تفسير الطبري تفسير الصفحة 199 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 199
200
198
 الآية : 73
القول في تأويل قوله تعالى: {يَأَيّهَا النّبِيّ جَاهِدِ الْكُفّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }.
يقول تعالى ذكره: يا أيها النبيّ جاهد الكفار بالسيف والسلاح والمنافقين.
واختلف أهل التأويل في صفة الجهاد الذي أمر الله نبيه به في المنافقين, فقال بعضهم: أمره بجاهدهم باليد واللسان, وبكل ما أطاق جهادهم به. ذكر من قال ذلك:
13255ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا حميد بن عبد الرحمن ويحيى بن آدم, عن حسن بن صالح, عن عليّ بن الأقمر, عن عمرو بن جندب, عن ابن مسعود, في قوله تعالى: جاهِدِ الكُفّارَ وَالمُنَافِقِينَ قال: بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه, فإن لم يستطع فليكفهرّ في وجهه.
وقال آخرون: بل أمره بجهاهدهم باللسان. ذكر من قال ذلك:
13256ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله تعالى: يا أيّها النّبي جاهِدِ الكُفّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ فأمره الله بجهاد الكفار بالسيف والمنافقين باللسان, وأذهب الرفق عنهم.
13257ـ حدثنا القاسم, قال: ثني الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عباس: جاهِدِ الكُفّارَ وَالمُنَافِقِينَ قال: الكفار بالقتال, والمنافقين: أن تغلظ عليهم بالكلام.
13258ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ, قال: أخبرنا عبيد بن سليمان, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: جاهِدِ الكُفّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ يقول: جاهد الكفار بالسيف, وأغلظ على المنافقين بالكلام وهو مجاهدتهم.
وقال آخرون: بل أمره بإقامة الحدود عليهم. ذكر من قال ذلك:
13259ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الحسن: جاهِدِ الكُفّارَ وَالمُنَافِقِينَ قال: جاهد الكفار بالسيف, والمنافقين بالحدود, أقم عليهم حدود الله.
13260ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: يا أيّها النّبِي جاهِدِ الكُفّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ قال: أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجاهد الكفار بالسيف, ويغلظ على المنافقين في الحدود.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب ما قال ابن مسعود, من أن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم من جهاد المنافقين, بنحو الذي أمره به من جهاد المشركين.
فإن قال قائل: فكيف تركهم صلى الله عليه وسلم مقيمين بين أظهر أصحابه مع علمه بهم؟ قيل: إن الله تعالى ذكره إنما أمر بقتال من أظهر منهم كلمة الكفر, ثم أقام على إظهاره ما أظهر من ذلك. وأما من إذا اطلع عليه منهم أنه تكلم بكلمة الكفر وأخذ بها, أنكرها ورجع عنها وقال: إني مسلم, فإن حكم الله في كل من أظهر الإسلام بلسانه, أن يحقن بذلك له دمه وماله وإن كان معتقدا غير ذلك, وتوكل هو جلّ ثناؤه بسرائرهم, ولم يجعل للخلق البحث عن السرائر فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه بهم وإطلاع الله إياه على ضمائرهم واعتقاد صدورهم, كان يقرّهم بين أظهر الصحابة, ولا يسلك بجهادهم مسلك جهاد من قد ناصبه الحرب على الشرك بالله لأن أحدهم كان إذا اطلع عليه أنه قد قال قولاً كفر فيه بالله ثم أخذ به أنكره, وأظهر الإسلام بلسانه, فلم يكن صلى الله عليه وسلم يأخذه إلا بما أظهر له من قوله عند حضوره إياه وعزمه على إمضاء الحكم فيه, دون ما سلف من قول كان نطق به قبل ذلك, ودون اعتقاد ضميره الذي لم يبح الله لأحد الأخذ به في الحكم وتولّى الأخذ به هو دون خلقه.
وقوله: وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ يقول تعالى ذكره: واشدد عليهم بالجهاد والقتال والإرهاب. وقوله: ومَأْواهُمْ جَهَنّمُ يقول: ومساكنهم جهنم وهي مثواهم ومأواهم. وَبِئْسَ المَصِيرُ يقول: وبئس المكان الذي يصار إليه جهنم.
الآية : 74
القول في تأويل قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُوَاْ إِلاّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لّهُمْ وَإِن يَتَوَلّوْا يُعَذّبْهُمُ اللّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأرْضِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ }.
اختلف أهل التأويل في الذي نزلت فيه هذه الآية, والقول الذي كان قاله, الذي أخبر الله عنه أنه يخلف بالله ما قاله. فقال بعضهم: الذي نزلت فيه هذه الآية: الجُلاس بن سويد بن الصامت.
وكان القول الذي قاله ما:
13261ـ حدثنا به ابن وكيع, قال: حدثنا معاوية, عن هشام بن عروة, عن أبيه: يَحْلِفُونَ باللّهِ ما قَالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ قال: نزلت في الجلاس بن سويد بن الصامت, قال: إن كان ما جاء به محمد حقّا, لنحن أشرّ من الحمير فقال له ابن امرأته: والله يا عدوّ الله, لأخبرنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قلت, فإني إن لا أفعل أخاف أن تصيبني قارعة وأؤاخذ بخطيئتك فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الجلاس, فقال: «يا جلاس أقلت كذا وكذا؟» فحلف ما قال, فأنزل الله تبارك وتعالى: يَحْلِفُونَ باللّهِ ما قَالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ وكَفَرُوا بَعْدَ إسْلاَمِهِمْ وهَمّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ومَا نَقَمُوا إلا أنْ أغْناهُمُ اللّهُ ورَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ.
حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو معاوية الضرير, عن هشام بن عروة, عن أبيه, قال: نزلت هذه الآية: يَحْلِفُونَ باللّهِ ما قَالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ وكَفَرُوا بَعْدَ إسْلاَمِهِمْ في الجلاس بن سويد بن الصامت, أقبل هو وابن امرأته مصعب من قباء, فقال الجلاس: إن كان ما جاء به محمد حقّا, لنحن أشرّ من حميرنا هذه التي نحن عليها فقال مصعب: أما والله يا عدوّ الله لأخبرنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قلت فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم, وخشيت أن ينزل في القرآن أو تصيبني قارعة أو أن أخلط, قلت: يا رسول الله أقبلت أنا والجلاس من قباء, فقال كذا وكذا, ولولا مخافة أن أؤاخذ بخطيئة أو تصيبني قارعة ما أخبرتك قال: فدعا الجلاس, فقال له: «يا جلاسُ أقُلْت الّذِي قالَ مُصْعَبُ؟» قال: فحلف, فأنزل الله تبارك وتعالى: يَحْلِفُونَ باللّهِ ما قَالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ وكَفَرُوا بَعْدَ إسْلاَمِهِمْ... الآية.
13262ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, قال: كان الذي قال تلك المقالة فيما بلغني الجلاس بن سويد بن الصامت, فرفعها عنه رجل كان في حجره يقال له عمير بن سعيد, فأنكر, فحلف بالله ما قالها فلما نزل فيه القرآن تاب ونزع وحسنت توبته فيما بلغني.
13263ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد كَلِمَةَ الكُفْرِ قال أحدهم: لئن كان ما يقول محمد حقّا لنحن شرّ من الحمير فقال له رجل من المؤمنين: إن ما قال لحقّ ولأنت شرّ من حمار قال: فهمّ المنافقون بقتله, فذلك قوله: وهَمّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, بنحوه.
قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
13264ـ حدثني أيوب بن إسحاق بن إبراهيم, قال: حدثنا عبد الله بن رجاء, قال: حدثنا إسرائيل, عن سماك, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في ظلّ شجرة, فقال: «إنّهُ سَيَأْتِيكُمْ إنْسانٌ فَيَنْظُرُ إلَيْكُمْ بِعَيْنَي شَيْطَانٍ, فإذا جاءَ فَلا تُكَلّمُوهُ فلم يلبث أن طلع رجل أزرق, فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: «عَلاَمَ تَشْتُمُني أنْتَ وأصْحَابُكَ؟» فانطلق الرجل فجاء بأصحابه, فحلفوا بالله ما قالوا وما فعلوا حتى تجاوز عنهم, فأنزل الله: يَحْلِفُونَ باللّهِ ما قَالُوا ثم نعتهم جميعا, إلى آخر الآية.
وقال آخرون: بل نزلت في عبد الله بن أُبيّ ابن سلولَ, قالوا: والكلمة التي قالها ما:
13265ـ حدثنا به بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: يَحْلِفُونَ باللّهِ ما قَالُوا... إلى قوله: مِنْ وَلِيّ وَلا نَصِيرٍ قال: ذكر لنا أن رجلين اقتتلا, أحدهما من جهينة والاَخر من غفار, وكانت جهينة حلفاء الأنصار. وظهر الغفاريّ على الجهني, فقال عبد الله بن أبيّ للأوس: انصروا أخاكم, فوالله ما مَثَلُنا ومَثَلُ محمد إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك وقال: لَئِنْ رَجعْنَا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الأعَزّ مِنْها الأذَلّ, فسعى بها رجل من المسلمين إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم. فأرسل إليه فسأله, فجعل يحلف بالله ما قاله, فأنزل الله تبارك وتعالى: يَحْلِفُونَ باللّهِ ما قَالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ.
13266ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: يَحْلِفُونَ باللّهِ ما قَالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ قال: نزلت في عبد الله بن أبيّ ابن سلولَ.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى أخبر عن المنافقين أنهم يحلفون بالله كذبا على كلمة كفر تكلموا بها أنهم لم يقولوها. وجائز أن يكون ذلك القول ما رُوي عن عروة أن الجلاس قاله, وجائز أن يكون قائله عبد الله بن أبي ابن سلول. والقول ما ذكره قتادة عنه أنه قال ولا علم لنا بأن ذلك من أيّ, إذ كان لا خبر بأحدهما يوجب الحجة ويتوصل به إلى يقين العلم به, وليس مما يُدرك علمه بفطرة العقل, فالصواب أن يقال فيه كما قال الله جلّ ثناؤه: يَحْلِفُونَ باللّهِ ما قَالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ وكَفَرُوا بَعْدَ إسْلاَمِهِمْ.
وأما قوله: وَهَمّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا فإن أهل التأويل اختلفوا في الذي كان همّ بذلك وما الشيء الذي كان همّ به. فقال بعضهم: هو رجل من المنافقين, وكان الذي همّ به قَتْلَ ابن امرأته الذي سمع منه ما قال وخشي أن يفشيه عليه. ذكر من قال ذلك:
13267ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قال: همّ المنافق بقتله, يعني قتل المؤمن الذي قال له أنت شرّ من الحمار. فذلك قوله: وهَمّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا.
حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد به
وقال آخرون: كان الذي همّ رجلاً من قريش, والذي همّ به قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:
13268ـ حدثني الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا شبل, عن جابر, عن مجاهد, في قوله: وَهَمّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا قال: رجل من قريش همّ بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له الأسود.
وقال آخرون: الذي همّ عبد الله بن أبيّ ابن سلولَ, وكان همه الذي لم ينله قوله: لَئِنْ رَجعْنَا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الأعَزّ مِنْها الأذَلّ.
وقوله: ومَا نَقَمُوا إلاّ أنْ أغْناهُمُ اللّهُ ورَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ ذكر لنا أن المنافق الذي ذكر الله عنه أنه قال كلمة الكفر كان فقيرا, فأغناه الله بأن قتل له مولى, فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته. فلما قال ما قال, قال الله تعالى: ومَا نَقَمُوا يقول: ما أنكروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا, إلاّ أنْ أغْناهُمُ اللّهُ ورَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ. ذكر من قال ذلك:
13269ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو معاوية, عن هشام بن عروة, عن أبيه: ومَا نَقَمُوا إلا أنْ أغْناهُمُ اللّهُ ورَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ وكان الجلاس قتل له مولى له, فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته, فاستغنى, فذلك قوله: ومَا نَقَمُوا إلا أنْ أغْناهُمُ اللّهُ ورَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ.
13270ـ قال: حدثنا ابن عيينة, عن عمرو, عن عكرمة, قال: قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالدية اثني عشر ألفا في لبني عيينة, عن عمرو, عن عكرمة, قال: قضى النبيّ صلى الله عليه وسلم بالدية اثنى عشر مولى لبني عديّ بن كعب, وفيه أنزلت هذه الآية: ومَا نَقَمُوا إلاّ أنْ أغْناهُمُ اللّهُ ورَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ.
13271ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: ومَا نَقَمُوا إلاّ أنْ أغْناهُمُ اللّهُ ورَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ قال: كانت لعبد الله بن أبي دية, فأخرجها رسول الله صلى الله عليه وسلم له.
13272ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن الزبير, عن سفيان, قال: حدثنا عمرو, قال: سمعت عكرمة: أن مولى لبني عديّ بن كعب قتل رجلاً من الأنصار, فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية اثني عشر ألفا, وفيه أنزلت: ومَا نَقَمُوا إلا أنْ أغْناهُمُ اللّهُ ورَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ قال عمرو: لم أسمع هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من عكرمة, يعني الدية اثني عشر ألفا.
13273ـ حدثنا صالح بن مسمار, قال: حدثنا محمد بن سنان العوفي, قال: حدثنا محمد بن مسلم الطائفي, عن عمرو بن دينار, عن عكرمة, مولى ابن عباس, عن ابن عباس: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم جعل الدية اثني عشر ألفا, فذلك قوله: ومَا نَقَمُوا إلا أنْ أغْناهُمُ اللّهُ ورَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ قال: بأخذ الدية.
وأما قوله: فإنْ يَتُوبُوا يَكَ خَيْرا لَهُمْ يقول تعالى ذكره: فإن يتب هؤلاء القائلون كلمة الكفر من قيلهم الذي قالوه فرجعوا عنه, يك رجوعهم وتوبتهم من ذلك خيرا لهم من النفاق. وإنْ يَتَوَلّوْا يقول: وإن يدبروا عن التوبة فيأبوها, ويصرّوا على كفرهم يُعَذّبْهُمُ اللّهُ عَذَابا ألِيما يقول: يعذّبهم عذابا موجعا في الدنيا, إما بالقتل, وإما بعاجل خزي لهم فيها, ويعذّبهم في الاَخرة بالنار.
وقوله: ومَا لَهُمْ فِي الأرْضِ من وَلِيّ وَلا نَصِيرٍ يقول: وما لهؤلاء المنافقين إن عذّبهم الله في عاجل الدنيا, من وليّ يواليه على منعه من عقاب الله, ولا نصير ينصره من الله, فينقذه من عقابه وقد كانوا أهل عزّ ومنعة بعشائرهم وقومهم يمتنعون بهم ممن أرادهم بسوء, فأخبر جلّ ثناؤه أن الذين كانوا يمنعونهم ممن أرادهم بسوء من عشائرهم وحلفائهم, لا يمنعونهم من الله ولا ينصرونهم منه إذ احتاجوا إلى نصرهم. وذُكر أن الذي نزلت فيه هذه الآية تاب مما كان عليه من النفاق. ذكر من قال ذلك:
13274ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو معاوية, عن هشام بن عروة, عن أبيه: فإنْ يَتُوبُوا يكُ خَيْرا لَهُمْ قال: قال الجلاس: قد استثنى الله لي التوبة, فأنا أتوب فقبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو معاوية, عن هشام بن عروة, عن أبيه: فإنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرا لَهُمْ... الآية, فقال الجلاس: يا رسول الله إني أرى الله قد استثنى لي التوبة, فأنا أتوب فتاب, فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم منه.
الآية : 75-77
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصّدّقَنّ وَلَنَكُونَنّ مِنَ الصّالِحِينَ * فَلَمّآ آتَاهُمْ مّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلّواْ وّهُمْ مّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىَ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَآ أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ }.
يقول تعالى ذكره: ومن هؤلاء المنافقين الذين وصفت لك يا محمد صفتهم مَنْ عَاهَدَ اللّهَ يقوله: أعطى الله عهدا, لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ يقول: لئن أعطانا الله من فضله, ورزقنا مالاً, ووسع علينا من عنده لَنَصّدّقَنّ يقول: لنخرجنّ الصدقة من ذلك المال الذي رزقنا ربنا, وَلَنَكُونَنّ مِنَ الصّالِحِينَ يقول: ولنعملنّ فيها بعمل أهل الصلاح بأموالهم من صلة الرحم به وإنفاقه في سبيل الله. يقول الله تبارك حق الله. وَتَوَلّوْا يقول: وأدبروا عن عهدهم الذي عاهدوه الله, وهُمْ مُعْرِضُونَ عنه. فَأعْقَبَهُمُ الله نِفاقا فِي قُلُوبِهِمْ ببخلهم بحقّ الله الذي فرضه عليهم فيما آتاهم من فضله, وإخلافهم الوعد الذي وعدوا الله, ونقضهم عهده في قلوبهم إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أخْلَفُوا الله ما وَعَدُوهُ من الصدقة والنفقة في سبيله, وبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ في قيلهم, وحرّمهم التوبة منه لأنه جلّ ثناؤه اشترط في نفاقهم أنه أعقبهموه إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ وذلك يوم مماتهم وخروجهم من الدنيا.
واختلف أهل التأويل في المعنى بهذه الآية, فقال بعضهم: عني بها رجل يقال له ثعلبة بن حاطب من الأنصار. ذكر من قال ذلك:
13275ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ... الآية, وذلك أن رجلاً يقال له ثعلبة بن حاطب من الأنصار, أتى مجلسا فأشهدهم, فقال: لئن آتاني الله من فضله, آتيت منه كلّ ذي حقّ حقه, وتصدّقت منه, ووصلت منه القرابة فابتلاه الله فآتاه من فضله, فأخلف الله ما وعده, وأغب الله بما أخلف ما وعده, فقصّ الله شأنه في القرآن: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّهَ... الآية, إلى قوله: يَكْذِبُونَ.
13276ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا هشام بن عمار, قال: حدثنا محمد بن شعيب, قال: حدثنا معاذ بن رفاعة السّلَمي, عن أبي عبد الملك عليّ بن يزيد الإلهاني, أنه أخبره عن القاسم بن عبد الرحمن, أنه أخبره عن أبي أمامة الباهلي, عن ثعلبة بن حاطب الأنصاري, أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ادع الله أن يرزقني مالاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَيحَكَ يا ثَعْلَبَة, قَلِيلٌ تُؤَدّى شُكْرَهُ, خَيْبرٌ مِنْ كَثِيرٍ لا تُطِيقُه» قال: ثم قال مرّة أخرى, فقال: «أما تَرْضَى أنْ تَكُونَ مِثْلَ نَبِيّ اللّهِ؟ فَوَالّذِي نَفُسِي بِيَدِهِ لَوْ شِئْتُ أنْ تَسِيرَ مَعي الجِبَالُ ذَهَبا وَفِضّةً لَسارَتْ» قال: والذي بعثك بالحقّ, لئن دعوت الله فرزقني مالاً لأعطينّ كل ذي حقّ حقه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللّهُمّ ارْزُقْ ثَعْلَبَةَ مَالاً». قال: فاتخذ غنما, فنمت كما ينمو الدود, فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها, فنزل واديا من أدويتها, حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة, ويترك ما سواهما. ثم نمت وكثرت, فتنحى حتى ترك الصلوات إلا الجمعة, وهي تنمو كما ينمو الدود, حتى ترك الجمعة. فطفق يتلقى الركبان يوم الجمعة يسألهم عن الأخبار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما فَعَلَ ثَعْلَبَةُ؟» فقالوا: يا رسول الله اتخذ غنما فضاقت عليه المدينة, فأخبروه بأمره فقال: «يا ويْحَ ثَعْلَبَةُ يا ويْحَ ثَعْلَبَةُ يا ويْحَ ثَعْلَبَةُ» قال: وأنزل الله: خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً... الآية. ونزلت عليه فرائض الصدقة, فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين على الصدقة, رجلاً من جهينة, ورجلاً من سليم, وكتب لهما كيف يأخذان الصدقة من المسلمين, وقال لهما: «مُرّا بثعلبة, وبفلان رجل من بني سليم فخُذَا صَدَقَاتِهمَا» فخرجا حتى أتيا ثعلبة, فسألاه الصدقة, وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: ما هذه إلا جزية, ما هذه إلا أخت الجزية, ما أدري ما هذا انطلقا حتى تفرغا ثم عودوا إليّ فانطلقا, وسمع بهما السلميّ, فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة ثم استقبلهم بها, فلما رأوها, قالوا: ما يجب عليك هذا, وما تريد أن نأخذ هذا منك. قال: بلى ول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: ما هذه إلا جزية, ما هذه إلا أخت الجزية, ما أدري ما هذا انطلقا حتى تفرغا ثم عودوا إليّ فانطلقا, وسمع بهما السلميّ, فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة ثم استقبلهم بها, فلما رأوها, قالوا: ما يجب عليك هذا, وما تريد أن نأخذ هذا منك. قال: بلى أن يكلمهما, ودعا للسلميّ بالبركة, فأخبراه بالذي صنع ثعلبة, والذي صنع السلميّ, فأنزل الله تبارك وتعالى فيه: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لنصّدّقَنّ وَلَنَكُونَنّ مِنَ الصّالِحِينَ... إلى قوله: وبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة, فسمع ذلك, فخرج حتى أتاه, فقال: ويحك يا ثعلبة, قد أنزل الله فيك كذا وكذا فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم, فسأله أن يقبل منه صدقته. فقال: «إنّ اللّهَ مَنَعَنِي أنْ أقْبَلَ مِنْكَ صَدَقَتَكَ» فجعل يحثي على رأسه التراب, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هَذَا عَمَلُكَ, قَدْ أمَرْتُكَ فَلَمْ تُطِعْنِي». فلما أبى أن يقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم, رجع إلى منزله, وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقبل منه شيئا. ثم أتى أبا بكر حين استخلف, فقال: قد علمت منزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضعي من الأنصار, فاقبل صدقتي فقال أبو بكر: لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أقبلها؟ فقُبض أبو بكر ولم يقبضها. فلما ولي عمر أتاه فقال: يا أمير المؤمنين اقبل صدقتي فقال: لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا أبو بكر, وأنا لا أقبلها منك فقُبض ولم يقبلها. ثم ولي عثمان رحمة الله عليه, فأتاه فسأله أن يقبل صدقته, فقال: لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا أبو بكر ولا عمر رضوان الله عليهما وأنا لا أقبلها منك فلم يقبلها منه, وهَلك ثعلبة في خلافة عثمان رحمة الله عليه.
13277ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ... الآية: ذُكر لنا أن رجلاً من الأنصار أتى على مجلس من الأنصار, فقال لئن آتاه مالاً, ليؤدّينّ إلى كلّ ذي حقّ حقه فآتاه الله مالاً, فصنع فيه ما تسمعون. قال: فَمَا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ... إلى قوله: وبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ذُكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم حدّث أن موسى عليه الصلاة والسلام لمّا جاء بالتوراة إلى بني إسرائيل قالت بنو إسرائيل: إن التوراة كثيرة, وإنا لا نفرغ لها, فسل لنا ربك جماعا من الأمر نحافظ عليه ونتفرّغ فيه لمعايشنا قال: يا قوم مهلاً مهلاً, هذا كتاب الله, ونور الله, وعصمة الله. قال: فأعادوا عليه, فأعاد عليهم, قالها ثلاثا. قال: فأوحى الله إلى موسى: ما يقول عبادي؟ قال: يا ربّ يقولون: كيت وكيت. قال: فإني آمرهم بثلاث إن حافظوا عليهنّ دخلوا بهنّ الجنة: أن ينتهوا إلى قسمة الميراث فلا يظلموا فيها, ولا يدخلوا أبصارهم البيوت حتى يؤذن لهم, وأن لا يطعموا طعاما حتى يتوضؤوا وضوء الصلاة. قال: فرجع بهنّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه, ففرحوا ورأوا أنهم سيقومون بهنّ, قال: فوالله ما لبث القوم إلا قليلاً حتى جنحوا, وانقطع بهم فلما حدّث نبيّ الله بهذا الحديث عن بني إسرائيل, قال: «تكَفّلُوا لي بستّ أتكفل لكم بالجنة» قالوا: ما هنّ يا رسول الله؟ قال: «إذا حدثتم فلا تكذبوا, وإذا وعدتم فلا تخلفوا, وإذا اؤتمنتم فلا تخونوا, وكفوا أبصاركم وأيديكم وفروجكم وأبصاركم عن الخيانة وأيديكم عن السرقة وفروجكم عن الزنا».
13278ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, عن الحسن: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «ثَلاثٌ مَنْ كُنّ فِيهِ صَارَ مُنافِقا وإنْ صَامَ وصَلّى وَزَعَمَ أنّهُ مُسْلِمٌ: إذَا حَدّثَ كَذَبَ, وإذَا اؤتُمِنَ خانَ, وَإذَا وَعَدَ أخْلَفَ».
وقال آخرون: بل المعنيّ بذلك: رجلان: أحدهما ثعلبة, والاَخر معتب بن قشير. ذكر من قال ذلك:
13279ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن عمرو بن عبيد, عن الحسن: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ... إلى الاَخر, وكان الذي عاهد الله منهم ثعلبة بن حاطب, ومعتب بن قشير, هما من بني عمرو بن عوف.
13280ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ قال: رجلان خرجا على ملإ قعود, فقالا: والله لئن رزقنا الله لنصدّقَنّ فلما رزقهم الله بخلوا به.
13281ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ رجلان خرجا على ملإ قعود, فقالا: والله لئن رزقنا الله لنصدّقنّ فلما رزقهم بخلوا به, فأعقبهم نفاقا في قلوبهم بما أخلفوا الله ما وعدوه حين قالوا: لنصدّقنّ فلم يفعلوا.
حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن نجيح, عن مجاهد نحوه.
13282ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ... الآية, قال: هؤلاء صنف من المنافقين, فلما آتاهم ذلك بخلوا به فلما بخلوا بذلك أعقبهم بذلك نفاقا إلى يوم يلقونه, ليس لهم منه توبة ولا مغفرة ولا عفو, كما أصاب إبليس حين منعه التوبة.
وقال أبو جعفر: في هذه الآية الإبانة من الله جلّ ثناؤه عن علامة أهل النفاق, أعني في قوله: فأعْقَبَهُم نِفَاقا في قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أخْلَفُوا الله ما وَعَدُوهُ وبِما كانُوا يَكْذِبُونَ.
وبنحو هذا القول كان يقول جماعة من الصحابة والتابعين, ووردت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:
13283ـ حدثنا أبو السائب, قال: حدثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن عمارة, عن عبد الرحمن بن يزيد, قال: قال عبد الله: اعتبروا المنافق بثلاث: إذ حدّث كذب, وإذا وعد أخلف, وإذا عاهد غدر. وأنزل الله تصديق ذلك في كتابه: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ... إلى قوله: يَكْذِبُونَ.
13284ـ حدثني محمد بن المثنى, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن السماك, عن صبيح بن عبد الله بن عميرة, عن عبد الله بن عمرو, قال: ثلاث من كنّ فيه كان منافقا: إذا حدّث كذب, وإذا وعد أخلف, وإذا اؤتمن خان. قال: وتلا هذه الآية: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصدّقَنّ وَلَنَكُونَنّ مِنَ الصّالِحِينَ... إلى آخر الآية.
حدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا أبو داود, قال: حدثنا شعبة, عن سماك, قال: سمعت صبيح بن عبد الله القيسي يقول: سألت عبد الله بن عمرو, عن المنافق, فذكر نحوه.
13285ـ حدثني محمد بن معمر, قال: حدثنا أبو هشام المخززمي, قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد, قال: حدثنا عثمان بن حكيم, قال: سمعت محمد بن كعب القُرظَيّ, يقول: كنت أسمع أن المنافق يعرف بثلاث: بالكذب, والإخلاف, والخيانة. فالتمستها في كتاب الله زمانا لا أجدها. ثم وجدتها في آيتين من كتاب الله, قوله: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّهَ... حتى بلغ: وبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ, وقوله: إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ على السّمَوَاتِ والأرْضِ هذه الآية.
13286ـ حدثني القاسم بن بشر بن معروف, قال: حدثنا أسامة, قال: حدثنا محمد المخرمي, قال: سمعت الحسن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثَلاثٌ مَنْ كُنّ فِيهِ فَهُوَ مُنافِقٌ وَإنْ صَلّى وَصَامَ وَزَعَمَ أنّهُ مُسْلِمٌ: إذَا حَدّثَ كَذَبَ, وإذَا وَعَدَ أخْلَفَ, وإذَا اؤتُمِنَ خانَ» فقلت للحسن: يا أبا سعيد لئن كان لرجل عليّ دين فلقيني, فتقاضاني وليس عندي, وخفت أن يحبسني ويهلكني, فوعدته أن أقضيه رأس الهلال فلم أفعل, أمنافق أنا؟ قال: هكذا جاء الحديث. ثم حدّث عن عبد الله بن عمرو أن أباه لما حضره الموت, قال: زوّجوا فلانا فإني وعدته أن أزوجه, لا ألقى الله بثلث النفاق قال: قلت: يا أبا سعيد ويكون ثلث الرجل منافقا وثلثاه مؤمن؟ قال: هكذا جاء الحديث. قال: فحججت فلقيت عطاء بن أبي رباح, فأخبرته الحديث الذي سمعته من الحسن, وبالذي قلت له وقال لي. فقال: أعجزت أن تقول له: أخبرني عن إخوة يوسف عليه السلام, ألم يَعِدوا أباهم فأخلفوه وحدّثوه فكذَبوه وأتمنهم فخانوه, أفمنافقين كانوا؟ ألم يكونوا أنبياء أبوهم نبيّ وجدّهم نبيّ؟ قال: فقلت لعطاء: يا أبا محمد حدثني بأصل النفاق, وبأصل هذا الحديث فقال: حدثني جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قال هذا الحديث في المنافقين خاصة الذين حدّثوا النبيّ فكذبوه, وأتمنهم على سرّه فخانوه, ووعدوه أن يخرجوه معه في الغزو فأخلفوه. قال: وخرج أبو سفيان من مكة, فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا, فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «إنّ أبا سُفْيانَ فِي مَكانِ كَذَا وكَذَا, فاخْرُجُوا إلَيْهِ وَاكْتُمُوا» قال: فكتب رجل من المنافقين إليه أن محمدا يريديكم, فخذوا حذركم, فأنزل الله: لاَ تَخُونُوا اللّهَ والرّسُولَ وتَخُونُوا أماناتِكُمْ وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ وأنزل في المنافقين: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَ وَاكْتُمُوا» قال: فكتب رجل من المنافقين إليه أن محمدا يريديكم, فخذوا حذركم, فأنزل الله: لاَ تَخُونُوا اللّهَ والرّسُولَ وتَخُونُوا أماناتِكُمْ وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ وأنزل في المنافقين: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَسعيد, إن أخاك عطاء يقرئك السلام فأخبرته بالحديث الذي حدّث وما قال لي. فأخذ الحسن بيدي فأمالها وقال: يا أهل العراق أعجزتم أن تكونوا مثل هذا؟ سمع مني حديثا فلم يقبله حتى استنبط أصله, صدق عطاء هكذا الحديث, وهذا في المنافقين خلصة.
13287ـ حدثني يعقوب, قال: حدثنا ابن علية, قال: أخبرنا يعقوب, عن الحسن, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثَلاثٌ مَنْ كُنّ فِيهِ وَإنْ صَلّى وَصَامَ وَزَعَمَ أنّهُ مُسْلِمٌ فَهُوَ مُنافِقٌ». فقيل له: ما هي يا رسول الله؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: «إذَا حَدّثَ كَذَبَ, وَإذَا وَعَدَ أخْلَفَ, وَإذَا اؤتُمِنَ خَانَ».
13288ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قال: حدثنا ميسرة, عن الأوزاعي عن هارون بن رباب, عن عبد الله بن عمرو بن وائل, أنه لما حضرته الوفاة, قال: إن فلانا خطب إليّ ابنتي, وإني كنت قلت له فيها قولاً شبيها بالعِدة, والله لا ألقى الله بثلث النفاق, وأشهدكم أني قد زوّجته
وقال قوم: كان العهد الذي عاهد الله هؤلاء المنافقون شيئا نووه في أنفسهم ولم يتكلموا به. ذكر من قال ذلك:
13289ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: سمعت معتمر بن سليمان التيمي يقول: ركبت البحر فأصابنا ريح شديدة, فنذر قوم منا نذورا, ونويت أنا لم أتكلم به. فلما قدمت البصرة, سألت أبي سليمان, فقال لي يا بنيّ: فُهْ به.
13290ـ قال معتمر, وثنا كهمس عن سعيد بن ثابت, قال: قوله: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّهَ... الآية, قال: إنما هو شيء نووه في أنفسهم ولم يتكلموا به, ألم تسمع إلى قوله: ألَمْ يَعْلَمُوا أنّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرّهُمْ وَنجْواهُمْ وأنّ اللّهَ عَلاّمُ الغُيُوبِ؟.
الآية : 78، 79
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنّ اللّهَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ * الّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطّوّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقَاتِ وَالّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }.
يقول تعالى ذكره: ألم يعلم هؤلاء المنافقون الذين يكفرون بالله ورسوله سرّا, ويظهرون الإيمان بهما لأهل الإيمان بهما جهرا, أن الله يعلم سرّهم الذي يسرونه في أنفسهم من الكفر به ربرسوله, وَنَجْوَاهُمْ يقول: ونجواهم إذا تناجوا بينهم بالطعن في الإسلام وأهله وذكرهم بغير ما ينبغي أن يذكروا به, فيحذروا من الله عقوبته أن يحلها بهم وسطوته أن يوقعها بهم على كفرهم بالله وبرسوله وعيبهم للإسلام وأهله, فنزعوا عن ذلك ويتوبوا منه. وأنّ اللّهَ عَلاّمُ الغُيُوبِ يقول: ألم يعلموا أن الله علام ما غانهم بالطعن في الإسلام وأهله وذكرهم بغير ما ينبغي أن يذكروا به, فيحذروا من الله عقوبته أن يحلها بهم وسطوته أن يوقعها بهم على كفرهم بالله وبرسوله وعيبهم للإسلام وأهله, فنزعوا عن ذلك ويتوبوا منه. وأنّ اللّهَ عَلاّمُ الغُيُوبِ يقول: ألم يعلموا أن الله علام ما غاب يقول تعالى ذكره: الذين يلمزون المطوّعين في الصدقة على أهل المسكنة والحاجة, بما لم يوجبه الله عليهم في أموالهم, ويطعنون فيها عليهم بقولهم: إنما تصدّقوا به رياء وسمعة, ولم يريدوا وجه الله, ويلمزون الذين لا يجدون ما يتصدّقون به إلا جهدهم, وذلك طاقتهم, فينتقصونهم ويقولون: لقد كان الله عن صدقة هؤلاء غنيّا سخرية منهم ربهم. فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وقد بينا صفة سخرية الله بمن يسخر به من خلقه في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته ههنا. وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ يقول: ولهم من عند الله يوم القيامة عذاب موجع مؤلم.
وذُكر أن المعنيّ بقوله: المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنينَ عبد الرحمن بن عوف, وعاصم بن عديّ الأنصاري, وأن المعنيّ بقوله: والّذِينَ لا يَجِدُونَ إلاّ جُهْدَهُمْ أبو عقيل الأراشي أخو بني أنيف. ذكر من قال ذلك:
13291ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: والّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقَاتِ قال: جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم, وجاءه رجل من الأنصار بصاع من طعام, فقال بعض المنافقين: والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إلا رياء وقالوا: إن كان الله ورسوله لغنيين عن هذا الصاع.
13292ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقاتِ وَالّذِينَ لا يجدُونَ إلاّ جُهْدَهُمْ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الناس يوما فنادى فيهم: أن اجْمَعُوا صَدَقَاتِكُمْ فجمع الناس صدقاتهم. ثم جاء رجل من أحوجهم بمنّ من تمر, فقال: يا رسول الله هذا صاع من تمر, بتّ ليلتي أجرّ بالجرير الماء حتى نلت صاعين من تمر, فأمسكت أحدهما وأتيتك بالاَخر فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثره في الصدقات. فسخر منه رجال وقالوا: والله إن الله ورسوله لغنيان عن هذا, وما يصنعان بصاعك من شيء ثم إن عبد الرحمن بن عوف رجل من قريش من بني زهرة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل بقي من أحد من أهل هذه الصدقات؟ فقال: «لا» فقال عبد الرحمن بن عوف: إن عندي مائة أوقية من ذهب في الصدقات. فقال له عمر بن الخطاب: أمجنون أنت؟ فقال: ليس بي جنون. فقال: أتعلم ما قلت؟ قال: نعم, مالي ثمانية آلاف: أما أربعة فأقرضها ربي, وأما أربعة آلاف فلي. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بَارَكَ اللّهُ لَكَ فِيما أمْسَكْتَ وَفِيما أعْطَيْتَ» وكره المنافقون فقالوا: والله ما أعطي عبد الرحمن عطيته إلا رياء وهم كاذبون, إنما كان به متطوعا. فأنزل الله عذره, وعذر صاحبه المسكين الذي جاء بالصاع من التمر, فقال الله في كتابه: والّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطَوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ في الصّدَقاتِ... الآية.
13293ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو أسامة, عن شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ قال: جاء عبد الرحمن بن عوف بصدقة ماله أربعة آلاف, فلمزه المنافقون, وقالوا: راءى. والّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إلاّ جُهْدَهُمْ قال: رجل من الأنصار, آجر نفسه بصاع من تمر لم يكن له غيره, فجاء به فلمزوه, وقالوا: كان الله غنيّا عن صاع هذا.
حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, نحوه.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, نحوه.
13294ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ... الآية, قال: أقبل عبد الرحمن بن عوف بنصف ماله, فتقرّب به إلى الله, فلمزه المنافقون, فقالوا: ما أعطى ذلك إلا رياءً وسمعة فأقبل رجل من فقراء المسلمين يقال له: حبحاب أبو عقيل, فقال: يا نبي الله, بتّ أجر الجرير على صاعين من تمر: أما صاع فأمسكته لأهلي, وأما صاع فها هو ذا. فقال المنافقون: والله إن الله ورسوله لغنيان عن هذا فأنزل الله في ذلك القرآن: الّذِينَ يَلْمِزُونَ.. الآية.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقاتِ قال: تصدّق عبد الرحمن بن عوف بشطر ماله, وكان ماله ثمانية آلاف دينار, فتصدّق بأربعة آلاف دينار, فقال ناس من المنافقين: إن عبد الرحمن بن عوف لعظيم الرياء فقال الله: الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ في الصّدَقاتِ وكان لرجل صاعان من تمر, فجاء بأحدهما, فقال ناس من المنافقين: إن كان الله عن صاع هذا لغنيّا فكان المنافقون يطعنون عليهم ويسخرون بهم, فقال الله: وَالّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إلاّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ ولَهُمْ عَذابّ ألِيمٌ.
13295ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا الحجاج بن المنهال الأنماطي, قال: حدثنا أبو عوانة, عن عمر بن أبي سلمة, عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تَصَدّقُوا فإنّي أُرِيدُ أنْ أبْعَثَ بَعْثا» قال: فقال عبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله, إن عندي أربعة آلاف: ألقين أقرضهما الله, وألفين لعيالي. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بارَكَ اللّهُ لَكَ فِيما أعْطَيْتُ, وبَارَكَ لَكَ فِيما أمْسَكْتَ» فقال رجل من الأنصار: وإن عندي صاعين من تمر, صاعا لربي, وصاعا لعيالي قال: فلمز المنافقون, وقالوا: ما أعطى ابن عوف هذا إلا رياءً وقالوا: أو لم يكن الله غنيّا عن صاع هذا فأنزل الله: الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ... إلى آخر الآية.
13296ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرحمن بن سعد. قال: أخبرنا أبو جعفر, عن الربيع بن أنس, في قوله: الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقاتِ قال: أصاب الناس جهد شديد, فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتصدّقوا, فجاء عبد الرحمن بأربعمائة أوقية, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللّهُم بارِكْ لَهُ فيما أمْسَكَ» فقال المنافقون: ما فعل عبد الرحمن هذا إلا رياءً وسمعه وقال: وجاء رجل بصاع من تمر, فقال: يا رسول الله آجرت نفسي بصاعين, فانطلقت بصاع منهما إلى أهلي وجئت بصاع من تمر. فقال المنافقون: إن الله غنيّ عن صاع هذا فأنزل الله هذه الآية: والّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إلاّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ.
13297ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقاتِ... الآية, وكان من المطّوّعين من المؤمنين في الصدقات: عبد الرحمن بن عوف, تصدّق بأربعة آلاف دينار وعاصم بن عدّي أخو بني عجلان. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رغّب في الصدقة وحضّ عليها, فقام عبد الرحمن بن عوف فتصدّق بأربعة آلاف درهم, وقام عاصم بن عدّي فتصدّق بمائة وسق من تمر. فلمزوهما وقالوا: ما هذا إلا رياء وكان الذي تصدّق بجهده أبو عقيل, أخو بني أنيف الأراشي حليف بني عمرو بن عوف, أتى بصاع من تمر, فأفرغه في الصدقة, فتضاحكوا به, وقالوا: إن الله لغنيّ عن صاع أبي عقيل.
13298ـ حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله, قال: حدثنا شعبة, عن سليمان, عن أبي وائل, عن أبي مسعود, قال: لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل قال أبو النعمان: كنا نعمل قال: فجاء رجل فتصدّق بشيء كثير, قال: وجاء رجل فتصدق بصاع تمر, فقالوا: إن الله لغنيّ عن صاع هذا فنزلت: الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقاتِ وَالّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إلاّ جُهْدَهُمْ.
13299ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا زيد بن حباب, عن موسى بن عبيدة, قال: ثني خالد بن يسار, عن ابن أبي عقيل, عن أظبيه, قال: بتّ أجر الجرير على ظهري على صاعين من تمر, فانقلبت بأحدهما إلى أهلي يتبلّغون به, وجئت بالاَخر أتقرّب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأخبرته, فقال: «انْثُرْهُ في الصّدَقَةِ» فسخر المنافقون منه وقالوا: لقد كان غنيّا عن الصدقة هذا المسكين فأنزل الله: الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ في الصّدَقاتِ... الاَيتين.
13300ـ حدثني يعقوب, قال: حدثنا ابن علية, قال: أخبرنا الجريري عن أبي السليل, قال: وقف على الحيّ رجل, فقال: ثني أبي أو عمي, فقال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «مَنْ يَتَصَدّق اليَوْمَ بصَدَقَةٍ أشْهَدْ لَهُ بِها عِنْدَ الله يَوْمَ القِيامَةِ». قال: وعليّ عمامة لي, قال: فنزعت لَوْثا أو ابن علية, قال: أخبرنا الجريري عن أبي السليل, قال: وقف على الحيّ رجل, فقال: ثني أبي أو عمي, فقال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «مَنْ يَتَصَدّق اليَوْمَ بصَدَقَةٍ أشْهَدْ لَهُ بِها عِنْدَ الله يَوْمَ القِيامَةِ». قال: وعليّ عمامة لي, قال: فنزعت لَوْثا أو ألقي بخطامها أو بزمامها. قال: فلمزه رجل جالس, فقال: والله إنه ليتصدّق بها ولهي خير منه فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: «بَلْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ ومِنْها». يقول ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم.
13301ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرني يونس, عن ابن شهاب, قال: أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك, يقول: الذي تصدّق بصاع التمر فلمزه المنافقون, أبو خيثمة الأنصاريّ.
13302ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا محمد بن رجاء أبو سهل العباداني قال: حدثنا عامر بن يِساف اليمامي, عن يحيى بن أبي كثير اليمامي, قال: جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله مالي ثمانية آلاف, جئتك بأربعة آلاف فاجعلها في سبيل الله, وأمسكت أربعة آلاف لعيالي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بارَكَ اللّهُ فِيما أعْطَيْتَ وَفِيما أمْسَكْتَ» وجاء رجل آخر فقال: يا رسول الله, بتّ الليلة أجر الماء على صاعين, فأما أحدهما فتركت لعيالي, وأما الاَخر فجئتك به, اجعله في سبيل الله فقال: «بارَكَ اللّهُ فِيما أعْطَيْتَ وَفِيما أمْسَكْتَ» فقال ناس من المنافقين: والله ما أعطى عبد الرحمن إلا رياء وسمعة, ولقد كان الله ورسوله غنيين عن صاع فلان فأنزل الله: الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤمِنِينَ فِي الصّدَقاتِ يعني عبد الرحمن بن عوف, والّذِينَ لاَ يَجِدُون إلاّ جُهْدَهُمْ يعني صاحب الصاع, فَيَسْخَرُونَ منْهُمْ سَخَرَ اللّهُ منْهُمْ ولَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ.
13303ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, قال ابن عباس: أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يجمعوا صدقاتهم, وإذا عبد الرحمن بن عوف قد جاء بأربعة آلاف, فقال: هذا مالي أقرضه الله وقد بقي لي مثله فقال له: «بُورِكَ اللّهُ فِيما أعْطَيْتَ وَفِيما أمْسَكْتَ» فقال المنافقون: ما أعطي إلا رياء, وما أعطى صاحب الصاع إلا رياء, إن كان الله ورسوله لغنيين عن هذا وما يصنع الله بصاع من شيء؟
13304ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقاتِ... إلى قوله: ولَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ قال: أمر النبي عليه الصلاة والسلام المسلمين أن يتصدقوا, فقام عمر بن الخطاب فألقى مالاً وافرا, فأخذ نصفه قال: فجئت أحمل مالاً كثيرا, فقال له رجل من المنافقين: ترائي يا عمر؟ فقال عمر: أرائي الله ورسوله, وأما غيرهما فلا. قال: ورجل من الأنصار لم يكن عنده شيء, فآجر نفسه ليجر الجرير على رقبته بصاعين ليلته, فترك صاعا لعياله وجاء بصاع يحمله, فقال له بعض المنافقين: إن الله ورسوله عن صاعك لغنيان فذلك قول الله تبارك وتعالى: الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقاتِ وَالّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إلاّ جُهْدَهُمْ هذا الأنصاري, فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ.
وقد بينا معنى اللمز في كلام العرب بشواهده وما فيه من اللغة والقراءة فيما مضى وأما قوله: المُطّوّعِينَ فإن معناه: المتطوّعين, أدغمت التاء في الطاء, فصارت طاء مشددة, كما قيل: وَمَنْ يَطّوّعْ خَيْرا يعني يتطوّع. وأما الجهد فإن للعرب فيه لغتين, يقال: أعطاني من جُهده بضم الجيم, وذلك فيما ذكر لغة أهل الحجاز, ومن جَهْدٍ بفتح الجيم, وذلك لغة نجد. وعلى الضم قراءة الأمصار, وذلك هو الاختيار عندنا لإجماع الحجة من القرّاء عليه. وأما أهل العلم بكلام العرب من رواة الشعر وأهل العربية, فإنهم يزعمون أنها مفتوحة ومضمومة بمعنى واحد. وإنما اختلاف ذلك لاختلاف اللغة فيه كما اختلفت لغاتهم في الوُجد والوَجْد بالضم والفتح من «وجدت».
ورُوي عن الشعبي في ذلك ما:
13305ـ حدثنا أبو كريب. قال: حدثنا جابر بن نوح, عن عيسى بن المغيرة, عن الشعبيّ, قال: الجُهْد في العمل, والْجَهْد في القوت.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا حفص, عن عيسى بن المغيرة, عن الشعبي, مثله.
قال: حدثنا ابن إدريس, عن عيسى بن المغيرة, عن الشعبيّ, قال: الجُهْد في العمل, والجَهْد في المعيشة