تفسير الطبري تفسير الصفحة 250 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 250
251
249
 الآية : 6
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسّيّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ وَإِنّ رَبّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لّلنّاسِ عَلَىَ ظُلْمِهِمْ وَإِنّ رَبّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ }.
يقول تعالـى ذكره: ويستعجلونك يا مـحمد مشركو قومك بـالبلاء والعقوبة قبل الرخاء والعافـية, فـيقولون: اللّهُمّ إنْ كانَ هذَا هُوَ الـحَقّ مِنْ عِنْدِكَ فَأمْطِرْ عَلَـيْنا حِجَارَةً مِنَ السّماءِ أوِ ائْتِنا بِعَذَابٍ ألِـيـمٍ وهم يعلـمون ما حلّ بـمن خلا قبلهم من الأمـم التـي عصت ربها وكذّبت رسلها من عقوبـات الله وعظيـم بلائه, فمن بـين أمة مُسِخت قِرَدة وأخرى خنازير, ومن بـين أمة أهلكت بـالرجْفَة, وأخرى بـالـخسف, وذلك هو الـمُثلات التـي قال الله جلّ ثناؤه: وَقَدْ خَـلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ الـمَثُلاتُ والـمَثُلات: العقوبـات الـمنكّلات, والواحدة منها: مَثُلة بفتـح الـميـم وضمّ الثاء, ثم تـجمع مَثُلات كما واحدة الصّدُقات صَدُقَة, ثم تـجمع صَدُقات. وذكر أن تـميـما من بـين العرب تضم الـميـم والثاء جميعا من الـمَثُلات, فـالواحدة علـى لغتهم منها مُثْلة, ثم تـجمع علـى مُثُلات, مثل غُرْفة وغُرُفـات, والفعل منه: مثلتَ به أمثُل مَثْلاً بفتـح الـميـم وتسكين الثاء, فإذا أردت أنك أقصصته من غيره, قلت: أمَثْلته من صاحبه أُمْثِله إمثالاً, وذلك إذا أقصصته منه.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
15336ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَقَدْ خَـلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الـمَثُلاتُ: وقائع الله فـي الأمـم فـيـمن خلا قبلكم.
وقوله: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بـالسّيّئَةِ قَبْلَ الـحَسَنَةِ وهم مشركو العرب استعجلوا بـالشرّ قبل الـخير, وقالوا: اللّهُمّ إنْ كانَ هَذَا هُوَ الـحَقّ مِنْ عِنْدِكَ فَأمْطِرْ عَلَـيْنا حِجَارَةً مِنَ السّماءِ أوِ ائْتِنا بِعَذابٍ ألِـيـمٍ.
15337ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بـالسّيِئَةِ قَبْلَ الـحَسَنَةٍ قال: بـالعقوبة قبل العافـية. وَقَدْ خَـلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ الـمَثُلاتُ قال: العقوبـات.
15338ـ حدثنا الـحسن بن مـحمد, قال: حدثنا شبـابة, قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: الـمَثُلات قال: الأمثال.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد. وحدثنـي الـمُثنَىّ قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
15339ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَقَدْ خَـلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ الـمَثُلاتُ قال: الـمَثُلات: الذي مَثّل الله فـي الأمـم من العذاب الذي عذّبهم تولّت الـمَثُلات من العذاب, قد خَـلَت من قبلهم, وعرفوا ذلك, وانتهى إلـيهم ما مَثّل الله بهم حين عصَوه وعصَوا رسله.
15340ـ حدثنـي الـحارث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا سلـيـم, قال: سمعت الشعبـيّ يقول فـي قوله: وَقَدْ خَـلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الـمَثُلاثُ قال: القِردَة والـخنازير هي الـمثلات.
وقوله: وَإنّ رَبّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ للنّاسِ علـى ظُلْـمِهِمْ يقول تعالـى ذكره: وإن ربك يا مـحمد لذو ستر علـى ذنوب من تاب من ذنوبه من الناس, فتارك فضيحَته بها فـي موقـف القـيامة, وصافحٌ له عن عقابه علـيها عاجلاً وآجلاً علـى ظلـمهم. يقول: علـى فعلهم ما فعلوا من ذلك بغير إذن لهم بفعله. وَإنّ رَبّكَ لَشَدِيدُ العِقابِ لـمن هلك مُصرّا علـى معاصيه فـي القـيامة إن لـم يُعَجّلِ له ذلك فـي الدنـيا, أو يجمعهما له فـي الدنـيا والاَخرة. وهذا الكلام وإن كان ظاهُره ظاهرَ خير, فإنه وعيد من الله وتهديد للـمشركين من قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم, إن هم لـم ينـيبوا ويتوبوا من كفرهم قبل حلول نقمة الله بهم.
15341ـ حدثنـي علـيّ بن داود, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس: وَإنّ رَبّكَ لَذُو ومَغْفِرَةٍ للنّاسِ يقول: ولكن ربك.
الآية : 7
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَيَقُولُ الّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلآ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مّن رّبّهِ إِنّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ }.
يقول تعالـى ذكره: وَيَقُولُ الّذِينَ كَفَرُوا يا مـحمد من قومك, لَوْلا أُنْزِلَ عَلَـيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبّهِ هلا أنزل علـى مـحمد آية من ربه يعنون: علامة وحُجة له علـى نبوّته, وذلك قولهم: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَـيْهِ كَنْزٌ أوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ يقول الله له: يا مـحمد إنّـمَا أنْتَ مُنْذِرٌ لهم, تنذرهم بأس الله أن يحلّ بهم علـى شركهم. وَلِكُلّ قَوْمٍ هادٍ: يقول ولكلّ قوم إمام يأتـمون به وهاد يتقدّمهم, فـيهديهم إما إلـى خير وإما إلـى شرّ. وأصله من هادي الفَرَس, وهو عنقه الذي يهدي سائر جسده.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل علـى اختلاف منهم فـي الـمغنـيّ بـالهادي فـي هذا الـموضع, فقال بعضهم: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:
15342ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَيَقُولُ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَـيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبّهِ هذا قول مشركي العرب, قال الله:إنّـمَا أنْتَ مُنْذِرٌ ولِكُلّ قَوْمٍ هادٍ لكلّ قوم داعٍ يدعوهم إلـى الله.
15343ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن سفـيان, عن السّديّ, عن عكرمة ومنصور, عن أبـي الضحى: إنّـمَا أنْتَ مُنْذِرٌ ولِكُلّ قَوْمٍ هادٍ قالا: مـحمد هو الـمنذر وهو الهاد.
15344ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن السديّ, عن عكرمة, مثله.
حدثنـي الـحارث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا سفـيان, عن أبـيه, عن عكرمة, مثله.
وقال آخرون: عُنى بـالهادي فـي هذا الـموضع: الله. ذكر من قال ذلك:
15345ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن سفـيان, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبـير: إنّـمَا أنْتَ مُنْذِرٌ ولِكُلّ قَوْمٍ هادٍ قال: مـحمد الـمنذر, والله الهادي.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا سفـيان, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبـير: إنّـمَا أنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلٍ قَوْمٍ هادٍ قال مـحمد الـمنذر, والله الهادي.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا الأشجعيّ, عن سفـيان, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبـير: إنّـمَا أنْتَ مُنْذِرٌ قال: أنت يا مـحمد منذر, والله الهادي.
15346ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: أخبرنا هشيـم, عن عبد الـملك, عن قـيس, عن مـجاهد فـي قوله: إنّـمَا أنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلّ قَوْمٍ هادٍ قال: الـمنذر: النبـيّ صلى الله عليه وسلم. وَلِكُلّ قَوْمٍ هادٍ قال: الله هادي كلّ قوم.
15347ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قوله: إنّـمَا أنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلّ قَوْمٍ هادٍ يقول: أنت يا مـحمد منذر وأنا هادي كل قوم.
15348ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول: إنّـمَا أنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلّ قَوْمٍ هادٍ الـمنذر: مـحمد صلى الله عليه وسلم, والهادي: الله عزّ وجل.
وقال آخرون: الهادي فـي هذا الـموضع معناه نبـيّ. ذكر من قال ذلك:
15349ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا سفـيان, عن لـيث, عن مـجاهد, قال: الـمنذر مـحمد صلى الله عليه وسلم. وَلِكُلّ قَوْمٍ هادٍ قال: نبـيّ.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن مـحمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبـي بَزّة, عن مـجاهد فـي قوله: إنّـمَا أنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلّ قَوْمٍ هادٍ قال: نبـيّ.
قال: حدثنا جرير, عن لـيث, عن مـجاهد, عن عبد الـملك, عن قـيس, عن مـجاهد, مثله.
حدثنا الـحسن بن مـحمد, قال: حدثنا أسبـاط بن مـحمد, عن عبد الـملك, عن قـيس, عن مـجاهد, فـي قوله: إنّـمَا أنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلّ قَوْمِ هادٍ قال: لكلّ قوم نبـيّ, والـمنذر: مـحمد صلى الله عليه وسلم.
قال: حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: ثنـي عبد الـملك, عن قـيس, عن مـجاهد, فـي قول الله: وَلِكُلّ قَوْمٍ هادٍ قال: نبـيّ.
قال: حدثنا شبـابة, قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: وَلِكُلّ قَوْمٍ هادٍ يعنـي: لكلّ قوم نبـيّ.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وَلِكُلّ قَوْمٍ هادٍ قال: نبـيّ.
15350ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: وَلِكُلّ قَوْمٍ هادٍ قال: نبـيّ يدعوهم إلـى الله.
15351ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَلِكُلّ قَوْمٍ هادٍ قال: لكلّ قوم نبـيّ, الهادي: النبـيّ صلى الله عليه وسلم, والـمنذر أيضا: النبـيّ صلى الله عليه وسلم. وقرأ: وَإنْ مِنْ أُمّةٍ إلاّ خَلا فِـيها نَذِيرٌ. وقال: نَذِيرٌ مِنَ النّذُرِ الأُولـى قال: نبـيّ من الأنبـياء.
وقال آخرون: بل عُنـي به: ولكلّ قوم قائد. ذكر من قال ذلك:
15352ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا جابر بن نوح, عن إسماعيـل بن أبـي خالد, عن أبـي صالـح: إنّـمَا أنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلّ قَوْمٍ هادٍ قال: إنـما أنت يا مـحمد منذر, ولكلّ قوم قادة.
قال: حدثنا الأشجعيّ, قال: ثنـي إسماعيـل أو سفـيان, عن إسماعيـل بن أبـي خالد, عن أبـي صالـح: وَلِكُلّ قَوْمٍ هادٍ قال: لكلّ قوم قادة.
15353ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: إنّـمَا أنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلّ قَوْمٍ هادٍ قال: الهادي: القائد, والقائد: الإمام, والإمام: العمل.
15354ـ حدثنـي الـحسن, قال: حدثنا مـحمد, وهو ابن يزيد, عن إسماعيـل, عن يحيى بن رافع, فـي قوله: إنّـمَا أنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلّ قَوْمٍ هادٍ قال: قائد.
وقال آخرون: هو علـيّ بن أبـي طالب رضي الله عنه. ذكر من قال ذلك:
15355ـ حدثنا أحمد بن يحيى الصوفـيّ, قال: حدثنا الـحسن بن الـحسين الأنصاري, قال: حدثنا معاذ بن مسلـم, حدثنا الهروي, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, قال: لـما نزلت إنّـمَا أنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلّ قَومٍ هادٍ وضع صلى الله عليه وسلم يده علـى صدره, فقال: «أنَا الـمُنْذِرُ وَلِكُلّ قَوْمٍ هادٍ», وأومأ بـيده إلـى منكب علـيّ, فقال: «أنْتَ الهادِي يا عَلـيّ, بك يَهْتَدِي الـمُهْتَدُون بَعْدِي».
وقال آخرون: معناه: لكلّ قوم داع. ذكر من قال ذلك:
15356ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: وَلِكُلّ قَوْمٍ هادٍ قال: داع.
وقد بـيّنت معنى الهداية, وأنه الإمام الـمتبع الذي يقدمُ القوم. فإذا كان ذلك كذلك, فجائز أن يكون ذلك هو الله الذي يهدي خـلقه وَيَتْبِعُ خـلقه هداه ويأتـمون بأمره ونهيه, وجائز أن يكون نبـيّ الله الذي تأتـمّ به أمته, وجائز أن يكون إماما من الأئمة يؤتـمّ به ويتبع مِنهاجَه وطريقته أصحابه, وجائز أن يكون داعيا من الدّعاة إلـى خير أو شرّ.
وإذا كان ذلك كذلك, فلا قول أولـى فـي ذلك بـالصواب من أن يقال كما قال جلّ ثناؤه: إن مـحمدا هو الـمنذر مَن أُرْسِل إلـيه بـالإنذار, وإن لكلّ قوم هاديا يهديهم فـيتبعونه ويأتـمون به.
الآية : 8
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلّ أُنثَىَ وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ }.
يقول تعالـى ذكره: وَإنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلهُمْ أئِذَا كُنّا تُرَابـا أئِنّا لَفِـي خَـلْقٍ جَدِيدٍ منكرين قدرة الله علـى إعادتهم خَـلقا جديدا بعد فنائهم وبلائهم, ولا ينكرون قدرته علـى ابتدائهم وتصويرهم فـي الأرحام وتدبـيرهم وتصريفهم فـيها حالاً بعد حال. فـابتدأ الـخبر عن ذلك ابتداء, والـمعنى فـيه ما وصفت, فقال جلّ ثناؤه: اللّهُ يَعْلَـمُ ما تَـحْمِلُ كُلّ أُنْثَى وَما تَغِيضُ الأرْحامُ وَما تَزْدَادُ يقول: وما تنقص الأرحام من حملها فـي الأشهر التسعة بإرسالها دم الـحيض, وما تزداد فـي حملها علـى الأشهر التسعة لتـمام ما نقص من الـحمل فـي الأشهر التسعة بـارسالها دم الـحيض. وكُلّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِـمِقْدَارٍ لا يجاوز شيء من قَدَره عن تقديره, ولا يقصر أمر أراده فدبره عن تدبـيره, كما لا يزداد حمل أنثى علـى ما قدر له من الـحمل, ولا يقصر عما حدّ له من القَدْر والـمِقدار, مفعال من القدر.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
15357ـ حدثنـي يعقوب بن ماهانَ, قال: حدثنا القاسم بن مالك, عن داود بن أبـي هند, عن عكرمة, عن ابن عبـاس فـي قوله: يَعْلَـمُ ما تَـحْمِلُ كُلّ أُنْثَى وَما تَغِيضُ الأرْحامُ قال: ما رأت الـمرأة من يوم دما علـى حملها زاد فـي الـحمل يوما.
15358ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: اللّهُ يَعْلَـمُ ما تَـحْمِلُ كُلّ أُنْثَى وَما تَغِيضُ الأرْحامُ يعنـي السّقط. وَما تَزْدَادُ يقول: ما زادت الرحم فـي الـحمل علـى ما غاضت حتـى ولدته تـماما وذلك أن من النساء من تـحمل عشرة أشهر ومنهنّ من تـحمل تسعة أشهر, ومنهنّ من تزيد فـي الـحمل ومنهنّ من تنقص, فذلك الغيَض والزيادة التـي ذكر الله, وكلّ ذلك بعلـمه.
15359ـ حدثنا سعيد بن يحيى الأموي, قال: حدثنا عبد السلام, قال: حدثنا خَصِيف, عن مـجاهد أو سعيد بن جبـير فـي قول الله: وَما تَغِيضُ الأرْحامُ قال: غيضها دون التسعة, والزيادة فوق التسعة.
15360ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا أبو بشر, عن مـجاهد, أنه قال: الغيض: ما رأت الـحامل من الدم فـي حملها, فهو نقصان من الولد, والزيادة: ما زاد علـى التسعة أشهر, فهو تـمام للنقصان وهو زيادة.
حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا عبد الصمد, قال: حدثنا شعبة, عن أبـي بشر, عن مـجاهد, فـي قوله: وَماتَغِيضُ الأرْحامُ وَما تَزْدَادُ قال: ما ترى من الدم, وما تزداد علـى تسعة أشهر.
حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن أبـي بشر, عن مـجاهد, أنه قال: يَعْلَـمُ وما تَغِيضُ الأرْحامُ وَما تَزْدَادُ قال: ما زاد علـى التسعة الأشهر وما تغيض الأرحام: قال: الدم تراه الـمرأة فـي حملها.
حدثنـي الـمثنى, حدثنا عمرو بن عون والـحجاج بن الـمنهال, قالا: حدثنا هشيـم, عن أبـي بشر, عن مـجاهد, فـي قوله: وَما تَغِيضُ الأرْحامُ وَما تَزْدَادُ قال: الغيض: الـحامل ترى الدم فـي حملها فهو الغيض, وهو نقصان من الولد, وما زاد علـى تسعة أشهر فهو تـمام لذلك النقصان, وهي الزيادة.
حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد,قال: حدثنا عبد السلام, عن خصيف, عن مـجاهد: وَما تَغِيضُ الأرْحامُ وَما تَزْدَادُ قال: إذا رأت دون التسعة زاد علـى التسعة مثل أيام الـحيض.
حدثنا أحمد, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفـيان, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وَما تَغِيضُ الأرْحامُ قال: خروج الدم. وَما تَزْدَادُ قال: استـمساك الدم.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وَما تَغِيضُ الأرْحامُ إراقة الـمرأة حتـى يَخس الولد. وَما تَزْدَادُ قال: إن لـم تهرق الـمرأة تـمّ الولد وعظُم.
حدثنا الـحسن بن مـحمد, قال: حدثنا شبـابة, قال: حدثنا شعبة, عن جعفر, عن مـجاهد, فـي قوله: وقوله: وَما تَغِيضُ الأرْحامُ وَما تَزْدَادُ قال: الـمرأة ترى الدم وتـحمل أكثر من تسعة أشهر.
15361ـ حدثنا الـحسن, قال: حدثنا مـحمد بن الصبـاح, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا أبو بشر, عن سعيد بن جبـير, فـي قوله: وَما تَغِيضُ الأرْحامُ قال: هي الـمرأة ترى الدم فـي حملها.
قال: حدثنا شبـابة, حدثنا ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: وَما تَغِيضُ الأرحامُ وَما تَزْدَادُ إهراق الدم حتـى يخس الولد, وتزداد إن لـم تهرق الـمرأة تـمّ الولد وعظم.
15362ـ قال: حدثنا الـحكم بن موسى, قال: حدثنا هقل, عن عثمان بن الأسود, قال: قلت لـمـجاهد: امرأتـي رأت دما, وأرجو أن تكون حاملاً قال أبو جعفر: هكذا هو فـي الكتاب فقال مـجاهد: ذاك غيض الأرحام يَعْلَـمُ ما تَغِيضُ الأرْحامُ وَما تَزْدادُ وكُلّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِـمِقْدارٍ. الولد لا يزال يقع فـي النقصان ما رأت الدم, فإذا انقطع الدم وقع فـي الزيادة, فلا يزال حتـى يتـم, فذلك قوله: وَمَا تَغِيضُ الأرْحامُ وَمَا تَزْدَادُ, وَكُلّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِـمِقْدَارٍ.
قال: حدثنا مـحمد بن الصبـاح, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا أبو بشر, عن مـجاهد, فـي قوله: وَما تَغِيضُ الأرْحامُ وَما تَزْدَادُ قال: الغَيْض: الـحامل ترى الدم فـي حملها, وهو الغَيض, وهو نقصان من الولد, فما زادت علـى التسعة الأشهر, فهي الزيادة, وهو تـمام للولادة.
15363ـ حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا عبد الوهاب, قال: حدثنا داود, عن عكرمة فـي هذه الآية: اللّهُ يَعْلَـمُ ما تَـحْمِلُ كُلّ أُنْثَى وَما تَغِيضُ الأرْحامُ قال: كلـما غاضت بـالدم زاد ذلك فـي الـحمل.
قال: حدثنا عبد الأعلـى, قال: حدثنا داود, عن عكرمة نـحوه.
حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا عبـاد بن العوّام, عن عاصم, عن عكرمة: وَما تَغِيضُ الأرْحامُ قال: غيض الرحم: الدم علـى الـحمل كلـما غاض الرحم من الدم يوما زاد فـي الـحمل يوما حتـى تستكمل وهي طاهرة.
15364ـ قال: حدثنا عبـاد, عن سعيد, عن يَعْلـى بن مسلـم, عن سعيد بن جبـير, مثله.
حدثنا الـحسن بن مـحمد, قال: حدثنا الولـيد بن صالـح, قال: حدثنا أبو يزيد, عن عاصم, عن عكرمة فـي هذه الآية: وَما تَغِيضُ الأرْحامُ قال: هو الـحيض علـى الـحمل. وَما تَزْدَادُ قال: فلها بكلّ يوم حاضت علـى حملها يوم تزداده فـي طهرها حتـى تستكمل تسعة أشهر طاهرا.
قال: حدثنا يزيد بن هارون, قال: أخبرنا عمران بن حدير, عن عكرمة, فـي قوله: وَما تَغِيضُ الأرْحامُ وَما تَزْدَادُ قال: ما رأت الدم فـي حملها زاد فـي حملها.
15365ـ حدثنا عبد الـحميد بن بـيان, قال: أخبرنا إسحاق, عن جويبر, عن الضحاك, فـي قوله: وَما تَغِيضُ الأرْحامُ وَما تَزْدَادُ ما تغيض: أقلّ من تسعة, وما تزداد: أكثر من تسعة.
حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا ابن الـمبـارك, عن الـحسن بن يحيى, قال: سمعت الضحاك يقول: قد يُولد الـمولود لسنتـين, قد كان الضحاك ولد لسنتـين, والغيض: ما دون التسعة, وما تزداد: فوق تسعة أشهر.
قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفـيان, عن جويبر, عن الضحاك: وَما تَغِيضُ الأرْحامُ وَما تَزْدادُ قال: دون التسعة, وما تزداد: قال: فوق التسعة.
15366ـ قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفـيان, عن جويبر, عن الضحاك, قال: ولدت لسنتـين.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: أخبرنا ابن الـمبـارك, عن الـحسن بن يحيى, قال: حدثنا الضحاك: أن أمه حملته سنتـين, قال: وَما تَغِيضُ الأرْحامُ قال: ما تنقص من التسعة وَما تَزْدَادُ قال: ما فوق التسعة.
15367ـ قال: حدثنا عمرو بن عون قال: أخبرنا هشيـم, عن جويبر, عن الضحاك, فـي قوله: اللّهُ يَعْلَـمُ ما تَـحْمِلُ كُلّ أُنْثَى وَما تَغِيضُ الأرْحامُ قال: كلّ أنثى من خـلق الله.
15368ـ قال: حدثنا هشيـم, عن جويبر, عن الضحاك, ومنصور عن الـحسن, قالا: الغَيْض ما دون التسعة الأشهر.
15369ـ قال: حدثنا سويد, قال: أخبرنا ابن الـمبـارك, عن داود بن عبد الرحمن, عن ابن جريج, عن جميـلة بنت سعد, عن عائشة قالت: لا يكون الـحمل أكثر من سنتـين, قدر ما يتـحولّ ظلّ مغزل.
15370ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا فضيـل بن مرزوق, عن عطية العوفـي: وَما تَغِيضُ الأرْحامُ قال: هو الـحمل لتسعة أشهر وما دون التسعة. وَما تَزْدَادُ قال: علـى التسعة.
15371ـ قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا عمرو بن ثابت عن أبـيه, عن سعيد بن جبـير: وَما تَغِيضُ الأرْحامُ قال: حيض الـمرأة علـى ولدها.
15372ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: وَمَا تَغِيضُ الأرْحامٌ وَما تَزْدَادُ. قال: الغيض: السّقْط وما تزداد: فوق التسعة الأشهر.
حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن سعيد بن جبـير: إذا رأت الـمرأة الدم علـى الـحمل, فهو الغيض للولد. يقول: نقصان فـي غذاء الولد, وهو زيادة فـي الـحمل.
15373ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيدُ, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: اللّهُ يَعْلَـمُ ما تَـحْمِلُ كُلّ أُنْثَى وَما تَغِيضُ الأرْحامُ وَما تَزْدَادُ قال: كان الـحسن يقول: الغيضوضة أن تضع الـمرأة لستة أشهر أو لسبعة أشهر, أو لـما دون الـحدّ. قال قتادة: وأما الزيادة, فما زاد علـى تسعة أشهر.
حدثنـي الـحارث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا قـيس, عن سالـم الأفطس, عن سعيد بن جبـير, قال: غيض الرحم: أن ترى الدم علـى حملها, فكلّ شيء رأت فـيه الدم علـى حملها ازدادت علـى حملها مثل ذلك.
قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا حماد بن سلـمة, عن قـيس بن سعد, عن مـجاهد, قال: إذا رأت الـحاملُ الدم كان أعظم للولد.
حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: وَما تَغِيضُ الأرْحامُ وَما تَزْدَادُ الغيض: النقصان من الأجل, والزيادة: ما زاد علـى الأجل وذلك أن النساء لا يـلدن لعدّة واحدة, يولد الـمولود لستة أشهر فـيعيش, ويولد لسنتـين فـيعيش, وفـيـما بـين ذلك. قال: وسمعت الضحاك يقول: ولدت لسنتـين, وقد نبتت ثناياي.
15374ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَما تَغِيضُ الأرْحامُ قال: غيض الأرحام: الإهراقة التـي تأخذ النساء علـى الـحمل, وإذا جاءت تلك الإهراقة لـم يعتدّ بها من الـحمل ونقص ذلك حملها حتـى يرتفع ذلك وإذا ارتفع استقبلت عِدة مستقبلة تسعة أشهر وأما ما دامت ترى الدم فإن الأرحام تغيض وتنقص والولد يرقّ, فإذا ارتفع ذلك الدم ربـا الولد واعتَدّت حين يرتفع عنها ذلك الدم, عِدّة الـحمل تسعة أشهر, وما كان قبله فلا تعتدّ به هو هِراقة يُبْطل ذلك أجمع أكتع.
وقوله: وكُلّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِـمِقْدَارٍ.
15375ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: وكُل شَيْءٍ عِنْدَهُ بِـمِقْدَارٍ إي والله, لقد حفظ علـيهم رزقهم وآجالهم, وجعل لهم أجلاً معلوما.
الآية : 9
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ }.
يقول تعالـى ذكره: والله عالـم ما غاب عنكم وعن أبصاركم فلـم تَرَوْه وما شاهدتـموه, فعاينتـم بأبصاركم, لا يخفـى علـيه شيء, لأنهم خـلقه, وتدبـيره الكبـير الذي كلّ شيء دونه, الـمتعال الـمستعلـي علـى كلّ شيء بقدرته, وهو الـمتفـاعل من العلوّ مثل الـمتقارب من القرب والـمتدانـي من الدنوّ.
الآية : 10
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {سَوَآءٌ مّنْكُمْ مّنْ أَسَرّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِالْلّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنّهَارِ }.
يقول تعالـى ذكره: معتدلٌ عند الله منكم أيها الناس الذي أسر القول, والذي جهر به, والذي هُوَ مُسْتَـخْفٍ بـاللّـيْـلِ فـي ظلـمته بـمعصية الله وَسارِبٌ بـالنهارِ يقول: وظاهر بـالنهار فـي ضوئه, لا يخفـى علـيه شيء من ذلك, سواء عنده سرّ خـلقه وعلانـيتهم, لأنه لا يستسرّ عنده شيء ولا يخفـى يقال منه: سَرَب يَسْرُبُ سُروبـا إذا ظهر, كما قال قـيس بن الـخطيـم:
أنّى سَرَبْتِ وكنتِ غيرَ سَرُوبِوتَقُرّبُ الأحْلامِـم غيرُ قَرِيبِ
يقول: كيف سربت بـاللـيـل علـى بعد هذا الطريق ولـم تكونـي تبرزين وتظهرين. وكان بعضهم يقول: هو السالك فـي سِرْبه: أي فـي مذهبه ومكانه.
واختلف أهل العلـم بكلام العرب فـي السرب, فقال بعضهم: هو آمن فـي سَربه, بفتـح السين, وقال بعضهم: هو آمن فـي سِربه بكسر السين.
وبنـحو ما قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
15376ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أسَر القَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَـخْفٍ بـاللّـيْـلِ وَسارِبٌ بـالنّهارِ يقول: هو صاحب رِيبة مستـخف بـاللـيـل, وإذا خرج بـالنهار أرى الناس أنه بريء من الإثم.
15377ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عبـاس: وَسارِبٌ بـالنّهارِ: ظاهر.
15378ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا ابن أبـي عديّ, عن عوف, عن أب رجاء, فـي قوله: سَوَاءٌ مِنكُمْ مَنْ أسَرّ القَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَـخْفٍ بـاللّـيْـلِ وَسارِبٌ بـالنّهارِ قال: إن الله أعلـم بهم, سواء من أسرّ القول ومن جهر به, ومن هو مستـخف بـاللـيـل وسارب بـالنهار.
حدثنا الـحسن بن مـحمد, قال: حدثنا علـيّ بن عاصم, عن عوف, عن أبـي رجاء: سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أسَرّ القَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَـخْفٍ بـاللّـيْـلِ وَسارِبٌ بـالنّهارِ قال: من هو مستـخف فـي بـيته, وساربٌ بـالنهار: ذاهب علـى وجهه علـمُه فـيهم واحد.
15379ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أسَرّ القَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ يقول: السرّ والـجهر عنده سواء. وَمَنْ هُوَ مُسْتَـخْفٍ بـاللّـيْـلِ وَسارِبٌ بـالنّهارِ أما الـمستـخفـي ففـي بـيته, وأما السارب: الـخارج بـالنهار حيثما كان الـمستـخفـي غيبه الذي يغيب فـيه والـخارج عنده سواء.
15380ـ قال: حدثنا الـحِمّانِـيّ, قال: حدثنا شريك, عن خَصِيف, فـي قوله: مُسْتَـخْفٍ بـاللّـيْـلِ قال: راكب رأسه فـي الـمعاصي. وَسارِبٌ بـالنّهارِ قال: ظاهر بـالنهار.
15381ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أسَرّ القَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ كلّ ذلك عنده تبـارك وتعالـى سواء السرّ عنده علانـية. قوله: وَمَنْ هُوَ مُسْتَـخْفٍ بـاللّـيْـلِ وَسارِبٌ بـالنّهارِ: أي فـي ظلـمه اللـيـل, وسارب: أي ظاهر بـالنهار.
15382ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا شريك, عن خَصِيف, عن مـجاهد وعكرمة: وَسارِبٌ بـالنّهارِ قال: ظاهر بـالنهار.
و«من» فـي قوله: مَنْ أسَرّ القَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَـخْفٍ بـاللّـيـلِ رفع الأولـى منهنّ بقوله سواء, والثانـية معطوفة علـى الأولـى والثالثة علـى الثانـية.
الآية : 11
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لَهُ مُعَقّبَاتٌ مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنّ اللّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتّىَ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوَءًا فَلاَ مَرَدّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ }.
اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك, فقال بعضهم: معناه: لله تعالـى ذكره مُعَقبّـات, قالوا: الهاء فـي قوله «له» من ذكر اسم الله, والـمعقّبـات التـي تتعقّب علـى العبد وذلك أن ملائكة اللـيـل إذا صَعِدت بـالنهار أعقبتها ملائكة النهار, فإذا انقضى النهار صعدت ملائكة النهار ثم أعقبتها ملائكة اللـيـل, وقالوا: قـيـل معقبّـات, والـملائكة: جمع مَلَك مذكر غير مؤنث, وواحد الـملائكة معقب, وجماعتها مُعقّبة, ثم جمع جمعه, أعنـي جمع معقب بعد ما جمع معقبة. وقـيـل: معقبـات, كما قـيـل: أبناوات سعد, ورجالات بنـي فلان جمع رجال.
وقوله: مِنْ بـينَ يَدَيْهِ وَمِنْ خَـلْفِهِ يعنـي بقوله: مِنْ بـينَ يَدَيْهِ من قدّام هذا الـمستـخفـي بـاللـيـل والسارب بـالنهار, وَمَنْ خَـلْفِهِ: من وراء ظهره. ذكر من قال ذلك:
15383ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن منصور, يعنـي ابن زاذان, عن الـحسن فـي هذه الآية: لَهُ مُعَقّبـاتٌ مِنْ بَـينَ يَدَيْهِ وَمِنْ خَـلْفِهِ قال: الـملائكة.
15384ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إبراهيـم بن عبد السلام بن صالـح القُشَيريّ, قال: حدثنا علـيّ بن جرير, عن حماد بن سلـمة, عن عبد الـحميد بن جعفر, عن كنانة العدويّ, قال: دخـل عثمان بن عفّـان علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله, أخبرنـي عن العبد كم معه من ملَك؟ قال: «مَلَكٌ علـى يَـمِينِكَ علـى حَسَناتِكَ, وَهُوَ أمِيرٌ علـى الّذِي علـى الشّمالِ, فإذَا عَمِلْتَ حَسَنَةً كُتِبَتْ عَشْرا, وَإذَا عَمِلْتَ سَيّئَةً قالَ الّذِي علـى الشّمالِ للّذِي علـى الـيَـمِينِ: اكْتُبْ قالَ: لا لَعَلّهُ يَسْتَغْفِرُ اللّهَ وَيَتُوبُ, فإذَا قالَ ثَلاثا, قالَ: نَعَمْ اكْتُبْ أرَاحَنا اللّهُ مِنْهُ, فَبِئْسَ القَرِينُ, ما أقَلّ مُرَاقَبَتَهُ لِلّهِ, وأقَلّ اسْتِـحْياءَهُ مِنّا يَقُولُ اللّهُ: ما يَـلْفِظَ مِنْ قَوْلٍ إلاّ لَدَيْهِ رَقِـيبٌ عَتِـيدٌ. وَمَلَكانِ مِنْ بـينِ يَدَيْكِ وَمِنْ خَـلْفكَ, يَقُولُ اللّهُ: لَهُ مُعَقّبـاتٌ مِنْ بـينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَـلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْرِ اللّهِ وَمَلَكٌ قابِضٌ علـى ناصِيَتَكَ, فإذَا تَوَاضَعْتَ لِلّهِ رَفَعَكَ, وإذَا تَـجَبّرْتَ علـى اللّهِ قَصَمَك. ومَلَكانِ علـى شَفَتَـيْكَ لَـيْس يَحْفَظانِ عَلَـيْكَ إلاّ الصّلاةَ علـى مُـحَمّد وَمَلَكٌ قائمٌ علـى فِـيكَ لا يَدَعُ الـحَيّةَ تَدْخُـلُ فِـي فِـيكَ وَمَلَكانِ علـى عَيْنَـيْكَ. فَهُؤلاءِ عَشْرَةُ أمْلاكٍ علـى كُلّ آدَميّ, يَنْزِلُونَ مَلائِكَةُ اللّـيْـلِ علـى مَلاَئِكَةِ النّهارِ, (لأن ملائكة اللـيـل سوى ملأئكة النهار) فَهَؤُلاءِ عِشْرُونَ مَلَكا علـى كُلّ آدَمِيّ, وَإبْلِـيسُ بـالنّهارِ وَوَلَدُهُ بـاللّـيْـلِ».
15385ـ حدثنا الـحسن بن مـحمد, قال: حدثنا شبـابة, قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: لَهُ مُعَقّبـاتٌ مِنْ بـينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَـلْفِهِ الـملائكة يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْرِ الله.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: أخبرنا هشيـم, عن عبد الـملك, عن قـيس, عن مـجاهد, فـي قوله: لَهُ مُعَقّبـاتٌ مِنْ بـينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَـلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ قال: مع كلّ إنسان حفظة يحفظونه من أمر الله.
15386ـ قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: لَهُ مُعَقّبـاتٌ مِنْ بـينِ يَديْهِ وَمِنْ خَـلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْرِ اللّهِ فـالـمعقبـات هنّ من أمر الله, وهي الـملائكة.
15387ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن إسرائيـل, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عبـاس: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْرِ اللّهِ قال: ملائكة يحفظونه من بـين يديه ومن خـلفه, فإذا جاء قدره خَـلّوا عنه.
حدثنـي الـحارث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا إسرائيـل, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عبـاس: لَهُ مُعَقّبـاتٌ مِنْ بـينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَـلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْرِ اللّهِ فإذا جاء القدر خَـلّوا عنه.
15388ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن إبراهيـم فـي هذه الآية, قال: الـحَفَظة.
15389ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, عن منصور, عن إبراهيـم: لَهُ مُعَقبـاتٌ مِنْ بـينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَـلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْرِ اللّهِ قال: ملائكة.
15390ـ حدثنا أحمد بن حازم, قال: حدثنا يَعْلـى, قال: حدثنا إسماعيـل بن أبـي خالد, عن أبـي صالـح, فـي قوله: لَهُ مُعَقّبـاتٌ قال: ملائكة اللـيـل يَعقُبون ملائكة النهار.
15391ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: لَهُ مُعَقّبـاتٌ مِنْ بـينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَـلْفِهِ هذه ملائكة اللـيـل يتعاقبون فـيكم بـاللـيـل والنهار, وذُكر لنا أنهم يجتـمعون عند صلاة العصر وصلاة الصبح. وفـي قراءة أبـيّ بن كعب: «له معقّبـات من بـين يديه ورقـيب من خـلفه يحفظونه من أمر الله».
15392ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة, قوله: لَهُ مَعَقّبـاتٌ مِنْ بـينِ يَدَيْهِ قال: ملائكة يتعاقبونه.
15393ـ حدثنا القاسم, قال حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عبـاس: لَهُ مُعَقّبـاتٌ مِنْ بـينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَـلْفِهِ قال: الـملائكة. قال ابن جريج: معقّبـات: قال: الـملائكة تَعَاقبُ اللـيـل والنهار. وبلغَنَا أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم قال: «يجتـمعون فـيكم عند صلاة العصر وصلاة الصبح»وقوله: مِنْ بـينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَـلْفِهِ يَحْفَظُونَه قال ابن جريج: مثل قوله: عَنِ الـيَـمينِ وَعَنِ الشّمالِ قَعِيدٌ قال: الـحسنات من بـين يديه والسيئات من خـلفه, الذي عن يـمينه يكتب الـحسناتِ والذي عن شماله يكتب السيئات.
15394ـ حدثنا سَوّار بن عبد الله, قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان, قال: سمعت لـيثا يحدّث عن مـجاهد أنه قال: ما من عبد إلا له ملَك مُوَكّلٌ يِحفِظه فـي نونه ويقظته من الـجنّ والإنس والهوامّ, فما منها شيء يأتـيه يريده إلا قال: وراءَك, إلا شيئا يأذن الله فـيه فـيصيبه.
حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: لَهُ مُعَقّبـاتٌ مِنْ بَـيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَـلْفِهِ قال: يعنـي الـملائكة.
وقال آخرون: بل عنـي بـالـمعقّبـات فـي هذا الـموضع: الـحرس الذي يتعاقب علـى الأمير. ذكر من قال ذلك:
15395ـ حدثنا أبو هشام الرفـاعيّ, قال: حدثنا ابن يـمان, قال: حدثنا سفـيان عن حبـيب بن أبـي ثابت, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس: لَهُ مُعَقّبـاتٌ مِنْ بـينِ يَدَيْهِ وَمنْ خَـلْفهِ قال: ذلك مَلِك من ملوك الدنـيا له حرس من دونه حرس.
حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: لَهُ مُعَقّبـاتٌ مِنْ بـينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَـلْفِهِ يعنـي: ولـيّ السلطان يكون علـيه الـحرس.
15396ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن شَرْقـيّ أنه سمع عكرمة يقول فـي هذه الآية: لَهُ مُعَقّبـاتٌ مِنْ بـينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَـلْفِهِ قال: هؤلاء الأمراء.
15397ـ حدثنـي الـحارث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا عمرو بن نافع, قال: سمعت عكرمة يقول: لَهُ مُعَقّبـاتٌ مِنْ بـينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَـلْفِهِ قال: الـمواكب من بـين يديه ومن خـلفه.
15398ـ حُدثت عن الـحسين بن الفرج, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: لَهُ مُعَقّبـاتٌ مِنْ بَـيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَـلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْرِ اللّهِ قال: هو السلطان الـمـحروس من أمر الله, وهم أهل الشرك.
وأولـى التأويـلـين فـي ذلك بـالصواب, قول من قال: الهاء فـي قوله: لَهُ مُعَقّبـاتٌ من ذكر «من» التـي فـي قوله: وَمَنْ هُوَ مُسْتَـخْفٍ بـاللّـيْـلِ وأن الـمعقبـات من بـين يديه ومن خـلفه, هي حَرَسه وجَلاَوِزته كما قال ذلك مَن ذكرنا قوله.
وإنـما قلنا: ذلك أولـى التأويـلـين بـالصواب لأن قوله: لَهُ مُعَقّبـاتٌ أقرب إلـى قوله: وَمَنْ هُوَ مُسْتَـخْفٍ بـاللّـيْـلِ منه إلـى عالـم الغيب, فهي لقربها منه أولـى بأن تكون من ذكره, وأن يكون الـمعنىّ بذلك هذا, مع دلالة قول الله: وَإذَا أرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلا مَرَدّ لَهُ علـى أنهم الـمعِنـيّون بذلك. وذلك أنه جلّ ثناؤه ذكر قوما أهل معصية له وأهل ريبة, يستـخفون بـاللـيـل ويظهرون بـالنهار, ويـمتنعون عند أنفسهم بحرس يحرسهم, ومَنَعَة تـمنعهم من أهل طاعته أن يحولوا بـينهم وبـين ما يأتون من معصية الله, ثم أخبر أن الله تعالـى ذكره إذا أراد بهم سوءا لـم ينفعهم حرسهم, ولا يدفع عنهم حفظهم.
وقوله: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْرِ اللّهِ اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل هذا الـحرف علـى نـحو اختلافهم فـي تأويـل قوله: لَهُ مُعَقّبـاتٌ فمن قال: الـمعقبـات هي الـملائكة, قال: الذين يحفظونه من أمر الله هم أيضا الـملائكة ومن قال: الـمعقبـات هي الـحرس والـجلاوزة من بنـي آدم, قال: الذين يحفظونه من أمر الله هم أولئك الـحرس.
واختلفوا أيضا فـي معنى قوله: مِنْ أمْرِ اللّهِ فقال بعضهم: حِفْظهم إياه من أمره. وقال بعضهم: يحفظونه من أمر الله بأمر الله. ذكر من قال: الذين يحفظونه هم الـملائكة, ووَجّهَ قوله: بأمر الله إلـى معنى أن حفظها إياه من أمر الله:
15399ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْرِ اللّهِ يقول: بإذن الله, فـالـمعقبـات: هي من أمر الله, وهي الـملائكة.
15400ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبـير: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْرِ اللّهِ قال: الـملائكة: الـحَفَظَة, وحِفْظُهم إياه من أمر الله.
15401ـ حدثنا الـحسن بن مـحمد, قال: حدثنا مـحمد بن عبـيد, قال: ثنـي عبد الـملك, عن ابن عبـيد الله, عن مـجاهد, فـي قوله: لَهُ مُعَقّبـاتٌ مِنْ بـينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَـلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْرِ اللّهِ قال: الـحَفَظَة هم من أمر الله.
15402ـ قال: حدثنا علـيّ, يعنـي ابن عبد الله بن جعفر, قال: حدثنا سفـيان, عن عمرو, عن ابن عبـاس: لَه مُعَقّبـاتٌ مِنْ بـينِ يَدَيْهِ رُقبـاء وَمِنْ خَـلْفِهِ منْ أمْر اللّهِ يَحْفَظُونَهُ.
قال: حدثنا عبد الوهاب, عن سعيد, عن قتادة, عن الـجارود, عن ابن عبـاس: لَهُ مُعَقّبـاتٌ مِنْ بـينِ يَدَيْهِ رقـيب وَمِنْ خَـلْفِهِ.
15403ـ حدثنـي الـحارث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا إسرائيـل, عن خَصِيف, عن مـجاهد: لَهُ مُعَقّبـاتٌ مِنْ بـينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَـلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْرِ اللّهِ قال: الـملائكة من أمر الله.
15404ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عبـاس: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْرِ الله قال: الـملائكة من أمر الله.
15405ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن إبراهيـم: لَهُ مُعَقّبـاتٌ مِنْ بـينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَـلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْرِ اللّهِ قال: الـحَفَظة. ذكر من قال: عنى بذلك يحفظونه بأمر الله:
15406ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْرِ اللّهِ: أي بأمر الله.
حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْرِ اللّهِ, وفـي بعض القراءات: «بأمر الله».
15407ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: أخبرنا هشيـم, عن عبد الـملك, عن قـيس, عن مـجاهد فـي قوله: لَهُ مُعَقّبـاتٌ مِنْ بـينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَـلْفِهِ قال: مع كلّ إنسان حفظة يحفظونه من أمر الله. ذكر من قال: تـحفظه الـحرس من بنـي آدم من أمر الله:
15408ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: حدثنا أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْرِ اللّهِ يعنـي: ولـيّ السلطان يكون علـيه الـحرس, يحفظونه من بـين يديه ومن خـلفه. يقول الله عزّ وجلّ: يحفظونه من أمري, فإنـي إذا أردت بقوم سوءا فلا مردّ له وما لهم من دونه من والٍ.
15409ـ حدثنـي أبو هريرة الضبعيّ, قال: حدثنا أبو قتـيبة, قال: حدثنا سعيد, عن شَرْقـيّ, عن عكرمة: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْرِ اللّهِ قال: الـجلاوزة.
وقال آخرون: معنى ذلك: يحفظونه من أمر الله, وأمر الله الـجنّ, ومن يبغي أذاه ومكروهه قبل مـجيء قضاء الله, فإذا جاء قضاؤه خَـلّوا بـينه وبـينه. ذكر من قال ذلك:
15410ـ حدثنـي أبو هريرة الضّبَعيّ, قال: حدثنا أبو داود, قال: حدثنا ورقاء, عن منصور, عن طلـحة, عن إبراهيـم: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْرِ اللّهِ قال: من الـجنّ.
15411ـ حدثنا سَوّار بن عبد الله, قال: حدثنا الـمعتـمر, قال: سمعت لـيثا يحدّث عن مـجاهد أنه قال: ما من عبد إلا له ملَك موكل يحفظه فـي نومه ويقظته من الـجنّ والإنس والهوامّ, فما منهم شيء يأتـيه يريده إلا قال: وراءَك, إلا شيئا يأذن الله فـيصيبه.
15412ـ حدثنا الـحسن بن عرفة, قال: حدثنا إسماعيـل بن عياش, عن مـحمد بن زياد الألهانـيّ, عن يزيد بن شُرَيح عن كعب الأحبـار, قال: لو تـجّلـى لابن آدم كلّ سهل وحَزْن, لرأى علـى كلّ شيء من ذلك شياطين, لولا أن الله وَكل بكم ملائكة يذُبّون عنكم فـي مطعمكم ومشربكم وعوراتكم إذنْ لتُـخُطّفتـم.
15413ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن علـية, قال: حدثنا عمارة بن أبـي حفصة, عن أبـي مُـجَلّز, قال: جاء رجل من مُراد إلـى علـيّ رضي الله عنه, وهو يصّلـي, فقال: احترس, فإن ناسا من مُراد يريدون قتلك فقال: إن مع كل رجل مَلَكين يحفظانه مـما لـم يقدّر, فإذا جاء القدر خَـلـيّا بـينه وبـينه, وإن الأجل جنة حصينة.
15414ـ حدثنا الـحسن بن مـحمد, قال: حدثنا عبد الوهاب, عن الـحسن بن ذَكوان, عن أبـي غالب, عن أبـي أُمامة قال: ما من آدميّ إلا ومعه مَلَك موكّل يذود عنه حتـى يُسْلِـمه للذي قُدّر له.
وقال آخرون: معنى ذلك: يحفظونه علـيه من الله. ذكر من قال ذلك:
15415ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْر الله قال: يحفظون علـيه من الله.
قال أبو جعفر: يعنـي ابن جريج بقوله: يحفظون علـيه الـملائكة الـموكّلة بـابن آدم, بحفظ حسناته وسيئاته, وهي الـمعّقبـات عندنا, تـحفظ علـى ابن آدم حسناته وسيئاته من أمر الله. وعلـى هذا القول يجب أن يكون معنى قوله: مِنْ أمْر الله أن الـحفظة من أمر الله, أو تـحفظ بأمر الله, ويجب أن تكون الهاء التـي فـي قوله: يَحْفَظُونَهُ وحدت وذكرت, وهي مراد بها الـحسنات والسيئات, لأنها كناية عن ذكر من الذي هو مستـخف بـاللـيـل وسارب بـالنهار, وأن يكون الـمستـخفـي بـاللـيـل أقـيـم ذكره مقام الـخبر عن سيئاته وحسناته, كما قـيـل: وَاسْئَل القَرْيَة التـي كُنّا فِـيها والعِيرَ التـي أقْبَلْنا فِـيها.
وكان عبد الرحمن بن زيد يقول فـي ذلك خلاف هذه الأقوال كلها:
15416ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَمَنْ هُوَ مُسْتَـخْفٍ بـاللّـيْـلِ وَسارِبٌ بـالنّهارِ قال: أتـى عامرُ بن الطفـيـل, وأربد بن ربـيعة إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال عامر: ما تـجعل لـي إن أنا اتبعتك؟ قال: «أنْتَ فـارِسٌ أُعْطِيكَ أعِنّة الـخَيْـلِ» قال: لا. قال: «فَمَا تَبِغِي؟» قال: لـي الشرقُ ولك الغرب. قال: «لا». قال: فلـي الوَبَر ولك الـمدَر. قال: «لا» قال: لأملأنها علـيك إذا خيلاً ورجالاً, قال: «يَـمْنَعُكَ اللّهُ ذَاكَ وَأبْناء قِـيْـلة» يريد الأوس والـخزرج. قال: فخرجا, فقال عامر لأربد: إنْ كان الرجل لنا لـمـمكنا لو قتلناه ما انتطحت فـيه عنزان ولرضُوا بأن نعقله لهم وأحبوا السلـم وكرهوا الـحرب إذا رأوا أمرا قد وقع. فقال الاَخر: إن شئت فتشاورا, وقال: ارجع وأنا أشغله عنك بـالـمـجادلة, وكن وراءه فـاضربه بـالسيف ضربة واحدة فكانا كذلك, واحد وراء النبـي صلى الله عليه وسلم, والاَخر قال: اقصص علـينا قصصك, قال: ما يقول قرآنك؟ فجعل يجادله ويستبطئه حتـى قال: مالك أحْشمت؟ قال: وضعت يدي علـى قائم سيفـي فـيبست, فما قدرت علـى أن أُحْلـي وَلا أُمِرّ ولا أحرّكها. قال: فخرجا فلـما كانا بـالـحرّة سمع بذلك سعد بن معاذ وأسيد بن حضير, فخرجا إلـيهما, علـى كل واحد منهما لأمته وَرُمـحه بـيده وهو متقلد سيفه, فقالا لعامر بن الطفـيـل: يا أعور يا خبـيث يا أملـخ, أنت الذي تشترط علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لولا أنك فـي أمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رُمت الـمنزل حتـى ضربت عنقك, ولكن لا تستبقـينّ وكان أشدّ الرجلـين علـيه أسيد بن الـحُضَير, (فقال: من هذا؟ فقالوا: أسيد بن حضير), فقال: لو كان أبوه حيّا لـم يفعل بـي هذا. ثم قال لأربد: اخرج أنت يا أربد إلـى ناحية عَذبة, وأخرج أنا إلـى نـجد, فنـجمع الرجال فنلتقـي علـيه. فخرج أربد حتـى إذا كان بـالرقم بعث الله سحابة من الصيف فـيها صاعقة فأحرقته. قال: وخرج عامر, حتـى إذا كان بواد يقال له الـجرير, أرسل الله علـيه الطاعون, فجعل يصيح: يا آل عامر, أغدة كغدة البكر تقتلنـي, يا آل عامر أغدة كغدة البكر تقتلنـي, وموتٌ أيضا فـي بـيت سَلُولـية وهي امرأة من قـيس, فذلك قول الله: سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أسَرّ القَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ فقرأ حتـى بلغ: يَحْفَظُونَهُ تلك الـمعقبـات من أمر الله, هذا مقدّم ومؤخر لرسول الله صلى الله عليه وسلم معقبـات يحفظونه من بـين يديه ومن خـلفه تلك الـمعقبـات من أمر الله. وقال لهذين: إنّ اللّهَ لا يُغَيّرُ ما بِقَومٍ حتـى يُغَيّروا ما بأنْفُسِهِمْ فقرأ حتـى بلغ: وَيُرْسِلُ الصّوَاعِق فَـيُصيبُ بها مَنْ يَشاءُ... الآية, فقرأ حتـى بلغ: وَما دُعاءُ الكافرينَ إلاّ فِـي ضَلالٍ. قال وقال لبـيد فـي أخيه أربد, وهو يبكيه:
أخْشَى علـى أرْبَدَ الـحُتُوفَ ولاأرْهَبُ نَوْءَ السّماك والأسَدِ
فَجّعَنـي الرّعْدُ والصّوَاعقُ بـالفـارسِ يومَ الكَرِيَهةِ النّـجُدِ
قال أبو جعفر: وهذا القول الذي قاله ابن زيد فـي تأويـل هذه الآية قول بعيد من تأويـل الآية مع خلافه أقوال من ذكرنا قوله من أهل التأويـل, وذلك أنه جعل الهاء فـي قوله: لَهُ مُعَقّبـاتٌ من ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولـم يجر له فـي الآية التـي قبلها ولا فـي التـي قبل الأخرى ذكر, إلا أن يكون أراد أن يردّها علـى قوله: إنّـمَا أنْتَ مُنْذِرٌ وَلكُلّ قَوْمٍ هادٍ لَهُ مُعَقّبـاتٌ فإن كان أراد ذلك, فذلك بعيد لـما بـينهما من الاَيات بغير ذكر الـخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا كان كذلك, فكونها عائدة علـى «مَن» التـي فـي قوله: وَمَنْ هُوَ مُسْتَـخْفٍ بـاللّـيْـلِ أقرب, لأنه قبلها والـخبر بعدها عنه. فإذا كان ذلك كذلك, فتأويـل الكلام: سواء منكم أيها الناس من أسرّ القول ومن جهر به عند ربكم, ومن هو مستـخف بفسقه وريبته فـي ظلـمة اللـيـل, وسارب: يذهب ويجيء فـي ضوء النهار مـمتنعا بجنده وحرسه الذين يتعقبونه من أهل طاعة الله أن يحولوا بـينه وبـين ما يأتـي من ذلك, وأن يقـيـموا حدّ الله علـيه, وذلك قوله: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْرِ اللّهِ. وقوله: إنّ اللّهَ لا يُغَيّرُ ما بِقَوْمٍ حتـى يُغَيّرُوا ما بأنْفُسِهِمْ يقول تعالـى ذكره: إن الله لا يغير ما بقوم من عافـية ونعمة فـيزيـل ذلك عنهم ويهلكهم حتـى يغيروا ما بأنفسهم من ذلك بظلـم بعضهم بعضا واعتداء بعضهم علـى بعض, فتـحلّ بهم حينئذٍ عقوبته وتغيـيره. وقوله: وَإذَا أرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلا مَرَدّ لَهُ يقول: وإذا أراد الله بهؤلاء الذين يستـخفون بـاللـيـل ويسربون بـالنهار, لهم جند ومنعة من بـين أيديهم ومن خـلفهم, يحفظونهم من أمر الله هلاكا وخزيا فـي عاجل الدنـيا فلا مَرَدّ لَهُ يقول: فلا يقدر علـى ردّ ذلك عنهم أحد غير الله. يقول تعالـى ذكره: وَما لَهُمْ مِنْ دُونِه مِنْ وَالٍ يقول: وما لهؤلاء القوم, والهاء والـميـم فـي «لهم» من ذكر القوم الذين فـي قوله: وَإذَا أرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءا. مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ وَالٍ يعنـي: من وال يـلـيهم ويـلـي أمرهم وعقوبهم. وكان بعض أهل العلـم بكلام العرب يقول: السوء: الهلكة, ويقول: كلّ جذام وبرص وعمى وبلاء عظيـم فهو سُوء مضموم الأوّل, وإذا فتـح أوله فهو مصدر سؤت, ومنه قولهم: رجل سوء.
واختلف أهل العربـية فـي معنى قوله: وَمَنْ هُوَ مُسْتَـخْفٍ بـاللّـيْـل وَساربٌ بـالنّهار فقال بعض نـحويـي أهل البصرة: معنى قوله: وَمَنْ هُوَ مُسْتَـخْفٍ بـاللـيْـل ومن هو ظاهر بـاللـيـل, من قولهم: خَفَـيْت الشيء: إذا أظهرته, وكما قال امرؤ القـيس:
فإنْ تَكْتُـمُوا الدّاءَ لا نَـخْفِهِوإنْ تَبْعَثُوا الـحَرْبَ لا نَقْعُدِ
وقال: وقد قرىء أكادُ أخْفِـيها بـمعنى: أظهرها. وقال فـي قوله: وَساربٌ بـالنهار السارب: هو الـمتواري, كأنه وجّهه إلـى أنه صار فـي السّرَب بـالنهار مستـخفـيا. وقال بعض نـحويـي البصرة والكوفة: إنـما معنى ذلك: ومن هو مستـخف: أي مستتر بـاللـيـل من الاستـخفـاء, وسارب بـالنهار: وذاهب بـالنهار, من قولهم: سربت الإبل إلـى الـمراعي, وذلك ذهابها إلـى الـمراعي وخروجها إلـيها. وقـيـل: إن السروب بـالعشيّ والسروح بـالغداة.
واختلفوا أيضا فـي تأنـيث معقبـات, وهي صفة لغير الإناث, فقال بعض نـحويـي البصرة: إنـما أنثت لكثرة ذلك منها, نـحو: نسابة وعلامة, ثم ذكّر لأن الـمعنى مذكر, فقال: يحفظونه. وقال بعض نـحويـي الكوفة: إنـما هي ملائكة معقبة, ثم جمعت مقبـات, فهو جمع جمع, ثم قـيـل: يحفظونه, لأنه للـملائكة. وقد تقدّم قولنا فـي معنى الـمستـخفـي بـاللـيـل والسارب بـالنهار. وأما الذي ذكرناه عن نـحويـي البصريـين فـي ذلك فقول وإن كان له فـي كلام العرب وجه خلافٌ لقول أهل التأويـل, وحسبه من الدلالة علـى فساده خروجه عن قول جميعهم. وأما الـمعقبـات, فإن التعقـيب فـي كلام العرب العود بعد البدء والرجوع إلـى الشيء بعد الانصراف عنه, من قول الله تعالـى: وَلّـى مُدْبِرا ولَـمْ يُعَقّبْ: أي لـم يرجع, وكما قال سلامة بن جندل:
وكَرّنا الـخَيْـلَ فـي آثارهم رُجُعاكُسّ السّنابِك مِنْ بدْءٍ وتَعقِـيب
يعنـي: فـي غزو ثان عقبوا وكما قال طرفة:
وَلَقَدْ كُنْتُ عَلَـيْكَمْ عاتِبـافَعَقَبْتُـمْ بِذَنُوبٍ غَيْر مُرّ
يعنـي بقوله: عقبتـم: رجعتـم, وأتاها التأنـيث عندنا, وهي من صفة الـحرس الذي يحرسون الـمستـخفـي بـاللـيـل والسارب بـالنهار, لأنه عُنـي بها حرس معقبة, ثم جمعت الـمعقبة, فقـيـل: معقبـات, فذلك جمع جمع الـمعقب, والـمعقب: واحد الـمعقبة, كما قال لبـيد:
حتـى تهَجّرَ فـي الرّواح وَهاجَهاطَلَبَ الـمُعَقّبِ حَقّهُ الـمَظْلُومُ
والـمعقبـات جمعها, ثم قال: يحفظونه, فردّ الـخبر إلـى تذكير الـحرس والـجند.
وأما قوله: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْرِ اللّهِ فإن أهل العربـية اختلفوا فـي معناه, فقال بعض نـحويـي الكوفة معناه: له معقبـات من أمر الله يحفظونه, ولـيس من أمره إنـما هو تقديـم وتأخير. قال: ويكون يحفظونه ذلك الـحفظ من أمر الله وبإذنه, كما تقول للرجل: أجبتك من دعائك إياي, وبدعائك إياي. وقال بعض نـحويـي البصريـين: معنى ذلك: يحفظونه عن أمر الله, كما قالوا: أطعمنـي من جوع وعن جوع, وكسانـي عن عُرْي ومن عُرْي.
وقد دللنا فـيـما مضى علـى أن أولـى القول بتأويـل ذلك أن يكون قوله: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْرِ اللّهِ من صفة حرس هذا الـمستـخفـي بـاللـيـل وهي تـحرسه ظنّا منها أنها تدفع عنه أمر الله, فأخبر تعالـى ذكره أن حرسه ذلك لا يغنـي عنه شيئا إذا جاء أمره, فقال: وَإذَا أرَادَ اللّهُ بَقَوْمٍ سُوءا فَلا مَرَدّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ.
الآية : 12-13
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {هُوَ الّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِىءُ السّحَابَ الثّقَالَ * وَيُسَبّحُ الرّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ }.
يقول تعالـى ذكره: هُوَ الّذِي يُرِيكُمُ البَرْقَ يعنـي أن الربّ هو الذي يرى عبـاده البرق. وقوله: هُوَ كناية اسمه جلّ ثناؤه, وقد بـيّنا معنى البرق فـيـما مضى وذكرنا اختلاف أهل التأويـل فـيه بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. وقوله خَوْفـا يقول: خوفـا للـمسافر من أذاه. وذلك أن البرق الـماء فـي هذا الـموضع, كما:
15417ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا حجاج, قال: حدثنا حماد, قال: أخبرنا موسى بن سالـم أبو جهضم, مولـى ابن عبـاس, قال: كتب ابن عبـاس إلـى أبـي الـجلد يسأله عن البرق, فقال: البرق: الـماء.
وقوله وَطَمَعا يقول: وطمعا للـمقـيـم أن يـمطر فـينتفع. كما:
15418ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عنقتادة, قوله: هُوَ الّذِي يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفـا وَطَمَعا يقول: خوفـا للـمسافر فـي أسفـاره, يخاف أذاه ومشقته, وطمعا للـمقـيـم يرجو بركته ومنفعته ويطمع فـي رزق الله.
حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: خَوْفـا وطَمَعا خوفـا للـمسافر, وطمعا للـمقـيـم.
وقوله: وَيُنْشِىءُ السّحابَ الثّقالَ: ويثـير السحاب الثقال بـالـمطر, ويبدئه, يقال منه: أنشأ الله السحاب: إذا أبدأه, ونشأ السحاب: إذا بدأ ينشأ نشأً. والسحاب فـي هذا الـموضع وإن كان فـي لفظ واحد فإنها جمع واحدتها سحابة, ولذلك قال: «الثقال», فنعتها بنعت الـجمع, ولو كان جاء: السحاب الثقـيـل كان جائزا, وكان توحيدا للفظ السحاب, كما قـيـل: جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشّجَرِ الأخْضَرِ نارا.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
15419ـ حدثنا الـحسن بن مـحمد, قال: حدثنا شبـابة, قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: وَيُنْشِىءُ السّحابَ الثّقالَ قال: الذي فـيه الـماء.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد: وَيُنْشِىءُ السّحابَ الثّقالَ قال: الذي فـيه الـماء.
وقوله: وَيُسَبّحُ الرّعْدُ بِحَمْدِهِ قال أبو جعفر: وقد بـيّنا معنى الرعد فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. وذُكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع صوت الرعد, قال كما:
15420ـ حدثنا الـحسن بن مـحمد, قال: حدثنا كثـير بن هشام, قال: حدثنا جعفر, قال: بلغنا أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع صوت الرعد الشديد, قال: «اللّهُمّ لا تَقْتُلْنا بِغَضَبكَ, وَلا تُهْلِكْنا بِعَذَابِكَ, وَعافِنا قَبْلَ ذلكَ».
15421ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا إسرائيـل, عن أبـيه, عن رجل, عن أبـي هريرة رفع الـحديث: أنه كان إذا سمع الرعد قال: «سُبْحانَ مَنْ يُسَبّحُ الرّعْدُ بِحَمْدِهِ».
15422ـ حدثنا الـحسن بن مـحمد, قال: حدثنا مسعدة بن الـيسع البـاهلـي, عن جعفر بن مـحمد, عن أبـيه, عن علـيّ رضي الله عنه, كان إذا سمع صوت الرعد, قال: «سبحان من سبحتَ له».
15423ـ قال: حدثنا إسماعيـل بن علـية, عن الـحكم بن أبـان, عن عكرمة, عن ابن عبـاس, أنه كان إذا سمع الرعد, قال: «سبحان الذي سبحت له».
15424ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا يعلـى بن الـحارث, قال: سمعت أبـا صخرة يحدّث عن الأسود بن يزيد, أنه كان إذا سمع الرعد, قال: «سبحان من سبحت له», أو «سبحان الذي يسبح الرعد بحمده, والـملائكة من خيفته».
15425ـ قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا ابن علـية, عن ابن طاوس, عن أبـيه, وعبد الكريـم, عن طاوس أنه كان إذا سمع الرعد, قال: «سبحان من سبحت له».
15426ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا حجاج, عن ميسرة, عن الأوزاعي, قال: كان ابن أبـي زكريا يقول: من قال حين يسمع الرعد: «سبحان الله وبحمده», لـم تصبه صاعقة.
ومعنى قوله: وَيُسَبّحُ الرّعْدُ بِحَمْدِهِ ويعظم الله الرعدُ ويـمـجده, فـيثنى علـيه بصفـاته, وينزّهه مـما أضاف إلـيه أهل الشرك به ومـما وصفوه به من اتـخاذ الصاحبة والولد, تعالـى ربنا وتقدّس.
وقوله: مِنْ خِيفَتِهِ يقول: وتسبح الـملائكة من خيفة الله ورهبته.
وأما قوله: وَيُرْسِلُ الصّوَاعِقَ فَـيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ فقد بـيّنا معنى الصاعقة فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته بـما فـيه الكفـاية من الشواهد, وذكرنا ما فـيها من الرواية.
وقد اختلف فـيـمن أنزلت هذه الآية, فقال بعضهم: نزلت فـي كافر من الكفـار ذَكَرَ الله تعالـى وتقدس بغير ما ينبغي ذكره, فأرسل علـيه صاعقة أهلكته. ذكر من قال ذلك:
15427ـ حدثنا الـحسن بن مـحمد, قال: حدثنا عفـانُ, قال: حدثنا أبـانُ بن يزيد, قال: حدثنا أبو عمران الـجونـيّ, عن عبد الرحمن بن صحُار العبديّ, أنه بلغه أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم بعث إلـى جبّـار يدعوه, فقال: «أرأيتـم ربكم, أذهبٌ هو أم فضة هو أم لؤلؤ هو؟»قال: فبـينـما هو يجادلهم, إذ بعث الله سحابة فرعدت, فأرسل الله علـيه صاعقة فذهبت بقَحْف رأسه فأنزل الله هذه الآية: وَيُرْسِلُ الصّوَاعِقَ فَـيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِـي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الـمِـحالِ.
15428ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق بن سلـيـمان, عن أبـي بكر بن عياش, عن لـيث, عن مـجاهد, قال: جاء يهودي إلـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فقال: أخبرنـي عن ربك من أيّ شيء هو, من لؤلؤ أو من ياقوت؟ فجاءت صاعقة فأخذته, فأنزل الله: وَيُرْسِلُ الصّوَاعِقَ فَـيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِـي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الـمِـحالِ.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا الـحمّانـي, قال: حدثنا أبو بكر بن عياش, عن لـيث, عن مـجاهد, مثله.
15429ـ قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن هاشم, قال: حدثنا سيف, عن أبـي رَوق, عن أبـي أيوب, عن علـيّ, قال: جاء رجل إلـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا مـحمد حدثنـي مَنْ هذا الذي تدعو إلـيه, أياقوت هو, أذهب هو, أم ما هو؟ قال: فنزلت علـى السائل الصاعقة فأحرقته, فأنزل الله: وَيُرسِلُ الصّوَاعِقَ... الآية.
15430ـ حدثنا مـحمد بن مرزوق, قال: حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب, قال: ثنـي علـيّ بن أبـي سارة الشيبـانـيّ, قال: حدثنا ثابت البُنَانـي, عن أنس بن مالك, قال: بَعَث النبـيّ صلى الله عليه وسلم مرّة رجلاً إلـى رجل من فراعنة العرب, أن ادعه لـي, فقال: يا رسول الله, إنه أعتـى من ذلك, قال: «اذْهَبْ إلـيه فـادْعُهُ» قال: فأتاه, فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك, فقال: من رسول الله, وما الله؟ أمن ذهب هو, أم من فضة, أم من نـحاس؟ قال: فأتـى الرجل النبـيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره, فقال: «ارْجِعْ إلَـيْهِ فـادْعُهُ» قال: فأتاه فأعاد علـيه وردّ علـيه مثل الـجواب الأوّل, فأتـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره, فقال: «ارْجِعْ إلَـيْهِ فـادْعُهُ» قال: فرجع إلـيه. فبـينـما هما يتراجعان الكلام بـينهما, إذ بعث الله سحابة بحِيال رأسه فرعدت, فوقعت منها صاعقة فذهبت بقحْف رأسه, فأنزل الله: وَيُرْسِلُ الصّوَاعِقَ فَـيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِـي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الـمِـحالِ.
وقال آخرون: نزلت فـي رجل من الكفـار أنكر القرآن وكذّب النبـيّ صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:
15431ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: ذُكر لنا أن رجلاً أنكر القرآن وكذّب النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فأرسل الله علـيه صاعقة فأهلكته, فأنزل الله عزّ وجلّ فـيه: وَهُمْ يُجادِلُونَ فِـي اللّهِ, وَهُوَ شَدِيدُ الـمِـحالِ.
وقال آخرون: نزلت فـي أربَدَ أخي لَبـيد بن ربـيعة, وكان همّ بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وعامر بن الطفـيـل. ذكر من قال ذلك:
15432ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: نزلت, يعنـي قوله: وَيُرْسِلُ الصّوَاعِقَ فَـيُصِيبُ بها مَنْ يَشاءُ فـي أربدَ أخي لبـيد بن ربـيعة, لأنه قَدم أربد وعامر بن الطفـيـل بن مالك بن جعفر علـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فقال عامر: يا مـحمد أأُسِلـم وأكون الـخـلـيفة من بعدك؟ قال: «لا» قال: فأكون علـى أهل الوبَر وأنت علـى أهل الـمدر؟ قال: «لا», قال: فما ذاك؟ قال: «أُعْطِيكَ أعِنّةَ الـخَيْـلِ تُقَاتِلُ عَلَـيْها, فإنّكَ رَجُلٌ فَـارِسٌ» قال: أو لـيست أعنة الـخَيـلِ بـيدي؟ أما والله لأملأنها علـيك خيلاً ورجالاً من بنـي عامر وقال لأربد: إما أن تكفـينـيه وأضربه بـالسيف, وإما أن أكفـيكه وتضربه بـالسيف. قال أربد: أكَفـيكه واضربه فقال عامر بن الطفـيـل: يا مـحمد إن لـي إلـيك حاجة, قال: «ادْنُ», فلـم يزل يدنو, ويقول النبـي صلى الله عليه وسلم, «ادْنُ» حتـى وضع يديه علـى ركبتـيه وحنى علـيه, واستلّ أربد السيف, فـاستلّ منه قلـيلاً فلـما رأى النبـيّ صلى الله عليه وسلم بريقه, تعوّذ بآية كان يتعوّذ بها, فـيبست يد أربد علـى السيف, فبعث الله علـيه صاعقة فأحرقته, فذلك قول أخيه:
أخْشَى علـى أرْبَدَ الـحُتُوفَ ولاأرْهَبُ نَوْءَ السّماك والأسَدِ
فَجّعَنِـي البَرْقُ والصّوَاعقُ بـالْفـارِسِ يَوْمَ الكَرِيهَةِ النّـجُدِ وقد ذكرت قبلُ خبر عبد الرحمن بن زيد بنـحو هذه القصة. وقوله: وَهُمْ يُجادِلُونَ فِـي اللّهِ يقول: وهؤلاء الذين أصابهم الله بـالصواعق أصابهم فـي حال خصومتهم فـي الله عزّ وجلّ لرسوله صلى الله عليه وسلم. وقوله: وَهُوَ شَدِيدُ الـمِـحالِ يقول تعالـى ذكره والله شديدة مـما حلته فـي عقوبة من طغى علـيه وعَتَا وتـمادى فـي كفره. والـمِـحال: مصدر من قول القائل: ما حَلتُ فلانا فأنا أما حله مـما حلة ومـحالاً, وفَعَلْتُ منه: مَـحَلت أَمْـحَل مَـحْلاً: إذا عَرّض رجل رجلاً لـما يهلكه ومنه قوله: «وما حِلٌ مُصَدّق» ومنه قول أعشى بنـي ثعلبة: فَرْعُ نَبْعٍ يَهْتَزّ فِـي غُصُنِ الـمَـجْدِ غزيرُ النّدَى شَدِيدُ الـمِـحالِ
هكذا كان يُنشده معمر بن الـمثنى فـيـما حُدثت عن علـيّ بن الـمغيرة عنه. وأما الرواة بعدُ فإنهم ينشدونه:
فَرْعُ فَرْعٍ يَهْتَزّ فِـي غُصُنِ الـمَـجْدِ كثـيرُ النّدَى عَظِيـمُ الـمِـحالِ
وفسّر ذلك معمر بن الـمثنى, وزعم أنه عنى به العقوبة والـمكر والنكال ومنه قول الاَخر:
وَلَبّسَ بـينَ أقْوَامٍ فُكُلّأعدّ له الشّغازِبَ والـمِـحالا
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
15433ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن هاشم, قال: حدثنا سيف, عن أبـي رَوْق, عن أبـي أيوب, عن علـيّ رضي الله عنه: وَهُوَ شَدِيدُ الـمِـحالِ قال: شديد الأخذ.
15434ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا إسرائيـل, عن أبـي يحيى, عن مـجاهد: وَهُوَ شَدِيدُ الـمِـحالِ قال: شديد القوّة.
15435ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَهُوَ شَدِيدُ الـمِـحالِ أي القوّة والـحيـلة.
15436ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن الـحسن: شَدِيدُ الـمِـحالِ يعنـي: الهلاك, قال: إذا مـحل فهو شديد. وقال قتادة: شديد الـحِيـلة.
15437ـ حدثنـي الـحارث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا رجل, عن عكرمة: وَهُمْ يُجادِلُونَ فِـي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الـمِـحالِ قال: الـمـحال: جدال أربَدَ, وهو شَدِيدُ الـمِـحَالِ قال: ما أصاب أربدَ من الصاعقة.
15438ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج: وَهُوَ شَدِيدُ الـمِـحال قال: قال ابن عبـاس: شديد الـحَوْل.
15439ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَهُوَ شَدِيدُ الـمِـحالِ قال: شديد القوّة. الـمـحال: القوّة.
والقول الذي ذكرناه عن قتادة فـي تأويـل الـمـحال أنه الـحيـلة, والقول الذي ذكره ابن جريج عن ابن عبـاس يدلان علـى أنهما كانا يقرآن: «وَهُوَ شَدِيدُ الـمَـحَال» بفتـح الـميـم, لأن الـحيـلة لا يأتـي مصدرها مِـحَالاً بكسر الـميـم, ولكن قد يأتـي علـى تقدير الـمَفْعلة منها, فـيكون مَـحَالة, ومن ذلك قولهم: «الـمرء يعجز لا مَـحالة», والـمـحالة فـي هذا الـموضع: الـمفعلة من الـحيـلة. فأما بكسر الـميـم, فلا تكون إلا مصدرا, من ما حلت فلانا أما حلهِ مـحالاً, والـمـماحلة بعيدة الـمعنى من الـحيـلة, ولا أعلـم أحدا قرأه بفتـح الـميـم. فإذا كان ذلك كذلك, فـالذي هو أولـى بتأويـل ذلك ما قلنا من القول