تفسير الطبري تفسير الصفحة 191 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 191
192
190
 الآية : 27
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمّ يَتُوبُ اللّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَىَ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ }.
يقول تعالى ذكره: ثم يتفضل الله بتوفيقه للتوبة والإنابة إليه من بعد عذابه الذي به عذّب من هلك منهم قتلاً بالسيف على من يشاء أي يتوب الله على من يشاء من الأحياء يقبل به إلى طاعته والله غَفُورٌ لذنوب من أناب وتاب إليه منهم ومن غيرهم منها, رَحِيمٌ بهم فلا يعذبهم بعد توبتهم, ولا يؤاخذهم بها بعد إنابتهم.
الآية : 28
القول في تأويل قوله تعالى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِنّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }.
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله وأقرّوا بوحدانيته: ما المشركون إلا نجس.
واختلف أهل التأويل في معنى النجَس وما السبب الذي من أجله سماهم بذلك, فقال بعضهم: سماهم بذلك لأنهم يُجْنِبون فلا يغتسلون, فقال: هم نجس, ولا يقربوا المسجد الحرام, لأن الجنب لا ينبغي له أن يدخل المسجد. ذكر من قال ذلك:
12962ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, في قوله: إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ: لا أعلم قتادة إلا قال: النجَس: الجنابة.
12963ـ وبه عن معمر, قال: وبلغني أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لقي حذيفة, وأخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم بيده, فقال حذيفة: يا رسول الله إني جُنُب فقال: «إنّ المُؤْمِنَ لا يَنْجُس».
12964ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, في قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ: أي أجناب.
وقال آخرون: معنى ذلك: ما المشركون إلا رجس خنزير أو كلب. وهذ قول رُوي عن ابن عباس من وجه غير حميد, فكرهنا ذكره.
وقوله: فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا يقول للمؤمنين: فلا تدعوهم أن يقربوا المسجد الحرام بدخولهم الحرَم. وإنما عني بذلك منعهم من دخول الحرَم, لأنهم إذا دخلوا الحرَم فقد قربوا المسجد الحرام.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك, فقال بعضهم فيه نحو الذي قلناه. ذكر من قال ذلك:
12965ـ حدثنا بشر وابن المثنى, قالا: حدثنا أبو عاصم, قال: أخبرنا ابن جريج, قال: قال عطاء: الحرَم كله قبلة ومسجد, قال: فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ لم يعن المسجد وحده, إنما عنى مكة والحرَم. قال ذلك غير مرة.
وذُكر عن عمر بن عبد العزيز في ذلك ما:
12966ـ حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير, قال: ثني الوليد بن مسلم, قال: حدثنا أبو عمرو: أن عمر بن عبد العزيز كتب: أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين وأتبع في نهيه قول الله: إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ.
12967ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن فضيل, عن أشعث, عن الحسن: إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ قال: لا تصافحوهم, فمن صافحهم فليتوضأ.
وأما قوله: بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا فإنه يعني: بعد العام الذي نادى فيه عليّ رحمة الله عليه ببراءة, وذلك عامَ حجّ بالناس أبو بكر, وهي سنة تسع من الهجرة. كما:
12968ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا وهو العام الذي حجّ فيه أبو بكر, ونادى عليّ رحمة الله عليهما بالأذان وذلك لتسع سنين مضين من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحجّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم من العام المقبل حِجة الوداع لم يحجّ قبلها ولا بعدها.
وقوله: وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً يقول للمؤمنين: وإن خفتم فاقة وفقرا, بمنع المشركين من أن يقربوا المسجد الحرام. فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ إنْ شَاءَ يقال منه: عال يَعِيل عَيْلَةً وعُيُولاً, ومنه قول الشاعر:
وَما يَدْرِي الفَقِيرُ مَتَى غناهُوَما يَدْرِي الغَنيّ مَتَى يَعِيلُ
وقد حُكي عن بعضهم أن من العرب من يقول في الفاقة: عال يَعُول بالواو. وذكر عن عمر بن فائد أنه كان تأوّل قوله: وَإنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً بمعنى: وإذ خفتم, ويقول: كان القوم قد خافوا, وذلك نحو قول القائل لأبيه: إن كنت أبي فأكرمني, بمعنى: إذ كنت أبي. وإنما قيل ذلك لهم, لأن المؤمنين خافوا بانقطاع المشركين عن دخول الحرم انقطاع تجاراتهم ودخول ضرر عليهم بانقطاع ذلك, وأمّنهم الله من العَيْلة وعوّضهم مما كانوا يكرهون انقطاعه عنهم ما هو خير لهم منه, وهو الجزية, فقال لهم: قاتلُوا الّذِينَ لا يُؤْمنُونَ باللّهِ وَلا باليَوْمِ الاَخِرِ وَلا يُحَرّمُونَ ما حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ... إلى: صَاغِرُونَ.
وقال قوم بإدرار المطر عليهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
12969ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا قال: لما نفى الله المشركين عن المسجد الحرام ألقى الشيطان في قلوب المؤمنين الحزن, قال: من أين تأكلون وقد نُفي المشركون وانقطعت عنكم العِير؟ فقال الله: وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ إنْ شاءَ فأمرهم بقتال أهل الكتاب, وأغناهم من فضله.
حدثنا هناد بن السريّ, قال: حدثنا أبو الأحوص, عن سماك, عن عكرمة, في قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا قال: كان المشركون يجيئون إلى البيت, ويجيئون معهم بالطعام ويَتّجرون فيه فلما نهُوُا أن يأتوا البيت قال المسلمون: من أين لنا طعام؟ فأنزل الله: وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ إنْ شَاءَ فأنزل عليهم المطر, وكثر خيرهم حين ذهب عنهم المشركون.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا حميد بن عبد الرحمن, عن عليّ بن صالح, عن سماك, عن عكرمة: إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ... الآية, ثم ذكر نحو حديث هناد, عن أبي الأحوص,
12970ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا مؤمل, قال: حدثنا سفيان, عن واقد, عن سعيد بن جبير, قال: لما نزلت: إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا شقّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقالوا: من يأتينا بطعامنا, ومن يأتينا بالمتاع؟ فنزلت: وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ إنْ شَاءَ.
12971ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن واقد مولى زيد بن خلدة, عن سعيد بن جبير, قال: كان المشركون يقدمون عليهم بالتجارة, فنزلت هذه الآية: إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ... إلى قوله: عَيلَةً قال: الفقر. فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ.
12972ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن إدريس, عن أبيه, عن عطية العوفيّ, قال: قال المسلمون: قد كنا نصيب من تجارتهم وبياعاتهم, فنزلت: إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ... إلى قوله: مِنْ فَضْلِهِ.
12973ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن إدريس, قال: سمعت أبي, أحسبه قال: أنبأنا أبو جعفر, عن عطية, قال: لما قيل: ولا يحجّ بعد العام مشرك قالوا: قد كنا نصيب من بياعاتهم في الموسم. قال: فنزلت: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ يعني: بما فاتهم من بياعاتهم.
12974ـ حدثنا أبو كريب وابن وكيع, قالا: حدثنا ابن يمان, عن أبي سنان, عن ثابت, عن الضحاك: وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ قال: بالجزية.
12975ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن يمان وأبو معاوية, عن أبي سنان, عن ثابت, عن الضحاك, قال: أخرج المشركون من مكة, فشقّ ذلك على المسلمين, وقالوا: كنا نصيب منهم التجارة والمِيرة. فأنزل الله: قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَلا باليَوْمِ الاَخِرِ.
12976ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ, قال: حدثنا عبيد بن سليمان, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ كان ناس من المسلمين يتألفون العير فلما نزلت براءة بقتال المشركين حيثما ثُقِفوا, وأن يقعدوا لهم كل مرصد, قذف الشيطان في قلوب المؤمنين. فمن أين تعيشون وقد أمرتم بقتال أهل العِير؟ فعلم الله من ذلك ما علم, فقال: أطيعوني, وامضوا لأمري, وأطيعوا رسولي, فإني سوف أغنيكم من فضلي فتوكل لهم الله بذلك.
12977ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ... إلى قوله: فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ إنْ شاءَ قال: قال المؤمنون: كنا نصيب من متاجر المشركين. فوعدهم الله أن يغنيهم من فضله عوضا لهم بأن لا يقربوهم المسجد الحرام. فهذه الآية من أوّل براءة في القراءة, ومن آخرها في التأويل: قاتِلُوا الّذِينَ لا يؤمِنُونَ باللّهِ وَلا باليَوْمِ الاَخِرِ... إلى قوله: عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ حين أمر محمد وأصحابه بغزوة تبوك.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, بنحوه.
12978ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: لما نفى الله المشركين عن المسجد الحرام, شقّ ذلك على المسلمين, وكانوا يأتون ببياعات ينتفع بذلك المسلمون, فأنزل الله تعالى ذكره: وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فأغناهم بهذا الخراج الجزية الجارية عليهم, يأخذونها شهرا شهرا, عاما عاما. فليس لأحد من المشركين أن يقرَب المسجد الحرام بعد عامهم بحال إلا صاحب الجزية, أو عبد رجل من المسلمين.
12979ـ حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا ابن جريج, قال: أخبرنا أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في قوله: إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا إلا أن يكون عبدا أو أحدا من أهل الذمة.
12980ـ قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, في قوله: فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا قال: إلا صاحب جزية, أو عبدا لرجل من المسلمين.
حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة, قال: حدثنا حجاج, عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج, قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في هذه الآية: إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ إلا أن يكون عبدا أو أحدا من أهل الجزية.
12981ـ حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, في قوله: وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ قال: أغناهم الله بالجزية الجارية شهرا فشهرا وعاما فعاما.
12982ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا عباد بن العوّام, عن الحجاج, عن أبي الزبير, عن جابر: إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا قال: لا يقرب المسجد الحرام بعد عامه هذا مشرك ولا ذميّ.
12983ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً وذلك أن الناس قالوا: لُتْقَطَعنّ عنا الأسواق ولَتهلِكنّ التجارة وليذهبنّ ما كنا نصيب فيها من المرافق فنزل: وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ من وجه غير ذلك إنْ شاءَ... إلى قوله: وَهُمْ صَاغِرُونَ, ففي هذا عوض مما تخوّفتم من قطع تلك الأسواق. فعوّضهم الله بما قطع عنهم من أمر الشرك ما أعطاهم من أعناق أهل الكتاب من الجزية.
وأما قوله: إنّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ فإن معناه: إن الله عليم بما حدثْتكم به أنفسكم أيها المؤمنون من خوف العيلة عليها بمنع المشركين من أن يقربوا المسجد الحرام, وغير ذلك من مصالح عباده, حكيم في تدبيره إياهم وتدبير جميع خلقه.
الآية : 29
القول في تأويل قوله تعالى: {قَاتِلُواْ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاَخِرِ وَلاَ يُحَرّمُونَ مَا حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقّ مِنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتّىَ يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ }.
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم: قاتِلُوا أيها المؤمنون القوم الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَلا بالْيَوْمِ الاَخِرِ يقول: ولا يصدّقون بجنة ولا نار, وَلا يُحَرّمُونَ ما حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينونَ دِينَ الحَقّ يقول: ولا يطيعون الله طاعة الحقّ, يعني: أنهم لا يطيعون طاعة أهل الإسلام مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ وهم اليهود والنصارى, وكل مطيع ملكا أو ذا سلطان, فهو دائن له, يقال منه: دان فلان لفلان فهو يدين له دينا, قال زهير:
لَئِنْ حَلَلْتَ بِجَوَ فِي بَنِي أسَدٍفِي دِينَ عَمْروٍ وَحالَتْ بيْنَنا فَدَكُ
وقوله: مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ يعني: الذين أعطوا كتاب الله, وهم أهل التوراة والإنجيل. حتى يُعُطُوا الجِزْيَةَ والجزية: الفعلة من جَزَى فلان فلانا ما عليه: إذا قضاه, يجزيه. والجزية مثل القِعْدة والجِلْسة.
ومعنى الكلام: حتى يعطوا الخراج عن رقابهم الذي يبذلونه للمسلمين دفعا عنها.
وأما قوله: عَنْ يَدٍ فإنه يعني: من يده إلى يد من يدفعه إليه, وكذلك تقول العرب لكل معطٍ قاهرا له شيئا طائعا له أو كارها: أعطاه عن يده وعن يد وذلك نظير قولهم: كلمته فما لفم ولقيته كفة لكفة, وكذلك أعطيته عن يد ليد.
وأما قوله: وَهُمْ صَاغِرُونَ فإن معناه: وهم أذلاء مقهورون, يقال للذليل الحقير: صاغر. وذُكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمره بحرب الروم, فغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزولها غزوة تبوك. ذكر من قال ذلك:
12984ـ حدثني محمد بن عروة, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ وَلا يُحَرّمُونَ ما حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينونَ دِينَ الحَقّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حتى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ حين أمر محمد وأصحابه بغزوة تبوك.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, نحوه.
واختلف أهل التأويل في معنى الصغار الذي عناه الله في هذا الموضع, فقال بعضهم: أن يعطيها وهو قائم والاَخذ جالس. ذكر من قال ذلك:
12985ـ حدثني عبد الرحمن بن بشر النيسابوري, قال: حدثنا سفيان, عن ابن سعد, عن عكرمة: حتى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ قال: أي تأخذها وأنت جالس وهو قائم.
وقال آخرون: معنى قوله: حتى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ عن أنفسهم بأيديهم يمشون بها وهم كارهون, وذلك قول رُوي عن ابن عباس من وجه فيه نظر.
وقال آخرون: إعطاؤهم إياها هو الصغار.
الآية : 30
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنّىَ يُؤْفَكُونَ }.
اختلف أهل التأويل في القائل: عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ فقال بعضهم: كان ذلك رجلاً واحدا, هو فنحاص. ذكر من قال ذلك:
12986ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قال: سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير, قوله: وَقالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ, قال: قالها رجل واحد, قالوا: إن اسمه فنحاص, وقالوا: هو الذي قال: إنّ اللّهَ فَقِيرٌ ونَحنُ أغْنِياءُ.
وقال آخرون: بل كان ذلك قول جماعة منهم. ذكر من قال ذلك:
12987ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا يونس بن بكير, قال: حدثنا محمد بن إسحاق, قال: ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, قال: ثني سعيد بن جبير أو عكرمة, عن ابن عباس, قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلامُ بن مشكم, ونعمان بن أوفى, وشاس بن قيس, ومالك بن الصيف, فقالوا: كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا, وأنت لا تزعم أن عزيرا ابن الله؟ فأنزل في ذلك من قولهم: وَقالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقالَتِ النّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللّهِ... إلى: أنّى يُؤْفَكُونَ.
12988ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: وَقالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وإنما قالوا: هو ابن الله من أجل أن عزيرا كان في أهل الكتاب وكانت التوراة عندهم يعملون بها ما شاء الله أن يعملوا, ثم أضاعوها وعملوا بغير الحقّ. وكان التابوت فيهم فلما رأى الله أنهم قد أضاعوا التوراة وعملوا بالأهواء, رفع الله عنهم التابوت, وأنساهم التوراة ونسخها من صدورهم, وأرسل الله عليهم مرضا, فاستطلقت بطونهم, حتى جعل الرجل يمشي كَبِدُه, حتى نسوا التوراة, ونسخت من صدورهم, وفيهم عزير. فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا بعد ما نسخت التوراة من صدورهم, وكان عزير قبل من علمائهم, فدعا عزير الله وابتهل إليه أن يردّ إليه الذي نسخ من صدره من التوراة. فبينما هو يصلي مبتهلاً إلى الله, نزل نور من الله فدخل جوفه, فعاد إليه الذي كان ذهب من جوفه من التوراة, فأذن في قومه فقال: يا قوم قد آتاني الله التوراة, وردّها إليّ فعلق يعلمهم, فمكثوا ما شاء الله وهو يعلمهم. ثم إن التابوت نزل بعد ذلك, وبعد ذهابه منهم فلما رأوا التابوت عرضوا ما كان فيه على الذي كان عزير يعلمهم, فوجدوه مثله, فقالوا: والله ما أوتي عزير هذا إلا أنه ابن الله.
12989ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وَقالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ إنما قالت ذلك, لأنهم ظهرت عليهم العمالقة فقتلوهم, وأخذوا التوراة, وذهب علماؤهم الذين بقوا فدفنوا كتب التوراة في الجبال. وكان عزير غلاما يتعبد في رءوس الجبال لا ينزل إلا يوم عيد, فجعل الغلام يبكي ويقول: ربّ تركت بني إسرائيل بغير عالم فلم يزل يبكي حتى سقطت أشفار عينيه. فنزل مرّة إلى العيد فلما رجع إذا هو بامرأة قد مثلت له عند قبر من تلك القبور تبكي وتقول: يا مطعماه, ويا كاسياه فقال لها: ويحك, من كان يطعمك ويكسوك ويسقيك وينفعك قبل هذا الرجل؟ قالت: الله. قال: فإن الله حيّ لم يمت. قالت: يا عزير, فمن كان يعلم العلماء قبل بني إسرائيل؟ قال: الله. قالت: فلم تبكي عليهم؟ فلما عرف أنه قد خُصِم ولى مدبرا, فدعته فقالت: يا عزير إذا أصبحت غدا فأت نهر كذا وكذا فاغتسل فيه, ثم اخرج فصلّ ركعتين, فإنه يأتيك شيخ فما أعطاك فخذه فلما أصبح, انطلق عزير إلى ذلك النهر, فاغتسل فيه, ثم خرج فصلى ركعتين, فجاءه الشيخ فقال: افتح فمك ففتح فمه, فألقى فيه شيئا كهيئة الجمرة العظيمة مجتمعا كهيئة القوارير ثلاث مرار. فرجع عزير وهو من أعلم الناس بالتوراة, فقال: يا بني إسرائيل, إني قد جئتكم بالتوراة. فقالوا يا عزير ما كنت كذّابا. فعمد فربط على كلّ أصبع له قلما, وكتب بأصابعه كلها, فكتب التوراة كلها. فلما رجع العلماء أخبروا بشأن عزير, فاستخرج أولئك العلماء كتبهم التي كانوا دفنوها من التوراة في الجبال, وكانت في خوابٍ مدفونة, فعارضوها بتوراة عزير فوجدوها مثلها, فقالوا: ما أعطاك الله هذا إلا أنك ابنه.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة وبعض المكيين والكوفيين: «وَقالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ» لا ينوّنون «عزيرا». وقرأه بعض المكيين والكوفيين: عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ بتنوين «عزير». قال: هو اسم مجرى وإن كان أعجميا لخفته, وهو مع ذلك غير منسوب إلى الله, فيكون بمنزلة قول القائل: زيد بن عبد الله, وأوقع الابن موقع الخبر, ولو كان منسوبا إلى الله لكان الوجه فيه إذا كان الابن خبرا: الإجراء والتنوين, فكيف وهو منسوب إلى غير أبيه. وأما من ترك تنوين «عزير», فإنه لما كانت الباء من ابن ساكنة مع التنوين الساكن والتقى ساكنان فحذف الأوّل منهما استثقالاً لتحريكه, قال الراجز:
لَتَجِدَنّي بالأَمِيرِ بَرّاوبالقَناةِ مِدْعَسا مِكَراإذا غَطَيْفُ السّلَمِيّ فَرّا
فحذف النون للساكن الذي استقبلها.
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ بتنوين «عزير» لأن العرب لا تنوّن الأسماء إذا كان الابن نعتا للاسم, كقولهم: هذا زيد بن عبد الله, فأرادوا الخبر عن عُزير بأنه ابن الله, ولم يريدوا أن يجعلوا الابن له نعتا. والابن في هذا الموضع خبر لعزير, لأن الذين ذكر الله عنهم أنهم قالوا ذلك, إنما أخبروا عن عزير أنه كذلك, وإن كانوا بقيلهم ذلك كانوا كاذبين على الله مفترين. وَقالَتِ النّصَارَى المسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذلكَ قَوْلُهُمْ بأفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ يعني قول اليهود: عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ. يقول: نسبة قول هؤلاء في الكذب على الله والفرية عليه ونسبتهم المسيح إلى أنه لله ابن ككذب اليهود وفريتهم على الله في نسبتهم عزير إلى أنه لله ابن, ولا ينبغي أن يكون لله ولد سبحانه, بل له ما في السموات والأرض, كلّ له قانتون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
12990ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس, قوله: يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ يقول: يشبهون.
12991ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ضاهت النصارى قول اليهود قبلهم.
12992ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ النصارى يضاهئون قول اليهود في عزير.
12993ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج: يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ يقول: النصارى يضاهئون قول اليهود.
12994ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ يقول: قالوا مثل ما قال أهل الأوثان.
وقد قيل: إن معنى ذلك: يحكون بقولهم قول أهل الأديان الذين قالوا: اللات والعُزّى ومناة الثالثة الأخرى.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الحجاز والعراق: «يُضَاهُونَ» بغير همز. وقرأه عاصم: يُضَاهِئُونَ بالهمز, وهي لغة لثقيف. وهما لغتان, يقال: ضاهيته على كذا أضاهيه مضاهاة وضاهأته عليه مضاهأة, إذا مالأته عليه وأعنته.
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك ترك الهمز, لأنها القراءة المستفيضة في قرأة الأمصار واللغة الفصحى.
وأما قوله: قاتَلَهُمُ اللّهُ فإن معناه فيما ذكر عن ابن عباس, ما:
12995ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: قاتَلَهُمُ اللّهُ يقول: لعنهم الله, وكلّ شيء في القرآن «قتل» فهو لعن.
وقال ابن جريج في ذلك, ما:
12996ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قوله: قاتَلَهُمُ اللّهُ يعني النصارى, كلمةٌ من كلام العرب.
فأما أهل المعرفة بكلام العرب فإنهم يقولون معناه: قتلهم الله, والعرب تقول: قاتعك الله, وقاتعها الله بمعنى: قاتلك الله, قالوا: وقاتعك الله أهون من قاتله الله. وقد ذكروا أنهم يقولون: شاقاه الله ما باقاه, يريدون: أشقاه الله ما أبقاه. قالوا: ومعنى قوله: قاتَلَهُمُ اللّهُ كقوله: قُتِلَ الخَرّاصُونَ وقُتِلَ أصَحابُ الأُخْدُودِ واحد, وهو بمعنى التعجب. فإن كان الذي قالوا كما قالوا, فهو من نادر الكلام الذي جاء على غير القياس, لأن فاعلت لا تكاد أن تجيء فعلاً إلا من اثنين, كقولهم: خاصمت فلانا وقاتلته, وما أشبه ذلك. وقد زعموا أن قولهم: عافاك الله منه, وأن معناه: أعفاك الله, بمعنى الدعاء لمن دعا له بأن يعفيه من السوء.
وقوله: أنّى يُؤْفَكُونَ يقول: أيّ وجه يذهب بهم ويحيدون, كيف يصدّون عن الحقّ, وقد بينا ذلك بشواهده فيما مضى قبل.
الآية : 31
القول في تأويل قوله تعالى: {اتّخَذُوَاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُوَاْ إِلاّ لِيَعْبُدُوَاْ إِلَـَهاً وَاحِداً لاّ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ }.
يقول جلّ ثناؤه: اتخذ اليهود أحبارهم, وهم العلماء. وقد بينت تأويل ذلك بشواهده فيما مضى من كتابنا هذا. قيل واحدهم حِبْر وحَبْر بكسر الحاء منه وفتحها. وكان يونس الجرميّ فيما ذكر عنه يزعم أنه لم يسمع ذلك إلا «حِبر» بكسر الحاء, ويحتجّ بقول الناس: هذا مداد حِبْر, يراد به: مداد عالم. وذكر الفراء أنه سمعه حِبرا وحَبرا بكسر الحاء وفتحها. والنصارى رهبانهم, وهم أصحاب الصوامع وأهل الاجتهاد في دينهم منهم. كما:
12997ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سلمة, عن الضحاك: اتّخَذُوا أحبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ قال: قرّاءهم وعلماءهم.
أرْبابا مِنْ دُونِ اللّهِ يعني: سادة لهم من دون الله يطيعونهم في معاصي الله, فيحلون ما أحلوه لهم مما قد حرّمه الله عليهم ويحرّمون ما يحرّمونه عليهم مما قد أحله الله لهم. كما:
12998ـ حدثني الحسن بن يزيد الطحان, قال: حدثنا عبد السلام بن حرب الملائي, عن غطيف بن أعين, عن مصعب بن سعد, عن عديّ بن حاتم, قال: انتهيت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ في سورة براءة: اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْبابا مِنْ دُونِ اللّهِ فقال: «أَما إنّهُمْ لم يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ, ولَكِنْ كَانُوا يُحِلّونَ لهم فَيُحِلّونَ».
حدثنا أبو كريب وابن وكيع, قالا: حدثنا مالك بن إسماعيل, وحدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد جميعا عن عبد السلام بن حرب, قال: حدثنا غطيف بن أعين, عن مصعب بن سعد, عن عديّ بن حاتم, قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب, فقال: «يا عَدِيّ اطْرَحْ هذا الوَثَنَ مِنْ عُنُقِكَ» قال: فطرحته وانتهيت إليه وهو يقرأ في سورة براءة, فقرأ هذه الآية: اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْبابا مِنْ دُونِ اللّهِ قال: قلت: يا رسول الله إنا لسنا نعبدهم فقال: «أليس يَحرّمونَ ما أحَلّ اللّهُ فَتُحَرّمُونَهُ, ويُحِلّونَ ما حَرّمَ اللّهُ فَتُحِلّونَهُ؟» قال: قلت: بلى. قال: «فَتِلكَ عِبادَتُهُمْ» واللفظ لحديث أبي كريب.
حدثني سعيد بن عمرو السكوني, قال: حدثنا بقية عن قيس بن الربيع, عن عبد السلام بن حرب النهدي, عن غطيف, عن مصعب بن سعد, عن عديّ بن حاتم, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة براءة فلما قرأ: اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْبابا مِنْ دُونِ اللّهِ قلت: يا رسول الله, أما إنهم لم يكونوا يصلون لهم؟ قال: «صَدَقْتَ, ولَكِنْ كانُوا يُحِلّونَ لَهُمْ ما حَرّمَ اللّهُ فَيَسْتَحِلّونَهُ, ويُحَرّمُونَ ما أحَلّ اللّهُ لَهُمْ فَيُحَرّمُونَهُ».
12999ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, قال: حدثنا سفيان, عن حبيب بن أبي ثابت, عن أبي البختري, عن حذيفة, أنه سئل عن قوله: اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْبابا مِنْ دُونِ اللّهِ كانوا يعبدونهم؟ قال: لا, كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه, وإذا حرّموا عليهم شيئا حرّموه.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن حبيب, عن أبي البختريّ, قال: قيل لأبي حذيفة فذكر نحوه, غير أنه قال: ولكن كانوا يحلون لهم الحرام فيستحلونه, ويحرّمون عليهم الحلال فيحرّمونه.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يزيد بن هارون, عن العوّام بن حوشب, عن حبيب, عن أبي البختري قال: قيل لحذيفة: أرأيت قول الله: اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ؟ قال: أما إنهم لم يكونوا يصومون لهم, ولا يصلون لهم, ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه, وإذا حرّموا عليهم شيئا أحله الله لهم حرّموه, فتلك كانت ربوبيتهم.
13000ـ قال: حدثنا جرير وابن فضيل, عن عطاء, عن أبي البختري: اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْبابا مِنْ دُونِ اللّهِ قال: انطلقوا إلى حلال الله فجعلوه حراما, وانطلقوا إلى حرام الله فجعلوه حلالاً, فأطاعوهم في ذلك, فجعل الله طاعتهم عبادتهم, ولو قالوا لهم اعبدونا لم يفعلوا.
حدثني الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوري, عن حبيب بن أبي ثابت, عن أبي البختري, قال: سأل رجل حذيفة, فقال: يا أبا عبد الله أرأيت قوله: اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْبابا مِنْ دُونِ اللّهِ أكانوا يعبدونهم؟ قال: لا, كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه, وإذا حرّموا عليهم شيئا حرّموه.
13001ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن أبي عديّ, عن أشعث, عن الحسن: اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْبابا قال: في الطاعة.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْبابا مِنْ دُونِ اللّهِ يقول: وزينوا لهم طاعتهم.
13002ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْبابا مِنْ دُونِ اللّهِ قال عبد الله بن عباس: لم يأمروهم أن يسجدوا لهم, ولكن أمروهم بمعصية الله, فأطاعوهم, فسماهم الله بذلك أربابا.
13003ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن نمير, عن أبي جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية: اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْبابا قال: قلت لأبي العالية: كيف كانت الربوبية التي كانت في بني إسرائيل؟ قال قالوا: ما أمرونا به ائتمرنا, وما نهونا عنا انتهينا لقولهم: وهم يجدون في كتاب الله ما أمروا به وما نهوا عنه, فاستنصحوا الرجال, ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم.
13004ـ حدثني بشر بن سويد, قال: حدثنا سفيان, عن عطاء بن السائب, عن أبي البختري, عن حذيفة: اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْبابا مِنْ دُونِ اللّهِ قال: لم يعبدوهم, ولكنهم أطاعوهم في المعاصي.
وأما قوله: والمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ فإن معناه: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم والمسيح ابن مريم أربابا من دون الله.
وأما قوله: وَما أُمِرُوا إلاّ لِيَعْبُدُوا إلَها وَاحِدا فإنه يعني به: وما أمر هؤلاء اليهود والنصارى الذين اتخذوا الأحبار والرهبان والمسيح أربابا إلا أن يعبدوا معبودا واحدا, وأن يطيعوا إلا ربّا واحدا دون أرباب شتى وهو الله الذي له عبادة كلّ شيء وطاعة كلّ خلق, المستحقّ على جميع خلقه الدينونة له بالوحدانية والربوبية, لا إله إلا هو. يقول تعالى ذكره: لا تنبغي الألوهة إلا لواحد الذي أمر الخلق بعبادته, ولزمت جميع العباد طاعته. سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ يقول: تنزيها وتطهيرا لله عما يشرك في طاعته وربوبيته القائلون عزير ابن الله, والقائلون المسيح ابن الله, المتخذون أحبارهم أربابا من دون الله