تفسير الطبري تفسير الصفحة 210 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 210
211
209
 الآية : 15
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَالَ الّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـَذَآ أَوْ بَدّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِيَ أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِيَ إِنْ أَتّبِعُ إِلاّ مَا يُوحَىَ إِلَيّ إِنّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }.
يقول تعالى ذكره: وإذا قرىء على هؤلاء المشركين آيات كتاب الله الذي أنزلناه إليك يا محمد بينات واضحات على الحقّ دالات. قالَ الّذِينَ لا يَرْجَوْنَ لِقاءَنَا يقول: قال الذين لا يخافون عقابنا ولا يوقنون بالمعاد إلينا ولا يصدّقون بالبعث لك: ائْتِ بقُرآنٍ غيرِ هَذَا أوْ بَدّلْهُ بقول: أو غيره. قُلْ لهم يا محمد: ما يَكُونُ لي أنْ أُبَدّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي أي من عندي.
والتبديل الذي سألوه فيما ذُكر, أن يحوّل آية الوعيد آية وعد وآية الوعد وعيدا والحرام حلالاً والحلال حراما, فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم أن ذلك ليس إليه, وأن ذلك إلى من لا يردّ حكمه ولا يتعقب قضاؤه, وإنما هو رسول مبلغ ومأمور متبع.
وقوله: إنْ أتّبِعُ إلاّ ما يُوحَى إليّ يقول: قل لهم: ما أتبع في كلّ ما آمركم به أيها القوم وأنهاكم عنه إلا ما ينزله إليّ ربي ويأمرني به. إنّي أخافُ إنْ عَصَيْتُ رَبي عَذَابَ يَوْمِ عَظِيم يقول إني أخشى من الله إن خالفت أمره وغيرت أحكام كتابه وبدّلت وحيه فعصيته بذلك, عذابَ يومٍ عظيمٍ هَوْلُهُ, وذلك يَوْمَ تَذْهَلُ كُلّ مُرْضِعَة عَمّا أرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلّ ذَاتِ حَملْ حَمْلَها وَتَرَى النّاسَ سُكَارَى ومَا هُمْ بِسُكارَى.
الآية : 16
القول في تأويل قوله تعالى: {قُل لّوْ شَآءَ اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه معرّفه الحجة على هؤلاء المشركين الذين قالوا له ائت بقرآن غير هذا أو بدّله: قل لهم يا محمد لَوْ شاءَ اللّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ أي ما تلوت هذا القرآن عليكم أيها الناس بأن كان لا ينزل عليّ فيأمرني بتلاوته عليكم, وَلا أدْرَاكُمْ بِهِ يقول: ولا أعلمكم به, فَقَدْ لَبِثْتُ فيكُمْ عُمُرا مِنْ قَبْلِهِ يقول: فقد مكثت فيكم أربعين سنة من قبل أن أتلوه عليكم ومن قبل أن يوحيه إليّ ربي, أفَلا تَعْقِلُونَ أني لو كنت منتحلاً ما ليس لي من القول كنت قد انتحلته في أيام شبابي وحداثتي وقبل الوقت الذي تلوته عليكم؟ فقد كان لي اليوم لو لم يوح إليّ وأومر بتلاوته عليكم مندوحة عن معاداتكم ومتسع في الحال التي كنت بها منكم قبل أن يوحى إليّ وأومر بتلاوته عليكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
13701ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: وَلا أدرَاكُمْ بِهِ: ولا أعلمكم.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ولَوْ شاءَ اللّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أدْرَاكُمْ بِهِ يقول: لو شاء الله لم يعلمكموه.
13702ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عباس: لَوْ شاءَ اللّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أدْرَاكُمْ بِهِ يقول: ما حذّرتكم به.
13703ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: إذَا تُتْلَى عَليْهِم آياتُنا بَيّناتِ قالَ الّذِين لا يَرْجُونَ لِقَاءَنا ائْتِ بقُرآنٍ غيرِ هَذَا أوْ بَدّلْه, وهو قول مشركي أهل مكة للنبي صلى الله عليه وسلم, ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: لَوْ شاءَ اللّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرا مِنْ قَبْلِهِ أفَلا تَعْقِلُونَ لبث أربعين سنة.
13704ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: قُلْ لَوْ شاءَ اللّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أدْارَاكُمْ بِهِ ولا أعلمكم به.
13705ـ حدثني محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الحسن, أنه كان يقرأ: «وَلا أدْرَأتُكُمْ بِهِ» يقول: ما أعلمتكم به.
13706ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: وَلا أدْارَاكُمْ بِهِ يقول: ولا أشعركم الله به.
وهذه القراءة التي حكيت عن الحسن عند أهل العربية غلط, وكان الفراء يقول في ذلك قد ذكر عن الحسن أنه قال: «ولا أدْرأتكم به», قال: فإن يكن فيها لغة سوى «دريت» و «أدريت», فلعلّ الحسن ذهب إليها, وأما أن يصلح من «دريت» أو «أدريت» فلا, لأن الياء والوا إذا انفتح ما قبلهما وسكنتا صحتا ولم تنقلبا إلى ألف مثل قضيت ودعوت, ولعلّ الحسن ذهب إلى طبيعته وفصاحته فهمزها, لأنها تضارع «درأت الحدّ» وشبهه. وربما غلطت العرب في الحرف إذا ضارعه آخر من الهمز, فيهمزون غير المهموز. وسمعت امرأة من طيّ تقول: رثأت زوجي بأبيات, ويقولون: لبأت بالحجّ وحلأت السويق يتغلطون, لأن «حلأت» قد يقال في دفع العطاش من الإبل, و «لبأت»: ذهبت به إلى اللبأ, لبأ الشاة, و«رثأت زوجي»: ذهبت به إلى رثأت اللبن إذا أنت حلبت الحليب على الرائب, فتلك الرثيئة. وكان بعض البصريين يقول: لا وجه لقراءة الحسن هذه لأنها من «أدريت» مثل «أعطيت», إلا أن لغة بني عقيل «أعطأت» يريدون «أعطيت», تحوّل الياء ألفا, قال الشاعر:
لَقَدْ آذَنَتْ أهْلَ اليَمامَةِ طَيىّءٌبحَرْبٍ كنَاصَاةَ الأغَرّ المُشَهّرِ
يريد كناصية حكي ذلك عن المفضل. وقال زيد الخيل:
لَعْمُركَ ما أخْشَى التّصَعْلُكَ ما بَقَاعلى الأرْضِ قَيْسيّ يَسُوقُ الأباعِرا
فقال «بقا». وقال الشاعر:
لَزَجَرْتُ قلبا لا يَرِيعُ لِزَاجِرٍإنّ الغَوِيّ إذا نُهَا لَمْ يُعْتِب
يريد «نُهِي». قال: وهذا كله على قراءة الحسن, وهي مرغوب عنها, قال: وطيّىء تصير كل ياء انكسر ما قبلها ألفا, يقولون: هذه جاراة, وفي الترقوة: ترقاة, والعرقوة: عرقاة, قال: وقال بعض طيىء: قد لقت فزارة, حذف الياء من لقيت لما لم يمكنه أن يحوّلها ألفا لسكون التاء فيلتقي ساكنان. وقال: زعم يونس أن نسا ورضا لغة معروفة, قال الشاعر:
()وأبْنَيْتُ بالأَعْراضِ ذا البَطْنِ خالِدا
نَسا أوْ تَناسَى أن يَعُدّ المَوَاليا()
ورُوى عن ابن عباس في قراءة ذلك أيضا رواية أخرى, وهي ما:
13707ـ حدثنا به المثنى, قال: حدثنا المعلى بن أسد, قال: حدثنا خالد بن حنظلة, عن شهر بن حوشب, عن ان عباس أنه كان يقرأ: «قُلْ لَوْ شاءَ اللّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أنْذَرْتُكُمْ بِهِ».
والقراءة التي لا أستجيز أن تعدوها هي القراءة التي عليها قرّاء الأمصار: لَوْ شاءَ اللّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أدْرَاكُمْ بِهِ بمعنى: ولا أعلمكم به, ولا أشعركم به.
الآية : 17
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذّبَ بِآيَاتِهِ إِنّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء المشركين الذين نسبوك فيما جئتهم به من عند ربك إلى الكذب: أي خلق أشر بعدنا وأوضع لقيله في غير موضعه, ممن اختلف على الله كذبا وافترى عليه باطلاً أوْ كَذّبَ بآياتِهِ يعني بحججه ورسله وآيات كتابه. يقول له جلّ ثناؤه: قل لهم ليس الذي أضفتموني إليه بأعجب من كذبكم على ربكم وافترائكم عليه وتكذيبكم بآياته. إنّهُ لا يُفْلِحُ المُجْرِمُونَ يقول: إنه لا ينجح الذين اجترموا الكفر في الدنيا يوم القيامة إذا لقوا ربهم, ولا ينالون الفلاح.
الآية : 18
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـَؤُلآءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىَ عَمّا يُشْرِكُونَ }.
يقول تعالى ذكره: ويعبد هؤلاء المشركون الذين وصفت لك يا محمد صفتهم من دون الله الذي لا يضرّهم شيئا ولا ينفعهم في الدنيا ولا في الاَخرة, وذلك هو الاَلهة والأصنام التي كانوا يعبدونها.وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللّهِ يعني أنهم كانوا يعبدونها رجاء شفاعتها عند الله, قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ لَهُمْ أتُنَبّئُونَ اللّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السّمَوَاتِ وَلا في الأرْضِ يقول: أتخبرون الله بما لا يكون في السماوات ولا في الأرض وذلك أن الاَلهة لا تشفع لهم عند الله في السماوات ولا في الأرض. وكان المشركون يزعمون أنها تشفع لهم عند الله, فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم: أتخبرون الله أن ما لايشفع في السماوات ولا في الأرض يشفع لكم فيهما, وذلك باطل لا تعلم حقيقته وصحته, بل يعلم الله أن ذلك خلاف ما تقولون وأنها لا تشفع لأحد ولا تنفع ولا تضرّ. سُبْحانَهُ وَتَعَالى عَمّا يُشْرِكُونَ يقول: تنزيها لله وعلوّا عما يفعله هؤلاء المشركون من إشراكهم في عبادة ما لا يضرّ ولا ينفع وافترائهم عليه الكذب.
الآية : 19
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ النّاسُ إِلاّ أُمّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رّبّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }.
يقول تعالى ذكره: وما كان الناس إلا أهل دين واحد وملة واحدة, فاختلفوا في دينهم, فافترقت بهم السبل في ذلك. وَلوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبّكَ يقول: ولولا أنه سبق من الله أنه لا يهلك قوما إلا بعد انقضاء آجالهم, لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ يقول: لقضي بينهم بأن يهلك أهل الباطل منهم وينجي أهل الحقّ.
وقد بيّنا اختلاف المختلفين في معنى ذلك في سورة البقرة, وذلك في قوله: كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النّبَيّينَ وبيّنا الصواب من القول فيه بشواهده فأغنى عن إعادته في هذا الموضع.
13708ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: وَما كانَ النّاسُ إلاّ أُمّةً وَاحِدَةً فاخْتَلَفُوا حين قتل أحد ابني آدم أخاه.
حدثني المثنى, قال: حدثنا القاسم, قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد بنحوه.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, نحوه.
الآية : 20
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مّن رّبّهِ فَقُلْ إِنّمَا الْغَيْبُ للّهِ فَانْتَظِرُوَاْ إِنّي مَعَكُمْ مّنَ الْمُنتَظِرِينَ }.
يقول تعالى ذكره: ويقول هؤلاء المشركون: هلا أنزل على محمد آية من ربه يقول: علم ودليل نعلم به أن محمدا محقّ فيما يقول. قال الله له: فقل يا محمد إنما الغيب لله, أي لا يعلم أحد بفعل ذلك إلا هو جلّ ثناؤه, لأنه لا يعلم الغيب وهو السرّ والخفيّ من الأمور إلا الله, فانتظروا أيها القوم قضاء الله بيننا بتعجيل عقوبته للمبطل منا وإظهاره المحقّ عليه, إني معكم ممن ينتظر ذلك. ففعل ذلك جلّ ثناؤه فقضى بينهم وبينه بأن قتلهم يوم بدر بالسيف