تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 210 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 210

209

قوله: 17- "فمن أظلم" استفهام فيه معنى الجحد أي لا أحد أظلم "ممن افترى على الله" الكذب وزيادة "كذباً" مع أن الافتراء لا يكون إلا كذباً لبيان أن هذا مع كونه افتراء على الله هو كذب في نفسه، فربما يكون الافتراء كذباً في الإسناد فقط، كما إذا أسند ذنب زيد إلى عمرو، ذكر معنى هذا أبو السعود في تفسيره، قيل: وهذا من جملة رده صلى الله عليه وسلم على المشركين لما طلبوا منه أن يأتي بقرآن غير هذا القرآن، أو يبدله، فبين لهم أنه لو فعل ذلك لكان من الافتراء على الله، ولا ظلم يماثل ذلك، وقيل: المفتري على الله الكذب هم المشركون، والمكذب بآيات الله هم أهل الكتاب "إنه لا يفلح المجرمون" تعليل لكون لا أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته: أي لا يظفرون بمطلوب ولا يفوزون بخير، والضمير في "إنه" للشأن: أي إن الشأن هذا.
ثم نعى الله سبحانه عليهم عبادة الأصنام، وبين أنها لا تنفع من عبدها ولا تضر من لم يعبدها فقال: 18- "ويعبدون من دون الله" أي متجاوزين الله سبحانه إلى عباده غيره لا بمعنى ترك عبادته بالكلية "ما لا يضرهم ولا ينفعهم" أي ما ليس من شأنه الضرر ولا النفع، ومن حق المعبود أن يكون مثيباً لمن أطاعه معاقباً لمن عصاه، والواو لعطف هذه الجملة على جملة "وإذا تتلى عليهم آياتنا" و "ما" في "ما لا يضرهم" موصولة أو موصوفة، والواو في "ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله" للعطف على "ويعبدون" زعموا أنهم يشفعون لهم عند الله فلا يعذبهم بذنوبهم، وهذا غاية الجهالة منهم حيث ينتظرون الشفاعة في المآل ممن لا يوجد منه نفع ولا ضر في الحال، وقيل: أرادوا بهذه الشفاعة إصلاح أحوال دنياهم، ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يجيب عنهم فقال: "قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض". قرأ أبو السمال العدوي "تنبئون" بالتخفيف من أنبأ ينبئ. وقرأ من عداه بالتشديد من نبأ ينبئ. والمعنى: أتخبرون الله أن له شركاء في ملكه يعبدون كما يعبد، أو أتخبرونه أن لكم شفعاء بغير إذنه والله سبحانه لا يعلم لنفسه شريكاً ولا شفيعاً بغير إذنه من جميع مخلوقاته الذين هم في سمواته وفي أرضه؟ وهذا الكلام حاصله عدم وجود من هو كذلك أصلاً، وفي هذا من التهكم بالكفار مالا يخفى، ثم نزه الله سبحانه نفسه عن إشراكهم، وهو يحتمل أن يكون ابتداء كلام غير داخل في الكلام الذي أمر الله سبحانه رسوله أن يجيب به عليهم، ويحتمل أن يكون من تمام ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم جواباً عليهم. قرأ حمزة والكسائي "عما يشركون" بالتحتية. وقرأ الباقون بالفوقية، واختار القراءة الأولى أبو عبيد.
قوله: 19- "وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا" قد تقدم تفسيره في البقرة. والمعنى: أن الناس ما كانوا جميعاً إلا أمة واحدة موحدة لله سبحانه مؤمنة به، فصار البعض كافراً وبقي البعض الآخر مؤمناً فخالف بعضهم بعضاً. وقال الزجاج: هم العرب كانوا على الشرك. وقال: كل مولود يولد على الفطرة، فاختلفوا عند البلوغ، والأول أظهر. وليس المراد أن كل طائفة أحدثت ملة من ملل الكفر مخالفة للأخرى، بل المراد كفر البعض وبقي البعض على التوحيد كما قدمنا "ولولا كلمة سبقت من ربك" وهي أنه سبحانه لا يقضي بينهم فيما اختلفوا فيه إلا يوم القيامة "لقضي بينهم" في الدنيا "فيما" هم "فيه يختلفون" لكنه قد امتنع ذلك بالكلمة التي لا تتخلف، وقيل معنى "لقضي بينهم" بإقامة الساعة عليهم، وقيل: لفرغ من هلاكهم، وقيل: الكلمة إن الله أمهل هذه الأمة فلا يهلكهم بالعذاب في الدنيا، وقيل: الكلمة أنه لا يأخذ أحداً إلا بحجة، وهي إرسال الرسل كما قال تعالى: "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً"، وقيل: الكلمة قوله: سبقت رحمتي غضبي. وقرأ عيسى بن عمر لقضي بالبناء للفاعل. وقرأ من عداه بالبناء للمفعول. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: قال النضر: إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزى، فأنزل الله: " فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون * ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم " الآية. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا" قال ابن مسعود: كانوا على هدى. وروي أنه قرأ هكذا. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "وما كان الناس إلا أمة واحدة" قال: آدم وحده "فاختلفوا" قال: حين قتل أحد ابني آدم أخاه. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في الآية قال: كان الناس أهل دين واحد على دين آدم فكفروا، فلولا أن ربك أجلهم إلى يوم القيامة لقضي بينهم.
قوله: 20- "ويقولون" ذكر سبحانه هاهنا نوعاً رابعاً من مخازيهم، وهو معطوف على قوله: "ويعبدون" وجاء بالمضارع لاستحضار صورة ما قالوه. قيل: والقائلون هم أهل مكة، كأنهم لم يعتدوا بما قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآيات الباهرة والمعجزات القاهرة التي لو لم يكن منها إلا القرآن لكفى به دليلاً بيناً ومصدقاً قاطعاً: أي هلا أنزلت عليه آية من الآيات التي نقترحها عليه ونطلبها منه كإحياء الأموات وجعل الجبال ذهباً ونحو ذلك؟ ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عنهم فقال: "قل إنما الغيب لله" أي أن نزول الآية غيب، والله هو المختص بعلمه، المستأثر به، لا علم لي ولا لكم ولا لسائر مخلوقاته "فانتظروا" نزول ما اقترحتموه من الآيات "إني معكم من المنتظرين" لنزولها، وقيل المعنى: انتظروا قضاء الله بيني وبينكم بإظهار الحق على الباطل.