تفسير الطبري تفسير الصفحة 223 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 223
224
222
 الآية : 13
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: كفـاك حجةً علـى حقـيقة ما أتـيتهم به ودلالةً علـى صحّة نبوّتك هذا القرآن من سائر الاَيات غيره, إذْ كانت الاَيات إنـما تكون لـمن أعطيها دلالة علـى صدقه, لعجِز جميع الـخـلق عن أن يأتوا بـمثلها, وهذا القرآن جميع الـخـلق عَجَزَةٌ عن أن يأتوا بـمثله. فإن هم قالوا: افتريتَه: أي اختلقتَه وتكذّبتَه. ودلّ علـى أن معنى الكلام ما ذكرنا قوله: أمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ.... إلـى آخر الآية. ويعنـي تعالـى ذكره بقوله: أمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ أي أيقولون افتراه وقد دللنا علـى سبب إدخال العرب «أم» فـي مثل هذا الـموضع فقل لهم: يأتوا بعشر سور مثل هذا القرآن مفتريات, يعنـي مفتعلات مختلفـات, إن كان ما أتـيتكم به من هذا القرآن مفترى ولـيس بآية معجزة كسائر ما سألته من الاَيات, كالكنز الذي قلتـم: هلاّ أنزل علـيه أو الـملَك الذي قلتـم: هلاّ جاء معه نذيرا له مصدّقا فإنكم قومي وأنتـم من أهل لسانـي, وأنا رجل منكم, ومـحال أن أقدر أخـلق وحدي مئة سورة وأربع عشرة سورة, ولا تقدروا بأجمعكم أن تفتروا وتـختلقوا عشر سور مثلها, ولا سيـما إذا استعنتـم فـي ذلك بـمن شئتـم من الـخـلق. يقول جلّ ثناؤه: قل لهم: وادعوا من استطعتـم أن تدعوهم من دون الله, يعنـي سوى الله, لافتراء ذلك واختلاقه من الاَلهة, فإن أنتـم لـم تقدروا علـى أن تفتروا عشر سور مثله, فقد تبـين لكم أنكم كَذَبة فـي قولكم افتراه, وصحت عندكم حقـيقة ما أتـيتكم به أنه من عند الله, ولـم يكن لكم أن تتـخيروا الاَيات علـى ربكم, وقد جاءكم من الـحجة علـى حقـيقة ما تكذّبون به أنه من عند الله مثل الذي تسألون من الـحجة وترغبون أنكم تصدقون بـمـجيئها.
وقوله: إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ لقوله: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ وإنـما هو: قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات إن كنتـم صادقـين أن هذا القرآن افتراه مـحمد, وادعوا من استطعتـم من دون الله علـى ذلك من الاَلهة والأنداد.
13987ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج: أمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قد قالوه قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا شُهدَاءَكُمْ قال: يشهدون أنها مثله هكذا قال القاسم فـي حديثه.
الآية : 14
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَإِلّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُوَاْ أَنّمَآ أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاّ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ فَهَلْ أَنتُمْ مّسْلِمُونَ }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه: قل يا مـحمد لهؤلاء الـمشركين: فإن لـم يستـجب لكم من تدعون من دون الله إلـى أن يأتوا بعشر سور مثل هذا القرآن مفتريات, ولـم تطيقوا أنتـم وهم أن تأتوا بذلك, فـاعلـموا وأيقنوا أنه إنـما أُنزل من السماء علـى مـحمد صلى الله عليه وسلم بعلـم الله وإذنه, وأن مـحمدا لـم يفتره, ولا يقدر أن يفتريه, وأن لا إلهَ إلاّ هُوَ يقول: وأيقنوا أيضا أن لا معبود يستـحقّ الألوهة علـى الـخـلق إلا الله الذي له الـخـلق والأمر, فـاخـلعوا الأنداد والاَلهة وأفردوا له العبـادة.
وقد قـيـل: إن قوله: فإنْ لَـمْ يَسْتَـجِيبُوا لَكُمْ خطاب من الله لنبـيه, كأنه قال: فإن لـم يستـجب لك هؤلاء الكفـار يا مـحمد, فـاعلـموا أيها الـمشركون أنـما أنزل بعلـم الله. وذلك تأويـل بعيد من الـمفهوم.
وقوله: فَهَلْ أنْتُـمْ مُسْلِـمُونَ يقول: فهل أنتـم مذعنون لله بـالطاعة, ومخـلصون له العبـادة بعد ثبوت الـحجة علـيكم؟ وكان مـجاهد يقول: عنـي بهذا القول أصحاب مـحمد صلى الله عليه وسلم.
13988ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: فَهَلْ أنْتُـمْ مُسْلِـمُونَ قال: لأصحاب مـحمد صلى الله عليه وسلم.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قال: وحدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: وأنْ لا إلَهَ إلاّ هُوَ فَهَلْ أنْتُـمْ مُسْلِـمُونَ قال: لأصحاب مـحمد صلى الله عليه وسلم.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, مثله.
وقـيـل: فإنْ لَـمْ يَسْتَـجُيبُوا لَكُمْ والـخطاب فـي أوّل الكلام قد جرى لواحد, وذلك قوله: قُلْ فَأْتُوا ولـم يقل: فإن لـم يستـجيبوا لك علـى نـحو ما قد بـيّنا قبل فـي خطاب رئيس القوم وصاحب أمرهم, أن العرب تـخرج خطابه أحيانا مخرج خطاب الـجمع إذا كان خطابه خطاب الأتبـاع وجنده, وأحيانا مخرج خطاب الواحد إذا كان فـي نفسه واحدا.
الآية : 15
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: مَنْ كانَ يُرِيدُ بعمله الـحَياةَ الدّنْـيا وأثاثها وَزِينَتَها يطلب به, نوَفّ إلَـيْهِمْ أجور أعْمَالَهُمْ فِـيها وثوابها. وَهُمْ فِـيها يقول: وهم فـي الدنـيا لا يُبْخَسُونَ يقول: لا يُنقصون أجرها, ولكنهم يُوَفّونه فـيها.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
13989ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قوله: مَنْ كانَ يُرِيدُ الـحَياةَ الدّنْـيا وَزِينَتَها... الآية, وهي ما يعطيهم الله من الدنـيا بحسناتهم وذلك أنهم لا يظلـمون نقـيرا, يقول: من عمل صالـحا التـماس الدنـيا صوما أو صلاة أو تهجدا بـاللـيـل لا يعمله إلا لالتـماس الدنـيا يقول الله: أُوَفّـيه الذي التـمس فـي الدنـيا من الـمثابة, وحبط عمله الذي كان يعمل التـماس الدنـيا, وهو فـي الاَخرة من الـخاسرين.
13990ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن سعيد بن جبـير: مَنْ كانَ يُرِيدُ الـحَياةَ الدّنْـيا وزَينَتَها نُوفّ إلَـيْهِمْ أعْمالَهُمْ فِـيها قال: ثواب ما عملوا فـي الدنـيا من خير أعطوه فـي الدنـيا, وَلَـيْس لهُمْ فـي الاَخِرِةِ إلاّ النّارُ وحَبِط ما صَنُعوا فِـيها.
13991ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن سعيد بن جبـير, قوله: مَنْ كانَ يُرِيدُ الـحَياةَ الدّنْـيا وزَينَتَها نُوفّ إلَـيْهِمْ أعْمالَهُمْ فِـيها قال: وربـما عملوا من خير أعطوه فـي الدنـيا, ولَـيْسَ لَهُمْ فـي الاَخِرِةِ إلاّ النّارُ وحَبِط ما صنَعُوا فِـيها قال: هي مثل الآية التـي فـي الروم: وما أتَـيْتُـمْ مِنْ رِبـا لِـيَرْبُوَ فـي أمْوَالِ النّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْد اللّهِ.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, عن منصور, عن سعيد بن جبـير: مَنْ كانَ يُرِيدُ الـحَياةَ الدّنْـيا وزَينَتَها قال: من عمل للدنـيا وُفّـيَهُ فـي الدنـيا.
13992ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: مَنْ كانَ يُرِيدُ الـحَياةَ الدّنْـيا وزَينَتَها قال: من عمل عملاً مـما أمر الله به من صلاة أو صدقة لا يريد بها وجه الله أعطاه الله فـي الدنـيا ثواب ذلك مثل ما أنفق فذلك قوله: نُوفّ إلَـيْهِمْ أعْمالَهُمْ فِـيها فـي الدنـيا, وَهُمْ فِـيهَا لا يُبْخَسُونَ أجر ما عملوا فـيها, أولَئِكَ الّذِينَ لَـيْسَ لَهُمْ فِـي الاَخِرَةِ إلاّ النّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِـيها... الآية.
13993ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوري, عن عيسى, يعنـي ابن ميـمون, عن مـجاهد, فـي قوله: مَنْ كانَ يُرِيدُ الـحَياةَ الدّنْـيا وزَينَتَها قال: مـمن لا يقبل منه جُوزي به يُعطي ثوابه.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن يـمان, عن سفـيان, عن عيسى الـجرشي, عن مـجاهد: مَنْ كانَ يُرِيدُ الـحَياةَ الدّنْـيا وزَينَتَها نُوفّ إلَـيْهِمْ أعْمالَهُمْ فِـيها قال: مـمن لا يقبل منه يعجل له فـي الدنـيا.
13994ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: مَنْ كانَ يُرِيدُ الـحَياةَ الدّنْـيا وزَينَتَها نُوفّ إلَـيْهِمْ أعْمالَهُمْ فِـيها وَهُمْ فِـيها لا يُبْخَسُونَ أي لا يظلـمون. يقول: من كانت الدنـيا همه وسَدَمه وطلبته ونـيته, جازاه الله بحسناته فـي الدنـيا, ثم يُفْضِي إلـى الاَخرة ولـيس له حسنة يُعْطَي بها جزاء. وأما الـمؤمن فـيجازي بحسناته فـي الدنـيا ويثاب علـيها فـي الاَخرة. وَهُمْ فِـيها لا يُبْخَسُونَ: أي فـي الاَخرة لا يظلـمون.
حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, وحدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق جميعا, عن معمر, عن قتادة: مَنْ كانَ يُرِيدُ الـحَياةَ الدّنْـيا وزَينَتَها نُوفّ إلَـيْهِمْ أعْمالَهُمْ فِـيها.... الآية, قال: من كان إنـما همته الدنـيا إياها يطلب أعطاه الله مالاً وأعطاه فـيها ما يعيش, وكان ذلك قصاصا له بعمله. وَهُمْ فِـيها لا يُبْخَسُونَ قال: لا يظلـمون.
13995ـ قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن لـيث بن أبـي سلـم, عن مـحمد بن كعب الُقَرِظيّ: أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أحْسَنَ مِنْ مُـحْسِنٍ فَقَدْ وَقَعَ أجْرُهُ علـى اللّهِ فِـي عاجِلِ الدّنْـيا وآجِلِ الاَخِرَةِ».
13996ـ حُدثت عن الـحسين بن الفرج, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: مَنْ كانَ يُرِيدُ الـحَياةَ الدّنْـيا وزَينَتَها نُوفّ إلَـيْهِمْ أعْمالَهُمْ فِـيها.... الآية, يقول: من عمل عملاً صالـحا فـي غير تقوى يعنـي من أهل الشرك أعطي علـى ذلك أجرا فـي الدنـيا يصل رحما, يعطي سائلاً, يرحم مضطرّا فـي نـحو هذا من أعمال البرّ يعجل الله له ثواب عمله فـي الدنـيا, ويوسع علـيه فـي الـمعيشة والرزق, ويقرّ عينه فـيـما خوّله, ويدفع عنه من مكاره الدنـيا فـي نـحو هذا, ولـيس له فـي الاَخرة من نصيب.
13997ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا حفص بن عمرو أبو عمر الضرير, قال: حدثنا همام, عن قتادة, عن أنس فـي قوله: نُوفّ إلَـيْهِمْ أعْمالَهُمْ فِـيها وَهُمْ فِـيها لا يُبْخَسُونَ قال: هي فـي الـيهود والنصارى.
13998ـ قال: حدثنا حفص بن عمر, قال: حدثنا يزيد بن زريع, عن أبـي رجاء الأزدي, عن الـحسن: نُوفّ إلَـيْهِمْ أعْمالَهُمْ فِـيها قال: طيبـاتهم.
حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن عُلَـية, عن أبـي رجاء, عن الـحسن, مثله.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن عُلَـية, عن أبـي رجاء, عن الـحسن, مثله.
13999ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا سويد, قال: أخبرنا ابن الـمبـارك, عن وهب أنه بلغه أن مـجاهدا كان يقول فـي هذه الآية: هم أهل الرياء, هم أهل الرياء.
14000ـ قال: أخبرنا ابن الـمبـارك, عن حيوة بن شريح, قال: ثنى الولـيد بن أبـي الولـيد أبو عثمان, أن عقبة بن مسلـم حدثه, أن شُفـي بن ماتع الأصبحي حدثه: أنه دخـل الـمدينة, فإذا هو برجل قد اجتـمع علـيه الناس, فقال من هذا؟ فقالوا أبو هريرة. فدنوت منه حتـى قعدت بـين يديه وهو يحدّث الناس, فلـما سكت وخَلا قلت: أنشدك بحقّ وبحقّ لـما حدثتنـي حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلته وعلـمته قال: فقال أبو هريرة: أفعل, لأحدثنك حديثا حدثنـيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نشغ نشغة, ثم أفـاق, فقال: لأحدثنك حديثا حدثنـيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي هذا البـيت ما فـيه أحد غيري وغيره ثم نشغ أبو هريرة نشغة شديدة, ثم مال خارّا علـى وجهه, واشتدّ به طويلاً, ثم أفـاق, فقال: حدثنـي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تبـارك وتعالـى إذا كان يوم القـيامة نزل إلـى أهل القـيامة لـيقضي بـينهم وكل أمة جاثـية, فأوّل من يدعى به رجل جمع القرآن, ورجل قتل فـي سبـيـل الله, ورجل كثـير الـمال, فـيقول الله للقارىء: ألـم أعلـمك ما أنزلت علـى رسولـي؟ قال: بلـى يا ربّ قال: فماذا عملت فـيـما علـمت؟ قال: كنت أقوم آناء اللـيـل وآناء النهار. فـيقول الله له: كذبت وتقول له الـملائكة: كذبت ويقول الله له: بل أردت أن يقال: فلان قارىء فقد قـيـل ذلك. ويؤتـي بصاحب الـمال فـيقول الله له: ألـم أوسع علـيك حتـى لـم أدعك تـحتاج إلـى أحد؟ قال: بلـى يا ربّ قال: فماذا عملت فـيـما آتـيتك؟ قال: كنت أصل الرحم وأتصدّق. فـيقول الله له: كذبت وتقول الـملائكة: كذبت ويقول الله له: بل أردت أن يقال: فلان جواد, فقد قـيـل ذلك. ويؤتـى بـالذي قُتل فـي سبـيـل الله, فـيقال له: فبـماذا قتلت؟ فـيقول: أمرت بـالـجهاد فـي سبـيـلك, فقاتلت حتـى قتلت. فـيقول الله له: كذبت وتقول له الـملائكة: كذبت ويقول الله له: بل أردت أن يقال: فلان جريء, وقد قـيـل ذلك». ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم علـى ركبتـي, فقال: «يا أبـا هريرة أولئك الثلاثة أوّل خـلق الله تسعر بهم النار يوم القـيامة».
قال الولـيد أبو عثمان: فأخبرنـي عقبة أن شفـيّا هو الذي دخـل علـى معاوية, فأخبره بهذا.
قال أبو عثمان: وحدثنـي العلاء بن أبـي حكيـم أنه كان سيافـا لـمعاوية, قال: فدخـل علـيه رجل فحدثه بهذا عن أبـي هريرة, فقال أبو هريرة وقد فعل بهؤلاء هذا, فكيف بـمن بقـي من الناس؟ ثم بكى معاوية بكاء شديدا حتـى ظننا أنه هلك, وقلنا: قد جاءنا هذا الرجل شرّ. ثم أفـاق معاوية ومسح عن وجهه فقال: صدق الله ورسوله مَنْ كانَ يُرِيدُ الـحَياةَ الدّنْـيا وزَينَتَها نُوفّ إلَـيْهِمْ أعْمالَهُمْ فِـيها وقرأ إلـى: وَبـاطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
حدثنـي الـحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا سفـيان, عن عيسى بن ميـمون, عن مـجاهد: مَنْ كانَ يُرِيدُ الـحَياةَ الدّنْـيا وزَينَتَها... الآية, قال: مـمن لا يتقبل منه, يصوم ويصلـي يريد به الدنـيا, ويدفع عنه وهم الاَخرة. وَهُمْ فِـيها لا يُبْخَسُونَ لا ينقصون.
الآية : 16
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أُوْلَـَئِكَ الّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الاَخِرَةِ إِلاّ النّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: هؤلاء الذين ذكرت أنا نوفـيهم أجور أعمالهم فـي الدنـيا لَـيْسَ لَهُمْ فِـي الاَخِرَةِ إلاّ النارُ يصلونها, وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِـيها يقول: وذهب ما عملوا فـي الدنـيا, وَبـاطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ لأنهم كانوا يعملون لغير الله, فأبطله الله وأحبط عامله أجره.
الآية : 17
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَفَمَن كَانَ عَلَىَ بَيّنَةٍ مّن رّبّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىَ إَمَاماً وَرَحْمَةً أُوْلَـَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مّنْهُ إِنّهُ الْحَقّ مِن رّبّكَ وَلَـَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: أفمَنْ كانَ علـى بَـيّنَةٍ مِنْ رَبّهِ قد بـين له دينه فتبـينه, وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ.
واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك, فقال بعضهم: يعنـي بقوله: أفمَنْ كانَ علـى بَـيّنَةٍ مِنْ رَبّهِ مـحمدا صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:
14001ـ حدثنـي مـحمد بن خـلف, قال: حدثنا حسين بن مـحمد, قال: حدثنا شيبـان, عن قتادة, عن عروة, عن مـحمد ابن الـحنفـية, قال: قلت لأبـي: يا أبت أنت التالـي فـي وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ؟ قال: لا والله يا بنـي وددت أنـي كنت أنا هو, ولكنه لسانه.
14002ـ حدثنـي يعقوب وابن وكيع, قالا: حدثنا ابن عُلَـية, عن أبـي رجاء, عن الـحسن: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ قال: لسانه.
14003ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا ابن أبـي عديّ, عن عوف, عن الـحسن, فـي قوله: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ قال: لسانه.
حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا الـحكم بن عبد الله أبو النعمان العجلـي, قال: حدثنا شعبة, عن أبـي رجاء, عن الـحسن, مثله.
حدثنـي علـيّ بن الـحسن الأزدي, قال: حدثنا الـمعافـي بن عمران, عن قرة بن خالد, عن الـحسن, مثله.
14004ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: أفمَنْ كانَ علـى بَـيّنَةٍ مِنْ رَبّهِ وهو مـحمد كان علـى بـينة من ربه.
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, عن الـحسن, قوله: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ قال: لسانه.
14005ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ قال: لسانه هو الشاهد.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو أسامة, عن شعبة, عن أبـي رجاء, عن الـحسن, مثله.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا غندر, عن عوف, عن الـحسن, مثله.
وقال آخرون: يعنـي بقوله: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ مـحمدا صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:
14006ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا ابن أبـي عديّ, عن عوف, عن سلـيـمان العلاف, عن الـحسين بن علـيّ فـي قوله: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ قال: الشاهد مـحمد صلى الله عليه وسلم.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا غندر, عن عوف, قال: ثنـي سلـيـمان العلاف, قال: بلغنـي أن الـحسين بن علـيّ قال: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ قال: مـحمد صلى الله عليه وسلم.
قال: حدثنا أبو أسامة, عن عوف, عن سلـيـمان العلاف, سمع الـحسين بن علـيّ: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ يقول: مـحمد هو الشاهد من الله.
14007ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: أفمَنْ كانَ علـى بَـيّنَةٍ مِنْ رَبّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم كان علـى بـينة من ربه, والقرآن يتلوه شاهد منه أيضا من الله بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
14008ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا جرير, عن لـيث, عن مـجاهد: أفمَنْ كانَ علـى بَـيّنَةٍ مِنْ رَبّهِ قال: النبـيّ صلى الله عليه وسلم.
14009ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن نضر بن عربـي, عن عكرمة, مثله.
14010ـ قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان عن منصور, عن إبراهيـم, مثله.
14011ـ حدثنا الـحرث, قال: حدثنا أبو خالد, سمعت سفـيان يقول: أفمَنْ كانَ علـى بَـيّنَةٍ مِنْ رَبّهِ قال: مـحمد صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون: هو علـيّ بن أبـي طالب. ذكر من قال ذلك:
14012ـ حدثنا مـحمد بن عمارة الأسدي, قال: حدثنا رزيق بن مرزوق, قال: حدثنا صبـاح الفراء, عن جابر, عن عبد الله بن يحيى, قال: قال علـيّ رضي الله عنه: ما من رجل من قريش إلا وقد نزلت فـيه الآية والاَيتان. فقال له رجل: فأنت فأيّ شيء نزل فـيك؟ فقال علـيّ: أما تقرأ الآية التـي نزلت فـي هود وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ؟
وقال آخرون: هو جبرئيـل. ذكر من قال ذلك:
14013ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, عن عكرمة, عن ابن عبـاس: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ إنه كان يقول: جبرئيـل.
14014ـ حدثنا أبو كريب وابن وكيع, قالا: حدثنا ابن إدريس, عن الـحسن بن عبـيد الله, عن إبراهيـم: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ قال: جبرئيـل.
وحدثنا به أبو كريب مرّة أخرى بإسناده عن إبراهيـم, فقال: قال يقولون علـيّ إنـما هو جبرئيـل.
14015ـ حدثنا أبو كريب وابن وكيع, قالا: حدثنا ابن إدريس, عن لـيث, عن مـجاهد, قال: هو جبرئيـل, تلا التوراة والإنـجيـل والقرآن, وهو الشاهد من الله.
حدثنا ابن بـاشر, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, وحدثنا مـحمد بن عبد الله الـمخرمي, قال: حدثنا جعفر بن عون, قال: حدثنا سفـيان. وحدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوري, وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو نعيـم, قال: حدثنا سفـيان, عن منصور, عن إبراهيـم: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ قال: جبرئيـل.
حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن منصور, عن إبراهيـم, مثله.
قال: حدثنا سهل بن يوسف, قال: حدثنا شعبة, عن منصور, عن إبراهيـم, مثله.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن إبراهيـم, مثله.
14016ـ قال: حدثنا جرير, عن لـيث, عن مـجاهد, قال: جبرئيـل.
14017ـ قال: حدثنا عبد الله, عن إسرائيـل, عن السديّ, عن أبـي صالـح: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ قال: جبرئيـل.
14018ـ قال: حدثنا أبو معاوية, عن جويبر, عن الضحاك: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ قال: جبرئيـل.
14019ـ حُدثت عن الـحسين بن الفرج, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول, فـي قوله: أفمَنْ كانَ علـى بَـيّنَةٍ مِنْ رَبّهِ يعنـي مـحمدا هو علـى بـينة من الله, وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ جبرئيـل شاهد من الله يتلو علـى مـحمد ما بعث به.
14020ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن أبـي جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية, قال: هو جبرئيـل.
14021ـ قال: حدثنا أبـي, عن نضر بن عربـي, عن عكرمة, قال: هو جبرئيـل.
قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, عن منصور, عن إبراهيـم, قال: جبرئيـل.
14022ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: أفمَنْ كانَ علـى بَـيّنَةٍ مِنْ رَبّهِ يعنـي مـحمدا علـى بـينة من ربه, وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ فهو جبرئيـل شاهد من الله بـالذي يتلو من كتاب الله الذي أنزل علـى مـحمد, قال: ويقال: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ يقول: يحفظه الـملك الذي معه.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو النعمان عارم, قال: حدثنا حماد بن زيد, عن أيوب, قال: كان مـجاهد يقول فـي قوله: أفمَنْ كانَ علـى بَـيّنَةٍ مِنْ رَبّهِ قال: يعنـي مـحمدا, وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ قال: جبرئيـل.
وقال آخرون: هو ملك يحفظه ذكر من قال ذلك:
14023ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ قال: معه حافظ من الله ملك.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يزيد بن هارونَ, وسُوَيد بن عمرو, عن حماد بن سَلَـمة, عن أيوب, عن مـجاهد: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ قال: ملك يحفظه.
قال: حدثنا مـحمد بن بكر, عن ابن جريج, عمن سمع مـجاهدا: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ قال: الـملك.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ يتبعه حافظ من الله مَلَك.
14024ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا الـحجاج بن الـمنهال, قال: حدثنا حماد, عن أيوب, عن مـجاهد: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ قال: الـملك يحفظه: يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاوَتَهِ قال: يتبعونه حقّ اتبـاعه.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُقال: حافظ من الله ملك.
وأولـى هذه الأقوال التـي ذكرناها بـالصواب فـي تأويـل قوله: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ: قول من قال: هو جبرئيـل, لدلالة قوله: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسَى إماما وَرَحْمَةً علـى صحة ذلك وذلك أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم لـم يتلُ قبل القرآن كتاب موسى, فـيكون ذلك دلـيلاً علـى صحة قول من قال: عُنِـي به لسان مـحمد صلى الله عليه وسلم, أو مـحمد نفسه, أو علـيّ علـى قول من قال: عُنِـي به علـيّ. ولا يعلـم أن أحدا كان تلا ذلك قبل القرآن أو جاء به مـمن ذكر أهل التأويـل أنه عُنِـي بقوله: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ غير جبرئيـل علـيه السلام.
فإن قال قائل: فإن كان ذلك دلـيـلك علـى أن الـمَعْنـيّ به جبرئيـل, فقد يجب أن تكون القراءة فـي قوله: وَمِن قَبْلِهِ كِتابُ مُوسَى بـالنصب لأن معنى الكلام علـى ما تأوّلت يجب أن يكون: ويتلو القرآن شاهد من الله, ومن قَبل القرآن كتاب موسى؟ قـيـل: إن القراء فـي الأمصار قد أجمعت علـى قراءة ذلك بـالرفع فلـم يكن لأحد خلافُها, ولو كانت القراءة جاءت فـي ذلك بـالنصب كانت قراءة صحيحة ومعنى صحيحا.
فإن قال: فما وجه رفعهم إذا الكتاب علـى ما ادّعيت من التأويـل؟ قـيـل: وجه رفعهم هذا أنهم ابتدءوا الـخبر عن مـجيء كتاب موسى قبل كتابنا الـمنزل علـى مـحمد, فرفعوه ب «من» قبله, والقراءة كذلك, والـمعنى الذي ذكرت من معنى تلاوة جبرئيـل ذلك قبل القرآن, وأن الـمراد من معناه ذلك وإن كان الـخبر مستأنفـا علـى ما وصفت اكتفـاء بدلالة الكلام علـى معناه.
وأما قوله: إماما فإنه نصب علـى القطع من كتاب موسى, وقوله وَرَحْمَةً عطف علـى «الإمام», كأنه قـيـل: ومن قبله كتاب موسى إماما لبنـي إسرائيـل يأَتَـمّون به, ورحمة من الله تلاه علـى موسى. كما:
14025ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن أبـيه, عن منصور, عن إبراهيـم, فـي قوله: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسَى قال: من قبله جاء بـالكتاب إلـى موسى. وفـي الكلام مـحذوف قد ترك ذكره اكتفـاء بدلالة ما ذكر علـيه منه, وهو: أفمَنْ كانَ علـى بَـيّنَةٍ مِنْ رَبّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسَى إِمَاما وَرَحْمَةً كمن هو فـي الضلالة متردّد, لا يهتدي لرشد, ولا يعرف حقّا من بـاطل, ولا يطلب بعمله إلا الـحياة الدنـيا وزينتها؟ وذلك نظير قوله: أمّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللّـيْـلِ ساجِدا وقائِما يَحْذَرُ الاَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الّذِينَ يَعْلَـمُونَ وَالّذِينَ لا يَعْلَـمُونَ والدلـيـل علـى حقـيقة ما قلنا فـي ذلك أن ذلك عَقِـيب قوله: مَنْ كانَ يُرِيدُ الـحَياةَ الدّنْـيا... الآية, ثم قـيـل: أهذا خير أمّن كان علـى بـينة من ربه؟ والعرب تفعل ذلك كثـيرا إذا كان فـيـما ذكَرَتْ دلالة علـى مرادها علـى ما حَذَفت, وذلك كقول الشاعر:
فأُقْسِمُ لَوْ شَيْءٌ أتانا رَسُولُهُسِوَاكِ ولكنْ لَـمْ نَـجِدْ لكِ مَدْفَعا
وقوله: أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ يقول: هؤلاء الذين ذكرت يصدّقون ويقرّون به إن كفر به هؤلاء الـمشركون الذين يقولون: إن مـحمدا افتراه.)
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فـالنّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِـي مِرْيَةٍ مِنْهُ إنّهُ الـحَقّ مِنْ رَبّكَ وَلَكِنّ أكْثَرَ النّاسِ لا يُؤْمِنُونَ.
يقول تعالـى ذكره: ومن يكفر بهذا القرآن فـيجحد أنه من عند الله من الأحزاب وهم الـمتـحزبة علـى مللهم فـالنار موعده, إنه يصير إلـيها فـي الاَخرة بتكذيبه يقول الله لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم. فَلا تَكُ فِـي مِرْيَةٍ مِنْهُ يقول: فلا تك فـي شكّ منه, من أن موعد من كفر بـالقرآن من الأحزاب النار, وأن هذا القرآن الذي أنزلناه إلـيك من عند الله. ثم ابتدأ جلّ ثناؤه الـخبر عن القرآن, فقال: إن هذا القرآن الذي أنزلناه إلـيك يا مـحمد الـحقّ من ربك لا شكّ فـيه, ولكن أكثر الناس لا يصدّقون بأن ذلك كذلك.
فإن قال قائل: أو كان النبـيّ صلى الله عليه وسلم فـي شكّ من أن القرآن من عند الله, وأنه حقّ, حتـى قـيـل له: فلا تك فـي مرية منه؟ قـيـل: هذا نظير قوله: فإنْ كُنْتَ فِـي شَكَ مِـمّا أَنْزَلْنا إلَـيْكَ وقد بـيّنا ذلك هنالك.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
14026ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الوهاب, قال: حدثنا أيوب, قال: نبئت أن سعيد بن جبـير قال: ما بلغنـي حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم علـى وجهه إلا وجدت مِصْداقه فـي كتاب الله تعالـى, حتـى قال «لا يَسْمَعُ بِـي أحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمّةِ وَلاَ يَهُودِيّ وَلا نَصْرَانِـيّ ثُمّ لا يُؤْمِنُ بِـمَا أُرْسِلْتُ بِهِ إلاّ دَخَـلَ النّارَ». قال سعيد: فقلت أين هذا فـي كتاب الله؟ حتـى أتـيت علـى هذه الآية: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسَى إماما وَرَحْمَةً أُولَئكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فـالنّارُ مَوْعِدُهُ قال: من أهل الـملل كلها.
14027ـ حدثنا مـحمد بن عبد الله الـمُخَرّميّ وابن وكيع, قالا: حدثنا جعفر بن عون, قال: حدثنا سفـيان, عن أيوب عن سعيد بن جبـير, فـي قوله: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ قال: من الـملل كلها.
حدثنـي يعقوب وابن وكيع, قالا: حدثنا ابن عُلَـية, قال: حدثنا أيوب, عن سعيد بن جبـير, قال: كنت لا أسمع بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم علـى وجهه, إلا وجدت مصداقه أو قال تصديقه فـي القرآن, فبلغنـي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يَسْمَعُ بِـي أحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمّةِ وَلا يَهُودِيّ وَلا نَصْرَانِـيّ ثُمّ لا يُؤْمِنُ بِـمَا أُرْسِلْتُ بِهِ إلاّ دَخَـلَ النّارَ» فجعلت أقول: أين مصداقها؟ حتـى أتـيت علـى هذا: أفمَنْ كانَ علـى بَـيّنَةٍ مِنْ رَبّهِ... إلـى قوله: فـالنّارُ مَوْعِدُهُ قال: فـالأحزاب: الـملل كلها.
حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, قال: ثنـي أيوب, عن سعيد بن جبـير, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما مِنْ أحَدٍ يَسْمَعُ بِـي مِنْ هَذِهِ الأُمّةِ وَلا يَهُودِيّ وَلا نَصْرَانِـيّ فَلا يُؤْمِنُ بِـي إلاّ دَخَـلَ النّار» فجعلت أقول: أين مصداقها فـي كتاب الله؟ قال: وقلـما سمعت حديثا عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم إلا وجدت له تصديقا فـي القرآن, حتـى وجدت هذه الاَيات: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فـالنّارُ مَوْعِدُهُ: الـملل كلها.
14028ـ قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فـالنّارُ مَوْعِدُهُ قال: الكفـار أحزاب كلهم علـى الكفر.
14029ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَمِنَ الأحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ أي يكفر ببعضه, وهم الـيهود والنصارى. قال: بلغنا أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «لا يَسْمَعُ بِـي أحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمّةِ وَلا يَهُودِيّ وَلا نَصْرَانِـيّ ثُمّ يَـمُوتُ قَبْلَ أنْ يُؤْمِنَ بِـي, إلاّ دَخَـلَ النّارَ».
14030ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا يوسف بن عديّ النضْريّ, قال: أخبرنا ابن الـمبـارك, عن شعبة, عن أبـي بشر, عن سعيد بن جُبـير, عن أبـي موسى الأشعري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَن سَمِعَ بِـي مِنْ أُمّتِـي أوْ يَهُودِيّ أوْ نَصْرانِـيّ, فَلَـمْ يُؤْمِنْ بِـي لَـمْ يَدْخُـلِ الـجَنّةَ».
الآية : 18
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ كَذِباً أُوْلَـَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىَ رَبّهِمْ وَيَقُولُ الأشْهَادُ هَـَؤُلآءِ الّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىَ رَبّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظّالِمِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: وأيّ الناس أشدّ تعذيبـا مـمن اختلق علـى الله كذبـا فكذب علـيه, أولئك يُعْرضون علـى ربهم, ويقول الأشهاد: هؤلاء الذين يكذِبون علـى ربهم يعرَضون يوم القـيامة علـى ربهم, فـيسألهم عما كانوا فـي دار الدنـيا يعملون. كما:
14031ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قوله: ومَنْ أظْلَـمُ مِـمّنِ افْتَرَى علـى اللّهِ كَذِبـا قال: الكافر والـمنافق أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ علـى رَبّهِمْ فـيسألهم عن أعمالهم.
وقوله: وَيَقُولُ الأشْهادُ يعنـي الـملائكة والأنبـياء الذين شهدوهم وحفظوا علـيهم ما كانوا يعملون, وهم جمع شاهد مثل الأصحاب الذي هو جمع صاحب هَؤُلاءِ الّذِينَ كَذَبُوا علـى رَبّهِمْ يقول: شهد هؤلاء الأشهاد فـي الاَخرة علـى هؤلاء الـمفترين علـى الله فـي الدنـيا, فـيقولون: هؤلاء الذين كذبوا فـي الدنـيا علـى ربهم. يقول الله: ألاَ لَعْنَةُ اللّهِ علـى الظّالِـمِينَ يقول: ألا غضب الله علـى الـمعتدين الذي كفروا بربهم.
وبنـحو ما قلنا فـي قوله وَيَقُولُ الأشْهادُ قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
14032ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا نـمير بن نـمير, عن ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وَيَقُولُ الأشْهادُ قال: الـملائكة.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قال: الـملائكة.
14033ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد,قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَيَقُولُ الأشْهادُ والأشهاد: الـملائكة, يشهدون علـى بنـي آدم بأعمالهم.
حدثنـي مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: الأشْهاد قال: الـخلائق, أو قال: الـملائكة.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, بنـحوه.
14034ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج: وَيَقُولُ الأشْهادُ الذين كان يحفظون أعمالهم علـيهم فـي الدنـيا هَؤُلاءِ الّذِينَ كَذَبُوا علـى رَبّهِمْ حفظوه وشهدوا به علـيهم يوم القـيامة. قال ابن جريج: قال مـجاهد: الأشهاد: الـملائكة.
14035ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, قال: سألت الأعمش, عن قوله: وَيَقُولُ الأشْهادُ قال: الـملائكة.
14036ـ حُدثت عن الـحسين بن الفرج, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: وَيَقُولُ الأشْهادُ يعنـي الأنبـياء والرسل, وهو قوله: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِـي كُلّ أُمّةٍ شَهِيدا عَلَـيْهِمْ مِنْ أنْفُسِهِمْ وَجِئنا بِكَ شَهِيدا علـى هَؤُلاءِ. قال: وقوله: وَيَقُولُ الأشْهادُ هَؤُلاءِ الّذِينَ كَذَبُوا علـى رَبّهِمْ يقولون: يا ربنا أتـيناهم بـالـحقّ فكذّبوا, فنـحن نشهد علـيهم أنهم كذبوا علـيك يا ربنا.
14037ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا ابن أبـي عديّ, عن سعيد وهشام, عن قتادة, عن صفوان بن مـحرز الـمازنـي, قال: بـينا نـحن بـالبـيت مع عبد الله بن عمر وهو يطوف, إذ عرض له رجل فقال: يا ابن عمر ما سمعتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فـي النـجوى؟ فقال: سمعت نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يَدْنُو الـمُؤْمِنُ مِنْ رَبّهِ حتـى يَضَعَ عَلَـيْهِ كَنَفَهُ فَـيُقَرّرُهُ بذنُوبِهِ, فَـيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُ كَذَا؟ فَـيَقُولُ: رَبّ أعْرِفُ. مَرّتَـينِ. حتـى إذَا بَلَغَ بِهِ ما شاءَ اللّهُ أنْ يَبْلُغَ, قال: فإنّـي قَدْ سَترْتُها عَلَـيْكَ فِـي الدّنْـيا وأنا أغْفِرُها لَكَ الـيَوْمَ» قالَ: «فَـيُعْطَى صحِيفَةَ حَسَناتِهِ أوْ كِتابَهُ بِـيَـمِينِهِ. وأمّا الكُفّـارُ والـمُنافِقُونَ, فَـيُنادَى بِهِمْ علـى رُءوسِ الأشْهادِ: ألا هَؤُلاءِ الّذِينَ كَذَبُوا علـى رَبّهِمْ ألا لَعْنَةُ اللّهِ علـى الظّالِـمِينَ».
حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن علـية, قال: حدثنا هشام, عن قتادة, عن صفوان بن مـحرز, عن ابن عمر, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم, نـحوه.
14038ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: كنّا نـحدّث أنه لا يخزي يومئذ أحد فـيخفـي خزيه علـى أحد مـمن خـلق الله أو الـخلائق.
الآية : 19
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الّذِينَ يَصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالاَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: ألا لعنة الله علـى الظالـمين الذين يصدّون الناس عن الإيـمان به والإقرار له بـالعبودة وإخلاص العبـادة له دون الاَلهة والأنداد من مشركي قريش, وهم الذين كانوا يفتِنون عن الإسلام مَن دخـل فـيه. وَيَبْغُونَها عِوَجا يقول: ويـلتـمسون سبـيـل الله وهو الإسلام الذي دعا الناس إلـيه مـحمد, يقول: زيغا وميلاً عن الاستقامة. وَهُمْ بـالاَخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ يقول: وهم بـالبعث بعد الـمـمات مع صدّهم عن سبـيـل الله وبغيهم إياها عوجا كافرون, يقول: هم جاحدون ذلك منكرون