تفسير الطبري تفسير الصفحة 25 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 25
026
024
 الآية : 164
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللّيْلِ وَالنّهَارِ وَالْفُلْكِ الّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النّاسَ وَمَآ أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السّمَآءِ مِن مّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثّ فِيهَا مِن كُلّ دَآبّةٍ وَتَصْرِيفِ الرّيَاحِ وَالسّحَابِ الْمُسَخّرِ بَيْنَ السّمَآءِ وَالأرْضِ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }
اختلف أهل التأويـل فـي السبب الذي من أجله أنزل الله تعالـى ذكره هذه الآية علـى نبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم. فقال بعضهم: أنزلها علـيه احتـجاجا له علـى أهل الشرك به من عبدة الأوثان, وذلك أن الله تعالـى ذكره لـما أنزل علـى نبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: وإلهُكُمْ إلهٌ وَاحِدٌ لا إلهَ إلاّ هُوَ الرّحْمَنُ الرّحِيـمُ فتلا ذلك علـى أصحابه, وسمع به الـمشركون من عبدة الأوثان, قال الـمشركون: وما الـحجة والبرهان علـى أن ذلك كذلك, ونـحن ننكر ذلك, ونـحن نزعم أن لنا آلهة كثـيرة؟ فأنزل الله عند ذلك: إنّ فـي خَـلْق السّمَوات وَالأرْض احتـجاجا لنبـيه صلى الله عليه وسلم علـى الذين قالوا ما ذكرنا عنهم. ذكر من قال ذلك:
1893ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن عطاء, قال: نزل علـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم بـالـمدينة: وَإلهُكُمْ إلهٌ وَاحِدٌ لا إلهَ إلاّ هُوَ الرّحْمَنُ الرّحِيـمُ فقال كفـار قريش بـمكة: كيف يسع الناس إله واحد؟ فأنزل الله تعالـى ذكره: إنّ فِـي خَـلْقِ السّمَوَاتِ والأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللّـيْـلِ وَالنّهَارِ إلـى قوله: لاَياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فبهذا يعلـمون أنه إله واحد, وأنه إله كل شيء وخالق كل شيء.
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية علـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم من أجل أن أهل الشرك سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم (آيةً), فأنزل الله هذه الآية يعلـمهم فـيها أن لهم فـي خـلق السمَوات والأرض وسائر ما ذكر مع ذلك آية بـينة علـى وحدانـية الله, وأنه لا شريك له فـي ملكه لـمن عقل وتدبر ذلك بفهم صحيح. ذكر من قال ذلك:
1894ـ حدثنا سفـيان بن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, عن أبـيه, عن أبـي الضحى, قال: لـما نزلت: وَإلهُكُمْ إلهٌ وَاحِدٌ لا إلهَ إلاّ هُوَ الرّحْمَنُ الرّحِيـمُ قال الـمشركون: إن كان هذا هكذا فلـيأتنا بآية فأنزل الله تعالـى ذكره: إن فـي خَـلْقِ السّمَواتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللّـيْـلِ والنّهَارِ... الآية.
1895ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج, حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, قال: حدثنـي سعيد بن مسروق, عن أبـي الضحى, قال: لـما نزلت وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إلاّ هُوَ الرّحْمَنُ الرّحِيـم قال الـمشركون: إن كان هذا هكذا فلـيأتنا بآية فأنزل الله تعالـى ذكره إن فـي خَـلْق السّمَوَات والأَرْض وَاخْتِلاف اللّـيْـلِ وَالنّهار... الآية.
1896ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, قال: حدثنـي سعيد بن مسروق, عن أبـي الضحى, قال: لـما نزلت هذه الآية جعل الـمشركون يعجبون ويقولون: تقول إلهكم إله واحد, فلتأتنا بآية إن كنت من الصادقـين فأنزل الله: إنّ فِـي خَـلْقِ السّمَوَاتِ والأرضِ وَاخْتِلاَفِ اللّـيْـلِ وَالنّهَارِ... الآية.
1897ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج عن عطاء بن أبـي ربـاح: أن الـمشركين قالوا للنبـيّ صلى الله عليه وسلم: أرنا آية فنزلت هذه الآية: إنّ فِـي خَـلْقِ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ.
1898ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب القمي, عن جعفر, عن سعيد, قال: سألت قريش الـيهود, فقالوا: حدثونا عما جاءكم به موسى من الاَيات فحدثوهم بـالعصا وبـيده البـيضاء للناظرين, وسألوا النصارى عما جاءهم به عيسى من الاَيات, فأخبروهم أنه كان يبرىء الأكمه والأبرص ويحيـي الـموتـى بإذن الله. فقالت قريش عند ذلك للنبـيّ صلى الله عليه وسلم: ادع الله أن يجعل لنا الصفـا ذهبـا فنزداد يقـينا, ونتقوّى به علـى عدوّنا فسأل النبـيّ صلى الله عليه وسلم ربه, فأوحى إلـيه: إنـي معطيهم, فأجعل لهم الصفـا ذهبـا, ولكن إن كذبوا عذّبتهم عذابـا لـم أعذبه أحدا من العالـمين. فقال النبـيّ صلى الله عليه وسلم: «ذَرْنِـي وَقَوْمِي فَأدْعُوَهُمْ يَوْما بِـيَوْم» فأنزل الله علـيه: إنّ فِـي خَـلْقِ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ الآية, إن فـي ذلك لاَية لهم, إن كانوا إنـما يريدون أن أجعل لهم الصفـا ذهبـا, فخـلق الله السمَوات والأرض واختلاف اللـيـل والنّهار أعظم من أن أجعل لهم الصفـا ذهبـا لـيزدادوا يقـينا.
1899ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: إنّ فِـي خَـلْقِ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللّـيْـلِ وَالنّهَارِ فقال الـمشركون للنبـيّ صلى الله عليه وسلم: غيّر لنا الصفـا ذهبـا إن كنت صادقا أنه منه فقال الله: إن فـي هذه الاَيات لاَيات لقوم يعقلون. وقال: قد سأل الاَيات قوم قبلكم, ثم أصبحوا بها كافرين.
والصواب من القول فـي ذلك, أن الله تعالـى ذكره نبه عبـاده علـى الدلالة علـى وحدانـيته وتفرّده بـالألوهية دون كل ما سواه من الأشياء بهذه الآية. وجائز أن تكون نزلت فـيـما قاله عطاء, وجائز أن تكون فـيـما قاله سعيد بن جبـير وأبو الضحى, ولا خبر عندنا بتصحيح قول أحد الفريقـين يقطع العذر فـيجوز أن يقضي أحد لأحد الفريقـين بصحة قول علـى الاَخر. وأيّ القولـين كان صحيحا فـالـمراد من الآية ما قلت.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: إنّ فِـي خَـلْقِ السّمَوَاتِ والأرْضِ.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: إنّ فِـي خَـلْقِ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ إن فـي إنشاء السمَوات والأرض وابتداعهما. ومعنى خـلق الله الأشياء: ابتداعه وإيجاده إياها بعد أن لـم تكن موجودة.
وقد دللنا فـيـما مضى علـى الـمعنى الذي من أجله قـيـل «الأرض» ولـم تـجمع كما جمعت السموات, فأغنى ذلك عن إعادته.
فإن قال لنا قائل: وهل للسموات والأرض خـلق هو غيرها فـيقال: إن فـي خـلق السموات والأرض؟ قـيـل: قد اختلف فـي ذلك, فقال بعض الناس: لها خـلق هو غيرها, واعتلوا فـي ذلك بهذه الآية, وبـالتـي فـي سورة الكهف: مَا أشْهَدْتُهُمْ خَـلْقَ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَلاَ خَـلْقَ أنْفُسِهِمْ وقالوا: لـم يخـلق الله شيئا إلا والله له مريد. قالوا: فـالأشياء كانت بإرادة الله, والإردة خـلقٌ لها.
وقال آخرون: خـلق الشيء صفة له, لا هي هو ولا غيره. قالوا: لو كان غيره لوجب أن يكون مثله موصوفـا. قالوا: ولو جاز أن يكون خـلقه غيره وأن يكون موصوفـا لوجب أن تكون له صفة هي له خـلق, ولو وجب ذلك كذلك لـم يكن لذلك نهاية. قالوا: فكان معلوما بذلك أنه صفة للشيء. قالوا: فخـلق السمَوات والأرض صفة لهما علـى ما وصفنا. واعتلوا أيضا بأن للشيء خـلقا لـيس هو به من كتاب الله بنـحو الذي اعتلّ به الأوّلون.
وقال آخرون: خـلق السمَوات والأرض وخـلق كل مخـلوق, هو ذلك الشيء بعينه لا غيره.
فمعنى قوله: إنّ فِـي خَـلْقِ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ: إن فـي السموات والأرض.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَاخْتِلاَفِ اللّـيْـلِ وَالنّهَارِ.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وَاخْتِلاَفِ اللّـيْـلِ وَالنّهَارِ وتعاقب اللـيـل والنهار علـيكم أيها الناس. وإنـما الاختلاف فـي هذا الـموضع الافتعال من خُـلوف كل واحد منهما الاَخر, كما قال تعالـى ذكره: وَهُوَ الّذِي جَعَلَ اللّـيْـلَ وَالنّهَارَ خِـلْفَةً لِـمَنْ أرَادَ أنْ يَذّكّرَ أوْ أرَادَ شُكُورا بـمعنى: أن كل واحد منهما يخـلف مكان صاحبه, إذا ذهب اللـيـل جاء النهار بعده, وإذا ذهب النهار جاء اللـيـل خـلفه ومن ذلك قـيـل: خـلف فلان فلانا فـي أهله بسوء, ومنه قول زهير:
بها العِينُ والاَرَامُ يَـمْشِينَ خِـلْفَةًوأطْلاؤُها يَنْهَضْنَ مِنْ كُلّ مَـجْثِم
وأما اللـيـل فإنه جمع لـيـلة, نظير التـمر الذي هو جمع تـمرة, وقد يجمع لـيال فـيزيدون فـي جمعها ما لـم يكن فـي واحدتها. وزيادتهم الـياء فـي ذلك نظير زيادتهم إياها فـي ربـاعية وثمانـية وكراهية. وأما النهار فإن العرب لا تكاد تـجمعه لأنه بـمنزلة الضوء, وقد سمع فـي جمعه «النّهُر» قال الشاعر:
لَوْلا الثّريدَان هَلَكْنا بـالضّمُرْثَريدُ لَـيْـلٍ وَثَريدٌ بـالنّهُرْ
ولو قـيـل فـي جمع قلـيـله أنهرة كان قـياسا.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَالفُلْكِ الّتِـي تَـجْرِي فِـي البَحْرِ بِـمَا يَنْفَعُ النّاسَ.
يعنـي تعالـى ذكره: إن فـي الفلك التـي تـجري فـي البحر. والفلك هو السفن, واحده وجمعه بلفظ واحد, ويذكر ويؤنث, كما قال تعالـى ذكره فـي تذكيره فـي آية أخرى: وآيَةٌ لَهُمْ أنّا حَمَلْنَا ذُرّيّتَهُمْ فِـي الفُلْكِ الـمَشْحُون فذكره, وقد قال فـي هذه الآية: وَالفُلْكِ الّتـي تَـجْرِي فِـي البَحْرِ وهي مُـجراة, لأنها إذا أجريت فهي الـجارية, فأضيف إلـيها من الصفة ما هو لها.
وأما قوله: بِـمَا يَنْفَعُ النّاسَ فإن معناه: ينفع الناس فـي البحر.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَما أنْزَلَ الّلهُ مِنَ السماءِ مِنْ ماءٍ فأحيا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتها.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وَما أنْزَلَ اللّهُ مِنَ السّماءِ مِنْ ماءٍ وفـيـما أنزله الله من السماء من ماء, وهو الـمطر الذي ينزله الله من السماء.
وقوله: فَأحيْا بِهِ الأرْضَ بَعَدْ مَوْتِها وإحياؤها: عمارتها وإخراج نبـاتها, والهاء التـي فـي «به» عائدة علـى الـماء والهاء والألف فـي قوله: بَعْدَ مَوْتها علـى الأرض, وموت الأرض: خرابها ودثور عمارتها, وانقطاع نبـاتها الذي هو للعبـاد أقوات وللأنام أرزاق.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَبَثّ فِـيها مِنْ كُلّ دابّة.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وَبَثّ فِـيها مِنْ كُلّ دابّةٍ وإن فـيـما بثّ فـي الأرض من دابة. ومعنى قوله: وبَثّ فِـيها وفرّق فـيها, من قول القائل: بثّ الأمير سراياه: يعنـي فرّق. والهاء والألف فـي قوله: «فِـيها» عائدتان علـى الأرض. والدابة الفـاعلة من قول القائل دبت الدابة تدبّ دبـيبـا فهي دابة, والدابة اسم لكل ذي روح كان غير طائر بجناحيه لدبـيبه علـى الأرض.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَتَصرِيف الرّياحِ.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وَتَصْرِيفُ الرّياحِ وفـي تصريفه الرياح, فأسقط ذكر الفـاعل وأضاف الفعل إلـى الـمفعول, كما قال: يعجبنـي إكرام أخيك, يريد إكرامك أخاك وتصريف الله إياها: أن يرسلها مرة لواقح, ومرة يجعلها عقـيـما, ويبعثها عذابـا تدمر كل شيء بأمر ربها. كما:
1900ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: وَتَصْريف الرّياحِ والسحاب الـمُسَخّرِ قال: قادر والله ربنا علـى ذلك, إذا شاء جعلها عذابـا ريحا عقـيـما لا تلقح, إنـما هي عذاب علـى من أرسلت علـيه.
وزعم بعض أهل العربـية أن معنى قوله: وَتَصْرِيفِ الرّياحِ أنها تأتـي مرّة جنوبـا وشمالاً وقَبُولاً ودَبُورا ثم قال: وذلك تصريفها. وهذه الصفة التـي وصف الرياح بها صفة تصرّفها لا صفة تصريفها, لأن تصريفها تصريف الله لها, وتصرّفها اختلاف هبوبها. وقد يجوز أن يكون معنى قوله: وَتَصَرْيفِ الرّياحِ تصريف الله تعالـى ذكره هبوب الرياح بـاختلاف مهابّها.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَالسّحابِ الـمُسّخّرِ وَبَـيْنَ السّماءِ والأْرضِ لاَِيات لِقَوْمٍ يْعَقِلُونَ.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله وَالسّحابِ الـمُسّخّرِ وفـي السحاب جمع سحابة, يدل علـى ذلك قوله تعالـى ذكره: وَيُنْشِىءُ السّحابَ الثّقالَ فوحد الـمسخر وذكّره, كما قال: هذه تـمرة وهذا تـمر كثـير فـي جمعه, وهذه نـخـلة وهذا نـخـل. وإنـما قـيـل للسحاب سحاب إن شاء الله لـجرّ بعضه بعضا وسحبه إياه, من قول القائل: مرّ فلان يجرّ ذيـله: يعنـي يسحبه. فأما معنى قوله: لاَياتٍ فإنه علامات ودلالات علـى أن خالق ذلك كله ومنشئه إله واحد, لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ لـمن عقل مواضع الـحجج وفهم عن الله أدلته علـى وحدانـيته.
فأعلـم تعالـى ذكره عبـاده بأن الأدلة والـحجج إنـما وضعت معتبرا لذوي العقول والتـميـيز دون غيرهم من الـخـلق, إذ كانوا هم الـمخصوصين بـالأمر والنهي, والـمكلفـين بـالطاعة والعبـادة, ولهم الثواب وعلـيهم العقاب.
فإن قال قائل: وكيف احتـجّ علـى أهل الكفر بقوله: إنّ فِـي خَـلْق السّمَوَات والأرْضِ وَاخْتِلاف اللّـيْـلِ وَالنّهاِر الآية فـي توحيد الله, وقد علـمت أن أصنافـا من أصناف الكفرة تدفع أن تكون السموات والأرض وسائر ما ذكر فـي هذه الآية مخـلوقة؟ قـيـل: إن إنكار من أنكر ذلك غير دافع أن يكون جميع ما ذكر تعالـى ذكره فـي هذه الآية دلـيلاً علـى خالقه وصانعه, وأن له مدبرا لا يشبهه (شيء), وبـارئا لا مثل له. وذلك وإن كان كذلك, فإن الله إنـما حاجّ بذلك قوما كانوا مقرّين بأن الله خالقهم, غير أنهم يشركون فـي عبـادته عبـادة الأصنام والأوثان فحاجّهم تعالـى ذكره فقال إذ أنكروا قوله: وَإلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ وزعموا أن له شركاء من الاَلهة: إن إلهكم الذي خـلق السموات, وأجرى فـيها الشمس والقمر لكم بأرزاقكم دائبـين فـي سيرهما, وذلك هو معنى اختلاف اللـيـل والنهار فـي الشمس والقمر, وذلك هو معنى قوله: وَالفُلْكِ الّتِـي تَـجْرِي فـي البَحْر بـمَا يَنْفَعُ النّاسَ وأنزل إلـيكم الغيث من السماء, فأخصب به جَنَابكم بعد جدوبه, وأمرعه بعد دثوره, فنَعَشكم به بعد قنوطكم, وذلك هو معنى قوله: وَما أنْزَلَ اللّهُ مِنَ السّماءِ مِنْ ماءٍ فأحيْا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتها. وسخر لكم الأنعام فـيها لكم مطاعم ومآكل, ومنها جمال ومراكب, ومنها أثاث وملابس, وذلك هو معنى قوله: وَبَثّ فِـيها مِنْ كُلّ دابّةٍ. وأرسل لكم الرياح لواقح لأشجار ثماركم وغذائكم وأقواتكم, وسير لكم السحاب الذي بوَدْقه حياتكم وحياة نَعَمكم ومواشيكم وذلك هو معنى قوله: وَتَصْرِيفِ الرّياحِ وَالسّحابِ الـمُسَخّر بَـيْنَ السّماءِ والأرْضِ.
فأخبرهم أن إلههم هو الله الذي أنعم علـيهم بهذه النعم, وتفرّد لهم بها. ثم قال: هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ فتشركوه فـي عبـادتكم إياي, وتـجعلوه لـي ندّا وعِدلاً؟ فإن لـم يكن من شركائكم من يفعل ذلكم من شيء, ففـي الذي عددت علـيكم من نعمتـي وتفرّدت لكم بأياديّ دلالات لكم إن كنتـم تعقلون مواقع الـحق والبـاطل والـجور والإنصاف, وذلك أنـي لكم بـالإحسان إلـيكم متفرّد دون غيري, وأنتـم تـجعلون لـي فـي عبـادتكم إياي أندادا. فهذا هو معنى الآية.
والذين ذُكّروا بهذه الآية واحتـجّ علـيهم بها هم القوم الذين وصفت صفتهم دون الـمعطلة والدهرية, وإن كان فـي أصغر ما عدّ الله فـي هذه الآية من الـحجج البـالغة, الـمُقْنَعُ لـجميع الأنام, تركنا البـيان عنه كراهة إطالة الكتاب بذكره.
الآية : 165
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:ق
{وَمِنَ النّاسِ مَن يَتّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبّونَهُمْ كَحُبّ اللّهِ وَالّذِينَ آمَنُواْ أَشَدّ حُبّاً للّهِ وَلَوْ يَرَى الّذِينَ ظَلَمُوَاْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنّ الْقُوّةَ للّهِ جَمِيعاً وَأَنّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ }
يعنـي تعالـى ذكره بذلك: أن من الناس من يتـخذ من دون الله أندادا له, وقد بـينا فـيـما مضى أن الند العدل بـما يدل علـى ذلك من الشواهد فكرهنا إعادته, وأن الذين اتـخذوا هذه الأنداد من دون الله يحبون أندادهم كحب الـمؤمنـين الله, ثم أخبرهم أن الـمؤمنـين أشد حبّـا لله من متـخذي هذه الأنداد لأندادهم.
واختلف أهل التأويـل فـي الأنداد التـي كان القوم اتـخذوها وما هي؟ فقال بعضهم: هي آلهتهم التـي كانوا يعبدونها من دون الله. ذكر من قال ذلك. 1901ـ حدثنا بشر بن معاذ, حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة قوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَتّـخِذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أنْدَادا يُحِبّونَهُمْ كَحُبّ اللّهِ وَالّذِينَ آمَنُوا أشَدّ حُبّـا لِلّهِ من الكفـار لأوثانهم.
1902ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله تعالـى ذكره: يُحِبوّنَهُمْ كَحُبّ اللّهِ مبـاهاة ومضاهاة للـحق بـالأنداد. وَالّذينَ آمنُوا أشدّ حبّـا للّهِ من الكفـار لأوثانهم.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
1903ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع قوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَتّـخِذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أنْدَادا يُحِبّونَهُمْ كَحُبّ اللّهِ قال: هي الاَلهة التـي تعبد من دون الله. يقول: يحبون أوثانهم كَحبّ اللّهِ وَالّذينَ آمنُوا أشدّ حبّـا لِلّهِ, أي من الكفـار لأوثانهم.
1904ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَتّـخِذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أنْدَادا يُحِبّوَنُهمْ كَحُبّ اللّهِ قال: هؤلاء الـمشركون أندادهم آلهتهم التـي عبدوا مع الله يحبونهم كما يحبّ الذين آمنوا الله, والّذينَ آمنُوا أشدّ حبّـا لِلّهِ من حبهم هم آلهتهم.
وقال آخرون: بل الأنداد فـي هذا الـموضع إنـما هم سادتهم الذين كانوا يطيعونهم فـي معصية الله تعالـى ذكره. ذكر من قال ذلك:
1905ـ حدثنـي موسى, قال: (حدثنا عمرو, قال:) حدثنا أسبـاط, عن السدي: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَتّـخِذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أنْدادا يُحِبّونَهُمْ كَحُبّ اللّهِ قال: الأنداد من الرجال يطيعونهم كما يطيعون الله إذا أمروهم أطاعوهم وعصوا الله.
فإن قال قائل: وكيف قـيـل كحبّ الله, وهل يحبّ الله الأنداد؟ وهل كان متـخذو الأنداد يحبون الله فـيقال يحبونهم كحبّ الله؟ قـيـل: إن معنى ذلك بخلاف ما ذهبتَ إلـيه, وإنـما نظير ذلك قول القائل: بعت غلامي كبـيع غلامك, بـمعنى: بعته كما بـيع غلامك وكبـيعك غلامك, واستوفـيت حقـي منه استـيفـاء حقك, بـمعنى: استـيفـائك حقك. فتـحذف من الثانـي كناية اسم الـمخاطب اكتفـاء بكنايته فـي «الغلام» و«الـحق», كما قال الشاعر:
فَلَسْتُ مُسَلّـما ما دُمْتُ حَيّاعَلـى زَيْدٍ بِتَسْلِـيـمِ الأمِيرِ
يعنـي بذلك: كما يُسَلّـم علـى الأمير.
فمعنى الكلام إذا: ومن الناس من يتـخذ أيها الـمؤمنون من دون الله أندادا يحبونهم كحبّ الله.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلَوْ يَرَى الّذِينَ ظَلَـمُوا إذْ يَرَوْنَ العَذَابَ أن القُوةَ لِلّهِ جَمِيعا وأنّ اللّهَ شَدِيدُ العَذَابِ.
اختلفت القراء فـي قراءة ذلك, فقرأه عامة أهل الـمدينة والشام: وَلَوْ تَرَى الّذِينَ ظَلَـمُوا بـالتاء إذْ يَروْنَ العَذَابِ بـالـياء أن القُوةَ لِلّهِ جَمِيعا وأن اللّهَ شَدِيدُ العَذَابِ بفتـح «أن» و«أن» كلتـيهما, بـمعنى: ولو ترى يا مـحمد الذين كفروا وظلـموا أنفسهم حين يرون عذاب الله ويعاينونه, أن القوة لله جميعا, وأن الله شديد العذاب. ثم فـي نصب «أن» و«أن» فـي هذه القراءة وجهان: أحدهما أن تفتـح بـالـمـحذوف من الكلام الذي هو مطلوب فـيه فـيكون تأويـل الكلام حينئذ: ولو ترى يا مـحمد الذين ظلـموا إذْ يرون عذاب الله لأقرّوا. ومعنى ترى: تبصر أن القوّة لله جميعا, وأن الله شديد العذاب. ويكون الـجواب حينئذ إذ فتـحت «أن» علـى هذا الوجه متروكا قد اكتفـي بدلالة الكلام علـيه, ويكون الـمعنى ما وصفت. فهذا أحد وجهي فتـح أن علـى قراءة من قرأ: وَلَوْ تَرَى بـالتاء.
والوجه الاَخر فـي الفتـح, أن يكون معناه: ولو ترى يا مـحمد إذ يرى الذين ظلـموا عذاب الله, لأن القوّة لله جميعا, وأن الله شديد العذاب, لعلـمت مبلغ عذاب الله. ثم تـحذف اللام فتفتـح بذلك الـمعنى لدلالة الكلام علـيها.
وقرأ ذلك آخرون من سلف القرّاء: وَلَوْ تَرَى الّذِينَ ظَلَـمُوا إذْ يَرَوْنَ العَذَابَ إن القُوةَ لِلّهِ جَمِيعا وَإنّ اللّهَ شَدِيدُ العَذَابِ بـمعنى: ولو ترى يا مـحمد الذين ظلـموا حين يعاينوا عذاب الله لعلـمت الـحال التـي يصيرون إلـيها. ثم أخبر تعالـى ذكره خبرا مبتدأ عن قدرته وسلطانه بعد تـمام الـخبر الأول, فقال: إن القوة لله جميعا فـي الدنـيا والاَخرة دون من سواه من الأنداد والاَلهة, وإن الله شديد العذاب لـمن أشرك به وأدّعى معه شركاء وجعل له ندّا.
وقد يحتـمل وجها آخر فـي قراءة من كسر «إن» فـي «ترى» بـالتاء, وهو أن يكون معناه: ولو ترى يا مـحمد الذين ظلـموا إذ يرون العذاب, يقولون: إن القوّة لله جميعا, وإن الله شديد العذاب. ثم تـحذف القول وتكتفـي منه بـالـمقول.
وقرأ ذلك آخرون: وَلَوْ يَرَى الّذِينَ ظَلَـمُوا بـالـياء إذْ يَرَوْنَ العَذَابَ أنّ القوّة لله جميعا وأنّ الله شَدِيدُ العَذَابِ بفتـح الألف من أنّ وأن, بـمعنى: ولو يرى الذين ظلـموا عذاب الله الذي أعدّ لهم فـي جهنـم لعلـموا حين يرونه فـيعاينونه أن القوّة لله جميعا وأن الله شديد العذاب, إذ يرون العذاب. فتكون «أن» الأولـى منصوبة لتعلقها بجواب «لو» الـمـحذوف, ويكون الـجواب متروكا, وتكون الثانـية معطوفة علـى الأولـى وهذه قراءة عامة القرّاء الكوفـيـين والبصريـين وأهل مكة.
وقد زعم بعض نـحويـي البصرة أن تأويـل قراءة من قرأ: وَلَوْ يَرَى الّذِينَ ظَلَـمُوا إذْ يَرَوْنَ العَذَابَ أن القُوّةَ لِلّهِ جَمِيعا وأنّ اللّهَ شَدِيدُ العَذَابِ بـالـياء فـي يرى وفتـح الألفـين فـي «أن» و«أن»: ولو يعلـمون, لأنهم لـم يكونوا علـموا قدر ما يعاينون من العذاب. وقد كان النبـيّ صلى الله عليه وسلم علـم, فإذا قال: «ولو ترى», فإنـما يخاطب النبـيّ صلى الله عليه وسلم. ولو كسر «إن» علـى الابتداء إذا قال: «ولو يرى» جاز, لأن «لو يرى»: لو يعلـم, وقد يكون «لو يعلـم» فـي معنى لا يحتاج معها إلـى شيء, تقول للرجل: أما والله لو يعلـم ولو تعلـم, كما قال الشاعر:
إنْ يَكُنْ طِبّكِ الدّلالُ فَلَوْ فِـيسالِفِ الدّهْرِ وَالسّنِـينَ الـخَوَالـي
هذا لـيس له جواب إلا فـي الـمعنى, وقال الشاعر:
وبِخَطَ مِـمّا نَعِيشُ وَلا تَذْهَبْ بِكَ التّرّهاتُ فِـي الأهْوَالِ
فأضمر «عش».
قال: وقال بعضهم: «ولو ترى» وفتـح «أنّ» علـى «ترى» ولـيس بذلك, لأن النبـيّ صلى الله عليه وسلم يعلـم, ولكن أراد أن يعلـم ذلك الناس كما قال تعالـى ذكره: أمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ لـيخبر الناس عن جهلهم, وكما قال: ألَـمْ تَعْلَـمْ أنّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السّمَوَاتِ والأرْضِ.
قال أبو جعفر: وأنكر قوم أن تكون «أنّ» عاملاً فـيها قوله: ولو يرى, وقالوا: إن الذين ظلـموا قد علـموا حين يرون العذاب أن القوّة لله جميعا, فلا وجه لـمن تأوّل ذلك: ولو يرى الذين ظلـموا أن القوة لله. وقالوا: إنـما عمل فـي «أن» جواب «لو» الذي هو بـمعنى العلـم, لتقدم العلـم الأول.
وقال بعض نـحويـي الكوفة: من نصب: أن القوة لله وأن الله شديد العذاب مـمن قرأ: ولو يَرى بـالـياء فإنـما نصبها بإعمال الرؤية فـيها, وجعل الرؤية واقعة علـيها. وأما من نصبها مـمن قرأ: «ولو ترى» بـالتاء, فإنه نصبها علـى تأويـل: لأن القوّة لله جميعا, ولأن الله شديد العذاب. قال: ومن كسرهما مـمن قرأ بـالتاء فإنه يكسرهما علـى الـخبر.
وقال آخرون منهم: فتـح «أنّ» فـي قراءة من قرأ: ولو يرى الذين ظلـموا بـالـياء بإعمال «يرى», وجواب الكلام حينئذ متروك, كما ترك جواب: وَلَوْ أنّ قُرآنا سُيّرَتْ بِهِ الـجِبـالُ أوْ قُطّعَتْ بِهِ الأرْضُ لأن معنى الـجنة والنار مكرّر معروف. وقالوا: جائز كسر «إن» فـي قراءة من قرأ بـالـياء, وإيقاع الرؤية علـى «إذ» فـي الـمعنى, وأجازوا نصب «أن» علـى قراءة من قرأ ذلك بـالتاء لـمعنى نـية فعل آخر, وأن يكون تأويـل الكلام: ولو ترى الذين ظلـموا إذ يرون العذاب (يرون) أن القوة لله جميعا. وزعموا أن كسر «إن» الوجه إذا قرئت: «ولو ترى» بـالتاء علـى الاستئناف, لأن قوله: «ولو ترى» قد وقع علـى «الذين ظلـموا».
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندنا فـي ذلك: وَلَوْ تَرَى الّذِينَ ظَلَـمُوا بـالتاء من «ترى» إِذْ يَرَوْنَ العَذَابَ أن القُوَةَ للّهِ جَميعا وأنّ اللّه شَدِيدُ العَذَابِ بـمعنى لرأيت أن القوة للّه جميعا وأن الله شديد العذاب, فـيكون قوله «لرأيت» الثانـية مـحذوفة مستغنى بدلالة قوله: «ولو ترى الذين ظلـموا» عن ذكره, وإن كان جوابـا ل «لو» ويكون الكلام وإن كان مخرجه مخرج الـخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم معنـيا به غيره, لأن النبـيّ صلى الله عليه وسلم كان لا شك عالـما بأن القوّة لله جميعا وأن الله شديد العذاب, ويكون ذلك نظير قوله: ألَـمْ تَعْلَـمْ أن اللّهَ لَهُ مُلْكُ السّمَوَاتِ والأرْضِ وقد بـيناه فـي موضعه.
وإنـما اخترنا ذلك علـى قراءة الـياء لأن القوم إذا رأوا العذاب قد أيقنوا أن القوّة لله جميعا, وأن الله شديد العذاب, فلا وجه أن يقال: لو يرون أن القوّة لله جميعا حينئذ, لأنه إنـما يقال: «لو رأيت» لـمن لـم ير, فأما من قد رآه فلا معنى لأن يقال له: «لو رأيت».
ومعنى قوله: إذْ يَرَوْنَ العَذَابَ إذ يعاينون العذاب. كما:
1998حدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع قوله: وَلَوْ يَرَى الّذِينَ ظَلَـمُوا إذْ يَرَوْنَ العَذَابَ أن القُوةَ لِلّهِ جَمِيعا وأنّ اللّهَ شَدِيدُ العَذَابِ يقول: لو عاينوا العذاب.
وإنـما عنى تعالـى ذكره بقوله: وَلَوْ تَرَى الّذِينَ ظَلَـمُوا ولو ترى يا مـحمد الذين ظلـموا أنفسهم فـاتـخذوا من دونـي أندادا يحبونهم كحبكم إياي, حين يعاينون عذابـي يوم القـيامة الذي أعددت لهم, لعلـمتـم أن القوّة كلها لـي دون الأنداد والاَلهة, وأن الأنداد والاَلهة لا تغنـي عنهم هنالك شيئا, ولا تدفع عنهم عذابـا أحللت بهم, وأيقنتـم أنـي شديدٌ عذابـي لـمن كفر بـي وادّعى معي إلها غيري.
الآية : 166
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{إِذْ تَبَرّأَ الّذِينَ اتّبِعُواْ مِنَ الّذِينَ اتّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ }
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: إذْ تَبَرّأ الّذِينَ اتّبِعُوا مِنَ الّذِينَ اتّبَعُوا ورَأوُا العَذَاب إذ تبرأ الذين اتّبعوا من الذين اتّبعوا.
ثم اختلف أهل التأويـل فـي الذين عنى الله تعالـى ذكره بقوله: إذْ تَبَرّأ الّذِينَ اتّبِعُوا مِنَ الّذِينَ اتّبَعُوا فقال بعضهم بـما:
1906ـ حدثنا به بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: إذْ تَبَرّأ الّذِينَ اتّبِعُوا وهم الـجبـابرة والقادة والرؤوس فـي الشرك, مِنَ الّذِينَ اتّبَعُوا وهم الأتبـاع الضعفـاء, ورَأَوُا العَذَابَ.
حدثنـي الـمثنى قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: إذْ تَبَرّأ الّذِينَ اتّبِعُوا مِنَ الّذِينَ اتّبَعُوا قال: تبرأت القادة من الأتبـاع يوم القـيامة.
حدثنـي القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, قال ابن جريج: قلت لعطاء: إذْ تَبَرّأ الّذِينَ اتّبِعُوا مِنَ الّذِينَ اتّبَعُوا قال: تبرأ رؤساؤهم وقادتهم وساداتهم من الذين اتبعوهم.
وقال آخرون بـما:
1907ـ حدثنـي به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: إذْ تَبَرّأ الّذِينَ اتّبِعُوا مِنَ الّذِينَ اتّبَعُوا أما الذين اتبعوا فهم الشياطين تبرّءوا من الإنس.
قال أبو جعفر: والصواب من القول عندي فـي ذلك أن الله تعالـى ذكره أخبر أن الـمتّبعينَ علـى الشرك بـالله يتبرّءون من أتبـاعهم حين يعاينون عذاب الله ولـم يخصص بذلك منهم بعضا دون بعض, بل عمّ جميعهم, فدخـل فـي ذلك كل متبوع علـى الكفر بـالله والضلال أنه يتبرأ من أتبـاعه الذين كانوا يتبعونه علـى الضلال فـي الدنـيا إذا عاينوا عذاب الله فـي الاَخرة.
وأما دلالة الآية فـيـمن عنى بقوله: إذْ تَبَرّأ الّذِينَ اتّبِعُوا مِنَ الّذِين اتّبَعُوا فإنها إنـما تدلّ علـى أن الأنداد الذين اتـخذهم من دون الله مَن وصف تعالـى ذكره صفته بقوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَتّـخِذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أنْدَادا هم الذين يتبرّءون من أتبـاعهم. وإذا كانت الآية علـى ذلك دالة صحّ التأويـل الذي تأوّله السدي فـي قوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَتّـخِذُ مِنْ دُون اللّهِ أنْدَادا أن الأنداد فـي هذا الـموضع إنـما أريد يطيع الله الـمؤمنون من الرجال الذين يطيعونهم فـيـما أمروهم به من أمر, ويعصون الله فـي طاعتهم إياهم, كما يطيع الله الـمؤمنون ويعصون غيره, وفسد تأويـل قول من قال: إذْ تَبَرّأ الّذِينَ اتّبِعُوا مِنَ الّذِينَ اتّبَعُوا إنهم الشياطين تبرّءوا من أولـيائهم من الإنس لأن هذه الآية إنـما هي فـي سياق الـخبر عن متـخذي الأنداد.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبـابُ.
يعنـي تعالـى ذكره بذلك: أن الله شديد العذاب إذ تبرأ الذين اتبعوا, وإذ تقطعت بهم الأسبـاب.
ثم اختلف أهل التأويـل فـي معنى الأسبـاب. فقال بعضهم بـما:
1908ـ حدثنـي به يحيى بن طلـحة الـيربوعي, قال: حدثنا فضيـل بن عياض, وثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن عبـيد الـمكتب, عن مـجاهد: وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبـابُ قال: الوصال الذي كان بـينهم فـي الدنـيا.
حدثنا إسحاق بن إبراهيـم بن حبـيب بن الشهيد, قال: حدثنا يحيى بن يـمان, عن سفـيان, عن عبـيد الـمكتب, عن مـجاهد: وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبـابُ قال: تواصُلهم فـي الدنـيا.
حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, وثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد جميعا, قالا: حدثنا سفـيان, عن عبـيد الـمكتب, عن مـجاهد بـمثله.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبـابُ قال: الـمودّة.
حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
حدثنـي القاسم, قال: ثنـي الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد قال: تواصل كان بـينهم بـالـمودة فـي الدنـيا.
1909ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, قال: أخبرنـي قـيس بن سعد, عن عطاء, عن ابن عبـاس فـي قول الله تعالـى ذكره: وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبـابُ قال: الـمودّة.
1910ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبـابُ أسبـاب الندامة يوم القـيامة, وأسبـاب الـمواصلة التـي كانت بـينهم فـي الدنـيا يتواصلون بها ويتـحابون بها, فصارت علـيهم عداوة يوم القـيامة ثمّ يَوْمَ الْقِـيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَـلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضا ويتبرأ بعضكم من بعض, وقال الله تعالـى ذكره: الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ إلاّ الـمُتّقِـين فصارت كل خـلة عداوة علـى أهلها, إلا خـلة الـمتقـين.
1911ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبـابُ قال: هو الوصل الذي كان بـينهم فـي الدنـيا.
1912ـ وحدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبـابُ يقول: الأسبـاب: الندامة.
وقال بعضهم: بل معنى الأسبـاب: الـمنازل التـي كانت لهم من أهل الدنـيا. ذكر من قال ذلك:
1913ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: حدثنـي أبـي, قال: حدثنـي عمي, قال: حدثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبـابُ يقول: تقطعت بهم الـمنازل.
1914ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرحمن بن سعد, عن أبـي جعفر الرازي, عن الربـيع بن أنس وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبـابُ قال: الأسبـاب: الـمنازل.
وقال آخرون: الأسبـاب: الأرحام. ذكر من قال ذلك:
1915ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج, وقال ابن عبـاس: وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبـابُ قال: الأرحام.
وقال آخرون: الأسبـاب: الأعمال التـي كانوا يعملونها فـي الدنـيا. ذكر من قال ذلك:
1916ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: إمّا وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبـابُ فـالأعمال.
1917ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبـابُ قال: أسبـاب أعمالهم, فأهل التقوى أعطوا أسبـاب أعمالهم وثـيقة فـيأخذون بها فـينـجون, والاَخرون أعطوا أسبـاب أعمالهم الـخبـيثة فتقطع بهم فـيذهبون فـي النار. قال: والأسبـاب: الشيء يتعلق به. قال: والسبب الـحبل, والأسبـاب جمع سبب, وهو كل ما تسبب به الرجل إلـى طلبته وحاجته, فـيقال للـحبل سبب لأنه يتسبب بـالتعلق به إلـى الـحاجة التـي لا يوصل إلـيها إلا بـالتعلق به, ويقال للطريق سبب للتسبب بركوبه إلـى ما لا يدرك إلا بقطعه, وللـمصاهرة سبب لأنها سبب للـحرمة, وللوسيـلة سبب للوصول بها إلـى الـحاجة, وكذلك كل ما كان به إدراك الطلبة فهو سبب لإدراكها. فإذا كان ذلك كذلك فـالصواب من القول فـي تأويـل قوله: وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبـابُ أن يقال: إن الله تعالـى ذكره أخبر أن الذين ظلـموا أنفسهم من أهل الكفر الذين ماتوا وهم كفـار يتبرأ عند معاينتهم عذاب الله الـمتبوع من التابع, وتتقطع بهم الأسبـاب. وقد أخبر تعالـى ذكره فـي كتابه أن بعضهم يـلعن بعضا, وأخبر عن الشيطان أنه يقول لأولـيائه: ما أنَا بِـمُصْرِخِكُمْ وَما أنْتُـمْ بِـمُصْرِخِيّ إنّـي كَفَرْتُ بِـمَا أشْرَكْتُـمُونِ مِنْ قَبْلُ وأخبر تعالـى ذكره أن الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلا الـمتقـين, وأن الكافرين لا ينصر يومئذ بعضهم بعضا, فقال تعالـى ذكره: وَقِـفُوهُمْ إنّهُمْ مَسْئُولُونَ ما لَكُمْ لا تَناصَرون وأن الرجل منهم لا ينفعه نسيبه ولا ذو رحمه, وإن كان نسيبه لله ولـيا, فقال تعالـى ذكره فـي ذلك: ومَا كانَ اسْتِغْفـارُ إبْرَاهِيـمَ لأبِـيهِ إلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إيّاهُ فَلَـمّا تَبَـيّنَ لَهُ أنّهُ عَدُوّ لِلّهِ تَتَبّرأ مِنْهُ وأخبر تعالـى ذكره أن أعمالهم تصير علـيهم حسرات. وكل هذه الـمعانـي أسبـاب يتسبب فـي الدنـيا بها إلـى مطالب, فقطع الله منافعها فـي الاَخرة عن الكافرين به لأنها كانت بخلاف طاعته ورضاه, فهي منقطعة بأهلها فلا خِلال بعضهم بعضا ينفعهم عند ورودهم علـى ربهم ولا عبـادتهم أندادهم ولا طاعتهم شياطينهم, ولا دافعت عنهم أرحام فنصرتهم من انتقام الله منهم, ولا أغنت عنهم أعمالهم بل صارت علـيهم حسرات, فكل أسبـاب الكفـار منقطعة, فلا معنى أبلغ فـي تأويـل قوله: وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبـابُ من صفة الله, وذلك ما بـينا من جميع أسبـابهم دون بعضها علـى ما قلنا فـي ذلك. ومن ادّعى أن الـمعنى بذلك خاص من الأسبـاب سئل عن البـيان علـى دعواه من أصل لا منازع فـيه, وعورض بقول مخالفه فـيه, فلن يقول فـي شيء من ذلك قولاً إلا ألزم فـي الاَخر مثله.
الآية : 167
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَالَ الّذِينَ اتّبَعُواْ لَوْ أَنّ لَنَا كَرّةً فَنَتَبَرّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرّءُواْ مِنّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النّارِ }
يعنـي بقوله تعالـى ذكره: وَقالَ الّذِينَ اتّبَعُوا وقال أتبـاع الرجال الذين كانوا اتـخذوهم أندادا من دون الله يطيعونهم فـي معصية الله, ويعصون ربهم فـي طاعتهم, إذ يرون عذاب الله فـي الاَخرة: لَوْ أن لنَا كَرة يعنـي بـالكرّة: الرجعة إلـى الدنـيا, من قول القائل: كررت علـى القوم أكرّ كرّا, والكرّة: الـمرة الواحدة, وذلك إذا حمل علـيهم راجعا علـيهم بعد الانصراف عنهم كما قال الأخطل:
وَلَقَدْ عَطَفْنَ علـى فَزَارَةَ عَطْفَةًكَرّ الـمَشيحِ وَجُلْنَ ثَمّ مَـجَالاَ
1918ـ وكما حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: وقال الّذِينَ اتّبَعُوا لَوْ أن لنَا كَرّةً فَنَتَبرّأ مِنْهُمْ كمَا تَبّرءوْا مِنّا أي لنا رجعة إلـى الدنـيا.
1919ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: وَقالَ الّذِينَ اتّبَعُوا لَوْ أنّ لنَا كَرّةً قال: قالت الأتبـاع: لو أن لنا كرّة إلـى الدنـيا فنتبرأ منهم كما تبرّءوا منا.
وقوله: فَنَتَبرّأَ مِنْهُمْ منصوب لأنه جواب للتـمنـي بـالفـاء, لأن القوم تـمنوا رجعة إلـى الدنـيا لـيتبرّءوا من الذين كانوا يطيعونهم فـي معصية الله كما تبرأ منهم رؤساؤهم الذين كانوا فـي الدنـيا الـمتبوعون فـيها علـى الكفر بـالله إذْ عاينوا عظيـم النازل بهم من عذاب الله, فقالوا: يا لـيت لنا كرّة إلـى الدنـيا فنتبرأ منهم, ويا لَـيَتَنا نُرَدّ ولا نُكَذّبُ بآياتِ رَبّنا ونَكُونَ مِنَ الـمُؤْمِنِـينَ.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أعْمالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَـيْهِم.
ومعنى قوله: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أعْمالَهُمْ يقول: كما أراهم العذاب الذي ذكره فـي قوله: وَرَأوُا العَذَابَ الذي كانوا يكذبون به فـي الدنـيا, فكذلك يريهم أيضا أعمالهم الـخبـيثة التـي استـحقوا بها العقوبة من الله حَسَرَاتٍ عَلَـيْهِمْ يعنـي ندامات. والـحسرات جمع حسرة, وكذلك كل اسم كان واحده علـى «فَعْلة» مفتوح الأول ساكن الثانـي, فإن جمعه علـى «فَعَلات», مثل شهوة وتـمرة تـجمع شهوات وتـمرات, مثقلة الثوانـي من حروفها. فأما إذا كان نعتا فإنك تدع ثانـيه ساكنا مثل ضخْمة تـجمعها ضخْمات, وعَبْلة تـجمعها عَبْلات, وربـما سكن الثانـي فـي الأسماء كما قال الشاعر:
عَلّ صُرُوفَ الدّهْرِ أوْ دُولاتِهَايُدِلْنَنا اللّـمّةَ مِنْ لَـمّاتِهَا
فَتَسْتَرِيحَ النّفْسُ مِنْ زَفْرَاتِها
فسكن الثانـي من «الزفْرات» وهي اسم وقـيـل إن الـحسرة أشدّ الندامة.
فإن قال لنا قائل: فكيف يرون أعمالهم حسرات علـيهم, وإنـما يتندم الـمتندم علـى ترك الـخيرات وفوتها إياه؟ وقد علـمت أن الكفـار لـم يكن لهم من الأعمال ما يتندمون علـى تركهم الازدياد منه, فـيريهم الله قلـيـلَه, بل كانت أعمالهم كلها معاصي لله, ولا حسرة علـيهم فـي ذلك, وإنـما الـحسرة فـيـما لـم يعملوا من طاعة الله؟ قـيـل: إن أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك مختلفون, فنذكر فـي ذلك ما قالوا, ثم نـخبر بـالذي هو أولـى بتأويـله إن شاء الله. فقال بعضهم: معنى ذلك: كذلك يريهم الله أعمالهم التـي فرضها علـيهم فـي الدنـيا فضيعوها ولـم يعملوا بها حتـى استوجب ما كان الله أعدّ لهم لو كانوا عملوا بها فـي حياتهم من الـمساكن والنعم غيرُهم بطاعته ربّه فصار ما فـاتهم من الثواب الذي كان الله أعدّه لهم عنده لو كانوا أطاعوه فـي الدنـيا إذْ عاينوه عند دخول النار أو قبل ذلك أسى وندامة وحسرة علـيهم. ذكر من قال ذلك:
1920ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: كَذَلِكَ يُريهِمُ اللّهُ أعْمالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَـيْهِمْ زعم أنه يرفع لهم الـجنة فـينظرون إلـيها وإلـى بـيوتهم فـيها لو أنهم أطاعوا الله, فـيقال لهم: تلك مساكنكم لو أطعتـم الله ثم تقسم بـين الـمؤمنـين, فـيرثونهم, فذلك حين يندمون.
1921ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, قال: حدثنا سفـيان عن سلـمة بن كهيـل, قال: حدثنا أبو الزعراء, عن عبد الله فـي قصة ذكرها فقال: فلـيس نفس إلا وهي تنظر إلـى بـيت فـي الـجنة وبـيت فـي النار, وهو يوم الـحسرة. قال: فـيرى أهل النار الذين فـي الـجنة, فـيقال لهم: لو عملتـم فتأخذهم الـحسرة. قال: فـيرى أهل الـجنة البـيت الذي فـي النار, فـيقال: لولا أن منّ الله علـيكم
فإن قال قائل: وكيف يكون مضافـا إلـيهم من العمل ما لـم يعملوه علـى هذا التأويـل؟ قـيـل: كما يعرض علـى الرجل العمل فـيقال له قبل أن يعمله: هذا عملك, يعنـي هذا الذي يجب علـيك أن تعمله, كما يقال للرجل يحضر غداؤه قبل أن يتغدى به: هذا غداؤك الـيوم, يعنـي به: هذا ما تتغدى به الـيوم, فكذلك قوله: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أعمْالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَـيْهِمْ يعنـي: كذلك يريهم الله أعمالهم التـي كان لازما لهم العمل بها فـي الدنـيا حسرات علـيهم.
وقال آخرون: كذلك يريهم الله أعمالهم السيئة حسرات علـيهم: لـم عملوها, وهلا عملوا بغيرها مـما يرضى الله تعالـى ذكر من قال ذلك:
1922ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: كَذَلِكَ يُريهِمُ اللّهُ أعمْالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَـيْهِمْ فصارت أعمالهم الـخبـيثة حسرة علـيهم يوم القـيامة.
1923ـ حدثنـي يونس قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: أعْمالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَـيْهِمْ قال: أو لـيس أعمالهم الـخبـيثة التـي أدخـلهم الله بها النار حسرات علـيهم؟ قال: وجعل أعمال أهل الـجنة لهم, وقرأ قول الله: بـمَا أسْلَفْتُـمْ فِـي الأيّامِ الـخالِـيَة.
قال أبو جعفر: وأولـى التأويـلـين بـالآية تأويـل من قال: معنى قوله: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أعْمالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَـيْهِمْ كذلك يرى الله الكافرين أعمالهم الـخبـيثة حسرات علـيهم لـم عملوا بها, وهلا عملوا بغيرها فندموا علـى ما فرط منهم من أعمالهم الرديئة إذْ رأوا جزاءها من الله وعقابها؟ لأن الله أخبر أنه يريهم أعمالهم ندما علـيهم. فـالذي هو أولـى بتأويـل الآية ما دل علـيه الظاهر دون ما احتـمله البـاطن الذي لا دلالة علـى أنه الـمعنـيّ بها. والذي قال السدي فـي ذلك وإن كان مذهبـا تـحتـمله الآية, فإنه منزع بعيد, ولا أثر بأن ذلك كما ذكر تقوم به حجة فـيسلـم لها, ولا دلالة فـي ظاهر الآية أنه الـمراد بها. فإذْ كان الأمر كذلك لـم يُحَلْ ظاهر التنزيـل إلـى بـاطن تأويـل.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النّارِ.
يعنـي تعالـى ذكره بذلك: وما هؤلاء الذين وصفتهم من الكفـار وإن ندموا بعد معاينتهم ما عاينوا من عذاب الله, فـاشتدّت ندامتهم علـى ما سلف منهم من أعمالهم الـخبـيثة, وتـمنوا إلـى الدنـيا كرّةً لـينـيبوا فـيها, ويتبرّءوا من مضلـيهم وسادتهم الذين كانوا يطيعونهم فـي معصية الله فـيها بخارجين من النار التـي أصلاهموها الله بكفرهم به فـي الدنـيا, ولا ندمهم فـيها بـمنـجيهم من عذاب الله حينئذ, ولكنهم فـيها مخـلدون. وفـي هذه الآية الدلالة علـى تكذيب الله الزاعمين أن عذاب الله أهل النار من أهل الكفر منقض, وأنه إلـى نهاية, ثم هو بعد ذلك فـانٍ لأن الله تعالـى ذكره أخبر عن هؤلاء الذين وصف صفتهم فـي هذه الآية, ثم ختـم الـخبر عنهم أنهم غير خارجين من النار بغير استثناء منه وقتا دون وقت, فذلك إلـى غير حدّ ولا نهاية.
الآية : 168
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَأَيّهَا النّاسُ كُلُواْ مِمّا فِي الأرْضِ حَلاَلاً طَيّباً وَلاَ تَتّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشّيْطَانِ إِنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مّبِينٌ }
يعنـي تعالـى ذكره بذلك: يا أيها الناس كلوا مـما أحللت لكم من الأطعمة علـى لسان رسولـي مـحمد صلى الله عليه وسلم فطيبته لكم مـما تـحرّمونه علـى أنفسكم من البحائر والسوائب والوصائل, وما أشبه ذلك مـما لـم أحرّمه علـيكم, دون ما حرّمته علـيكم من الـمطاعم والـمآكل فنـجسته من ميتة ودم ولـحم خنزير وما أهلّ به لغيري, ودعوا خطوات الشيطان الذي يوبقكم فـيهلككم ويوردكم موارد العطب ويحرّم علـيكم أموالكم فلا تتبعوها ولا تعملوا بها, إنه يعنـي بقوله إنّهُ إن الشيطان, والهاء فـي قوله: إنّهُ عائدة علـى الشيطان لَكُمْ أيها الناس عَدُوّ مُبِـين يعنـي أنه قد أبـان لكم عداوته بإبـائه عن السجود لأبـيكم وغروره إياه حتـى أخرجه من الـجنة واستزله بـالـخطيئة, وأكل من الشجرة. يقول تعالـى ذكره: فلا تنتصحوه أيها الناس مع إبـانته لكم العداوة, ودعوا ما يأمركم به, والتزموا طاعتـي فـيـما أمرتكم به ونهيتكم عنه مـما أحللته لكم وحرّمته علـيكم, دون ما حرّمتـموه أنتـم علـى أنفسكم وحللتـموه طاعة منكم للشيطان واتبـاعا لأمره. ومعنى قوله حَلالاً طِلْقا, وهو مصدر من قول القائل: قد حلّ لك هذا الشيء, أي صار لك مطلقا, فهو يحلّ لك حلالاً وحِلاّ. من كلام العرب: هو لك حِلّ, أي طِلْق. وأما قوله: طَيّبـا فإنه يعنـي به طاهرا غير نـجس ولا مـحرّم. وأما الـخطوات فإنه جمع خطوة, والـخطوة: بُعْدُ ما بـين قدمي الـماشي, والـخَطْوة بفتـح الـخاء: الفعلة الواحدة, من قول القائل: خطوت خَطْوة واحدة وقد تـجمع الـخُطوة خُطا, والـخَطْوة تـجمع خَطَوات وخِطَاء. والـمعنى فـي النهي عن اتبـاع خطواته, النهي عن طريقه وأثره فـيـما دعا إلـيه مـما هو خلاف طاعة الله تعالـى ذكره.
واختلف أهل التأويـل فـي معنى الـخطوات, فقال بعضهم: خطوات الشيطان: عمله. ذكر من قال ذلك:
1924ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: حدثنـي معاوية بن صالـح, عن علـي بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس قوله: خُطُوَاتِ الشّيْطانِ يقول: عمله.
وقال بعضهم: خطوات الشيطان: خطاياه. ذكر من قال ذلك:
1925ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: خُطُوَاتِ الشّيْطانِ قال: خطيئته.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد قال: خطاياه.
1926ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: وَلا تَتّبِعُوا خُطُوَاتِ الشّيْطانِ قال: خطاياه.
1927ـ حدثنـي يحيى بن أبـي طالب, قال: حدثنا يزيد, قال: أخبرنا جويبر, عن الضحاك قوله: خُطُوَاتِ الشّيْطانِ قال: خطايا الشيطان التـي يأمر بها.
وقال آخرون: خطوات الشيطان: طاعته. ذكر من قال ذلك:
1928ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: وَلا تَتّبعَوا خُطُوَاتِ الشّيْطانِ يقول: طاعته.
وقال آخرون: خطوات الشيطان: النذور فـي الـمعاصي. ذكر من قال ذلك:
1929ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن سلـيـمان, عن أبـي مـجلز فـي قوله: وَلا تَتّبِعُوا خُطُوَاتِ الشّيْطانِ قال: هي النذور فـي الـمعاصي.
وهذه الأقوال التـي ذكرناها عمن ذكرناها عنه فـي تأويـل قوله خطوات الشيطان قريب معنى بعضها من بعض لأن كل قائل منهم قولاً فـي ذلك فإنه أشار إلـى نهي اتبـاع الشيطان فـي آثاره وأعماله. غير أن حقـيقة تأويـل الكلـمة هو ما بـينت من أنها بعد ما بـين قدميه ثم تستعمل فـي جميع آثاره وطرقه علـى ما قد بـينت.
الآية : 169
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسّوَءِ وَالْفَحْشَآءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: إنّـمَا يَأمُرُكُمْ الشيطان بـالسّوء والفَحْشاءِ وأنْ تَقُولُوا علـى اللّهِ ما لا تَعْلَـمُونَ والسوء: الإثم مثل الضرّ من قول القائل: ساءك هذا الأمر يسوءك سُوءا وهو ما يسوء الفـاعل. وأما الفحشاء فهي مصدر مثل السرّاء والضرّاء, وهي كل ما استفحش ذكره وقبح مسموعه. وقـيـل إن السوء الذي ذكره الله هو معاصي الله فإن كان ذلك كذلك, فإنـما سماها الله سوءا لأنها تسوء صاحبها بسوء عاقبتها له عند الله. وقـيـل إن الفحشاء: الزنا فإن كان ذلك كذلك, فإنـما يسمى لقبح مسموعه, ومكروه ما يذكر به فـاعله. ذكر من قال ذلك:
1930ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: إنّـمَا يَأمُرُكُمْ بـالسّوءِ وَالفَحْشاءِ أما السوء فـالـمعصية, وأما الفحشاء فـالزنا.
وأما قوله: وأنْ تَقُولُوا علـى اللّهِ ما لا تَعْلَـمُونَ فهو ما كانوا يحرّمون من البحائر والسوائب والوصائل والـحوامي, ويزعمون أن الله حرم ذلك, فقال تعالـى ذكره لهم: ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيـلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنّ الّذِينَ كَفَرُوا يَفْترُونَ علـى اللّهِ الكَذِبَ وأكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وأخبرهم تعالـى ذكره فـي هذه الآية أن قـيـلهم إن الله حرم هذا من الكذب الذي يأمرهم به الشيطان, وأنه قد أحله لهم وطيبه, ولـم يحرّم أكله علـيهم, ولكنهم يقولون علـى الله ما لا يعلـمون حقـيقته طاعة منهم للشيطان, واتبـاعا منهم خطواته, واقتفـاءً منهم آثار أسلافهم الضلاّل وآبـائهم الـجهال, الذين كانوا بـالله وبـما أنزل علـى رسوله جهالاً, وعن الـحق ومنهاجه ضلالاً وإسرافـا منهم, كما أنزل الله فـي كتابه علـى رسوله صلى الله عليه وسلم, فقال تعالـى ذكره: وَإذَا قـيـلَ لَهُمُ اتّبعُوا ما أنْزلَ اللّهُ قالُوا بَلْ نَتّبِعُ ما ألفْـيَنْا عَلَـيْهِ آبـاءَنا أوْ لَوْ كانَ آبـاؤهمْ لا يَعْقلُونَ شَيْئا وَلا يَهْتَدُون