تفسير الطبري تفسير الصفحة 298 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 298
299
297
 الآية : 35 -36
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَدَخَلَ جَنّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنّ أَن تَبِيدَ هَـَذِهِ أَبَداً * وَمَآ أَظُنّ السّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رّدِدتّ إِلَىَ رَبّي لأجِدَنّ خَيْراً مّنْهَا مُنْقَلَباً }.
يقول تعالـى ذكره: هذا الذي جعلنا له جنتـين من أعناب دَخَـلَ جَنّتَهُ وهي بستانه وَهُوَ ظالِـمٌ لِنَفْسِهِ وظلـمه نفسه: كفره بـالبعث, وشكه فـي قـيام الساعة, ونسيانه الـمعاد إلـى الله تعالـى, فأوجب لها بذلك سخط الله وألـيـم عقابه. وقوله: قالَ ما أظُنّ أنْ تَبِـيدَ هَذِهِ أبَدا يقول جلّ ثناؤه: قال لـما عاين جنته, ورآها وما فـيها من الأشجار والثمار والزروع والأنهار الـمطردة شكا فـي الـمعاد إلـى الله: ما أظنّ أن تبـيد هذه الـجنة أبدا, ولا تفنى ولا تـخْرب, وما أظنّ الساعة التـي وعد الله خـلقه الـحشر فـيها تقول فتـحدث, ثم تـمنى أمنـية أخرى علـى شكّ منه, فقال: وَلَئِنَ رُدِدْتُ إلـى رّبـي فرجعت إلـيه, وهو غير موقن أنه راجع إلـيه لأَجِدَنّ خَيْرا مِنْها مُنْقَلَبـا يقول: لأجدنّ خيرا من جنتـي هذه عند الله إن رددت إلـيه مرجعا ومردّا, يقول: لـم يعطنـي هذه الـجنة فـي الدنـيا إلا ولـى عنده أفضل منها فـي الـمعاد إن رددت إلـيه. كما:
17392ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَما أظُنّ السّاعَةَ قائِمَةً قال: شكّ, ثم قال: وَلَئِنْ كان ذلك ثم رُدِدْتُ إلـى رَبّـي لأَجِدَنّ خَيْرا مِنْها مُنْقَلَبـا ما أعطانـي هذه إلا ولـي عنده خير من ذلك.
17393ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَدَخَـلَ جَنّتَهُ وَهُوَ ظالِـمٌ لَنَفْسِهِ قالَ ما أظُنّ أنْ تَبِـيدَ هَذِهِ أبَدا وَما أظُنّ السّاعة قائمَةً كفور لنعم ربه, مكذّب بلقائه, متـمنّ علـى الله.

الآية : 37 و 38
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمّ مِن نّطْفَةٍ ثُمّ سَوّاكَ رَجُلاً * لّكِنّ هُوَ اللّهُ رَبّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبّي أَحَداً }.
يقول تعالـى ذكره: قال لصاحب الـجنتـين صاحبه الذي هو أقلّ منه مالاً وولدا, وَهُوَ يُحاوِرُهُ: يقول: وهو يخاطبه ويكلـمه: أكَفَرْتَ بـالّذِي خَـلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ يعنـي خـلق أبـاك آدم من تراب ثُمّ مِنْ نُطْفَةٍ يقول: ثم أنشأك من نطفة الرجل والـمرأة, ثم سوّاك رَجُلاً يقول: ثم عَد لك بشرا سويا رجلاً, ذكرا لا أنثى, يقول: أكفرت بـمن فعل بك هذا أن يعيدك خـلقا جديدا بعد ما تصير رفـاتا لَكِنّا هُوَ اللّهُ رَبّـي يقول: أما أنا فلا أكفر بربـي, ولكن أنا هو الله ربـي, معناه أنه يقول: ولكن أنا أقول: هو الله ربـي وَلا أُشْرِكُ بِرَبـيّ أحَدا. وفـي قراءة ذلك وجهان: أحدهما لكنّ هو الله ربـي بتشديد النون وحذف الألف فـي حال الوصل, كما يقال: أنا قائم فتـحذف الألف من أنا, وذلك قراءة عامة قرّاء أهل العراق. وأما فـي الوقـف فإن القرأة كلها تثبت فـيها الألف, لأن النون إنـما شدّدت لاندغام النون من لكن, وهي ساكنة فـي النون التـي من أنا, إذ سقطت الهمزة التـي فـي أنا, فإذا وقـف علـيها ظهرت الألف التـي فـي أنا, فقـيـل: لكنا, لأنه يقال فـي الوقـف علـى أنا بإثبـات الألف لا بإسقاطها. وقرأ ذلك جماعة من أهل الـحجاز: لَكِنّا بإثبـات الألف فـي الوصل والوقـف, وذلك وإن كان مـما ينطق به فـي ضرورة الشعر, كما قال الشاعر:
أنا سَيْفُ العَشِيرَةِ فـاعْرِفُونِـيحُمَيْدا قد تَذَرّيْتُ السّنامَا
فأثبت الألف فـي أنا, فلـيس ذلك بـالفصيح من الكلام, والقراءة التـي هي القراءة الصحيحة عندنا ما ذكرنا عن العراقـيـين, وهو حذف الألف من «لكنّ» فـي الوصل, وإثبـاتها فـي الوقـف.
الآية : 39
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَوْلآ إِذْ دَخَلْتَ جَنّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ اللّهُ لاَ قُوّةَ إِلاّ بِاللّهِ إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً }.
يقول عزّ ذكره: وهلا إذ دخـلت بستانك, فأعجبك ما رأيت منه, قلت ما شاء الله كان وفـي الكلام مـحذوف استغنـي بدلالة ما ظهر علـيه منه, وهو جواب الـجزاء, وذلك كان.
وإذا وجه الكلام إلـى هذا الـمعنى الذي قلنا كانت «ما» نصبـا بوقوع فعل الله علـيه, وهو شاء وجاز طرح الـجواب, لأن معنى الكلام معروف, كما قـيـل: فإن استطعت أن تبتغي نفقا فـي الأرض, وترك الـجواب, إذ كان مفهوما معناه. وكان بعض أهل العربـية يقول «ما» من قوله: ما شاءَ اللّهُ فـي موضع رفع بإضمار هو, كأنه قـيـل: قلت هو ما شاء الله لا قُوّةَ إلاّ بـاللّهِ يقول: لا قوّة علـى ما نـحاول من طاعته إلا به. وقوله: إنْ تَرَنِ أنا أقَلّ مِنْكَ مالاً وَوَلَدا وهو قول الـمؤمن الذي لا مال له, ولا عشيرة, مثل صاحب الـجنتـين وعشيرته, وهو مثل سَلْـمان وصُهَيب وَخبـاب, يقول: قال الـمؤمن للكافر: إن ترن أيها الرجل أنا أقلّ منك مالاً وولدا فإذا جعلت أنا عمادا نصبت أقل, وبه القراءة عندنا, لأن علـيه قراءة الأمصار, وإذا جعلته اسما رفعت أقل.
الآية : 40 و 41
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فعسَىَ رَبّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مّن جَنّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مّنَ السّمَآءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً * أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً }.
يقول تعالـى ذكره مخبرا عن قـيـل الـمؤمن الـموقن للـمعاد إلـى الله للكافر الـمرتاب فـي قـيام الساعة: إن تَرَن أيها الرجل أنا أقلّ منك مالاً وولدا فـي الدنـيا, فعسى ربـي أن يرزقنـي خيرا من بستانك هذا وَيُرْسِلَ عَلَـيْها يعنـي علـى جنة الكافر التـي قال لها: ما أظنّ أن تبـيد هذه أبدا حُسْبـانا مِنَ السّماءِ يقول: عذابـا من السماء ترمي به رميا, وتقذف. والـحُسْبـان: جمع حُسْبـانة, وهي الـمرامي. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك, قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
17394ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة أوْ يُرْسِلَ عَلَـيْها حُسْبـانا مِنَ السّماءِ عذابـا.
17395ـ حُدثت عن مـحمد بن يزيد, عن جويبر, عن الضحاك, قال: عذابـا.
17396ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: أوْ يُرْسِلَ عَلَـيْها حُسْبـانا مِنَ السّماءِ. قال: عذابـا, قال: الـحُسبـان: قضاء من الله يقضيه.
17397ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قال: الـحُسبـان: العذاب.
حدثنا الـحسن بن مـحمد, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, فـي قوله حُسْبـانا مِنَ السّماءِ قال: عذابـا. وقوله: فَتُصْبِحَ صَعِيدا زَلَقا يقول عزّ ذكره: فتصبح جنتك هذه أيها الرجل أرضا ملساء لا شيء فـيها, قد ذهب كلّ ما فـيها من غَرْس ونبت, وعادت خرابـا بلاقع, زَلَقا, لا يثبت فـي أرضها قدم لا ملساسها, ودروس ما كان نابتا فـيها.
17398ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: فَتُصْبِحَ صَعِيدا زَلَقا: أي قد حُصِد ما فـيها فلـم يُترك فـيها شيء.
17399ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عبـاس: فَتُصْبِحَ صَعِيدا زَلَقا قال: مثل الـجُرز.
17400ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال ابن زيد, فـي قوله: فَتُصْبِحَ صَعِيدا زَلَقا قال: صعيدا زلقا وصعيدا جُرزا واحد لـيس فـيها شيء من النبـات.
وقوله: أوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْرا يقول: أو يصبح ماؤها غائرا فوضع الغور وهو مصدر مكان الغائر, كما قال الشاعر:
تَظَلّ جِيادُهُ نَوْحا عَلَـيْهِمُقَلّدَةً أعِنّتَها صُفُونا
بـمعنى نائحة وكما قال الاَخر:
هَرِيقـي مِنْ دُمُوعِهِما سَجامَاضُبـاعَ وجَاوِبـي نَوْحا قِـيامَا
والعرب توحد الغَور مع الـجمع والاثنـين, وتذكر مع الـمذكر والـمؤنث, تقول: ماء غور, وماءان غَوْر ومياه غَور. ويعنـي بقوله: غَوْرا ذاهبـا قد غار فـي الأرض, فذهب فلا تلـحقه الرّشاء, كما:
17401ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة أوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْرا أي ذاهبـا قد غار فـي الأرض.
وقوله: فَلنْ تَسْتَطيعَ لَهُ طَلَبـا يقول: فلن تطيق أن تدرك الـماء الذي كان فـي جنتك بعد غَوْره, بطلبك إياه.

الآية : 42
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىَ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَلَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّي أَحَداً }.
يقول تعالـى ذكره: وأحاط الهلاك والـجوائح بثمره, وهي صنوف ثمار جنته التـي كان يقول لها: ما أظُنّ أنْ تَبِـيدَ هَذِهِ أبَدا فأصبح هذا الكافر صاحب هاتـين الـجنتـين, يقلب كفّـيه ظهرا لبطن, تلهفـا وأسفـا علـى ذهاب نفقته التـي أنفق فـي جنته وَهِيَ خاوِيَةٌ علـى عُرُوشِها يقول: وهي خالـية علـى نبـاتها وبـيوتها. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك, قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
17402ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة فأصْبَحَ يُقَلّبُ كَفّـيْهِ: أي يصفق كَفـيه عَلـى ما أنْفَقَ فِـيها متلهفـا علـى ما فـاته.
وَ هو يقول يا لَـيْتَنِـي لَـمْ أُشْرِكْ بِرَبّـي أحَدا ويقول: يا لـيتنـي, يقول: يتـمنى هذا الكافر بعد ما أصيب بجنته أنه لـم يكن كان أشرك بربه أحدا, يعنـي بذلك: هذا الكافر إذا هلك وزالت عنه دنـياه وانفرد بعمله, ودّ أنه لـم يكن كفر بـالله ولا أشرك به شيئا.
الآية : 43 و 44
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَمْ تَكُن لّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً * هُنَالِكَ الْوَلاَيَةُ لِلّهِ الْحَقّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً }.
يقول تعالـى ذكره: ولـم يكن لصاحب هاتـين الـجنتـين فِئَة, وهم الـجماعة كما قال العَجّاج:
كمَا يَحُوزّ الفِئَةُ الكَمِيّ
وبنـحو ما قلنا فـي ذلك, قال أهل التأويـل, وإن خالف بعضهم فـي العبـارة عنه عبـارتنا, فإن معناهم نظير معنانا فـيه. ذكر من قال ذلك:
17403ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى «ح» وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قول الله عزّ وجلّ: وَلَـمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللّهِ قال: عشيرته.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, مثله.
17404ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة ولَـمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللّهِ: أي جند ينصرونه.
وقوله: يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللّهِ يقول: يـمنعونه من عقاب الله وعذاب الله إذا عاقبه وعذّبه. وقوله وَما كانَ مُنْتَصِرا يقول: ولـم يكن مـمتنعا من عذاب الله إذا عذّبه, كما:
17405ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَما كانَ مُنْتَصِرا: أي مـمتنعا.
وقوله: هُنالكَ الوَلايَةُ لِلّهِ الـحَقّ يقول عزّ ذكره: ثم وذلك حين حلّ عذاب الله بصاحب الـجنتـين فـي القـيامة.
واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: الولاية, فقرأ بعض أهل الـمدينة والبصرة والكوفة هُنالكَ الوَلايَةُ بفتـح الواو من الولاية, يعنون بذلك هنالك الـمُوالاة لله, كقول الله: اللّهُ وَلِـيّ الّذِينَ آمَنُوا وكقوله: ذلكَ بأنّ اللّهَ مَوْلَـى الّذِينَ آمَنُوا يذهبون بها إلـى الوَلاية فـي الدين. وقرأ ذلك عامّة قرّاء الكوفة: «هُنالِكَ الوِلايَةُ» بكسر الواو: من الـمُلك والسلطان, من قول القائل: وَلِـيتُ عمل كذا, أو بلدة كذا ألـيه ولاية.
وأولـى القراءتـين فـي ذلك بـالصواب, قراءة من قرأ بكسر الواو, وذلك أن الله عقب ذلك خبره عن مُلكه وسلطانه, وأن من أحلّ به نقمته يوم القـيامة فلا ناصر له يومئذٍ, فإتبـاع ذلك الـخبر عن انفراده بـالـمـملكة والسلطان أولـى من الـخبر عن الـموالاة التـي لـم يجر لها ذكر ولا معنى, لقول من قال: لا يسمّى سلطان الله ولاية, وإنـما يسمى ذلك سلطان البشر, لأن الولاية معناها أنه يـلـي أمر خـلقه منفردا به دون جميع خـلقه, لا أنه يكون أميرا علـيهم.
واختلفوا أيضا فـي قراءة قوله الـحَقّ فقرأ ذلك عامّة قرّاء الـمدينة والعراق خفضا, علـى توجيهه إلـى أنه من نعت الله, وإلـى أن معنى الكلام: هنالك الولاية لله الـحقّ ألوهيته, لا البـاطل بطول ألوهيته التـي يدعونها الـمشركون بـالله آلهة. وقرأ ذلك بعض أهل البصرة وبعض متأخري الكوفـيـين: «لِلّهِ الـحَقّ» برفع الـحقّ توجيها منهما إلـى أنه من نعت الولاية, ومعناه: هنالك الولاية الـحقّ, لا البـاطل لله وحده لا شريك له.
وأولـى القراءتـين عندي فـي ذلك بـالصواب, قراءة من قرأه خفضا علـى أنه من نعت الله, وأن معناه ما وصفت علـى قراءة من قرأه كذلك.
وقوله: هُوَ خَيْرٌ ثَوَابـا يقول عزّ ذكره: خير للـمنـيبـين فـي العاجل والاَجل ثوابـا وخَيْرٌ عُقْبـا يقول: وخيرهم عاقبة فـي الاَجل إذا صار إلـيه الـمطيع له, العامل بـما أمره الله, والـمنتهى عما نهاه الله عنه. والعقب هو العاقبة, يقال: عاقبة أمر كذا وعُقْبـاه وعُقُبه, وذلك آخره وما يصير إلـيه منتهاه.
وقد اختلف القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الكوفة عُقْبـا بضم العين وتسكين القاف.
و القول فـي ذلك عندنا. أنهما قراءتان مستفـيضتان فـي قرأة الأمصار بـمعنى واحد, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب.

الآية : 45
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاضْرِبْ لَهُم مّثَلَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرّياحُ وَكَانَ اللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ مّقْتَدِراً }.
يقول عزّ ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: واضرب لـحياة هؤلاء الـمستكبرين الذين قالوا لك: اطرد عنك هؤلاء الذين يدعون ربهم بـالغداة والعشيّ, إذا نـحن جئناك الدنـيا منهم مثلاً يقول: شبها كَماءٍ أنْزَلْناهُ مِنَ السّماءِ يقول: كمطر أنزلناه من السماء فـاخْتَلَطَ بِهِ نَبـاتُ الأرْضِ يقول: فـاختلط بـالـماء نبـات الأرض فأصْبَحَ هَشِيـما يقول: فأصبح نبـات الأرض يابسا متفتتا تَذْرُوهُ الرّياحُ يقول تطيره الرياح وتفرّقه يقال منه: ذَرَته الريح تَذْروه ذَرْوا, وَذَرتْه ذَرْيا, وأذرته تُذْرِيهِ إذراء كما قال الشاعر:
فَقُلْتُ لَهُ صَوّبْ وَلا تُـجْهِدَنّهُفَـيُذْرِكَ مِنْ أُخْرَى القَطاةِ فَتزْلَقِ
يقال: أذريت الرجل عن الدابة والبعير: إذا ألقـيته عنه.
وقوله: وكانَ اللّهُ علـى كُلّ شَيْءٍ مُقْتَدِرا يقول: وكان الله علـى تـخريب جنة هذا القائل حين دخـل جنته: ما أظُنّ أنْ تَبِـيدَ هَذِهِ أبَدا وَما أظُنّ السّاعَةَ قائمَةً وإهلاك أموال ذي الأمْوَالِ البـاخـلـين بها عن حقوقها, وإزالة دنـيا الكافرين به عنهم, وغير ذلك مـما يشاء قادر, لا يعجزه شيء أراده, ولا يعْيـيه أمر أراده, يقول: فلا يفخر ذو الأموال بكثرة أمواله, ولا يستكبر علـى غيره بها, ولا يغترنّ أهل الدنـيا بدنـياهم, فإنـما مَثَلُها مثل هذا النبـات الذي حسُن استواؤه بـالـمطر, فلـم يكن إلا رَيْثَ أن انقطع عنه الـماء, فتناهى نهايته, عاد يابسا تذروه الرياح, فـاسدا, تنبو عنه أعين الناظرين, ولكن لـيعمل للبـاقـي الذي لا يفنى, والدائم الذي لا يبـيد ولا يتغير