تفسير الطبري تفسير الصفحة 194 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 194
195
193
 الآية : 41
القول في تأويل قوله تعالى: {انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }.
واختلف أهل التأويل في معنى الخفة والثّقل اللذين أمر الله من كان به أحدهما بالنّفر معه, فقال بعضهم: معنى الخفة التي عناها الله في هذا الموضع: الشباب, ومعنى الثقل: الشيخوخة. ذكر من قال ذلك:
13076ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن رجل, عن الحسن, في قوله: انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً قال: شيبا وشُبانا.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا حفص, عن عمرو, عن الحسن, قال: شيوخا وشبانا.
13077ـ قال: حدثنا ابن عيينة, عن عليّ بن زيد, عن أنس, عن أبي طلحة: انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً قال: كهولاً وشبانا, ما أسمع الله عذرَ أحدا فخرج إلى الشام فجاهد حتى مات.
13078ـ حدثنا ابن حُميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن المغيرة بن النعمان, قال: كان رجل من النخع وكان شيخا بادِنا, فأراد الغزو فمنعه سعد بن أبي وقاص, فقال: إن الله يقول: انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً فأذن له سعد, فقتل الشيخ, فسأل عنه بعد عُمر, فقال: ما فعل الشيخ الذي كان من بني هاشم؟ فقالوا قُتِلَ يا أمير المؤمنين.
13079ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يزيد بن هارون, عن إسماعيل, عن أبي صالح, قال: الشاب والشيخ.
13080ـ قال: حدثنا أبو أسامة, عن مالك بن مغول, عن إسماعيل, عن عكرمة, قال: الشاب والشيخ.
13081ـ قال: حدثنا المحاربيّ, عن جويبر, عن الضحاك: كهولاً وشبانا.
13082ـ قال: حدثنا حَيْوة أبو يزيد, عن يعقوب القُمّي, عن جعفر بن حميد, عن بشر بن عطية: كهولاً وشبانا.
13083ـ حدثنا الوليد, قال: حدثنا عليّ بن سهل, قال: حدثنا الوليد بن مسلم, عن بكير بن معروف, عن مقاتل بن حيان, في قوله: انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً قال: شبانا وكهولاً.
13084ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً قال: شبابا وشيوخا, وأغنياء ومساكين.
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: قال الحسن: شيوخا وشبانا.
13085ـ حدثني سعيد بن عمرو, قال: حدثنا بقية, قال: حدثنا جرير, قال: ثني حبان بن زيد الشرعبي, قال: نفرنا مع صفوان بن عمرو وكان واليا على حمص قِبَلَ الأفسوس إلى الجراجمة, فلقيت شيخا كبيرا هِمّا, قد سقط حاجباه على عينيه من أهل دمشق على راحلته فيمن أغار, فأقبلت عليه فقلت: يا عمّ لقد أعذرَ الله إليك قال: فرفع حاجبيه فقال: يا ابن أخي استنفرنا الله خفافا وثقالاً, من يحبه الله يبتليه ثم يعيده فيبقيه, وإنما يبتلي الله من عباده من شكر وصبر وذكر ولم يعبد إلا الله.
حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا إسماعيل, عن أبي صالح: انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً قال: كل شيخ وشاب.
وقال آخرون: معنى ذلك مشاغيل وغير مشاغيل. ذكر من قال ذلك:
13086ـ حدثنا ابن بشار وابن وكيع, قالا: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن منصور, عن الحكم, في قوله: انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً قال: مشاغيل وغير مشاغيل.
وقال آخرون: معناه: انفروا أغنياء وفقراء. ذكر من قال ذلك:
13087ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عمن ذكره, عن أبي صالح: انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً قال: أغنياء وفقراء.
وقال آخرون: معناه: نِشَاطا وغير نِشاط. ذكر من قال ذلك:
13088ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً يقول: انفروا نِشَاطا وغير نِشَاط.
13089ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: خِفافا وَثِقالاً قال: نِشَاطا وغير نِشاط.
وقال آخرون: معناه: ركبانا ومشاة. ذكر من قال ذلك:
13090ـ حدثنا عليّ بن سهل, قال: حدثنا الوليد, قال: قال أبو عمرو: إذا كان النفر إلى دروب الشأم نفر الناس إليها خفافا ركبانا, وإذا كان النفر إلى هذه السواحل ونفروا إليها خفافا وثقالاٍ ركبانا ومشاة.
وقال آخرون: معنى ذلك: ذَا ضَيْعة, وغير ذي ضيعة. ذكر من قال ذلك:
13091ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً قال: الثقيل الذي له الضيعة, فهو ثقيل يكره أن يضيع ضيعته ويخرج, والخفيف الذي لا ضيعة له فقال الله: انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً.
13092ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا المعتمر, عن أبيه, قال: زعم حضرميّ أنه ذكر له أن ناسا كانوا عسى أن يكون أحدهم عليلاً أو كبيرا, فيقول: إني أحسبه قال: أنا لا آثم فأنزل الله: انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً.
13093ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا ابن علية, قال: حدثنا أيوب, عن محمد, قال: شهد أبو أيوب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا, ثم لم يتخلف عن غزاة للمسلمين إلا وهو في أخرى إلا عاما واحدا وكان أبو أيوب يقول: انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً فلا أجدني إلا خفيفا أو ثقيلاً.
13094ـ حدثنا عليّ بن سهل, قال: حدثنا الوليد بن مسلم, قال: حدثنا جرير, عن عثمان, عن راشد بن سعد, عمن رأى المقداد بن الأسود فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم على تابوت من توابيت الصيارفة بمحص, وقد فضل عنه من عظمه, فقلت له: لقد أعذر الله إليك فقال: أتت علينا سورة البحوث انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً.
حدثنا سعيد بن عمرو السّكونيّ, قال: حدثنا بقية بن الوليد, قال: حدثنا جرير, قال: ثني عبد الرحمن بن ميسرة, قال: ثني أبو رائد الحبرانيّ, قال: وافيت المقداد بن الأسود فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص, قد فضل عنه من عظمه, يريد الغزو, فقلت له: لقد أعذر الله إليك فقال: أتت علينا سورة البحوث: انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أمر المؤمنين بالنفر لجهاد أعدائه في سبيله خفافا وثقالاً وقد يدخل في الخفاف كلّ من كان سهلاً عليه النفر لقوّة بدنه على ذلك وصحة جسمه وشبابه, ومن كان ذا تيسر بمال وفراغ من الاشتغال وقادرا على الظهر والركاب. ويدخل في الثقال كلّ من كان بخلاف ذلك من ضعيف الجسم وعليله وسقيمه, ومن معمر من المال ومشتغل بضيغة ومعاش, ومن كان لا ظهر له ولا ركاب, والشيخ وذو السنّ والعيال. فإذ كان قد يدخل في الخفاف والثقال من وصفنا من أهل الصفات التي ذكرنا ولم يكن الله جلّ ثناؤه خصّ من ذلك صنفا دون صنف في الكتاب, ولا على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم, ولا نصب على خصوصه دليلاً, وجب أن يقال: إن الله جلّ ثناؤه أمر المؤمنين من أصحاب رسوله بالنفر للجهاد في سبيله خفافا وثقالاً مع رسوله صلى الله عليه وسلم على كلّ حال من أحوال الخفة والثقل.
13095ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا إسرائيل, عن سعيد بن مسروق, عن مسلم بن صبيح قال: أوّل ما نزل من براءة: انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً.
13096ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبيه, عن أبي الضحى, مثله.
13097ـ حدثنا الحرث, قال: حدثنا القاسم, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جرير, عن مجاهد, قال: إن أوّل ما نزل من براءة: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرةٍ قال: يعرّفهم نصره, ويوطنهم لغزوة تبوك.
القول في تأويل قوله تعالى: وجَاهَدُوا بأمْوَالِكمْ وأنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تعْلَمُونَ.
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: جاهدوا أيها المؤمنون الكفار بأموالكم, فأنفقوها في مجاهدتهم على دين الله الذي شرعه لكم, حتى ينقادوا لكم فيدخلوا فيه طوعا أو كرها, أو يعطوكم الجزية عن يد صغارا إن كانوا أهل كتاب, أو تقتلوهم وأنْفُسِكُمْ يقول: وبأنفسكم فقاتلوهم بأيديكم يخزهم الله وينصركم عليهم. ذلكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ يقول: هذا الذي آمركم به من النفر في سبيل الله تعالى خفافا وثقالاً وجهاد أعدائه بأموالكم وأنفسكم خير لكم من التثاقل إلى الأرض إذا استنفرتم والخلود إليها والرضا بالقليل من متاع الحياة الدنيا عوضا من الاَخرة, إن كنتم من أهل العلم بحقيقة ما بين لكم من فضل الجهاد في سبيل الله على القعود عنه.
الآية : 42
القول في تأويل قوله تعالى: {لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاّتّبَعُوكَ وَلَـَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشّقّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنّهُمْ لَكَاذِبُونَ }.
يقول جلّ ثناؤه للنبي صلى الله عليه وسلم, وكانت جماعة من أصحابه قد استأذنوه في التخلف عنه حين خرج إلى تبوك فأذن لهم: لو كان ما تدعو إليه المتخلفين عنك والمستأذنيك في ترك الخروج معك إلى مغزاك الذي استنفرتهم إليه, عَرَضا قَرِيبا يقول: غنيمة حاضرة, وسَفَرا قاصِدا, يقول: وموضعا قريبا سهلاً, لاتّبعوكَ ونفروا معك إليهما ولكنك استنفرتهم إلى موضع بعيد, وكلفتهم سفرا شاقّا عليهم, لأنك استنهضتهم في وقت الحرّ وزمان القيظ وحين الحاجة إلى الكنّ. وسَيَحْلِفُونَ باللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يقول تعالى ذكره: وسيحلف لك يا محمد هؤلاء المستأذنوك في ترك الخروج معك اعتذارا منهم إليك بالباطل, لتقبل منهم عذرهم, وتأذن لهم في التخلف عنك بالله كاذبين: لو استطعنا لخرجنا معكم يقول: لو أطقنا الخروج معكم بوجود السعة والمراكب والظهور وما لا بدّ للمسافر والغازي منه, وصحة البدن والقوى, لخرجنا معكم إلى عدوّكم. يُهْلِكُونَ أنْفُسَهُمْ يقول: يوجبون لأنفسهم بحلفهم بالله كاذبين الهلاك والعطب, لأنهم يورثونها سخط الله ويكسبونها أليم عقابه. وَاللّهُ يَعْلَمُ إنّهُمْ لَكَاذِبُونَ في حلفهم باللّهِ لو استطعنا لخرجنا معكم لأنهم كانوا للخروج مطيقين بوجود السبيل إلى ذلك بالذي كان عندهم من الأموال مما يحتاج إليه الغازي في غزوه والمسافر في سفره وصحة الأبدان وقوى الأجسام.
وبنحو الذي قلنا ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
13098ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: لَوْ كَانَ عَرَضا قَرِيبا إلى قوله لَكَاذِبُونَ إنهم يستطيعون الخروج, ولكن كان تبطئة من عند أنفسهم والشيطان وزهادة في الخير.
13099ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: وَلَوْ كَانَ عَرَضا قَرِيبا قال: هي غزوة تبوك.
13100ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: وَاللّهُ يَعْلَمُ إنّهُمْ لَكَاذِبُونَ إي أنهم يستطيعون. ذكر من قال ذلك
الآية : 43
{عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتّىَ يَتَبَيّنَ لَكَ الّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ }.
وهذا عتاب من الله تعالى ذكره عاتب به نبيه صلى الله عليه وسلم في إذنه لمن أذن له في التخلف عنه حين شخص إلى تبوك لغزو الروم من المنافقين. يقول جلّ ثناؤه: عَفَا اللّهُ عَنْكَ يا محمد ما كان منك في إذنك لهؤلاء المنافقين الذي استأذنوك في ترك الخروج معك, وفي التخلف عنك من قبل أن تعلم صدقه من كذبه. لِمَ أذِنْتَ لَهُمْ لأيّ شيء أذنت لهم, حتّى يَتَبَيّنَ لَكَ الّذِينَ صَدَقُوا وتَعْلَمَ الكاذبِينَ يقول: ما كان ينبغي لك أن تأذن لهم في التخلف عنك, إذ قالوا لك: استطعنا لخرجنا معك, حتى تعرف من له العذر منهم في تخلفه ومن لا عذر له منهم, فيكون إذنك لمن أذنت له منهم على علم منك بعذره, وتعلم من الكاذب منهم المتخلف نفاقا وشكّا في دين الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
13101ـ حدثنا محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: عَفَا اللّهُ عَنْكَ لِمَ أذِنْتَ لَهُمْ قال: ناس قالوا: استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإن أذن لكم فاقعدوا وإن لم يأذن لكم فاقعدوا.
13102ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: عَفَا اللّهُ عَنْكَ لِمَ أذِنْتَ لَهُمْ حتّى يَتَبَيّنَ لَكَ الّذِينَ صَدَقُوا... الآية, عاتبه كما تسمعون, ثم أنزل الله التي في سورة النور, فرخص له في أن يأذن لهم إن شاء, فقال: فإذَا اسْتَأذَنُوكَ لبَعْضِ شأْنِهِمْ فأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ فجعله الله رخصة في ذلك من ذلك.
13103ـ حدثني الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا سفيان بن عيينة, عن عمرو بن دينار, عن عمرو بن ميمون الأودي, قال: اثنتان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤمر فيهما بشيء: إذنه للمنافقين, وأخذه من الأسارى, فأنزل الله: عَفَا اللّهُ عَنْكَ لِمَ أذِنْتَ لَهُمْ... الآية.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عبيد بن سليمان, قال: قرأت على سعيد بن أبي عروبة, قال: هكذا سمعته من قتادة, قوله: عَفَا اللّهُ عَنْكَ لِمَ أذِنْتَ لَهُمْ... الآية, ثم أنزل الله بعد ذلك في سورة النور: فإذَا اسْتَأذَنُوكَ لبَعْضِ شأْنِهِمْ فأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ... الآية.
13104ـ حدثنا صالح بن مسمار, قال: حدثنا النضر بن شميل, قال: أخبرنا موسى بن مروان, قال: سألت مورّقا, عن قوله: عَفَا اللّهُ عَنْكَ قال: عاتبه ربه.
الآية : 44
القول في تأويل قوله تعالى: {لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتّقِينَ }.
وهذا إعلام من الله نبيه صلى الله عليه وسلم سِيما المنافقين أن من علاماتهم التي يعرفون بها تخلفهم عن الجهاد في سبيل الله باستئذانهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في تركهم الخروج معه إذا استنفروا بالمعاذير الكاذبة. يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد لا تأذننّ في التخلف عنك إذا خرجت لغزو عدوّك لمن استأذنك في التخلف من غير عذر, فإنه لا يستأذنك في ذلك إلا منافق لا يؤمن بالله واليوم الاَخر, فأما الذي يصدّق بالله وبقرّ بوحدانيته وبالبعث والدار الاَخرة والثواب والعقاب, فإنه لا يستأذنك في ترك الغزو وجهاد أعداء الله بماله ونفسه. وَاللّهُ عَلِيمٌ بالمُتّقِينَ يقول: والله ذو علم بمن خافه فاتقاه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه والمسارعة إلى طاعته في غزو عدوّه وجهادهم بماله ونفسه, وغير ذلك من أمره ونهيه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
13105ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: لا يَسْتأذِنُكَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ باللّهِ فهذا تعيير للمنافقين حين استأذنوا في القعود عن الجهاد من غير عذر, وعذر الله المؤمنين, فقال: لم يَذْهَبُوا حَتّى يَسْتَأْذِنُوهُ.
الآية : 45
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدّدُونَ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: إنما يستأذنك يا محمد في التخلف خلافك, وترك الجهاد معك من غير عذر بين الذين لا يصدّقون بالله, ولا يقرّون بتوحيده. وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ يقول: وشكت قلوبهم في حقيقة وحدانية الله, وفي ثواب أهل طاعته, وعقابه أهل معاصيه. فَهُمْ فِي رَيْبهْمِ يَتردّدوَن يقول: في شكهم متحيرون, وفي ظلمة الحيرة مترددون, لا يعرفون حقّا من باطل, فيعملون على بصيرة. وهذه صفة المنافقين.
وكان جماعة من أهل العلم يرون أن هاتين الاَيتين منسوختان بالآية التي ذكرت في سورة النور. ذكر من قال ذلك:
13106ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, عن الحسين, عن يزيد, عن عكرمة والحسن البصري, قالا: قوله: لا يَسْتأذِنُكَ الّذِينَ يُؤمِنُونَ باللّهِ... إلى قوله: فَهُمْ في رَيْبِهِمْ يَتَرَدّدُونَ نسختهما الآية التي في النور: إنّمَا المُؤمِنُونَ الّذِينَ آمَنُوا باللّهِ... إلى: إنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
وقد بيّنا الناسخ والمنسوخ بما أغنى عن إعادته ههنا.
الآية : 46
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأعَدّواْ لَهُ عُدّةً وَلَـَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ }.
يقول تعالى ذكره: ولو أراد هؤلاء المستأذنوك يا محمد في ترك الخروج معك لجهاد عدوّك الخروج معك. لاَءَعَدّوا لَهُ عُدّةً يقول: لأعدّوا للخروج عدّة, ولتأهبوا للسفر والعدوّ أهبتهما. وَلكِنْ كَرِهَ اللّهُ انْبِعاثَهُمْ يعني: خروجهم لذلك. فَثَبّطَهُمْ يقول: فثقل عليهم الخروج حتى استخفوا القعود في منازلهم خلافك, واستثقلوا السفر والخروج معك, فتركوا لذلك الخروج. وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ القاعِدِينَ يعني: اقعدوا مع المرضى والضعفاء الذين لا يجدون ما ينفقون ومع النساء والصبيان, واتركوا الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمجاهدين في سبيل الله. وكان تثبيط الله إياهم عن الخروج مع رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به, لعلمه بنفاقهم, وغشهم للإسلام وأهله, وأنهم لو خرجوا معهم ضرّوهم ولم ينفعوا. وذكر أن الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القعود كانوا عبد الله بن أبيّ ابن سلول, والجد بن قيس, ومن كانا على مثل الذي كانا عليه. كذلك:
13107ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, قال: كان الذين استأذنوه فيما بلغني من ذوي الشرف منهم عبد الله بن أبيّ ابن سلول, والجد بن قيس, وكانوا أشرافا في قومهم, فثبطهم الله لعلمه بهم أن يخرجوا معهم فيفسدوا عليه جنده.
الآية : 47
القول في تأويل قوله تعالى: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مّا زَادُوكُمْ إِلاّ خَبَالاً ولأوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ }.
يقول تعالى ذكره: لو خرج أيها المؤمنون فيكم هؤلاء المنافقون, ما زَادُوكُمْ إلاّ خَبالاً يقول: لم يزيدوكم بخروجهم فيكم إلا فسادا وضرّا ولذلك ثبطتهم عن الخروج معكم. وقد بيّنا معنى الخبال بشواهده فيما مضى قبل. وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يقول: ولأسرعوا بركائبهم السير بينكم. وأصله من إيضاع الخيل والركاب, وهو الإسراع بها في السير, يقال للناقة إذا أسرعت السير: وضعت الناقة تضع وضعا ومَوْضُوعا, وأوضعها صاحبها: إذا جدّ بها وأسرع يُوضِعُها إيضاعا ومنه قول الراجز:
يا لَيْتَنِي فِيها جَذَعْأخُبّ فيها وأضَعْ
وأما أصل الخلال: فهو من الخلل: وهي الفرج تكون بين القوم في الصفوف وغيرها ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «تَرَاصّوا فِي الصّفُوفِ لا يَتَخَلّلُكُمْ أوْلادُ الحَذَفِ».
وأما قوله: يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ فإن معنى يبغونكم الفتنة: يطلبون لكم ما تفتنون به عن مخرجكم في مغزاكم, بتثبيطهم إياكم عنه, يقال منه: بغيته الشرّ, وبغيته الخير أبغيه بغاءً: إذا التمسته له, بمعنى: بغيت له, وكذلك عكمتك وحلبتك, بمعنى: حلبت لك وعكمت لك, وإذا أرادوا أعنتك على التماسه وطلبه, قالوا: أبغيتك كذا وأحلبتك وأعكمتك: أي أعنتك عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
13108ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ولأَوْضَعُوا خِلالَكُم بينكم يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ بذلك.
13109ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ولأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يقول: ولأوضعوا أسلحتهم خلالكم بالفتنة.
13110ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ولأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ يبطئونكم. قال: رفاعة بن التابوت, وعبد الله بن أبيّ ابن سلول, وأوس بن قيظي.
13111ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, قوله: ولأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ قال: لأسرعوا الأزقة خلالكم. يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ يبطئونكم, عبد الله بن نبتل, ورفاعة بن تابوت, وعبد الله بن أبيّ ابن سلول.
قال: حدثنا الحسن, قال: ثني أبو سفيان, عن معمر, عن قتادة: ولأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ قال: لأسرعوا خلالكم يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ بذلك.
13112ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زَادُوكُمْ إلاّ خَبالاً قال: هؤلاء المنافقون في غزوة تبوك, يُسّليّ الله عنهم نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين, فقال: وما يُحْزِنكم. ولأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ الكفر.
وأما قوله: وَفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله, فقال بعضهم: معنى ذلك: وفيكم سماعون لحديثكم لهم يؤدونه إليهم عيون لهم عليكم. ذكر من قال ذلك:
13113ـ حدثنا محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: وَفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ يحدّثون بأحاديثكم, عيونٌ غير منافقين.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: وَفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ قال: محدّثون عيون غير منافقين.
13114ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ يسمعون ما يؤدونه لعدوّكم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وفيكم من يسمع كلامهم ويطيع لهم. ذكر من قال ذلك:
13115ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ وفيكم من يسمع كلامهم.
13116ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, قال: كان الذين استأذنوا فيما بلغني من ذوي الشرف منهم: عبد الله بن أبيّ ابن سلولَ والجدّ بن قيس, وكانوا أشرافا في قومهم, فثبطهم الله لعلمه بهم أن يخرجوا معهم فيفسدوا عليه جنده, وكان في جنده قوم أهل محبة لهم وطاعة فيما يدعونهم إليه لشرفهم فيهم, فقال: وَفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ فعلى هذا التأويل: وفيكم أهل سمع وطاعة منكم لو صحبوكم أفسدوهم عليكم بتثبيطهم إياهم عن السير معكم.
وأما على التأويل الأوّل, فإن معناه: وفيكم منهم سماعون يسمعون حديثكم لهم, فيبلغونهم ويؤدونه إليهم عيون لهم عليكم.
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين عندي في ذلك بالصواب تأويل من قال: معناه: وفيكم سماعون لحديثكم لهم يبلغونه عنكم عيون لهم, لأن الأغلب من كلام العرب في قولهم: سماع, وصف من وصف به أنه سماع للكلام, كما قال الله جلّ ثناؤه في غير موضع من كتابه: سمّاعُونَ للْكَذِبِ واصفا بذلك قوما بسماع الكذب من الحديث. وأما إذا وصفوا الرجل بسماع كلام الرجل وأمره ونهيه وقبوله منه, وانتهائه إليه فإنما تصفه بأنه له سامع ومطيع, ولا تكاد تقول: هو له سماع مطيع.
وأما قوله: وَاللّهُ عَلِيمٌ بالظّالِمِينَ فإن معناه: والله ذو علم بمن يوجه أفعاله إلى غير وجوهها ويضعها في غير مواضعها, ومن يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعذر ومن يستأذنه شكّا في الإسلام ونفاقا, ومن يسمع حديث المؤمنين ليخبر به المنافقين ومن يسمعه ليسرّ بما سرّ المؤمنين ويساء بما ساءهم, لا يخفى عليه شيء من سرائر خلقه وعلانيتهم. وقد بيّنا معنى الظلم في غير موضع من كتابنا هذا بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع