تفسير الطبري تفسير الصفحة 26 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 26
027
025
 الآية : 170
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ }
وفـي هذه الآية وجهان من التأويـل: أحدهما أن تكون الهاء والـميـم من قوله: وَإذَا قـيـلَ لَهمْ عائدة علـى «مِن» فـي قوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَتّـخذ مِنْ دَونِ الله أنْدَادا فـيكون معنى الكلام: ومن الناس مَن يتـخذ من دون الله أندادا, وإذا قـيـل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفـينا علـيه آبـاءنا.
والاَخر أن تكون الهاء والـميـم اللتان فـي قوله: وَإذَا قِـيـلَ لَهُمْ من ذكر «الناس» الذين فـي قوله: يا أيّها النّاسُ كلُوا مِـمَا فـي الأرْضِ حَلالاً طَيّبـا فـيكون ذلك انصرافـا من الـخطاب إلـى الـخبر عن الغائب كما فـي قوله تعالـى ذكره: حّتـى إذَا كُنْتُـمْ فِـي الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيّبَةٍ. وأشبه عندي وأولـى بـالآية أن تكون الهاء والـميـم فـي قوله لهم من ذكر «الناس», وأن يكون ذلك رجوعا من الـخطاب إلـى الـخبر عن الغائب, لأن ذلك عقـيب قوله: يا أيّها النّاسُ كُلُوا مِـمّا فِـي الأرْضِ فلأن يكون خبرا عنهم أولـى من أن يكون خبرا عن الذين أخبر أن منهم من يتـخذ من دون الله أندادا مع ما بـينهما من الاَيات وانقطاع قصصهم بقصة مستأنفة غيرها, وأنها نزلت فـي قوم من الـيهود قالوا ذلك إذْ دعوا إلـى الإسلام. كما:
1931ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة بن الفضل, عن مـحمد بن إسحاق, عن مـحمد بن أبـي مـحمد, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الـيهود من أهل الكتاب إلـى الإسلام ورغبهم فـيه, وحذّرهم عقاب الله ونقمته, فقال له رافع بن خارجة ومالك بن عوف: بل نتبع ما ألفـينا علـيه آبـاءنا فإنهم كانوا أعلـم وخيرا منا فأنزل الله من قولهما: وَإذَا قِـيـلَ لَهُمُ اتّبِعَوا ما أنْزَلَ اللّهُ قالُوا بَلْ نَتّبِعُ ما ألفْـيَنْا عَلَـيه آبـاءَنا أوْلَوْ كانَ آبـاؤُهُمْ لا يَعْقِلونَ شَيْئا وَلا يَهْتَدون.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا يونس بن بكير, قال: حدثنا مـحمد بن إسحاق, قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت, قال: حدثنـي سعيد بن جبـير أو عكرمة عن ابن عبـاس, مثله, إلا أنه قال: فقال له أبو رافع بن خارجة ومالك بن عوف.
وأما تأويـل قوله: اتّبِعُوا ما أنْزَلَ اللّهَ فإنه: اعملوا بـما أنزل الله فـي كتابه علـى رسوله, فأحلوا حلاله وحرّموا حرامه, واجعلوه لكم إماما تأتـمّون به, وقائدا تتبعون أحكامه. وقوله: ألفْـيَنْا عَلَـيْه آبـاءَنا يعنـي وجدنا, كما قال الشاعر:
فألْفَـيْتُهُ غيرَ مُسْتَعْتِبٍوَلا ذَاكرِ اللّهَ إلاّ قَلِـيلا
يعنـي وجدته. وكما:
1932ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد عن قتادة: قالُوا بَلْ نَتّبِعُ ما ألْفَـيْنا عَلَـيْهِ آبـاءَنا أي ما وجدنا علـيه آبـاءنا.
1933ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, مثله.
فمعنى الآية: وإذا قـيـل لهؤلاء الكفـار كلوا مـما أحل الله لكم ودعوا خطوات الشيطان وطريقه واعملوا بـما أنزل الله علـى نبـيه صلى الله عليه وسلم فـي كتابه, استكبروا عن الإذعان للـحق, وقالوا: بل نأتـم بآبـائنا فنتبع ما وجدناهم علـيه من تـحلـيـل ما كانوا يحلون وتـحريـم ما كانوا يحرّمون قال الله تعالـى ذكره: أوَلَوْ كانَ آبـاؤهُمْ يعنـي آبـاء هؤلاء الكفـار الذين مضوا علـى كفرهم بـالله العظيـم لا يعقلون شيئا من دين الله وفرائضه وأمره ونهيه, فـيُتّبعون علـى ما سلكوا من الطريق ويؤتـم بهم فـي أفعالهم ولا يهتدون لرشد فـيهتدي بهم غيرهم, ويقتدي بهم من طلب الدين, وأراد الـحق والصواب؟
يقول تعالـى ذكره لهؤلاء الكفـار: فكيف أيها الناس تتبعون ما وجدتـم علـيه آبـاءكم فتتركون ما يأمركم به ربكم وآبـاؤكم لا يعقلون من أمر الله شيئا ولا هم مصيبون حقا ولا مدركون رشدا؟ وإنـما يتبع الـمتبع ذا الـمعرفة بـالشيء الـمستعمل له فـي نفسه, فأما الـجاهل فلا يتبعه فـيـما هو به جاهل إلا من لا عقل له ولا تـميـيز.
الآية : 171
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَثَلُ الّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاّ دُعَآءً وَنِدَآءً صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ }
اختلف أهل التأويـل فـي معنى ذلك, فقال بعضهم: معنى ذلك: مثل الكافر فـي قلة فهمه عن الله ما يتلـى علـيه فـي كتابه وسوء قبوله لـما يدعى إلـيه من توحيد الله ويوعظ به, مثل البهيـمة التـي تسمع الصوت إذا نعق بها ولا تعقل ما يقال لها. ذكر من قال ذلك:
1934ـ حدثنا هناد بن السريّ, قال: حدثنا أبو الأحوص, عن سماك, عن عكرمة فـي قوله: وَمَثَلُ الّذين كَفَروا كمَثَلِ الّذِي يَنْعِق بِـمَا لا يَسْمَع إلاّ دُعاءً ونِدَاءً قال: مثل البعير أو مثل الـحمار تدعوه فـيسمع الصوت ولا يفقه ما تقول.
1935ـ حدثنـي مـحمد بن عبد الله بن زريع, قال: حدثنا يوسف بن خالد السمتـي, قال: حدثنا نافع بن مالك, عن عكرمة, عن ابن عبـاس فـي قوله: كمَثَلِ الّذِي يَنْعِقُ بِـمَا لا يَسْمَعُ قال: هو كمثل الشاة ونـحو ذلك.
1936ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: حدثنـي أبـي, قال: حدثنـي عمي, قال: حدثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قوله: وَمَثَلُ الّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَل الّذِي يَنْعِقُ بـمَا لا يَسْمَعُ إلاّ دُعاءً وَندَاءً كمثل البعير والـحمار والشاة إن قلت لبعضها كل لا يعلـم ما تقول غير أنه يسمع صوتك, وكذلك الكافر إن أمرته بخير أو نهيته عن شر أو وعظته لـم يعقل ما تقول, غير أنه يسمع صوتك.
1937ـ حدثنـي القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج قال: قال ابن عبـاس: مثل الدابة تنادي فتسمع ولا تعقل ما يقال لها, كذلك الكافر يسمع الصوت ولا يعقل.
1938ـ حدثنا سفـيان بن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, عن خصيف, عن مـجاهد: كَمَثَلِ الّذِي يُنْعِقُ بِـمَا لا يَسْمعَ قال: مثل الكافر مثل البهيـمة تسمع الصوت ولا تعقل.
1939ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: كمثَلِ الّذي ينعُق مثل ضربه الله للكافر يسمع ما يقال له ولا يعقل, كمثل البهيـمة تسمع النعيق ولا تعقل.
1940ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: وَمَثَلُ الّذِينَ كَفَرُوا كمَثَلِ الّذِي يَنْعِقُ بِـمَا لا يَسْمَعُ إلاّ دُعاءً وَنِدَاء يقول: مثل الكافر كمثل البعير والشاة يسمع الصوت ولا يعقل ولا يدري ما عنـي به.
1941ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: كمَثَلَ الّذي يَنْعِقُ بِـمَا لا يَسْمَعُ إلاّ دُعاءً وَنِدَاءً قال: هو مثل ضربه الله للكافر, يقول: مثل هذا الكافر مثل هذه البهيـمة التـي تسمع الصوت ولا تدري ما يقال لها, فكذلك الكافر لا ينتفع بـما يقال له.
1942ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, قال: هو مثل الكافر يسمع الصوت ولا يعقل ما يقال له.
1943ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج: سألت عطاء, ثم قلت له: يقال لا تعقل, يعنـي البهيـمة, إلا أنها تسمع دعاء الداعي حين ينعق بها, فهم كذلك لا يعقلون وهم يسمعون. فقال: كذلك. قال: وقال مـجاهد: «الذي ينعق» الراعي «بـما لا يسمع» من البهائم.
1944ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: كمثل الذي ينعق الراعي بـما لا يسمع من البهائم.
1945ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: كَمَثلِ الّذِي يَنْعِقُ بِـمَا لا يَسْمَعُ إلاّ دُعاءً ونِدَاءً لا يعقل ما يقال له إلا أن تُدعى فتأتـي أو ينادَى بها فتذهب, وأما الذي ينعق فهو الراعي الغنـم كما ينعق الراعي بـما لا يسمع ما يقال له, إلا أن يدعى أو ينادى, فكذلك مـحمد صلى الله عليه وسلم يدعو من لا يسمع إلا خرير الكلام يقول الله: صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ.
ومعنى قائلـي هذا القول فـي تأويـلهم ما تأوْلوا علـى ما حكيت عنهم: ومثل وعظ الذين كفروا وواعظهم كمثل نعق الناعق بغنـمه ونعيقه بها. فأضيف الـمثل إلـى الذين كفروا, وترك ذكر الوعظ والواعظ لدلالة الكلام علـى ذلك, كما يقال: إذا لقـيت فلانا فعظمه تعظيـم السلطان, يراد به كما تعظم السلطان, وكما قال الشاعر:
فَلَسْتُ مُسَلّـما ما دُمْتُ حَيّاعَلـى زَيْدٍ بِتَسْلِـيـمِ الأمِير
يراد به: كما يسلـم علـى الأمير. وقد يحتـمل أن يكون الـمعنى علـى هذا التأويـل الذي تأوله هؤلاء: ومثل الذين كفروا فـي قلة فهمهم عن الله وعن رسوله كمثل الـمنعوق به من البهائم الذي لا يفقه من الأمر والنهي غير الصوت, وذلك أنه لو قـيـل له: اعتلف أو رد الـماء لـم يدر ما يقال له غير الصوت الذي يسمعه من قائله فكذلك الكافر, مثله فـي قلة فهمه لـما يؤمر به وينهى عنه بسوء تدبره إياه وقلة نظره وفكره فـيه, مثل هذا الـمنعوق به فـيـما أمر به ونهي عنه. فـيكون الـمعنى للـمنعوق به والكلام خارج علـى الناعق, كما قال نابغة بنـي ذبـيان:
وَقَدْ خِفْتُ حتّـى ما تَزِيدُ مَخافَتِـيعلـى وَعِلٍ فـي ذِي الَـمطارَةِ عاقِلِ
والـمعنى: حتـى ما تزيد مخافة الوعل علـى مخافتـي, وكما قال الاَخر:
كانَتْ فَريضَةُ ما تَقُولُ كمَاكانَ الزّناءُ فَريضَةَ الّرجْمِ
والـمعنى: كما كان الرجم فريضة الزنا, فجعل الزنا فريضة الرجم لوضوح معنى الكلام عند سامعه. وكما قال الاَخر:
إنّ سِرَاجا لَكَريـمٌ مَفْخَرُهْتَـحْلَـى به العَيْنُ إذا ما تَـجْهَرُهْ
والـمعنى: يحلـى بـالعين فجعله تـحلـى به العين. ونظائر ذلك من كلام العرب أكثر من أن يحصى مـما توجهه العرب من خبر ما تـخبر عنه إلـى ما صاحبه لظهور معنى ذلك عند سامعه, فتقول: اعرض الـحوض علـى الناقة, وإنـما تعرض الناقة علـى الـحوض, وما أشبه ذلك من كلامها.
وقال آخرون: معنى ذلك: ومثل الذين كفروا فـي دعائهم آلهتهم وأوثانهم التـي لا تسمع ولا تعقل, كمثل الذي ينعق بـما لا يسمع إلا دعاء ونداء, وذلك الصدى الذي يسمع صوته, ولا يفهم به عنه الناعق شيئا.
فتأويـل الكلام علـى قول قائل ذلك: ومثل الذين كفروا وآلهتهم فـي دعائهم إياها وهي لا تفقه ولا تعقل كمثل الناعق بـما لا يسمعه الناعق إلا دعاء ونداء, أي لا يسمع منه الناعق إلا دعاءه. ذكر من قال ذلك:
1946ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَمَثَلُ الّذِينَ كَفَرُوا كمَثَلِ الّذِي يَنْعِقُ بِـمَا لا يَسْمَعُ إلا دُعاءً وَنِدَاءً قال: الرجل الذي يصيح فـي جوف الـجبـال فـيجيبه فـيها صوت يراجعه يقال له الصدى, فمثل آلهة هؤلاء لهم كمثل الذي يجيبه بهذا الصوت لا ينفعه لا يسمع إلا دعاء ونداء. قال: والعرب تسمي ذلك الصّدى.
وقد تـحتـمل الآية علـى هذا التأويـل وجها آخر غير ذلك, وهو أن يكون معناها: ومثل الذين كفروا فـي دعائهم آلهتهم التـي لا تفقه دعاءهم كمثل الناعق بغنـم له من حيث لا تسمع صوته غنـمه فلا تنتفع من نعقه بشيء غير أنه فـي عناء من دعاء ونداء, فكذلك الكافر فـي دعائه آلهته إنـما هو فـي عناء من دعائه إياها وندائه لها, ولا ينفعه شيء.
وأولـى التأويـل عندي بـالآية التأويـل الأول الذي قاله ابن عبـاس ومن وافقه علـيه, وهو أن معنى الآية: ومثل وعظ الكافر وواعظه كمثل الناعق بغنـمه ونعيقه, فإنه يسمع نعقه ولا يعقل كلامه علـى ما قد بـينا قبل.
فأما وجه جواز حذف «وعظ» اكتفـاء بـالـمثل منه فقد أتـينا علـى البـيان عنه فـي قوله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا وفـي غيره من نظائره من الاَيات بـما فـيه الكفـاية عن إعادته. وإنـما اخترنا هذا التأويـل, لأن هذه الآية نزلت فـي الـيهود, وإياهم عنى الله تعالـى ذكره بها, ولـم تكن الـيهود أهل أوثان يعبدونها ولا أهل أصنام يعظمونها ويرجون نفعها أو دفع ضرها. ولا وجه إذ كان ذلك كذلك لتأويـل من تأول ذلك أنه بـمعنى: مثل الذين كفروا فـي ندائهم الاَلهة ودعائهم إياها.
فإن قال قائل: وما دلـيـلك علـى أن الـمقصود بهذه الآية الـيهود؟ قـيـل: دلـيـلنا علـى ذلك ما قبلها من الاَيات وما بعدها, فإنهم هم الـمعنـيون به, فكان ما بـينهما بأن يكون خبرا عنهم أحق وأولـى من أن يكون خبرا عن غيرهم حتـى تأتـي الأدلة واضحة بـانصراف الـخبر عنهم إلـى غيرهم. هذا مع ما ذكرنا من الأخبـار عمن ذكرنا عنه أنها فـيهم نزلت, والرواية التـي روينا عن ابن عبـاس أن الآية التـي قبل هذه الآية نزلت فـيهم. وبـما قلنا من أن هذه الآية معنـيّ بها الـيهود كان عطاء يقول.
1947ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال لـي عطاء فـي هذه الآية: هم الـيهود الذين أنزل الله فـيهم: إنّ الّذينَ يَكْتُـمُونَ ما أنْزَلَ اللّهُ مِنَ الكِتابِ ويَشْتَرونَ بِه ثَمَنا قَلِـيلاً إلـى قوله: فَمَا أصْبَرَهُمْ علـى النّار.
وأما قوله يَنْعِقُ فإنه يصوّت بـالغنـم النعيق والنعاق, ومنه قول الأخطل:
فـانْعِقْ بِضأنِكَ يا جَرِيرُ فإنّـمَامَنّتْكَ نَفْسُكَ فِـي الـخَلاءِ ضَلالاَ
يعنـي: صوّتْ به.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُون.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ هؤلاء الكفـار الذين مثلهم كمثل الذي ينعق بـما لا يسمع إلا دعاء ونداء, صمّ عن الـحقّ فهم لا يسمعون, بكم يعنـي خرس عن قـيـل الـحق والصواب والإقرار بـما أمرهم الله أن يقرّوا به وتبـيـين ما أمرهم الله تعالـى ذكره أن يبـينوه من أمر مـحمد صلى الله عليه وسلم للناس, فلا ينطقون به ولا يقولونه ولا يبـينونه للناس, عميٌ عن الهدى وطريق الـحق فلا يبصرونه. كما:
1948ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد عن سعيد, عن قتادة قوله: صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ يقول: صم عن الـحق فلا يسمعونه ولا ينتفعون به ولا يعقلونه, عمي عن الـحق والهدى فلا يبصرونه, بكم عن الـحق فلا ينطقون به.
1949ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: صُمٌ بُكم عُمْيٌ يقول عن الـحق.
1950ـ حدثنـي الـمثنى قال: حدثنا أبو صالـح, قال: حدثنـي معاوية عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس: صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ يقول: لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه.
وأما الرفع فـي قوله: صُمٌ بُكْمٌ عُمْيٌ فإنه أتاه من قبل الابتداء والاستئناف, يدل علـى ذلك قوله: فَهُمْ لا يَعْقِلُون كما يقال فـي الكلام: هو أصمّ لا يسمع, وهو أبكم لا يتكلـم.
الآية : 172
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ للّهِ إِن كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ }
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: يا أَيّها الّذِينَ آمَنُوا يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله, وأقرّوا لله بـالعبودية, وأذعنوا له بـالطاعة. كما:
1951ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك فـي قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا يقول: صدّقوا.
كُلُوا مِنْ طَيّبـات ما رَزَقْناكُمْ يعنـي: أطْعَموا من حلال الرزق الذي أحللناه لكم, فطاب لكم بتـحلـيـلـي إياه لكم مـما كنتـم تـحرّمون أنتـم ولـم أكن حرّمته علـيكم من الـمطاعم والـمشارب. وَاشْكُرُوا للّهِ يقول: وأثنوا علـى الله بـما هو أهله منكم علـى النعم التـي رزقكم وطيبها لكم, إنْ كُنْتُـمْ إيّاهُ تَعْبُدُونَ يقول: إن كنتـم منقادين لأمره سامعين مطيعين, فكلوا مـما أبـاح لكم أكله وحلله وطيبه لكم, ودعوا فـي تـحريـمه خطوات الشيطان.
وقد ذكرنا بعض ما كانوا فـي جاهلـيتهم يحرّمونه من الـمطاعم, وهو الذي ندبهم إلـى أكله ونهاهم عن اعتقاد تـحريـمه, إذ كان تـحريـمهم إياه فـي الـجاهلـية طاعة منهم للشيطان واتبـاعا لأهل الكفر منهم بـالله من الاَبـاء والأسلاف. ثم بـين لهم تعالـى ذكره ما حرّم علـيهم, وفصل لهم مفسرا.
الآية : 173
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّمَا حَرّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلآ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ }
يعنـي تعالـى ذكره بذلك: لا تـحرّموا علـى أنفسكم ما لـم أحرّمه علـيكم أيها الـمؤمنون بـالله وبرسوله من البحائر والسوائب ونـحو ذلك, بل كلوا ذلك فإنـي لـم أحرّم علـيكم غير الـميتة والدم ولـحم الـخنزير وما أهلّ به لغيري.
ومعنى قوله: إنـمَا حَرّمَ عَلَـيْكُمُ الَـميْتَةَ: ما حرم علـيكم إلا الـميتة: «وإنـما»: حرف واحد, ولذلك نصبت الـميتة والدم, وغير جائز فـي الـميتة إذا جعلت «إنـما» حرفـا واحدا إلا النصب, ولو كانت «إنـما» حرفـين وكانت منفصلة من «إنّ» لكانت الـميتة مرفوعة وما بعدها, وكان تأويـل الكلام حينئذٍ: إن الذي حرّم الله علـيكم من الـمطاعم الـميتةُ والدم ولـحم الـخنزير لا غير ذلك.
وقد ذكر عن بعض القراء أنه قرأ ذلك كذلك علـى هذا التأويـل. ولست للقراءة به مستـجيزا, وإن كان له فـي التأويـل والعربـية وجه مفهوم, لاتفـاق الـحجة من القراء علـى خلافه, فغير جائز لأحد الاعتراض علـيهم فـيـما نقلوه مـجمعين علـيه, ولو قرىء فـي «حرّم» بضم الـحاء من «حرم» لكان فـي الـميتة وجهان من الرفع: أحدهما من أن الفـاعل غير مسمى, و«إنـما» حرف واحد. والاَخر «إن» و«ما» فـي معنى حرفـين, و«حرم» من صلة «ما», والـميتة خبر «الذي» مرفوع علـى الـخبر, ولست وإن كان لذلك أيضا وجه مستـجيزا للقراءة به لـما ذكرت.
وأما الـميتة فإن القراء مختلفة فـي قراءتها, فقرأها بعضهم بـالتـخفـيف ومعناه فـيها التشديد, ولكنه يخففها كما يخفف القائلون: هو هيْن لّـين الهيْن اللـيْن, كما قال الشاعر:
لـيسَ مَنْ ماتَ فـاسْترَاحَ بـمَيْتٍإنّـمَا الـمَيْتُ مَيّتُ الأحْياء
فجمع بـين اللغتـين فـي بـيت واحد فـي معنى واحد. وقرأها بعضهم بـالتشديد وحملوها علـى الأصل, وقالوا: إنـما هو «مَيْوت», فـيعل من الـموت, ولكن الـياء الساكنة والواو الـمتـحركة لـما اجتـمعتا والـياء مع سكونها متقدمة قلبت الواو ياء وشددت فصارتا ياء مشددة, كما فعلوا ذلك فـي سيد وجيد. قالوا: ومن خففها فإنـما طلب الـخفة. والقراءة بها علـى أصلها الذي هو أصلها أولـى.
والصواب من القول فـي ذلك عندي أن التـخفـيف والتشديد فـي ياء الـميتة لغتان معروفتان فـي القراءة وفـي كلام العرب, فبأيهما قرأ ذلك القارىء فمصيب لأنه لا اختلاف فـي معنـيـيهما.
وأما قوله: وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فإنه يعنـي به: وما ذبح للاَلهة والأوثان يسمى علـيه بغير اسمه أو قصد به غيره من الأصنام. وإنـما قـيـل: وَما أُهِلّ بِهِ لأنهم كانوا إذا أرادوا ذبح ما قرّبوه لاَلهتهم سمّوُا اسم آلهتهم التـي قرّبوا ذلك لها وجهروا بذلك أصواتهم, فجرى ذلك من أمرهم علـى ذلك حتـى قـيـل لكل ذابح يسمي أو لـم يسم جهر بـالتسمية أو لـم يجهر: «مهلٌ», فرفعهم أصواتهم بذلك هو الإهلال الذي ذكره الله تعالـى فقال: وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ ومن ذلك قـيـل للـملبـي فـي حجة أو عمرة مهلّ, لرفعه صوته بـالتلبـية ومنه استهلال الصبـيّ: إذا صاح عند سقوطه من بطن أمه, واستهلال الـمطر: وهو صوت وقوعه علـى الأرض, كما قال عمرو بن قميئة:
ظَلَـم البِطاحَ لَهُ انْهِلالُ حَرِيصَةٍفَصَفـا النّطافُ لهُ بُعَيْدَ الـمُقْلَعِ
واختلف أهل التأويـل فـي ذلك, فقال بعضهم: يعنـي بقوله: وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ ما ذبح لغير الله. ذكر من قال ذلك:
1952ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ قال: ما ذبح لغير الله.
1953ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ قال: ما ذبح لغير الله مـما لـم يسمّ علـيه.
1954ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن نـجيح, عن مـجاهد: وَما أُهِلّ بِه لِغَيْرِ اللّهِ ما ذبح لغير الله.
1955ـ حدثنا القاسم قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج, قال ابن عبـاس فـي قوله: وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ قال: ما أهل به للطواغيت.
1956ـ حدثنا سفـيان بن وكيع, قال: حدثنا أبو خالد الأحمر, عن جويبر, عن الضحاك قال: وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ قال: ما أهل به للطواغيت.
1957ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: حدثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس: وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ يعنـي ما أهلّ للطواغيت كلها, يعنـي ما ذبح لغير الله من أهل الكفر غير الـيهود والنصارى.
1958ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن عطاء فـي قول الله: وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ قال: هو ما ذبح لغير الله.
وقال آخرون: معنى ذلك: ما ذكر علـيه غير اسم الله. ذكر من قال ذلك:
1959ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع قوله: وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ يقول: ما ذكر علـيه غير اسم الله.
1960ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, وسألته عن قول الله: وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ قال: ما يذبح لاَلهتهم الأنصاب التـي يعبدونها, أو يسمون أسماءها علـيها. قال: يقولون بـاسم فلان, كما تقول أنت بـاسم الله. قال: فذلك قوله: وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ الله.
1961ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: حدثنا حيوة, عن عقبة بن مسلـم التـجيبـي, وقـيس بن رافع الأشجعي أنهما قالا: أحلّ لنا ما ذبح لعيد الكنائس, وما أهدي لها من خبز أو لـحم, فإنـما هو طعام أهل الكتاب. قال حيوة: قلت: أرأيت قول الله: وَما أُهِلّ بِهِ لِغْيِر اللّهِ؟ قال: إنـما ذلك الـمـجوس وأهل الأوثان والـمشركون.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بـاغٍ وَلا عادٍ فَلا إْثمَ عَلَـيْهِ.
يعنـي تعالـى ذكره: فَمَنِ اضْطُرّ فمن حلت به ضرورة مـجاعة إلـى ما حرّمت علـيكم من الـميتة والدم ولـحم الـخنزير وما أهل به لغير الله, وهو بـالصفة التـي وصفنا, فلا إثم علـيه فـي أكله إن أكله. وقوله: فَمَنِ اضْطرّ افتعل من الضرورة, «وغير بـاغ» نصب علـى الـحال من «مَن», فكأنه قـيـل: فمن اضطرّ لا بـاغيا ولا عاديا فأكله, فهو له حلال.
وقد قـيـل: إن معنى قوله: فَمَنِ اضْطُرّ فمن أكره علـى أكله فأكله, فلا إثم علـيه. ذكر من قال ذلك:
1962ـ حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري, قال: حدثنا إسرائيـل, عن سالـم الأفطس, عن مـجاهد قوله: فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بـاغٍ وَلا عادٍ قال: الرجل يأخذه العدوّ فـيدعونه إلـى معصية الله.
وأما قوله: غَيْرَ بـاغٍ وَلا عادٍ فإن أهل التأويـل فـي تأويـله مختلفون, فقال بعضهم: يعنـي بقوله: غَيْرَ بـاغٍ غير خارج علـى الأئمة بسيفه بـاغيا علـيهم بغير جور, ولا عاديا علـيهم بحرب وعدوان فمفسد علـيهم السبـيـل. ذكر من قال ذلك:
1963ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن إدريس, قال: سمعت لـيثا عن مـجاهد: فَمَنِ اضْطّرّ غَيْرَ بـاغٍ وَلا عادٍ قال: غير قاطع سبـيـل, ولا مفـارق جماعة, ولا خارج فـي معصية الله, فله الرخصة.
1964ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: فَمَنِ اضْطّرّ غَيْرَ بـاغٍ وَلا عاد يقول: لا قاطعا للسبـيـل, ولا مفـارقا للأئمة, ولا خارجا فـي معصية الله, فله الرخصة. ومن خرج بـاغيا أو عاديا فـي معصية الله, فلا رخصة له وإن اضطرّ إلـيه.
1965ـ حدثنا هناد بن السريّ, قال: حدثنا شريك, عن سالـم, عن سعيد: غَيْرَ بـاغٍ وَلا عادٍ قال: هو الذي يقطع الطريق, فلـيس له رخصة إذا جاع أن يأكل الـميتة وإذا عطش أن يشرب الـخمر.
1966ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: أخبرنا ابن الـمبـارك, عن شريك, عن سالـم: يعنـي الأفطس, عن سعيد فـي قوله: فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بـاغٍ وَلا عادٍ قال البـاغي العادي: الذي يقطع الطريق فلا رخصة له ولا كرامة.
1967ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا الـحمانـي, قال: حدثنا شريك, عن سالـم, عن سعيد فـي قوله: فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بـاغٍ وَلا عادٍ قال: إذا خرج فـي سبـيـل من سبل الله فـاضطرّ إلـى شرب الـخمر شرب, وإن اضطرّ إلـى الـميتة أكل, وإذا خرج يقطع الطريق فلا رخصة له.
1968ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حفص بن غياث, عن الـحجاج, عن القاسم بن أبـي بزة, عن مـجاهد, قال: غَيْرَ بـاغٍ علـى الأئمة وَلا عادٍ قال: قاطع السبـيـل.
1969ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا ابن أبـي زائدة, عن ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: فَمَنِ اضْطُر غَيْرَ بـاغٍ وَلا عادٍ قال: غير قاطع السبـيـل, ولا مفـارق الأئمة, ولا خارج فـي معصية الله فله الرخصة.
1970ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا أبو معاوية, عن حجاج, عن الـحكم, عن مـجاهد: فَمَنِ اضْطرّ غَيْرَ بـاغٍ وَلا عادٍ قال: غير بـاغ علـى الأئمة, ولا عاد علـى ابن السبـيـل.
وقال آخرون فـي تأويـل قوله غَيْرَ بـاغٍ وَلا عاد: غير بـاغ الـحرام فـي أكله, ولا معتد الذي أبـيح له منه. ذكر من قال ذلك.
1971ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة قوله: فَمَنِ اضْطرّ غَيْرَ بـاغٍ وَلا عادٍ قال: غير بـاغ فـي أكله, ولا عاد أن يتعدى حلالاً إلـى حرام وهو يجد عنه مندوحة.
1972ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن الـحسن فـي قوله: فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بـاغٍ وَلا عادً قال: غير بـاغ فـيها ولا معتد فـيها بأكلها وهو غنـيّ عنها.
1973ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرزاق, عن معمر, عمن سمع الـحسن يقول ذلك.
1974ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو نـميـلة, عن أبـي حمزة, عن جابر, عن مـجاهد وعكرمة قوله: فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بـاغٍ وَلا عادٍ غير بـاغ يبتغيه, ولا عاد يتعدى علـى ما يـمسك نفسه.
1975ـ حدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بـاغٍ وَلا عادٍ يقول: من غير أن يبتغي حراما ويتعداه, ألا ترى أنه يقول: فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأولَئِكَ هُمُ العادُون.
1976ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بـاغٍ وَلا عادٍ قال: أن يأكل ذلك بغيا وتعديا عن الـحلال إلـى الـحرام, ويترك الـحلال وهو عنده, ويتعدى بأكل هذا الـحرام هذا التعدي, ينكر أن يكونا مختلفـين, ويقول هذا وهذا واحد.
وقال آخرون: تأويـل ذلك فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بـاغٍ فـي أكله شهوة وَلا عادٍ فوق ما لا بد له منه. ذكر من قال ذلك:
1977ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: فَمَنِ اضْطُرَ غَيْرَ بـاغٍ وَلا عادٍ أما بـاغ فـينبغي فـيه شهوته, وأما العادي: فـيتعدى فـي أكله, يأكل حتـى يشبع, ولكن يأكل منه قدر ما يـمسك به نفسه حتـى يبلغ به حاجته.
وأولـى هذه الأقوال بتأويـل الآية قول من قال: فَمَنِ اضْطّرّ غَيّرَ بـاغٍ بأكله ما حرم علـيه من أكله وَلا عاد فـي أكله, وله عن ترك أكله بوجود غيره مـما أحله الله له مندوحة وغنى, وذلك أن الله تعالـى ذكره لـم يرخص لأحد فـي قتل نفسه بحال, وإذ كان ذلك كذلك فلا شك أن الـخارج علـى الإمام والقاطع الطريق وإن كانا قد أتـيا ما حرّم الله علـيهما من خروج هذا علـى من خرج علـيه وسعي هذا بـالإفساد فـي الأرض, فغير مبـيح لهما فعلهما ما فعلا مـما حرّم الله علـيهما ما كان حرّم الله علـيهما قبل إتـيانهما ما أتـيا من ذلك من قتل أنفسهما, بل ذلك من فعلهما وإن لـم يؤدهما إلـى مـحارم الله علـيهما تـحريـما فغير مرخص لهما ما كان علـيهما قبل ذلك حراما, فإن كان ذلك كذلك, فـالواجب علـى قطاع الطريق والبغاة علـى الأئمة العادلة, الأوبةُ إلـى طاعة الله, والرجوع إلـى ما ألزمهما الله الرجوع إلـيه, والتوبة من معاصي الله لا قتل أنفسهما بـالـمـجاعة, فـيزدادان إلـى إثمهما إثما, وإلـى خلافهما أمر الله خلافـا.
وأما الذي وجه تأويـل ذلك إلـى أنه غير بـاغ فـي أكله شهوة, فأكل ذلك شهوة لا لدفع الضرورة الـمخوف منها الهلاك مـما قد دخـل فـيـما حرّمه الله علـيه, فهو بـمعنى ما قلنا فـي تأويـله, وإن كان للفظه مخالفـا.
فأما توجيه تأويـل قوله: وَلا عادٍ ولا آكل منه شبعه ولكن ما يـمسك به نفسه فإن ذلك بعض معانـي الاعتداء فـي أكله, ولـم يخصص الله من معانـي الاعتداء فـي أكله معنى فـيقال عنى به بعض معانـيه. فإذا كان ذلك كذلك, فـالصواب من القول ما قلنا من أنه الاعتداء فـي كل معانـيه الـمـحرّمة.
وأما تأويـل قوله: فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ يقول: من أكل ذلك علـى الصفة التـي وصفنا فلا تبعة علـيه فـي أكله ذلك كذلك ولا حرج.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: إنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيـمٌ.
يعنـي بقوله تعالـى ذكره: إنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيـمٌ إن الله غفور إن أطعتـم الله فـي إسلامكم فـاجتنبتـم أكل ما حرّم علـيكم وتركتـم اتبـاع الشيطان فـيـما كنتـم تـحرّمونه فـي جاهلـيتكم, طاعة منكم للشيطان واقتفـاء منكم خطواته, مـما لـم أحرّمه علـيكم لـما سلف منكم فـي كفركم وقبل إسلامكم فـي ذلك من خطأ وذنب ومعصية, فصافح عنكم, وتارك عقوبتكم علـيه, رحيـم بكم إن أطعتـموه.
الآية : 174
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ الّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَـَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاّ النّارَ وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: إنّ الّذِينَ يَكْتُـمُون مَا أنْزَلَ الله مِنَ الكِتابِ أحبـار الـيهود الذين كتـموا الناس أمر مـحمد صلى الله عليه وسلم ونبوّته, وهم يجدونه مكتوبـا عندهم فـي التوراة بِرُشا كانوا أعطوها علـى ذلك. كما:
1978ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: إنّ الذِينَ يَكْتُـمُونَ ما أنْزَلَ اللّه مِنَ الكِتابِ الآية كلها: هم أهل الكتاب كتـموا ما أنزل الله علـيهم وبـين لهم من الـحق والهدى من بعث مـحمد صلى الله عليه وسلم وأمره.
1979ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: إنّ الّذِينَ يَكْتُـمُونَ ما أنْزَلَ اللّه مِنَ الكِتابِ وَيَشْتَرونَ بِهِ ثَمَنا قَلِـيلاً قال: هم أهل الكتاب كتـموا ما أنزل الله علـيهم من الـحق والإسلام وشأن مـحمد صلى الله عليه وسلم.
1980ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: إنّ الّذِينَ يَكْتُـمُونَ ما أنْزَلَ اللّه مِنَ الِكتابِ فهؤلاء الـيهود كتـموا اسم مـحمد صلى الله عليه وسلم.
1981ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة قوله: إنّ الّذِينَ يَكْتُـمُونَ ما أنْزَلَ اللّهُ مِن الكِتابِ والتـي فـي آل عمران: إنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وأيـمَانِهِم ثَمَنا قَلِـيلاً نزلتا جميعا فـي يهود.
وأما تأويـل قوله: وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنا قَلِـيلاً فإنه يعنـي: يبتاعون به. والهاء التـي فـي «به» من ذكر الكتـمان, فمعناه: ابتاعوا بكتـمانهم ما كتـموا الناس من أمر مـحمد صلى الله عليه وسلم وأمر نبوّته ثمنا قلـيلاً.
وذلك أن الذي كانوا يُعطون علـى تـحريفهم كتاب الله وتأويـلهموه علـى غير وجهه وكتـمانهم الـحق فـي ذلك, الـيسيرُ من عرض الدنـيا. كما:
1982ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنا قَلِـيلاً قال: كتـموا اسم مـحمد صلى الله عليه وسلم, وأخذوا علـيه طمعا قلـيلاً, فهو الثمن القلـيـل.
وقد بـينت فـيـما مضى صفة اشترائهم ذلك بـما أغنى عن إعادته ههنا.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: أُولَئِكَ ما يأكُلُونَ فِـي بُطونِهِمْ إلاّ النارَ وَلا يُكَلّـمُهُمُ اللّهُ يَومَ القِـيامَةِ وَلا يُزَكّيهِمْ وَلهُم عَذَابٌ ألِـيـم.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: أُولَئِكَ هؤلاء الذين يكتـمون ما أنزل الله من الكتاب فـي شأن مـحمد صلى الله عليه وسلم بـالـخسيس من الرشوة يعُطوْنها, فـيحرّفون لذلك آيات الله ويغيرون معانـيها. ما يأكُلُونَ فِـي بُطُونِهِم بأكلهم ما أكلوا من الرشا علـى ذلك والـجعالة وماأخذوا علـيه من الأجر إلاّ النّارِ, يعنـي إلا ما يوردهم النار ويصلـيهموها, كما قال تعالـى ذكره: إنّ الّذِينَ يَأكُلُونَ أمْوَالَ الَـيتامَى ظُلْـما إنّـمَا يَأكُلُونَ فِـي بُطُونِهِم نارا وَسَيَصْلوْنَ سَعِيرا معناه: ما يأكلون فـي بطونهم إلا ما يوردهم النار بأكلهم. فـاستغنى بذكر النار وفهم السامعين معنى الكلام عن ذكر ما يوردهم أو يدخـلهم.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
1983ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: أُولَئِكَ ما يَأكُلُونَ فِـي بُطونِهِمْ إلاّ النّار يقول: ما أخذوا علـيه من الأجر.
فإن قال قائل: فهل يكون الأكل فـي غير البطن فـيقال: ما يأكلون فـي بطونهم؟ قـيـل: قد تقول العرب جعت فـي غير بطنـي, وشبعت فـي غير بطنـي, فقـيـل فـي بطونهم لذلك كما يقال: فعل فلان هذا نفسه. وقد بـينا ذلك فـي غير هذا الـموضع فـيـما مضى.
وأما قوله: وَلا يُكَلّـمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ القِـيامَةِ يقول: ولا يكلـمهم بـما يحبون ويشتهون, فأما بـما يسوءهم ويكرهون فإنه سيكلـمهم لأنه قد أخبر تعالـى ذكره أنه يقول لهم إذا قالوا: رَبّنا أخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فإنّا ظالِـمُون قال: اخْسَئُوا فِـيها وَلا تُكَلّـمُون الاَيتـين.
وأما قوله: وَلا يُزَكّيهِمْ فإنه يعنـي: ولا يطهرهم من دنس ذنوبهم وكفرهم, وَلهُمْ عَذَابٌ ألِـيـم يعنـي موجع.
الآية : 175
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أُولَـَئِكَ الّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضّلاَلَةَ بِالْهُدَىَ وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النّارِ }
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: أُولَئِكَ الّذِينَ اشْتَرَوُا الضّلالَةَ بـالهُدَى أولئك الذين أخذوا الضلالة وتركوا الهدى, وأخذوا ما يوجب لهم عذاب الله يوم القـيامة وتركوا ما يوجب لهم غفرانه ورضوانه. فـاستغنى بذكر العذاب والـمغفرة من ذكر السبب الذي يوجبهما, لفهم سامعي ذلك لـمعناه والـمراد منه. وقد بـينا نظائر ذلك فـيـما مضى, وكذلك بـينا وجه: اشْتَرَوُا الضّلالَةَ بـالهُدَى بـاختلاف الـمختلفـين والدلالة الشاهدة بـما اخترنا من القول فـيـما مضى قبل فكرهنا إعادته.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَمَا أصْبَرَهُمْ علـى الّنار.
اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك, فقال بعضهم: معنى ذلك: فما أجرأهم علـى العمل الذي يقرّبهم إلـى النار. ذكر من قال ذلك:
1984ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: فَمَا أصْبَرَهُمْ علـى النّار يقول: فما أجرأهم علـى العمل الذي يقرّبهم إلـى النار.
1985ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: فَمَا أصْبَرَهُمْ علـى النّار يقول: فما أجرأهم علـيها.
1986ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: حدثنا هشيـم, عن بشر, عن الـحسن فـي قوله: فَمَا أصْبَرَهُمْ علـى النّارِ قال: والله ما لهم علـيها من صبر, ولكن ما أجرأهم علـى النار.
1987ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري, قال: حدثنا مسعر. وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو بكير, قال: حدثنا مسعر, عن حماد, عن مـجاهد أو سعيد بن جبـير أو بعض أصحابه: فَمَا أصْبَرَهُمْ علـى النّارِ ما أجرأهم.
1988ـ حدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع قوله: فَمَا أصْبَرَهُمْ علـى النّارِ يقول: ما أجرأهم وأصبرهم علـى النار.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فما أعملهم بأعمال أهل النار. ذكر من قال ذلك:
1989ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: فَمَا أصْبَرَهُمْ علـى النّارِ قال: ما أعملهم بـالبـاطل.
1990ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد مثله.
واختلفوا فـي تأويـل ما التـي فـي قوله: فَمَا أصْبَرَهُمْ علـى النّارِ فقال بعضهم: هي بـمعنى الاستفهام, وكأنه قال: فما الذي صبرهم, أيّ شيء صبرهم؟ ذكر من قال ذلك:
1991ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: فَمَا أصْبَرَهُمْ علـى النّار هذا علـى وجه الاستفهام, يقول: ما الذي أصبرهم علـى النار.
1992ـ حدثنـي عبـاس بن مـحمد, قال: حدثنا حجاج الأعور, قال: أخبرنا ابن جريج, قال: قال لـي عطاء: فَمَا أصْبَرَهُمْ علـى النّارِ قال: ما يصبرهم علـى النار حين تركوا الـحق واتبعوا البـاطل.
1993ـ حدثنا أبو كريب, قال: سئل أبو بكر بن عياش: فَمَا أصْبَرَهُمْ علـى النّارِ قال: هذا استفهام, ولو كانت من الصبر قال: «فما أصبرُهم» رفعا, قال: يقال للرجل: «ما أصبرك», ما الذي فعل بك هذا؟
1994ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: فَمَا أصْبَرَهُمْ علـى النّارِ قال: هذا استفهام, يقول: ما هذا الذي صبرهم علـى النار حتـى جرأهم فعملوا بهذا؟
وقال آخرون: هو تعجب, يعنـي: فما أشد جراءتهم علـى النار بعملهم أعمال أهل النار ذكر من قال ذلك:
1995ـ حدثنا سفـيان بن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن ابن عيـينة, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: فَمَا أصْبَرَهُمْ علـى النّارِ قال: ما أعملهم بأعمال أهل النار. وهو قول الـحسن وقتادة, وقد ذكرناه قبل.
فمن قال هو تعجب, وجه تأويـل الكلام إلـى: أولئك الذين اشتروا الضلالة بـالهدى والعذب بـالـمغفرة فما أشدّ جراءتهم بفعلهم ما فعلوا من ذلك علـى ما يوجب لهم النار, كما قال تعالـى ذكره: قُتِلَ الإنْسانُ ما أكْفَرَهُ تعجبـا من كفره بـالذي خـلقه وسوّى خـلقه.
فأما الذين وجهوا تأويـله إلـى الاستفهام فمعناه: هؤلاء الذين اشتروا الضلالة بـالهدى والعذاب بـالـمغفرة فما أصْبَرَهم علـى النار والنار لا صبر علـيها لأحد حتـى استبدلوها بـمغفرة الله فـاعتاضوها منها بدلاً؟.
وأولـى هذه الأقوال بتأويـل الآية قول من قال: ما أجرأهم علـى النار, بـمعنى: ما أجرأهم علـى عذاب النار, وأعملهم بأعمال أهلها وذلك أنه مسموع من العرب: ما أصبر فلانا علـى الله, بـمعنى: ما أجرأ فلانا علـى الله وإنـما يعجب الله خـلقه بإظهار الـخبر عن القوم الذين يكتـمون ما أنزل الله تبـارك وتعالـى من أمر مـحمد صلى الله عليه وسلم ونبوّته, واشترائهم بكتـمان ذلك ثمنا قلـيلاً من السحت والرشا التـي أعطوها علـى وجه التعجب من تقدمهم علـى ذلك مع علـمهم بأن ذلك موجب لهم سخط الله وألـيـم عقابه.
وإنـما معنى ذلك: «فما أجرأهم علـيّ عذاب النار» ولكن اجتزىء بذكر النار من ذكر عذابها كما يقال: ما أشبه سخاءك بحاتـم, بـمعنى: ما أشبه سخاءك بسخاء حاتـم, وما أشبه شجاعتك بعنترة.
الآية : 176
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ذَلِكَ بِأَنّ اللّهَ نَزّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ وَإِنّ الّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ }
أما قوله: ذَلِكَ بأنّ اللّهَ نَزّلَ الكِتابَ بـالـحَقّ فإنه اختلف فـي الـمعنـيّ ب«ذلك», فقال بعضهم: معنِـيّ «ذلك» فعلهم هذا الذي يفعلون من جراءتهم علـى عذاب النار فـي مخالفتهم أمر الله وكتـمانهم الناس ما أنزل الله فـي كتابه وأمرهم ببـيانه لهم من أمر مـحمد صلى الله عليه وسلم وأمر دينه, من أجل أن الله تبـارك تعالـى نزل الكتاب بـالـحق, وتنزيـله الكتاب بـالـحق هو خبره عنهم فـي قوله لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: إنّ الّذينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَـيْهِمْ أأنْذَرْتَهُمْ أمْ لَـمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَـمَ اللّهُ علـى قُلُوبِهِمْ وَعَلـى سَمْعِهِمْ وَعلـى أبْصَارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلهُمْ عَذَابٌ عَظِيـم فهم مع ما أخبر الله عنهم من أنهم لا يؤمنون لا يكون منهم غير اشتراء الضلالة بـالهدى والعذاب بـالـمغفرة.
وقال آخرون: معناه ذلك معلوم لهم بأن الله نزل الكتاب بـالـحق لأنا قد أخبرنا فـي الكتاب أن ذلك لهم والكتاب حق. كأن قائلـي هذا القول كان تأويـل الآية عندهم ذلك العذاب الذي قال الله تعالـى ذكره: فما أصبرهم علـيه, معلوم أنه لهم, لأن الله قد أخبر فـي مواضع من تنزيـله أن النار للكافرين, وتنزيـله حق, فـالـخبر عن ذلك عندهم مضمر.
وقال آخرون: معنى ذلك أن الله وصف أهل النار فقال: فَمَا أصْبَرَهُمْ علـى النّارِ ثم قال: هذا العذاب بكفرهم, و«هذا» ههنا عندهم هي التـي يجوز مكانها «ذلك» كأنه قال: فعلنا ذلك بأن الله نزّل الكتاب بـالـحق فكفروا به, قال: فـيكون «ذلك» إذا كان ذلك معناه نصبـا ويكون رفعا بـالبـاء.
وأولـى الأقوال بتأويـل الآية عندي: أن الله تعالـى ذكره أشار بقوله ذلك إلـى جميع ما حواه قوله: إنّ الّذِينَ يَكْتُـمُونَ ما أنْزَلَ اللّهُ مِنَ الكِتابِ إلـى قوله: ذَلِكَ بأنّ اللّهَ نَزّلَ الكِتابَ بـالـحَقّ من خبره عن أفعال أحبـار الـيهود وذكره ما أعدّ لهم تعالـى ذكره من العقاب علـى ذلك, فقال: هذا الذي فعلته هؤلاء الأحبـار من الـيهود بكتـمانهم الناس ما كتـموا من أمر مـحمد صلى الله عليه وسلم ونبوّته مع علـمهم به طلبـا منهم لعرض من الدنـيا خسيس, وبخلافهم أمري وطاعتـي, وذلك من تركي تطهيرهم وتزكيتهم وتكلـيـمهم, وإعدادي لهم العذاب الألـيـم بأنـي أنزلت كتابـي بـالـحق فكفروا به واختلفوا فـيه. فـيكون فـي «ذلك» حينئذٍ وجهان من الإعراب: رفع ونصب, والرفع بـالبـاء, والنصب بـمعنى: فعلت ذلك بأنـي أنزلت كتابـي بـالـحق فكفروا به واختلفوا فـيه وترك ذكر: «فكفروا به واختلفوا» اجتزاء بدلالة ما ذكر من الكلام علـيه.
وأما قوله: وَإنّ الّذِينَ اخْتَلَفُوا فِـي الكِتابِ لَفِـي شِقاقٍ بَعِيد يعنـي بذلك الـيهود والنصارى, اختلفوا فـي كتاب الله فكفرت الـيهود بـما قصّ الله فـيه من قصص عيسى ابن مريـم وأمه, وصدقت النصارى ببعض ذلك وكفروا ببعضه, وكفروا جميعا بـما أنزل الله فـيه من الأمر بتصديق مـحمد صلى الله عليه وسلم. فقال لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: إن هؤلاء الذين اختلفوا فـيـما أنزلت إلـيك يا مـحمد لفـي منازعة ومفـارقة للـحق بعيدة من الرشد والصواب, كما قال الله تعالـى ذكره: فإنْ آمَنُوا بِـمِثْل ما آمَنْتُـمْ بِه فَقَد اهْتَدَوْا وَإنْ تَوَلّوْا فـانّـمَا هُمْ فِـي شِقاق. كما:
1996ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: وَإنّ الّذِينَ اخْتَلَفُوا فـي الكِتابِ لَفـي شِقاقِ بَعِيد يقول: هم الـيهود والنصارى. يقول: هم فـي عداوة بعيدة. وقد بـينت معنى الشقاق فـيـما مضى. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله ذلك, فقال بعضهم: معنى ذلك: لـيس البرّ الصلاة وحدها, ولكن البرّ الـخصال التـي أبـينها لكم