ ألْفٌ يَغْلِبُوا ألْفَيْنِ بإذنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصابِرِينَ فأمر الله الرجل من المؤمنين أن يقاتل رجلين من الكفار.
12705ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: يا أيّها النّبِيّ حَرّضِ المُؤْمِنِينَ على القِتالِ... إلى قوله: بأنهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ وذلك أنه كان جعل على كل رجل من المسلمين عشرة من العدوّ يؤشّبهم, يعني يغريهم بذلك ليوطنوا أنفسهم على الغزو, وإن الله ناصرهم على العدوّ, ولم يكن أمرا عزمه الله عليهم ولا أوجبه, ولكن كان تحريضا ووصية أمر الله بها نبيه. ثم خفف عنهم فقال: الاَنَ خَفّفَ اللّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أنّ فِيكُمْ ضَعْفا فجعل على كل رجل رجلين بعد ذلك تخفيفا, ليعلم المؤمنون أن الله بهم رحيم, فتوكلوا على الله وصبروا وصدقوا, ولو كان عليهم واجبا الغزو إذن بعد كل رجل من المسلمين عمن لقي من الكفار إذا كانوا أكثر منهم فلم يقاتلوهم. فلا يغرنك قول رجال, فإني قد سمعت رجالاً يقولون: إنه لا يصلح لرجل من المسلمين أن يقاتل حتى يكون على كل رجل رجلان, وحتى يكون على كل رجلين أربعة, ثم بحساب ذلك, وزعموا أنهم يعصون الله إن قاتلوا حتى يبلغوا عدة ذلك, وإنه لا حرج عليهم أن لا يقاتلوا حتى يبلغوا عدة أن يكون على كل رجل رجلان, وعلى كل رجلين أربعة, وقد قال الله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهِ رَءُوفٌ بالعِبادِ وقال الله: فقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لا تُكَلّفُ إلاّ نَفْسَكَ وَحَرّضِ المُؤْمِنِينَ فهو التحريض الذي أنزل الله عليهم في الأنفال, فلا يعجزك قائل: قد سقطت بين ظهري أناس كما شاء الله أن يكونوا.
12706ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, عن الحصين, عن يزيد, عن عكرمة والحسن قالا: قال في سورة الأنفال: إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ وَإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا ألْفا مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا بأنّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ثم نسخ فقال: الاَنَ خَفّفَ اللّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أنّ فِيكُمْ ضَعْفا... إلى قوله: وَاللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ.
12707ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن مغيرة, عن عكرمة, في قوله: إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ قال: واحد من المسلمين وعشرة من المشركين, ثم خفف عنهم فجعل عليهم أن لا يفرّ رجل من رجلين.
12708ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عظن مجاهد, قوله: إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ... إلى قوله: وَإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ قال: هذا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يوم بدر, جعل على الرجل منهم عشرة من الكفار, فضجّوا من ذلك, فجعل على الرجل رجلين تخفيفا من الله.
12709ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا إبراهيم بن يزيد, عن عمرو بن دينار وأبي معبد عن ابن عباس, قال: إنما أمر الرجل أن يصبر نفسه لعشرة, والعشرة لمئة إذ المسلمون قليل فلما كثر المسلمون خفف الله عنهم, فأمر الرجل أن يصبر لرجلين, والعشرة للعشرين, والمئة للمئتين.
12710ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن ابن أبي نجيح: إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ قال: كان فرض عليهم إذا لقي عشرون مئتين أن لا يفرّوا فإنهم إن لم يفرّوا غلبوا, ثم خفف الله عنهم وقال: إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ وَإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ ألْفٌ يَغْلِبُوا ألْفَيْنِ فيقول: لا ينبغي أن يفرّ ألف من ألفين, فإنهم إن صبروا لهم غلبوهم.
12711ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: الاَنَ خَفّفَ اللّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أنّ فِيكُمْ ضَعْفا إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ وَإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ ألْفٌ يَغْلِبُوا ألْفَيْنِ جعل الله على كل رجل رجلين بعد ما كان على كل رجل عشرة. وهذا الحديث عن ابن عباس.
12712ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يزيد بن هارون, عن جرير بن حازم, عن الزبير بن الخريت, عن عكرمة, عن ابن عباس: كان فرض على المؤمنين أن يقاتل الرجل منهم عشرة من المشركين, قوله: إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ وَإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا ألْفا فشقّ ذلك عليهم, فأنزل الله التخفيف, فجعل على الرجل أن يقاتل الرجلين, قوله: إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ فخفف الله عنهم, ونُقِصوا من الصبر بقدر ذلك.
12713ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السدي: إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ يقول: يقاتلوا مئتين, فكانوا أضعف من ذلك, فنسخها الله عنهم, فخفف فقال: فإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ فجعل أوّل مرّة الرجلَ لعشرة, ثم جعل الرجل لاثنين.
12714ـ حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ قال: كان فرض عليهم إذا لقي عشرون مئتين أن لا يفرّوا, فإنهم إن لم يفرّوا غلبوا, ثم خفف الله عنهم فقال: إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ وَإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ ألْفٌ يَغْلِبُوا ألْفَيْنِ بإذْنِ اللّهِ فيقول: لا ينبغي أن يفرّ ألف من ألفين, فإنهم إن صبروا لهم غلبوهم.
12715ـ حدثنا الحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوريّ, عن جويبر, عن الضحاك, قال: كان هذا واجبا أن لا يفرّ واحد من عشرة.
12716ـ وبه قال: أخبرنا الثوري, عن ليث, عن عطاء, مثل ذلك.
وأما قوله: بأنّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ فقد بيّنا تأويله.
وكان ابن إسحاق يقول في ذلك ما:
12717ـ حدثنا به ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: بأنّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ: أي لا يقاتلون على نية, ولا حقّ فيه, ولا معرفة لخير ولا شرّ.
وهذه الاَية, أعني قوله: إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ وإن كان مخرجها مخرج الخبر, فإن معناها الأمر, يدلّ على ذلك قوله: الاَنَ خَفّفَ اللّهُ عَنْكُمْ فلم يكن التخفيف إلا بعد التثقيل, ولو كان ثبوت العشرة منهم للمئة من عدوّهم كان غير فرض عليهم قبل التخفيف وكان ندبا لم يكن للتخفيف وجه لأن التخفيف إنما هو ترخيص في ترك الواحد من المسلمين الثبوت للعشرة من العدوّ, وإذا لم يكن التشديد قد كان له متقدما لم يكن للترخيص وجه, إذ كان المفهوم من الترخيص إنما هو بعد التشديد. وإذ كان ذلك كذلك, فمعلوم أن حكم قوله: الاَنَ خَفّفَ اللّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أنّ فِيكُمْ ضَعْفا ناسخ لحكم قوله: إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ وَإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا ألْفا مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا, وقد بيّنا في كتابنا «لطيف البيان عن أصول الأحكام» أن كل خبر من الله وعد فيه عباده على عمل ثوابا وجزاءً, وعلى تركه عقابا وعذابا, وإن لم يكن خارجا ظاهره مخرج الأمر, ففي معنى الأمر بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: وَعَلِمَ أنّ فِيكُمْ ضَعْفا فقرأه بعض المدنيين وبعض البصريين: «وَعَلِمَ أنّ فِيكُمْ ضَعْفا» بضم الضاد في جميع القرآن وتنوين الضعف على المصدر من ضَعُفَ الرجل ضُعْفا. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين: وَعَلِمَ أنّ فِيكُمْ ضَعْفا بفتح الضاد على المصدر أيضا من ضعف. وقرأه بعض المدنيين: «ضُعَفَاء» على تقدير فعلاء, جمع ضعيف على ضعفاء كما يجمع الشريك شركاء والرحيم رحماء.
وأولى القراءة في ذلك بالصواب قراءة من قرأه: «وعلم أن فيكم ضَعفا» و«ضُعفا», بفتح الضاد أو ضمها, لأنهما القراءتان المعروفتان, وهما لغتان مشهورتان في كلام العرب فصيحتان بمعنى واحد, فبأيتهما قرأ القارىء فهو مصيب الصواب. فأما قراءة من قرأ ذلك: «ضُعَفَاء» فإنها عن قراءة القرّاء شاذة, وإن كان لها في الصحة مخرج, فلا أحبّ لقارىء القراءة بها.
الآية : 67
القول في تأويل قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىَ حَتّىَ يُثْخِنَ فِي الأرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الاَخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }.
يقول تعالى ذكره: ما كان لنبيّ أن يحتبس كافرا قدر عليه وصار في يده من عَبَدَة الأوثان للفداء أو للمنّ. والأسر في كلام العرب: الحبس, يقال منه: مأسور, يراد به: محبوس, ومسموع منهم: أناله لله أسرا. وإنما قال الله جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم يعرّفه أن قتل المشركين الذين أسرهم صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثم فادى بهم كان أولى بالصواب من أخذ الفدية منهم وإطلاقهم.
وقوله: حتى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ يقول: حتى يبالغ في قتل المشركين فيها, ويقهرهم غلبة وقسرا, يقال منه: أثخن فلان في هذا الأمر إذا بالغ فيه, وحُكي أثخنته معرفة, بمعنى: قتلته معرفة. تريدون: يقول للمؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: تريدون أيها المؤمنون عرض الدنيا بأسركم المشركين, وهو ما عرض للمرء منها من مال ومتاع, يقول: تريدون بأخذكم الفداء من المشركين متاع الدنيا وطُعْمها. وَاللّهُ يُرِيدُ الاَخِرَةَ يقول: والله يريد لكم زينة الاَخرة, وما أعدّ للمؤمنين وأهل ولايته في جناته بقتلكم إياهم وإثخانكم في الأرض, يقول لهم: واطلبوا ما يريد الله لكم وله اعملوا لا ما تدعوكم إليه أهواء أنفسكم من الرغبة في الدنيا وأسبابها. وَاللّهُ عَزِيرٌ يقول: إن أنتم أردتم الاَخرة لم يغلبكم عدوّ لكم, لأن الله عزيز لا يقهر ولا يغلب, وإنه حَكِيمٌ في تدبيره أمره خلقه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
12718ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: ما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرَى حتى يُثْخِنَ في الأرْضِ وذلك يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل فلما كثروا واشتدّ سلطانهم, أنزل الله تبارك وتعالى بعد هذا في الأسارى: فإمّا مَنّا بَعْدُ وإمّا فِدَاءً فجعل الله النبيّ والمؤمنين في أمر الأسارى بالخيار, إن شاءوا قتلوهم وإن شاءوا استعبدوهم وإن شاءوا فادَوْهم.
12719ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرَى حتى يُثْخِنَ في الأرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيْا... الاَية, قال: أراد أصحاب نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر الفداء, ففادوهم بأربعة آلاف, ولعمري ما كان أثخن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ وكان أوّل قتال قاتله المشركين.
12720ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن فضيل, عن حبيب بن أبي عمرة, عن مجاهد, قال: الإثخان: القتل.
12721ـ حدثني الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا شريك, عن الأعمش, عن سعيد بن جبير, في قوله: ما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرَى حتى يُثْخِنَ في الأرْضِ قال: إذا أسرتموهم فلا تفادوهم حتى تثخنوا فيهم القتل.
12722ـ قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا إسرائيل, عن خصيف, عن مجاهد: ما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرَى... الاَية, نزلت الرخصة بعد, إن شئت فمُنّ وإن شئت ففَادِ.
12723ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ, قال: حدثنا عبيد بن سليمان, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرَى حتى يُثْخِنَ في الأرْضِ يعني: الذين أسروا ببدر.
12724ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: ما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرَى من من عدوه. حتى يُثْخِنَ في الأرْضِ: أي يثخن عدوّه, حتى ينفيهم من الأرض. تُرِيدُونَ عَرَض الدّنْيا: أي المتاع والفداء بأخذ الرجال. وَاللّهُ يُرِيدُ الاَخِرَةَ بقتلهم لظهور الدين الذي يريدون إطفاءه, الذي به تدرك الاَخرة.
12725ـ حدثني أبو السائب, قال: حدثنا أبو معاوية, قال: حدثنا الأعمش, عن عمرو بن مرّة, عن أبي عبيدة, عن عبد الله, قال: لما كان يوم بدر وجيء بالأسرى, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تَقُولُونَ في هَؤُلاءِ الأسْرَى؟» فقال أبو بكر: يا رسول الله قومك وأهلك, استبقهم واستأن بهم, لعلّ الله أن يتوب عليهم وقال عمر: يا رسول الله كذّبوك وأخرجوك, قدّمهم فاضرب أعناقهم وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله, انظر واديا كثير الحطب فأدخلهم فيه, ثم أضرمه عليهم نارا قال: فقال له العباس: قطعت رَحِمَكَ. قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبهم, ثم دخل فقال ناسٌ: يأخُذُ بقَوْلِ أبي بَكْرٍ, وَقالَ ناسٌ: يأْخُذُ بقَوْلِ عُمَرَ, وَقالَ ناسٌ: يَأْخُذُ بقَوْلِ عبَدْ اللّهِ بْنِ رَوَاحَةَ. ثم خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: «إن اللّهَ لَيُلِينُ قُلُوبَ رِجالٍ حتى تَكُونَ ألْيَنَ مِنَ اللّبَنِ, وإن اللّهَ لَيُشَدّدَ قُلُوبَ رِجالِ حتى تَكُونَ أشَدّ مِنَ الحِجارَةِ وَإنّ مَثَلَكَ يا أبا بَكْرٍ مَثَلُ إبْرَاهِيمَ, قالَ: مَنْ تَبِعَنِي فإنّهُ مِنّي وَمَنْ عَصَانِي فإنّكَ غَفُورٌ رُحِيمٌ وَمَثَلَكَ يا أبا بَكْرٍ مَثَلُ عِيسَى, قالَ: إنْ تُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ عِبادُكَ... الاَية, ومَثَلَكَ يا عُمَرَ مَثَلُ نُوحٍ قالَ: رَبّ لا تَذَرْ على الأرْضِ مِنَ الكافِرِينَ دَيّارا, وَمَثَلُكَ يا ابْنَ رَوَاحَةَ كمَثَلِ مُوسَى, قالَ: رَبّنا اطْمِسْ على أمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ على قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حتى يَرَوُا العَذَابَ الألِيمَ». قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنْتُمُ اليَوْمَ عالَةٌ, فَلا ينْفَلِتَنّ أحَدٌ مِنْهُمْ إلاّ بِفِدَاءٍ أوْ ضَرْبِ عُنُقٍ» قال عبد الله بن مسعود: إلا سهيل بن بيضاء, فإني سمعته يذكر الإسلام فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فما رأيتني في يوم أخوف أن تقع عليّ الحجارة من السماء مني في ذلك اليوم, حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إلاّ سُهَيْلَ بْنَ بَيْضَاءَ» قال: فأنزل الله: ما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرَى حتى يُثْخِنَ في الأرْضِ... إلى آخر الثلاث الاَيات.
12726ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عكرمة بن عمار, قال: حدثنا أبو زميل, قال: ثني عبد الله بن عباس, قال: لما أسروا الأسارى يعني يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيْنَ أبُو بَكْرٍ وَعُمَر وعَليّ؟» قال: «ما ترون في الأسارى؟» فقال أبو بكر: يا رسول الله هم بنو العم والعشيرة, وأرى أن تأخذ منهم فدية تكون لنا قوّة على الكفار, وعسى الله أن يهديهم للإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تَرَى يا ابْنَ الخَطّابِ؟» فقال: لا والذي لا إله إلا هو ما أرى الذي رأى أبو بكر يا نبيّ الله, ولكن أرى أن تمكننا منهم, فتمكن عليّا من عقيل فيضرب عنقه, وتمكن حمزة من العباس فيضرب عنقه, وتمكنني من فلان نسيب لعمر فأضرب عنقه, فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها. فهوِي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر, ولم يهو ما قلت. قال عمر: فلما كان من الغد حئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإذا هو وأبو بكر قاعدان يبكيان, فقلت: يا رسول الله أخبرني من أيّ شيء تبكي أنت وصاحبك, فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبْكِي للّذِي عَرَضَ لأصَحابِي مِنْ أخْذِهِمُ الفِدَاءَ, وَلَقَدْ عُرِضَ عَليّ عَذَابُكُمْ أدْنَى مِنْ هَذِهِ الشّجَرَةِ» لشجرة قريبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عزّ وجلّ ما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرَى حتى يُثْخِنَ في الأرْضِ... إلى قوله: حَلالاً طَيّبا وأحلّ الله الغنيمة لهم.
الآية : 68
القول في تأويل قوله تعالى: {لّوْلاَ كِتَابٌ مّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }.
يقول تعالى ذكره لأهل بدر الذين غنموا وأخذوا من الأسرى الفداء: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ يقول: لولا قضاء من الله سبق لكم أهل بدر في اللوح المحفوظ بأن الله محلّ لكم الغنيمة, وأن الله قضى فيما قضى أنه لا يضلّ قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون, وأنه لا يعذّب أحدا شهد المشهد الذي شهدتموه ببدر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ناصرا دين الله لنالكم من الله بأخذكم الغنيمة والفداء عذاب عظيم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
12727ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا ابن أبي عديّ, قال: حدثنا عوف, عن الحسن, في قوله: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ... الاَية, قال: إن الله كان مطعم هذه الأمة الغنيمة, وإنهم أخذوا الفداء من أسارى بدر قبل أن يؤمروا به. قال: فعاب الله ذلك عليهم, ثم أحله الله.
12728ـ حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع, قال: حدثنا بشر بن المفضل, عن عوف, عن الحسن, في قول اللّه: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ... الاَية, وذلك يوم بدر, أخذ أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم المغانم والأسارى قبل أن يؤمروا به, وكان الله تبارك وتعالى قد كتب في أمّ الكتاب المغانم والأسارى حلال لمحمد وأمته, ولم يكن أحله لأمة قبلهم. وأخذوا المغانم, وأسروا الأسارى قبل أن ينزل إليهم في ذلك, قال الله: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ يعني في الكتاب الأوّل أن المغانم والأساري حلال لكم لمسّكُمْ فِيما أخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ.
12729ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ... الاَية, وكانت الغنائم قبل أن يُبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم في الأمم إذا أصابوا مغنما جعلوه للقربان, وحرّم الله عليهم أن يأكلوا منه قليلاً أو كثيرا, حرم ذلك على كلّ نبيّ وعلى أمته, فكانوا لا يأكلون منه ولا يغلّون منه ولا يأخذون منه قليلاً ولا كثيرا إلا عذّبهم الله عليه. وكان الله حرمه عليهم تحريما شديدا, فلم يحلّه لنبيّ إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم. وكان قد سبق من الله في قضائه أن المغنم له ولأمته حلال, فذلك قوله يوم بدر في أخذ الفداء من الأسارى: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسّكُمْ فِيما أخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ.
12730ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو أسامة, عن عروة, عن الحسن: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ قال: إن الله كان معطي هذه الأمة الغنيمة, وفعلوا الذي فعلوا قبل أن تحلّ الغنيمة.
12731ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمرة قال: قال الأعمش, في قوله: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ قال: سبق من الله أن أحلّ لهم الغنيمة.
12732ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى, عن بشير بن ميمون, قال: سمعت سعيدا يحدث عن أبي هريرة, قال: قرأ هذه الاَية: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسّكُمْ فِيما أخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ قال: يعني: لولا أنه سبق في علمي أني سأحلّ الغنائم, لمسّكم فيما أخذتم من الأسارى عذاب عظيم.
12733ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا جابر بن نوح, وأبو معاوية, بنحوه, عن الأعمش, عن أبي صالح, عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أُحِلّتِ الغَنائمُ لاِءَحَد سُودِ الرّءُوسِ مِنْ قَبْلِكُمْ, كانَتْ تَنْزِلُ نارٌ مِنَ السّماءِ وتَأْكُلُها», حتى كان يوم بدر, فوقع الناس في الغنائم, فأنزل الله لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسّكُمْ... حتى بلغ حَلالاً طَيّبا.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن أبي صالح, عن أبي هريرة, عن النبيّ صلى الله عليه وسلم, بنحوه, قال: فلما كان يوم بدر أسرع الناس في الغنائم.
12734ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن فضيل, عن أشعث بن سوار, عن ابن سيرين, عن عبيدة, قال: أسر المسلمون من المشركين سبعين وقتلوا سبعين, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اخْتارُوا أنْ تَأْخُذُوا مِنْهُمْ الفِدَاءَ فَتَقْوَوْا بِهِ على عَدُوّكُمْ, وَإنْ قَبِلْتُمُوهُ قُتِلَ مِنْكُمْ سَبْعونَ, أوْ تَقْتُلُوهُمْ» فقالوا: بل نأخذ الفدية منهم, وقُتل منهم سبعون. قال عبيدة: وطلبوا الخيرتين كلتيهما.
12735ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن فضيل, عن أشعث, عن ابن سيرين, عن عبيدة, قال: كان فداء أسارى بدر: مئة أوظقية والأوقية أربعون درهما ومن الدنانير: ستة دنانير.
12736ـ حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم, قالا: حدثنا ابن علية, قال: حدثنا ابن عون, عن ابن سيرين, عن عبيدة, أنه قال في أسارى بدر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنْ شِئْتُمْ قَتَلْتُمُوهُمْ, وَإنْ شِئْتُمْ فادَيْتَمُوهُمْ وَاسْتَشْهَدَ مِنْكُمْ بِعِدّتِهِمْ» فقالوا: بلى, نأخذ الفداء فتستمتع به ويستشهد منا بعدتهم.
12737ـ حدثني أحمد بن محمد الطوسي, قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث, قال: حدثنا همام بن يحيى, قال: حدثنا عطاء بن السائب, عن أبي وائل, عن عبد الله بن مسعود, قال: أمر عمر رضي الله عنه بقتل الأسارى, فأنزل الله: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسّكُمْ فِيما أخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ.
12738ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ, قال: حدثنا عبيد بن سليمان, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ قال: كان المغنم محرما على كلّ نبيّ وأمته, وكانوا إذا غنموا يجعلون المغنم لله قربانا تأكله النار, وكان سبق في قضاء الله وعلمه أن يحلّ المغنم لهذه الأمة يأكلون في بطونهم.
12739ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن عطاء في قول الله: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسّكُمْ قال: كان في علم لله أن تحلّ لهم الغنائم, فقال: لولا كتاب من الله سبق بأنه أحلّ لكم الغنائم, لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم.
وقال آخرون: معنى ذلك: لولا كتاب من الله سبق لأهل بدر أن لا يعذبهم لمسهم عذاب عظيم. ذكر من قال ذلك:
12740ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو أحمد الزبيريّ, عن شريك, عن سالم, عن سعيد: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ قال: لأهل بدر من السعادة.
12741ـ حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا ابن نمير, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ لأهل بدر مشهدهم.
12742ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الحسن: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ قال: سبق من الله خير لأهل بدر.
12743ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسّكُمْ فِيما أخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ كان سبق لهم من الله خير, وأحل لهم الغنائم.
حدثني الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا عبد الوارث بن سعيد, عن عمرو بن عبيد, عن الحسن: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ قال: سبق أن لا يعذّب أحدا من أهل بدر.
حدثنا محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ لأهل بدر ومشهدهم إياه.
12744ـ حدثني يونس, قال: أخبرني ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسّكُمْ فِيما أخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ لمسكم فيما أخذتم من الغنائم يوم بدر قبل أن أحلها لكم. فقال: سبق من الله العفو عنهم, والرحمة لهم سبق أن لا يعذّب المؤمنين, لأنه لا يعذّب رسوله ومن آمن به وهاجر معه ونصره.
وقال آخرون: معنى ذلك: لولا كتاب من الله سبق أن لا يؤاخذ أحدا بفعل أتاه على جهالة, لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم. ذكر من قال ذلك:
12745ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, قوله: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ لأهل بدر ومشهدهم إياه, قال: كتاب سبق لقوله: وَما كانَ اللّهُ لِيُضِلّ قَوْما بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حتى يُبَيّنَ لَهُمْ ما يَتّقُونَ سبق ذلك وسبق أن لا يؤاخذ قوما فعلوا شيئا بجهالة. لَمَسّكُمْ فِيما أخَذْتُمْ قال ابن جريج: قال ابن عباس: فيما أخذتم مما أسرتم. ثم قال بعد: فَكُلُوا مِمّا غَنِمْتُمْ.
12746ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, قال: عاتبه في الأسارى وأَخْذ الغنائم, ولم يكن أحد قبله من الأنبياء يأكل مغنما من عدوّ له.
12747ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن محمد, قال: ثني أبو جعفر محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نُصِرْتُ بالرّعْبِ وَجُعِلَتْ لِيَ الأرْضُ مَسْجِدا وَطَهُورا, وأُعْطِيتُ جَوَامِعَ الكَلِمِ, وأُحِلّتْ لِيَ المَغانِمُ ولَمْ تَحِلّ لِنَبِيَ كانَ قَبْلِي, وأُعْطِيتُ الشّفاعَةَ, خَمْسٌ لَمْ يُؤتَهُنّ نَبِيّ كانَ قَبْلِي». قال محمد: فقال: ما كانَ لِنَبِيّ أي قبلك أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرَى... إلى قوله: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسّكُمْ فِيما أخَذْتُمْ أي من الأسارى والمغانم. عَذَابٌ عَظِيمٌ: أي لولا أنه سبق مني أن لا أعذّب إلا بعد النهي ولم أكن نهيتكم لعذّبتكم فيما صنعتم, ثم أحلها له ولهم رحمة ونعمة وعائدة من الرحمن الرحيم.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ما قد بيناه قبل, وذلك أن قوله: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ خبر عام غير محصور على معنى دون معنى. وكل هذه المعاني التي ذكرتها عمن ذكرت مما قد سبق في كتاب الله أنه لا يؤاخذ بشيء منها هذه الأمة, وذلك ما عملوا من عمل بجهالة, وإحلال الغنيمة والمغفرة لأهل بدر, وكل ذلك مما كتب لهم. وإذ كان ذلك كذلك فلا وجه لأن يخصّ من ذلك معنى دون معنى, وقد عمّ الله الخبر بكل ذلك بغير دلالة توجب صحة القول بخصوصه.
12748ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: لم يكن من المؤمنين أحد ممن نصر إلا أحبّ الغنائم إلا عمر بن الخطاب, جعل لا يلقي أسيرا إلا ضرب عنقه, وقال: يا رسول الله مالنا وللغنائم, نحن قوم نجاهد في دين الله حتى يعبد الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَوْ عُذّبْنا فِي هَذَا الأمْرِ يا عُمَرُ ما نَجا غيرُكَ». قال الله: لا تعودوا تستحلون قبل أن أحلّ لكم.
12749ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, قال: قال ابن إسحاق: لمّا نزلت: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ... الاَية, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَوْ نَزَلَ عَذَابٌ مِنَ السّماءِ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ إلاّ سَعْدُ بْنُ مُعاذٍ» لقوله: يا نبيّ الله كان الإثخان في القتل أحبّ إليّ من استبقاء الرجال.
الآية : 69
القول في تأويل قوله تعالى: {فَكُلُواْ مِمّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيّباً وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ }.
يقول تعالى ذكره للمؤمنين من أهل بدر: فكلوا أيها المؤمنون مما غنمتم من أموال المشركين حلالاً بإحلاله لكم طيبا. وَاتّقُوا اللّهَ يقول: وخافوا الله أن تعودوا أن تفعلوا في دينكم شيئا بعد هذه من قبل أن يعهد فيه إليكم, كما فعلتم في أخذ الفداء وأكل الغنيمة وأخذتموهما من قبل أن يحلا لكم. إنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وهذا من المؤخر الذي معناه التقديم, وتأويل الكلام: فكلوا مما غنمتم حلالاً طيبا, إن الله غفور رحيم, واتقوا الله. ويعني بقوله: إنّ اللّهَ غَفُورٌ لذنوب أهل الإيمان من عباده, رَحِيمٌ بهم أن يعاقبهم بعد توبتهم منها