تفسير الطبري تفسير الصفحة 192 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 192
193
191
 الآية : 32
القول في تأويل قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَىَ اللّهُ إِلاّ أَن يُتِمّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ }.
يقول تعالى ذكره: يريد هؤلاء المتخذون أحبارهم ورهبانهم والمسيح ابن مريم أربابا أنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللّهِ بأفْوَاهِهِمْ يعني: أنهم يحاولون بتكذيبهم بدين الله الذي ابتعث به رسوله وصدّهم الناس عنه بألسنتهم أن يبطلوه, وهو النور الذي جعله الله لخلقه ضياء. ويَأبَى اللّهُ إلاّ أنْ يُتِمّ نُورَهُ يعلو دينه وتظهر كلمته, ويتمّ الحقّ الذي بعث به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم, ولو كره إتمام الله إياه الكافرون, يعني: جاحديه المكذّبين به.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
13005ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: يُرِيدُونَ أنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللّهِ بأفْوَاهِهِمْ يقول: يريدون: أن يطفئوا الإسلام بكلامهم.
الآية : 33
القول في تأويل قوله تعالى: {هُوَ الّذِيَ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىَ وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ }.
يقول تعالى ذكره: الله الذي يأبى إلا إتمام دينه ولو كره ذلك جاحدوه ومنكروه, الذي أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى, يعني: ببيان فرائض الله على خلقه, وجميع اللازم لهم, وبدين الحقّ وهو الإسلام, لِيُظْهِرَهُ على الدّينِ كُلّهِ يقول: ليعلى الإسلام على الملل كلها, ولو كَرِهَ المُشْرِكُونَ بالله ظهوره عليها.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى قوله: لِيُظْهِرَهُ على الدّينِ كُلّهِ فقال بعضهم: ذلك عند خروج عيسى حين تصير الملل كلها واحدة. ذكر من قال ذلك:
13006ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان, قال: حدثنا شقيق, قال: ثني ثابت الحداد أبو المقدام, عن شيخ, عن أبي هريرة في قوله: لِيُظْهِرَهُ على الدّينِ كُلّهِ قال: حين خروج عيسىَ ابن مريم.
13007ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا حميد بن عبد الرحمن, عن فضيل بن مرزوق, قال: ثني من سمع أبا جعفر: لِيُظْهِرَهُ على الدّينِ كُلّهِ قال: إذا خرج عيسى عليه السلام اتبعه أهل كل دين.
وقال آخرون: معنى ذلك: ليعلمه شرائع الدين كلها فيطلعه عليها. ذكر من قال ذلك:
13008ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: لِيُظْهِرَهُ على الدّينِ كُلّهِ قال: ليظهر الله نبيه على أمر الدين كله, فيعطيه إياه كله, ولا يخفى عليه منه شيء. وكان المشركون واليهود يكرهون ذلك.
الآية : 34
القول في تأويل قوله تعالى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِنّ كَثِيراً مّنَ الأحْبَارِ وَالرّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ يَكْنِزُونَ الذّهَبَ وَالْفِضّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }.
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله وأقرّوا بوحدانية ربهم, إن كثيرا من العلماء والقرّاء من بني إسرائيل من اليهود والنصارى لَيَأْكُلُونَ أموَالَ النّاسِ بالباطِلِ يقول: يأخذون الرشا في أحكامهم, ويحرّفون كتاب الله, ويكتبون بأيديهم كتبا ثم يقولون: هذه من عند الله, ويأخذون بها ثمنا قليلاً من سفلتهم. وَيَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ يقول: ويمنعون من أراد الدخول في الإسلام الدخول فيه بينهم إياهم عنه.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
13009ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّ كَثِيرا مِنَ الأحْبارِ وَالرّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أمْوَالَ النّاسِ بالباطِلِ أما الأحبار, فمن اليهود وأما الرهبان: فمن النصارى وأما سبيل الله: فمحمد صلى الله عليه وسلم.
القول في تأويل قوله تعالى: وَالّذِينَ يَكْنِزُونَ الذّهَبَ وَالفِضّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ ألِيمٍ.
يقول تعالى ذكره: إنّ كَثِيرا مِنَ الأحْبارِ وَالرّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أمْوَالَ النّاسِ بالباطِلِ ويأكلها أيضا معهم وَالّذِينَ يَكْنِزُونَ الذّهَبَ وَالفِضّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ ألِيمٍ يقول: بشر الكثير من الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل, والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله, بعذاب أليم لهم يوم القيامة موجع من الله.
واختلف أهل العلم في معنى الكنز, فقال بعضهم: هو كلّ مال وجبت فيه الزكاة فلم تؤدّ زكاته. قالوا: وعنى بقوله: ولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ ولا يؤدون زكاتها. ذكر من قال ذلك:
13010ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الوهاب, قال: حدثنا أيوب, عن نافع, عن ابن عمر, قال: كلّ مال أدّيت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونا, وكلّ مال لم تؤدّ زكاته فهو الكنز الذي ذكره الله في القرآن يُكْوَى به صاحبه وإن لم يكن مدفونا.
حدثنا الحسين بن الجنيد, قال: حدثنا سعيد بن مسلمة, قال: حدثنا إسماعيل بن أمية, عن نافع, عن ابن عمر, أنه قال: كلّ مال أدّيت منه الزكاة فليس بكنز وإن كان مدفونا, وكلّ مال لم تؤدّ منه الزكاة وإن لم يكن مدفونا فهو كنز.
حدثني أبو السائب, قال: حدثنا ابن فضيل, عن يحيى بن سعيد, عن نافع, عن ابن عمر, قال: أيما مال أدّيت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونا في الأرض, وأيما مال لم تؤدّ زكاته فهو بكنز يكوى به صاحبه, وإن كان على وجه الأرض.
13011ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي وجرير, عن الأعمش, عن عطية, عن ابن عمر, قال: ما أدّيت زكاته فليس بكنز.
قال: حدثنا أبي, عن العمري, عن نافع, عن ابن عمر, قال: ما أدّيت زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين, وما لم تؤدّ زكاته فهو كنز وإن كان ظاهرا.
13012ـ قال: حدثنا جرير, عن الشيباني, عن عكرمة, قال: ما أدّيت زكاته فليس بكنز.
13013ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قال: أما الذين يكنزون الذهب والفضة فهؤلاء أهل القبلة. والكنز: ما لم تؤدّ زكاته وإن كان على ظهر الأرض وإن قلّ وإن كان كثيرا قد أدّيت زكاته, فليس بكنز.
13014ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن إسرائيل. عن جابر, قال: قلت لعامر: مالٌ على رفّ بين السماء والأرض لا تؤدّى زكاته, أكنز هو؟ قال: يكوى به يوم القيامة.
وقال آخرون: كل مال زاد على أربعة آلاف درهم, فهو كنز, أدّيت منه الزكاة أو لم تؤدّ. ذكر من قال ذلك:
13015ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو بكر بن عياش, عن أبي حصين, عن أبي الضحى, عن جعدة بن هبيرة, عن عليّ رحمه الله عليه قال: أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة, فما كان أكثر من ذلك فهو كنز.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبي حصين, عن أبي الضحى, عن جعدة بن هبيرة, عن عليّ, مثله.
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الشعبيّ, قال: أخبرني أبو حصين, عن أبي الضحى, عن جعدة بن هبيرة, عن عليّ رحمة الله عليه, في قوله: وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ قال: أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة, وما فوقها كنز.
وقال آخرون: الكنز كلّ ما فضل من المال عن حاجة صاحبه إليه. ذكر من قال ذلك:
13016ـ حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن معاذ, قال: حدثنا أبي, قال: حدثنا شعبة, عن أنس, عن عبد الواحد أنه سمع أبا مجيب قال: كان نعل سيف أبي هريرة من فضة, فنهاه عنها أبو ذرّ, وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مَنْ تَرَكَ صَفْرَاءَ أوْ بَيْضَاءَ كُوِيَ بِهَا».
13017ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا مؤمل, قال: حدثنا سفيان, عن منصور, عن الأعمش وعمرو بن مرّة, عن سالم بن أبي الجعد, قال: لما نزلت: وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ ولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تَبّا للذّهَبِ تَبَا للفِضّةِ» يقولها ثلاثا. قال: فشقّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, قالوا: فأيّ مال نتخذه؟ فقال عمر: أنا أعلم لكم ذلك. فقال: يا رسول الله إن أصحابك قد شقّ عليهم وقالوا: فأيّ المال نتخذ, فقال: «لسانا ذَاكِرا, وَقَلْبا شَاكِرا, وَزَوْجَةً تُعِينُ أحَدَكُمْ على دِينِهِ».
13018ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا مؤمل, قال: حدثنا إسرائيل, عن منصور, عن سالم بن أبي الجعد, عن ثوبان, بمثله.
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوريّ, عن منصور, عن عمرو بن مرّة, عن سالم بن أبي الجعد, قال: لما نزلت هذه الآية: وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ ولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ قال المهاجرون: وأيّ المال نتخذ؟ فقال عمر: أسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عنه. قال: فأدركته على بعير, فقلت: يا رسول الله إن المهاجرين قالوا: فأيّ المال نتخذه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لِسانا ذَاكِرا, وقَلْبا شَاكِرا, وَزَوْجَةً مُؤْمِنَةً تُعِينُ أحَدَكُمْ على دِينِهِ».
13019ـ حدثنا الحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, عن شهر بن حوشب, عن أبي أمامة, قال: توفي رجل من أهل الصّفّة, فوجد في مئزره دينار, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كَيّةٌ» ثم توفي آخر, فوجد في مئزره ديناران, فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «كَيّتانِ».
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, عن شهر بن حوشب, عن صدى بن عجلان أبي أمامة, قال: مات رجل من أهل الصفة, فوجد في مئزره دينار, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كَيّةٌ» ثم توفي آخر, فوجد في مئزره ديناران فقال نبيّ الله: «كَيّتانِ».
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن سالم, عن ثوبان, قال: كنا في سفر ونحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال المهاجرون: لوددنا أنا علمنا أيّ المال خير فنتخذه إذ نزل في الذهب والفضة ما نزل, فقال عمر: إن شئتم سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. فقالوا: أجل. فانطلق فتبعته أوضع على بعيري, فقال: يا رسول الله إن المهاجرين لما أنزل الله في الذهب والفضة ما أنزل قالوا: وددنا أنا علمنا أيّ المال خير فنتخذه, قال: «نَعَمْ, فَيَتّخِذُ أحَدُكُمْ لِسانا ذَاكِرا, وَقَلْبا شَاكِرا, وَزَوْجَةً تُعِينُ أحَدَكُمْ على إيمَانِهِ».
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصحة: القول الذي ذُكِر عن ابن عمر من أن كلّ مال أديت زكاته فليس بكنز يحرم على صاحبه اكتنازه وإن كثر, وأن كلّ ما لم تؤدّ زكاته فصاحبه معاقب مستحقّ وعيد الله إلا أن يتفضل الله عليه بعفوه وإن قل إذا كان مما يجب فيه الزكاة. وذلك أن الله أوجب في خمس أواق من الوَرِق على لسان رسوله ربع عشرها, وفي عشرين مثقالاً من الذهب مثل ذلك ربع عشرها. فإذ كان ذلك فرض الله في الذهب والفضة على لسان رسوله, فمعلوم أن الكثير من المال وإن بلغ في الكثرة ألوف ألوف لو كان, وإن أدّيت زكاته من الكنوز التي أوعد الله أهلها عليها العقاب, لم يكن فيه الزكاة التي ذكرنا من ربع العشر, لأن ما كان فرضا إخراج جميعه من المال وحرام اتخاذه فزكاته الخروج من جميعه إلى أهله لا ربع عشره, وذلك مثل المال المغصوب الذي هو حرام على الغاصب إمساكه وفرض عليه إخراجه من يده إلى يده, فالتطهر منه ردّه إلى صاحبه. فلو كان ما زاد من المال على أربعة آلاف درهم, أو ما فضل عن حاجة ربه التي لا بد منها مما يستحق صاحبه باقتنائه إذا أدّى إلى أهل السهمان حقوقهم منها من الصدقة وعيد الله لم يكن اللازم ربه فيه ربع عشره, بل كان اللازم له الخروج من جميعه إلى أهله وصرفه فيما يجب عليه صرفه, كالذي ذكرنا من أن الواجب على غاصب رجل ماله ردّه على ربه. وبعد, فإن فيما:
13020ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, قال: قال معمر: أخبرني سهيل بن أبي صالح, عن أبيه, عن أبي هريرة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: «ما مِنْ رَجُلٍ لا يُؤَدّي زَكَاةَ مالِهِ إلاّ جُعِلَ يَوْمَ القِيَامَةِ صفَائِحَ مِنْ نارٍ يُكْوَى بِها جَنْبُهُ وجَبْهَتُهُ وظَهْرُهُ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألُفَ سَنَةٍ حتى يُقْضَى بينَ النّاسِ ثُمّ يَرَى سَبِيلَه وَإنْ كانَتْ إبِلاً إلاّ بُطِحَ لَهَا بِقاعٍ قَرْقَرٍ تَطَؤُهُ بأخْفَافِها» حسبته قال: «وَتَعَضّهُ بأفْوَاهِها, يَرِدُ أُولاها على أُخْرَاها, حتى يُقْضَى بينَ النّاسِ ثُمّ يَرَى سَبِيلَهُ. وَإنْ كانَتْ غَنَما فَمِثْلُ ذلكَ, إلا أنّها تَنْطَحُهُ بقُرُونِها, وَتَطَؤُهُ بأظْلاَفِها».
وفي ذلك نظائر من الأخبار التي كرهنا الإطالة بذكرها الدلالة الواضحة على أن الوعيد إنما هو من الله على الأموال التي لم تؤدّ الوظائف المفروضة فيها لأهلها من الصدقة, لا على اقتنائها واكتنازها.
وفيما بينا من ذلك البيان الواضح على أن الآية لخاصّ كما قال ابن عباس, وذلك ما:
13021ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ ولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ ألِيمٍ يقول: هم أهل الكتاب, وقال: هي خاصة وعامة.
يعني بقوله: هي خاصة وعامة هي خاصة من المسلمين فيمن لم يؤدّ زكاة ماله منهم, وعامة في أهل الكتاب لأنهم كفار لا تقبل منهم نفقاتهم إن أنفقوا.
يدلّ على صحة ما قلنا في تأويل قول ابن عباس هذا ما:
13022ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثني معاوية, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ ولاَ يُنْفِقُونَها... إلى قوله: هَذَا ما كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذَوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ قال: هم الذين لا يؤدّون زكاة أموالهم. قال: وكلّ مال لا تؤدّى زكاته كان على ظهر الأرض أو في بطنها فهو كنز, وكل مال تؤدّى زكاته فليس بكنز كان على ظهر الأرض أو في بطنها.
13023ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ قال: الكنز: ما كنز عن طاعة الله وفريضته, وذلك الكنز. وقال: افترضت الزكاة والصلاة جميعا لم يفرق بينهما.
وإنما قلنا ذلك على الخصوص, لأن الكنز في كلام العرب: كلّ شيء مجموع بعضه على بعض في بطن الأرض كان أو على ظهرها, يدلّ على ذلك قول الشاعر:
لا دَرّ دَرّى إنْ أطْعَمْتُ نازِلَهُمقِرْفَ الحَتِيّ وعنْدي البُرّ مَكْنُوزُ
يعني بذلك: وعند البرّ مجموع بعضه على بعض, وكذلك تقول العرب للبدن المجتمع: مكتنز لانضمام بعضه إلى بعض. وإذا كان ذلك معنى الكنز عندهم, وكان قوله: وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ معناه: والذين يجمعون الذهب والفضة بعضها إلى بعض, ولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ وهو عامّ في التلاوة, لم يكن في الآية بيان كم ذلك القدر من الذهب والفضة الذي إذا جمع بعضه إلى بعض استحقّ الوعيد كان معلوما أن خصوص ذلك إنما أدرك بوقف الرسول عليه, وذلك كما بينا من أنه المال الذي لم يؤدّ حقّ الله منه من الزكاة دون غيره لما قد أوضحنا من الدلالة على صحته.
وقد كان بعض الصحابة يقول: هي عامة في كلّ كنز, غير أنها خاصة في أهل الكتاب وإياهم عنى الله بها. ذكر من قال ذلك:
13024ـ حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس, قال: حدثنا هشيم, قال: حدثنا حصين عن زيد بن وهب, قال: مررت بالربذة, فلقيت أبا ذرّ, فقلت: يا أبا ذرّ, ما أنزلك هذه البلاد؟ قال: كنت بالشأم, فقرأت هذه الآية: وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ... الآية, فقال معاوية: ليست هذه الآية فينا, إنما هذه الآية في أهل الكتاب. قال: فقلت إنها لفينا وفيهم. قال: فارتفع في ذلك بيني وبينه القول, فكتب إلى عثمان يشكوني, فكتب إليّ عثمان: أن أقبل إليّ قال: فأقبلت فلما قدمت المدينة ركبني الناس كأنهم لم يروني قبل يومئذ, فشكوت ذلك إلى عثمان, فقال لي: تنحّ قريبا قلت: والله لن أدع ما كنت أقول.
حدثنا أبو كريب وأبو السائب وابن وكيع, قالوا: حدثنا ابن إدريس, قال حدثنا حصين, عن زيد بن وهب, قال: مررنا بالربذة, ثم ذكر عن أبي ذرّ نحوه.
13025ـ حدثني أبو السائب, قال: حدثنا ابن إدريس, عن أشعث, وهشام, عن أبي بشر, قال: قال أبو ذرّ: خرجت إلى الشام فقرأت هذه الآية: وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ ولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ فقال معاوية: إنما هي في أهل الكتاب, قال: فقلت: إنها لفينا وفيهم.
حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا هشيم, قال: أخبرنا حصين, عن زيد بن وهب, قال: مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذرّ, قال: قلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشام, فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية: وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ ولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ قال: فقال: نزلت في أهل الكتاب. فقلت: نزلت فينا وفيهم. ثم ذكر نحو حديث هشيم عن حصين.
فإن قال قائل: فكيف قيل: ولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ فأخرجت الهاء والألف مخرج الكناية عن أحد النوعين؟ قيل: يحتمل ذلك وجهين: أحدهما أن يكون الذهب والفضة مرادا بها الكنوز, كأنه قيل: وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الكنوزولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ لأن الذهب والفضة هي الكنوز في هذا الموضع. والاَخر أن يكون استغنى بالخير عن إحداهما في عائد ذكرهما من الخبر عن الأخرى, لدلالة الكلام على الخبر عن الأخرى مثل الخبر عنها. وذلك كثير موجود في كلام العرب وأشعارها, ومنه قول الشاعر:
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنا وأنْتَ بِمَاعِنْدَكَ رَاضٍ والرأْيُ مُخْتَلِفُ
فقال: راض, ولم يقل: رضوان. وقال الاَخر:
()إنّ شَرْحَ الشّبابِ والشّعَرَ الأسْ
وَدَ مَا لَمْ يُعاصَ كَانَ جُنُونَا()
فقال: يعاص, ولم يقل: «يعاصيا» في أشياء كثيرة. ومنه قول الله: وإذَا رأَوْا تِجَارَةً أوْ لَهْوا انْقَضّوا إلَيْها ولم يقل: «إليهما»
الآية : 35
القول في تأويل قوله تعالى: {يَوْمَ يُحْمَىَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنّمَ فَتُكْوَىَ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ }.
يقول تعالى ذكره: فبشر هؤلاء الذين يكنزون الذهب والفضة, ولا يخرجون حقوق الله منها يا محمد بعذاب أليم يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا في نارِ جَهَنّم فاليوم من صلة العذاب الأليم, كأنه قيل: يبشرهم بعذاب أليم يعذّبهم الله به في يوم يحمى عليها. ويعني بقوله: يُحْمَى عَلَيْهَا تدخل النار فيوقد عليها أي على الذهب والفضة التي كنزوها في نار جهنم, فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم, وكل شيء أدخل النار فقد أُحمي إحماء, يقال منه: أحميت الحديدة في النار أحميها إحماء. وقوله: فَتُكْوَى بها جبِاهُهُمْ يعني بالذهب والفضة المكنوزة. يحمى عليها في نار جهنم يكوي الله بها, يقول: يحرق الله جباه كانزيها وجنوبهم وظهورهم. هَذَا ما كَنَزْتُمْ ومعناه: ويقال لهم: هذا ما كنزتم في الدنيا أيها الكافرون الذين منعوا كنوزهم من فرائض الله الواجبة فيها لأنفسكم فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ يقول: فيقال لهم: فأطعموا عذاب الله بما كنتم تمنعون من أموالكم حقوق الله وتكنزونها مكاثرة ومباهاة. وحذف من قوله «هذا ما كنزتم» و «يقال لهم» لدلالة الكلام عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
13026ـ حدثني يعقوب, قال: حدثنا ابن علية, قال: أخبرنا أيوب, عن حميد بن هلال, قال: كان أبو ذرّ يقول: بشر الكنازين بكي في الجباه وكيّ في الجنوب وكيّ في الظهور, حتى يلتقي الحرّ في أجوافهم.
13027ـ قال: حدثنا ابن علية, عن الجريري, عن أبي العلاء بن الشخير, عن الأحنف بن قيس, قال: قدمت المدينة, فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش إذ جاء رجل خشن الثياب, خشن الجسد, خشن الوجه, فقام عليهم, فقال: بشر الكنازين برَضْفٍ يُحْمَى عليه في نار جهنم فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نُغْضِ كتفه, ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثدييه يتزلزل قال: فوضع القوم رءوسهم, فما رأيت أحدا منهم رجع إليه شيئا. قال: وأدبر فاتبعته, حتى جلس إلى سارية, فقلت: ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت فقال: إن هؤلاء لا يعقلون شيئا.
13028ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا الحكم, قال: ثني عمرو بن قيس, عن عمرو بن مرة الجملي, عن أبي نصر عن الأحنف بن قيس, قال: رأيت في مسجد المدينة رجلاً غليظ الثياب رثّ الهيئة, يطوف في الحلق وهو يقول: بشر أصحاب الكنوز بكيّ في جنوبهم, وكيّ في جباههم, وكيّ في ظهورهم ثم انطلق وهو يتذمر يقول: ما عسى تصنع بي قريش؟.
13029ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة, قال: قال أبو ذرّ: بشر أصحاب الكنوز بكيّ في الجباه, وكيّ في الجنوب, وكيّ في الظهور.
13030ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن قابوس, عن أبيه, عن ابن عباس: يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا في نارِ جَهَنّم قال: حية تنطوي على جبينه وجبهته, تقول: أنا مالك الذي بخلت به.
13031ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, عن سالم بن أبي الجعد, عن معدان بن أبي طلحة, عن ثوبان, أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «مَنْ تَرَكَ بَعْدَهُ كَنْزا مُثّلَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ شُجَاعا أقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتانِ, يَتْبَعُهُ يَقُولُ: وَيْلَكَ ما أنْتَ؟ فَيَقُولُ: أنا كِنْزُكَ الّذِي تَرَكْتُهُ بَعْدَكَ فَلا يَزَالُ يَتْبَعُهُ حتى يُلْقِمَهُ يَدَهُ فَيَقْضِمَها ثُمّ يَتْبَعَهُ سائِرُ جَسَدِهِ».
13032ـ حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن طاوس, عن أبيه: قال: بلغني أن الكنوز تتحوّل يوم القيامة شجاعا يتبع صاحبه, وهو يفرّ منه ويقول: أنا كنزك لا يدرك منه شيئا إلا أخذه.
13033ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا جرير, عن الأعمش, عن عبد الله بن مرّة, عن مسروق, عن عبد الله قال: والذي لا إله إلا غيره, لا يكوى عبد بكنز فيمسّ دينار دينارا ولا درهم درهما, ولكن يوسع جلده فيوضع كلّ دينار ودرهم على حدته.
قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن الأعمش, عن عبد الله بن مرّة, عن مسروق, عن عبد الله, قال: ما مِنْ رجل يكوى بكنز فيوضع دينار على دينار ولا درهم على درهم, ولكن يوسع جلده.
الآية : 36
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السّمَاوَات وَالأرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفّةً وَاعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ مَعَ الْمُتّقِينَ }.
يقول تعالى ذكره: إنّ عِدّةَ الشّهُورِ اثْنا عَشَرَ شَهْرا فِي كِتَابِ اللّهِ الذي كتب فيه كلّ ما هو كائن في قضائه الذي قضى, يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضِ مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ يقول: هذه الشهور الاثنا عشر, منها أربعة أشهر حرم كانت الجاهلية تعظمهن وتحرّمهن وتحرّم القتال فيهنّ, حتى لو لقي الرجل منهم فيهنّ قاتل أبيه لم يهجه. وهن: رجب مضر وثلاثة متواليات: ذو القعدة, وذو الحجة, والمحرّم. وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
13034ـ حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي, قال: حدثنا زيد بن الحباب, قال: حدثنا موسى بن عبيدة الربذي قال: ثني صدقة بن يسار, عن ابن عمر, قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنى في أوسط أيام التشريق, فقال: «يا أيّها النّاسُ, إنّ الزّمانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّهُ السّمَوَاتِ والأرْضَ, وإنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثُنَا عَشَرَ شَهْرا, مِنْهَا أرْبَعَةٌ حُرُمٌ, أوّلَهُنّ رَجَبُ مُضْرَ بينَ جُمادَى وشَعْبَانَ وَذُو القَعْدَةِ وَذُو الحِجّةِ وَالمُحَرّمُ».
13035ـ حدثنا محمد بن معمر, قال: حدثنا روح, قال: حدثنا أشعث, عن محمد بن سيرين, عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الزّمانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّهُ السّمَوَاتِ والأرْضَ, وإنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثُنَا عَشَرَ شَهْرا في كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَق السّمَوَاتِ والأرْضَ, مِنْهَا أرْبَعَةٌ حُرُمٌ, ثَلاَثَةٌ مُتَوَالِياتٌ وَرَجَبُ مُضْرَ بينَ جُمادَى وشَعْبَانَ».
13036ـ حدثنا يعقوب, قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم, قال: حدثنا أيوب, عن محمد بن سيرين, عن أبي بكرة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خطب في حجة الوداع, فقال: «ألاَ إنّ الزّمانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّهُ السّمَوَاتِ والأرْضَ, السّنَةُ اثُنَا عَشَرَ شَهْرا, مِنْهَا أرْبَعَةٌ حُرُمٌ, ثَلاَثَةٌ مُتَوَالِياثٌ: ذُو القَعْدَةِ, وَذُو الحِجّةِ, وَالمُحَرّمُ, وَرَجَبُ مُضْرَ الّذِي بينَ جُمادَى وشَعْبَانَ».
13037ـ حدثنا مجاهد بن موسى, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سليمان التيمي, قال: ثني رجل بالبحرين, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجة الوداع: «ألاَ إنّ الزّمانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّهُ السّمَوَاتِ والأرْضَ, وإنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثُنَا عَشَرَ شَهْرا, مِنْهَا ثَلاثَةٌ مُتَوَالِياتٌ: ذُو القَعْدَةِ, وَذُو الحِجّةِ, وَالمُحَرّمُ, وَرَجَبُ الّذِي بينَ جُمادَى وشَعْبَانَ».
13038ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن ابن أبي نجيح, قوله: إنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْرا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضِ مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ إن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: «ثَلاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعْدَةِ, وَذُو الحِجّةِ, والمُحَرّمُ, وَرَجَبُ الّذِي بينَ جُمادى وَشَعْبَانَ».
13039ـ حدثنا قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم منى: «ألاَ إنّ الزّمانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّهُ السّمَوَاتِ والأرْضَ, وإنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثُنَا عَشَرَ شَهْرا, مِنْهَا أرْبَعَةٌ حُرُمٌ, ثَلاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو القَعْدَةِ, وَذُو الحِجّةِ, وَالمُحَرّمُ, وَرَجَبُ مُضْرَ الّذِي بينَ جُمادَى وشَعْبَانَ».
وهو قول عامة أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
13040ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السدي: إنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْرا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضِ مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ أما أربعة حرم: فذو القعدة, وذو الحجة, والمحرّم, ورجب. وأما كتاب الله: فالذي عنده.
13041ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: إنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْرا قال: يعرف بها شأن النسيء ما نقص من السنة.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد في قول الله: إنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْرا فِي كِتَابِ اللّهِ قال: يذكر بها شأن النسيء.
وأما قوله: ذَلِكَ الدّينُ القَيّمُ. فإن معناه: هذا الذي أخبرتكم به, من أن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله, وأن منها أربعة حرما: هو الدين المستقيم, كما:
13042ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: ذَلِكَ الدّينُ القَيّمُ يقول: المستقيم.
13043ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال ابن زيد في قوله: ذَلِكَ الدّينُ القَيّمُ قال: الأمر القيم يقول: قال تعالى: واعلموا أيها الناس أن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله الذي كتب فيه كل ما هو كائن, وأن من هذه الاثني عشر شهرا أربعة أشهر حرما ذلك دين الله المستقيم, لا ما يفعله النسيء من تحليله ما يحلل من شهور السنة وتحريمه ما يحرمه منها.
وأما قوله: فَلا تَظْلِمُوا فِيهنّ أنفُسَكُمْ فإن معناه: فلا تعصوا الله فيها, ولا تحلوا فيهنّ ما حرّم الله عليكم, فتكسبوا أنفسكم ما لا قبل لها به من سخط الله وعقابه. كما:
13044ـ حدثني يونس, قال: قال أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنّ أنْفُسَكُمْ قال: الظلم: العمل بمعاصي الله والترك لطاعته.
ثم اختلف أهل التأويل في الذي عادت عليه الهاء والنون في قوله: فيهنّ, فقال بعضهم: عاد ذلك على الاثني عشر شهرا, وقال: معناه: فلا تظلموا في الأشهر كلها أنفسكم. ذكر من قال ذلك:
13045ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: إنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْرا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضِ مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلكَ الدّينُ القَيّمُ فلاَ تَظْلِمُوا فِيهنّ أنْفُسَكُمْ في كلهن. ثم خص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حرما وعظم حرماتهن وجعل الذنب فيهن أعظم والعمل الصالح والأجر أعظم.
13046ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا سويد بن عمرو, عن حماد بن سلمة, عن عليّ بن زيد, عن يوسف بن مهران, عن ابن عباس: فلاَ تَظْلِمُوا فِيهنّ أنْفُسَكُمْ قال: في الشهور كلها.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فلا تظلموا في الأربعة الأشهر الحرم أنفسكم, والهاء والنون عائدة على الأشهر الأربعة. ذكر من قال ذلك:
13047ـ حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, أما قوله: فلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنّ أنْفُسَكُمْ فإن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرا من الظلم فيما سواها, وإن كان الظلم على كل حال عظيما ولكن الله يعظم من أمره ما شاء وقال: إن الله اصطفى صفايا من خلقه اصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس رسلاً, واصطفى من الكلام ذكره, واصطفى من الأرض المساجد, واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم, واصطفى من الأيام يوم الجمعة, واصطفى من الليالي ليلة القدر, فعظموا ما عظم الله, فإنما تعظم الأمور بما عظمها الله عند أهل الفهم وأهل العقل.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فلا تظلموا في تصييركم حرام الأشهر الأربعة حلالاً وحلاها حراما أنفسكم. ذكر من قال ذلك:
13048ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: إنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْرا... إلى قوله: فلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنّ أنْفُسَكُمْ: أي لا تجعلوا حرامها حلالاً, ولا حلالها حراما, كما فعل أهل الشرك فإنما النسيء الذي كانوا يصنعون من ذلك زيادة في الكفر يضلّ به الذين كفروا... الآية.
13049ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن قيس بن مسلم, عن الحسن: فلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنّ أنْفُسَكُمْ قال: ظلم أنفسكم: أن لا تحرّموهن كحرمتهن.
حدثني الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز. قال: حدثنا سفيان, عن قيس بن مسلم, عن الحسن بن محمد بن عليّ: فلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنّ أنْفُسَكُمْ قال: ظلم أنفسكم أن لا تحرّموهن كحرمتهن.
حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفيان, عن قيس بن مسلم, عن الحسن بن محمد, بنحوه.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب, قول من قال: فلا تظلموا في الأشهر الأربعة أنفسكم باستحلال حرامها, فإن الله عظمها وعظّم حرمتها.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب في تأويله لقوله: فلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنّ فأخرج الكناية عنه مخرج الكناية عن جمع ما بين الثلاثة إلى العشرة, وذلك أن العرب تقول فيما بين الثلاثة إلى العشرة إذا كَنَتْ عنه: فعلنا ذلك لثلاث ليال خلون, ولأربعة أيام بقين, وإذا أخبرت عما فوق العشرة إلى العشرين, قالت: فعلنا ذلك لثلاث عشرة خلت, ولأربع عشرة مضت. فكان في قوله حلّ ثناؤه: فلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنّ أنْفُسَكُمْ وإخراجه كناية عدد الشهور التي نهى المؤمنين عن ظلم أنفسهم فِيهن مخرج عدد الجمع القليل من الثلاثة إلى العشرة الدليل الواضح على أن الهاء والنون من ذكر الأشهر الأربعة دون الاثني العشر لأن ذلك لو كان كناية عن الاثني عشر شهرا لكان: فلا تظلموا فيها أنفسكم.
فإن قال قائل: فما أنكرت أن يكون ذلك كناية عن الاثني عشر, وإن كان الذي ذكرت هو المعروف في كلام العرب, فقد علمت أن المعروف من كلامها إخراج كناية ما بين الثلاث إلى العشر بالهاء دون النون, وقد قال الشاعر:
أصْبَحْنَ فِي قُرْحَ وفي دَارَاتِهاسَبْعَ لَيالٍ غَيْرَ مَعْلُوفاتِها
ولم يقل: معلوفاتهن, وذلك كناية عن السبع؟ قيل: إن ذلك وإن كان جائزا فليس الأصح الأعرف في كلامها, وتوجيه كلام الله إلى الأفصح الأعرف أولى من توجيهه إلى الأنكر.
فإن قال قائل: فإن كان الأمر على ما وصفت, فقد يجب أن يكون مباحا لنا ظلم أنفسنا في غيرهنّ من سائر شهور السنة؟ قيل: ليس ذلك كذلك, بل ذلك حرام علينا في كل وقت وزمان, ولكن الله عظم حرمة هؤلاء الأشهر وشرفهن على سائر شهور السنة, فخصّ الذنب فيهنّ بالتعظيم كما خصهنّ بالتشريف, وذلك نظير قوله: حافِظُوا على الصّلَوَاتِ والصّلاةِ الوُسْطَى ولا شكّ أن الله قد أمرنا بالمحافظة على الصلوات المفروضات كلها بقوله: حافِظُوا على الصّلَوَاتِ ولم يبح ترك المحافظة عليهن بأمره بالمحافظة على الصلاة الوسطى, ولكنه تعالى ذكره زادها تعظيما وعلى المحافظة عليها توكيدا وفي تضييعها تشديدا, فكذلك ذلك في قوله: مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلكَ الدّينُ القَيّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنّ أنْفُسَكُمْ.
وأما قوله: وَقاتِلُوا المُشْرِكينَ كافّةً كمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كافّةً فإنه يقول جلّ ثناؤه: وقاتلوا المشركين بالله أيها المؤمنون جميعا غير مختلفين, مؤتلفين غير مفترقين, كما يقاتلكم المشركون جميعا مجتمعين غير متفرقين. كما:
13050ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السدي: وقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كافّةً كمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كافّةً أما كافة فجميع وأمركم مجتمع.
13051ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: وقَاتِلُوا المُشْرِكينَ كافّةً يقول: جميعا.
13052ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كافّةً: أي جميعا.
والكافّة في كلّ حال على صورة واحدة لا تذكر ولا تجمع, لأنها وإن كانت بلفظ فاعلة فإنها في معنى المصدر كالعافية والعاقبة, ولا تدخل العرب فيها الألف واللام لكونها آخر الكلام مع الذي فيها من معنى المصدر, كما لم يدخلوها إذا قالوا: قاموا معا وقاموا جميعا.
وأما قوله: واعْلَمُوا أنّ اللّهَ مَعَ المُتّقِينَ فإن معناه: واعلموا أيها المؤمنون بالله أنكم إن قاتلتم المشركين كافّة, واتقيتم الله فأطعتموه فيما أمركم ونهاكم ولم تخالفوا أمره فتعصوه, كان الله معكم على عدوّكم وعدُوه من المشركين ومن كان الله معه لم يغلبه شيء, لأن الله مع من اتقاه فخافه وأطاعه فيما كلفه من أمره ونهيه