تفسير الطبري تفسير الصفحة 302 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 302
303
301
 الآية : 75 و 76
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لّكَ إِنّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لّدُنّي عُذْراً }.
يقول تعالـى ذكره: قال العالـم لـموسى ألَـمْ أقُلْ لكَ إنّكَ لَنْ تَسْتَطيعَ مَعِيَ صَبْرا علـى ما ترى من أفعالـي التـي لـم تُـحط بها خبرا, قال موسى له: إنْ سألْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها يقول: بعد هذه الـمرّة فَلا تُصَاحِبْنِـي يقول: ففـارقنـي, فلا تكن لـي مصاحبـا قَدَ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنّـي عُذْرا يقول: قد بلغت العذر فـي شأنـي.
واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء أهل الـمدينة: «مِنْ لَدُنِـي عُذْرا» بفتـح اللام وضم الدال وتـخفـيف النون. وقرأه عامة قرّاء الكوفة والبصرة بفتـح اللام وضمّ الدال وتشديد النون. وقرأه بعض قرّاء الكوفة بإشمام اللام الضم وتسكين الدال وتـخفـيف النون, وكأن الذين شدّدوا النون طلبوا للنون التـي فـي لدن السلامة من الـحركة, إذ كانت فـي الأصل ساكنة, ولو لـم تشدّد لتـحرّكت, فشدّدوها كراهة منهم تـحريكها, كما فعلوا فـي «من, وعن» إذ أضافوهما إلـى مكنـيّ الـمخبر عن نفسه, فشدّدوهما, فقالوا منـي وعنّـي. وأما الذين خفّفوها, فإنهم وجدوا مكنـيّ الـمخبر عن نفسه فـي حال الـخفض ياء وحدها لا نون معها, فأجروا ذلك من لدن علـى حسب ما جرى به كلامهم فـي ذلك مع سائر الأشياء غيرها.
والصواب من القول فـي ذلك عندي أنهما لغتان فصيحتان, قد قرأ بكلّ واحدة منهما علـماء من القرّاء بـالقرآن, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب, غير أن أعجب القراءتـين إلـيّ فـي ذلك قراءة من فتـح اللام وضمّ الدال وشدّد النون. لعلتـين: إحداهما أنها أشهر اللغتـين, والأخرى أن مـحمد بن نافع البصري:
17517ـ حدثنا , قال: حدثنا أمية بن خالد, قال: حدثنا أبو الـجارية العبدي, عن أبـي إسحاق, عن سعد بن جبـير, عن ابن عبـاس, عن أبـيّ بن كعب, أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم قرأ قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنّـي عُذْرا مثقلة.
17518ـ حدثنـي عبد الله بن أبـي زياد, قال: حدثنا حجاج بن مـحمد, عن حمزة الزيات, عن أبـي إسحاق, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, عن أبـيّ بن كعب, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم مثله, وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الاَية فقال: «اسْتَـحيْا فِـي اللّهِ مُوسَى».
17519ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا بدل بن الـمـحبر, قال: حدثنا عبـاد بن راشد, قال: حدثنا داود, فـي قول الله عزّ وجلّ إنْ سألْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصَاحِبْنِـي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنّـي عُذْرا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اسْتَـحيْا فِـي اللّهِ مُوسَى عِنْدَها».
حدثنـي عبد الله بن أبـي زياد, قال: حدثنا حجاج بن مـحمد, عن حمزة الزيات, عن أبـي إسحاق, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, عن أبـيّ بن كعب, قال: كان النبـيّ صلى الله عليه وسلم إذا ذكر أحدا فدعا له بدأ بنفسه, فقال ذات يوم: «رَحْمَةُ اللّهِ عَلَـيْنا وَعلـى مُوسَى, لَوْ لَبِثَ مَعَ صَاحِبِهِ لأَبْصَرَ العَجَبَ وَلَكِنّهُ قالَ: إنْ سألْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصَاحِبْنِـي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنّـي عُذْرا» مُثَقلة.

الآية : 77
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { فَانطَلَقَا حَتّىَ إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاَتّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً }.
يقول تعالـى ذكره: فـانطلق موسى والعالـم حَتّـى إذَا أتَـيَا أهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعمَا أهْلَها من الطعام فلـم يطعموهما واستضافـاهم فَأبَوْا أن يُضَيّفُوهُما فَوَجَدَا فِـيها جِدَارا يُرِيدُ أنْ يَنْقَضّ يقول: وجدا فـي القرية حائطا يريد أن يسقط ويقع يقال منه: انقضّت الدار: إذا انهدمت وسقطت ومنه انقضاض الكوكب, وذلك سقوطه وزواله عن مكانه ومنه قول ذي الرّمة:
ـانْقَضّ كالكَوْكَبِ الدّرّي مُنْصَلِتا
وقد رُوي عن يحيى بن يعمر أنه قرأ ذلك: «يُرِيدُ أنْ يَنْقاضّ».
وقد اختلف أهل العلـم بكلام العرب إذا قرىء ذلك كذلك فـي معناه, فقال بعض أهل البصرة منهم: مـجاز ينقاضّ: أي ينقلع من أصله, ويتصدّع, بـمنزلة قولهم: قد انقاضت السنّ: أي تصدّعت, وتصدّعت من أصلها, يقال: فراق كقبض السنّ: أي لا يجتـمع أهله. وقال بعض أهل الكوفة منهم: الانقـياض: الشقّ فـي طول الـحائط فـي طيّ البئر وفـي سنّ الرجل, يقال: قد انقاضت سنة: إذا انشقّت طولاً. وقـيـل: إن القرية التـي استطعم أهلها موسى وصاحبه, فأبوا أن يضيفوهما: الاَيـلة. ذكر من قال ذلك:
17520ـ حدثنـي الـحسين بن مـحمد الذارع, قال: حدثنا عمران بن الـمعتـمر صاحب الكرابـيسي, قال: حدثنا حماد أبو صالـح, عن مـحمد بن سيرين, قال: انتابوا الأيـلة, فإنه قلّ من يأتـيها فـيرجع منها خائبـا, وهي الأرض التـي أبوا أن يضيفوهما, وهي أبعد أرض الله من السماء.
17521ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: فـانْطَلَقا حتـى إذَا أتـيَا أهْلَ قَرْيَةٍ, وتلا إلـى قوله لاتّـخَذْتَ عَلَـيْهِ أجْرا شرّ القرى التـي لا تُضِيف الضيف, ولا تعرف لابن السبـيـل حقه.
واختلف أهل العلـم بكلام العرب فـي معنى قول الله عزّ وجلّ يَرِيدُ أنْ يَنْقَضّ فقال بعض أهل البصرة: لـيس للـحائط إرادة ولا للـمَوَات, ولكنه إذا كان فـي هذه الـحال من رثة فهو إرادته. وهذا كقول العرب فـي غيره:
يُرِيدُ الرّمْـحُ صَدْرَ أبـي بَرَاءٍوَيَرْغَبُ عَنْ دِماءه بَنِـي عُقَـيْـلِ
وقال آخر منهم: إنـما كلـم القوم بـما يعقلون, قال: وذلك لـما دنا من الانقضاض, جاز أن يقول: يريد أن ينقضّ, قال: ومثله تَكادُ السّمَواتُ يَتَفَطّرْنَ وقولهم: إنـي لأكاد أطير من الفرح, وأنت لـم تقرب من ذلك, ولـم تهمّ به, ولكن لعظيـم الأمر عندك. وقال بعض الكوفـيـين منهم: من كلام العرب أن يقولوا: الـجدار يريد أن يسقط قال: ومثله من قول العرب قول الشاعر:
إنّ دهْرا يَـلُفّ شَمِلـي بِجُمْلٍلَزَمانٌ يَهُمّ بـالإِحْسانِ
وقول الاَخر:
يَشْكُو إلـيّ جَمَلِـي طُولَ السّرَىصَبْرا جَمِيلاً فَكِلانا مُبْتَلَـى
قال: والـجمل لـم يشك, إنـما تكلّـم به علـى أنه لو تكلـم لقال ذلك قال: وكذلك قول عنترة:
وَازْوَرّ مِنْ وَقْعِ القَنا بِلَبـانِهِوشَكا إلـيّ بعَبْرَةٍ وتَـحَمْـحُمِ
قال: ومنه قول الله عزّ وجلّ: ولَـمّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الغَضَبُ والغضب لا يسكت, وإنـما يسكت صاحبه. وإنـما معناه: سكن. وقوله: فَإذَا عَزَمَ الأَمْرُ إنـما يعزم أهله. وقال آخر منهم: هذا من أفصح كلام العرب, وقال: إما إرادة الـجدار: ميـله, كما قال النبـيّ صلى الله عليه وسلم «لا تَرَاءى نارَاهُما» وإنـما هو أن تكون ناران كلّ واحدة من صاحبتها بـموضع لو قام فـيه إنسان رأى الأخرى فـي القُرب قال: وهو كقول الله عزّ وجلّ فـي الأصنام: وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إلَـيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ قال: والعرب تقول: داري تنظر إلـى دار فلان, تعنـي: قرب ما بـينهما واستشهد بقول ذي الرّمّة فـي وصفه حوضا أو منزلاً دارسا:
قَدْ كادَ أوْ قَدْ هَمّ بـالبُـيُودِ
قال: فجعله يهمّ, وإنـما معناه: أنه قد تغير للبلـى. والذي نقول به فـي ذلك أن الله عزّ ذكره بلطفه, جعل الكلام بـين خـلقه رحمة منه بهم, لـيبـين بعضهم لبعض عما فـي ضمائرهم. مـما لا تـحسّه أبصارهم, وقد عقلت العرب معنى القائل:
فِـي مَهْمَةٍ قَلِقَتْ بِهِ هاماتُهاقَلَقَ الفُؤُوسِ إذَا أرَدْنَ نُصُولا
وفهمت أن الفؤوس لا توصف به بنو آدم من ضمائر الصدور مع وصفها إياهما بأنها تريد. وعلـمت ما يريد القائل بقوله:
كمِثْلِ هَيْـلِ النّقا طافَ الـمُشاةُ بِهِيَنْهالُ حِينا ويَنْهاهُ الثّرَى حِينا
وإنـما لـم يرد أن الثرى نطق, ولكنه أراد به أنه تلبّد بـالندى, فمنعه من الانهيال, فكان منعه إياه من ذلك كالنهي من ذوي الـمنطق فلا ينهال. وكذلك قوله: جِدَارا يُرِيدُ أنْ يَنْقُضّ قد علـمت أن معناه: قد قارب من أن يقع أو يسقط, وإنـما خاطب جلّ ثناؤه بـالقرآن من أنزل الوحي بلسانه, وقد عقلوا ما عنى به وإن استعجم عن فهمه ذوو البلادة والعمى, وضلّ فـيه ذوو الـجهالة والغبـا.
وقوله: فَأقامَهُ ذكر عن ابن عبـاس أنه قال: هدمه ثم قعد يبنـيه.
17522ـ حدثنا بذلك ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: ثنـي ابن إسحاق, عن الـحسن بن عُمارة, عن الـحكم بن عتـيبة, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس. وقال آخرون فـي ذلك ما:
17523ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن عمرو بن دينار, عن سعيد بن جبـير فوجدا فـيها جِدَارا يُرِيدُ أنْ يَنْقَضّ قال: رفع الـجدار بـيده فـاستقام.
والصواب من القول فـي ذلك أن يُقال: إن الله عزّ ذكره أخبر أن صاحب موسى وموسى وجدا جدارا يريد أن ينقضّ فأقامه صاحب موسى, بـمعنى: عَدَل مَيَـله حتـى عاد مستويا. وجائز أن يكون كان ذلك بإصلاح بعد هدم. وجائز أن يكون كان برفع منه له بـيده, فـاستوى بقدرة الله, وزال عنه مَيْـلُه بلطفه, ولا دلالة من كتاب الله ولا خبر للعذر قاطع بأيّ ذلك كان من أيّ.
وقوله: قالَ لَوْ شِئْتَ لاتّـخَذْتَ عَلَـيْهِ أجْرا يقول: قال موسى لصاحبه: لو شئت لـم تقم لهؤلاء القوم جدارهم حتـى يعطوك علـى إقامتك أجرا, فقال بعضهم: إنـما عَنَى موسى بـالأجر الذي قال له لَوْ شِئْتَ لاتّـخَذْتَ عَلَـيْهِ أجْرا القِرى: أي حتـى يَقْرُونا, فإنهم قد أبوا أن يضّيفونا.
وقال آخرون: بل عنى بذلك العِوَض والـجزاء علـى إقامته الـحائط الـمائل.
واختلف القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامّة قرّاء أهل الـمدينة والكوفة لَوْ شِئْتَ لاتّـخَذْتَ عَلَـيْهِ أجْرا علـى التوجيه منهم له إلـى أنه لافتعلت من الأخذ. وقرأ ذلك بعض أهل البصرة «لَوْ شَئِتَ لَتَـخِذْتَ» بتـخفـيف التاء وكسر الـخاء, وأصله: لافتعلت, غير أنهم جعلوا التاء كأنهم من أصل الكلـمة, ولأن الكلام عندهم فـي فعل ويفعل من ذلك: تـخِذ فلان كذا يَتْـخَذُهُ تَـخْذا, وهي لغة فـيـما ذكر لهُذَيـل. وقال بعض الشعراء:
وَقَدْ تَـخِذَتْ رِجْلِـي لَدَى جَنْبِ غَرْزِهانَسِيفـا كأُفُحُوصِ القَطاةِ الـمُطَرّقِ
والصواب من القول فـي ذلك عندي: أنهما لغتان معروفتان من لغات العرب بـمعنى واحد, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب, غير أنـي أختار قراءته بتشديد التاء علـى لافتعلت, لأنها أفصح اللغتـين وأشهرهما, وأكثرهما علـى ألسن العرب.
الآية : 78
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { قَالَ هَـَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عّلَيْهِ صَبْراً }.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { أَمّا السّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مّلِكٌ يَأْخُذُ كُلّ سَفِينَةٍ غَصْباً }.
يقول: أما فِعْلـي ما فعلت بـالسفـينة, فلأنها كانت لقوم مساكين يَعْمَلُونَ فِـي البَحْرِ فأَرَدْتُ أنْ أعِيبَها بـالـخَرق الذي خرقتها, كما:
17524ـ حدثنـي مـحمد ابن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله عزّ وجلّ: فأَرَدْتُ أنْ أعِيبَها قال: أخرقها.
حدثنا الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد مثله.
وقوله: وكانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلّ سَفِـينَةٍ غَصْبـا وكان أمامهم وقُدّامهم ملك. كما:
17525ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة: وكانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ قال قتادة: أمامهم, ألا ترى أنه يقول: مِنْ وَرَائِهمْ جَهَنَـمُ وهي بـين أيديهم.
17526ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: كان فـي القرآن: وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفـينة صحيحة غصبـا. وقد ذُكر عن ابن عيـينة, عن عمرو, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس أنه قرأ ذلك: وكان أمامهم ملك.
قال أبو جعفر: وقد جعل بعض أهل الـمعرفة بكلام العرب «وراء» من حروف الأضداد, وزعم أنه يكون لـما هو أمامه ولـما خـلفه, واستشهد لصحة ذلك بقول الشاعر:
أيَرْجُو بَنُو مَرْوَانَ سَمْعي وطاعَتِـيوَقَوْمي تَـمِيـمٌ والفَلاةُ وَرَائيَا
بـمعنى أمامي, وقد أغفل وجه الصواب فـي ذلك. وإنـما قـيـل لـما بـين يديه: هو ورائي, لأنك من ورائه, فأنت ملاقـيه كما هو ملاقـيك, فصار: إذ كان ملاقـيك, كأنه من ورائك وأنت أمامه. وكان بعض أهل العربـية من أهل الكوفة لا يجيز أن يقال لرجل بـين يديك: هو ورائي, ولا إذا كان وراءك أن يقال: هو أمامي, ويقول: إنـما يجوز ذلك فـي الـمواقـيت من الأيام والأزمنة كقول القائل: وراءك برد شديد, وبـين يديك حرّ شديد, لأنك أنت وراءه, فجاز لأنه شيء يأتـي, فكأنه إذا لـحقك صار من ورائك, وكأنك إذا بلغته صار بـين يديك. قال: فلذلك جاز الوجهان.
وقوله: يَأْخُذُ كُلّ سَفِـينَةٍ غَصْبـا فـيقول القائل: فما أغنى خَرْق هذا العالـم السفـينة التـي ركبها عن أهلها, إذ كان من أجل خرقها يأخذ السفن كلها, مَعِيبها وغير معيبها, وما كان وجه اعتلاله فـي خرقها بأنه خرقها, لأن وراءهم ملك يأخذ كلّ سفـينة غصبـا؟ قـيـل: إن معنى ذلك, أنه يأخذ كل سفـينة صحيحة غصبـا, ويدع منها كلّ معيبة, لا أنه كان يأخذ صحاحها وغير صحاحها. فإن قال: وما الدلـيـل علـى أن ذلك كذلك؟ قـيـل: قوله: فأَرَدْتُ أنْ أعِيبَها فأبـان بذلك أنه إنـما عابها, لأن الـمعيبة منها لا يعرض لها, فـاكتفـى بذلك من أن يقال: وكان وراءهم ملك يأخذ كلّ سفـينة صحيحة غصبـا علـى أن ذلك فـي بعض القراءات كذلك.
17527ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, قال: هي فـي حرف ابن مسعود: «وكان وراءهم ملك يأخذ كلّ سفـينة صالـحة غصبـا».
17528ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: ثنـي الـحسن بن دينار, عن الـحكم بن عيـينة, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, قال: فـي قراءة أُبـي: «وكان وراءهم ملك يأخذ كلّ سفـينة صالـحة غصبـا». وإنـما عبتها لأردّه عنها.
17529ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج وكانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلّ سَفِـينَةٍ غَصْبـا فإذا خـلفوه أصلـحوها بزفت فـاستـمتعوا بها. قال ابن جريج: أخبرنـي وهب بن سلـيـمان, عن شعيب الـجَبَـائِي, أن اسم الرجل الذي يأخذ كلّ سفـينة غصبـا: هُدَدُ بنُ بُدد.
الآية : 79
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { قَالَ هَـَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عّلَيْهِ صَبْراً }.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { أَمّا السّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مّلِكٌ يَأْخُذُ كُلّ سَفِينَةٍ غَصْباً }.
يقول: أما فِعْلـي ما فعلت بـالسفـينة, فلأنها كانت لقوم مساكين يَعْمَلُونَ فِـي البَحْرِ فأَرَدْتُ أنْ أعِيبَها بـالـخَرق الذي خرقتها, كما:
17524ـ حدثنـي مـحمد ابن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله عزّ وجلّ: فأَرَدْتُ أنْ أعِيبَها قال: أخرقها.
حدثنا الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد مثله.
وقوله: وكانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلّ سَفِـينَةٍ غَصْبـا وكان أمامهم وقُدّامهم ملك. كما:
17525ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة: وكانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ قال قتادة: أمامهم, ألا ترى أنه يقول: مِنْ وَرَائِهمْ جَهَنَـمُ وهي بـين أيديهم.
17526ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: كان فـي القرآن: وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفـينة صحيحة غصبـا. وقد ذُكر عن ابن عيـينة, عن عمرو, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس أنه قرأ ذلك: وكان أمامهم ملك.
قال أبو جعفر: وقد جعل بعض أهل الـمعرفة بكلام العرب «وراء» من حروف الأضداد, وزعم أنه يكون لـما هو أمامه ولـما خـلفه, واستشهد لصحة ذلك بقول الشاعر:
أيَرْجُو بَنُو مَرْوَانَ سَمْعي وطاعَتِـيوَقَوْمي تَـمِيـمٌ والفَلاةُ وَرَائيَا
بـمعنى أمامي, وقد أغفل وجه الصواب فـي ذلك. وإنـما قـيـل لـما بـين يديه: هو ورائي, لأنك من ورائه, فأنت ملاقـيه كما هو ملاقـيك, فصار: إذ كان ملاقـيك, كأنه من ورائك وأنت أمامه. وكان بعض أهل العربـية من أهل الكوفة لا يجيز أن يقال لرجل بـين يديك: هو ورائي, ولا إذا كان وراءك أن يقال: هو أمامي, ويقول: إنـما يجوز ذلك فـي الـمواقـيت من الأيام والأزمنة كقول القائل: وراءك برد شديد, وبـين يديك حرّ شديد, لأنك أنت وراءه, فجاز لأنه شيء يأتـي, فكأنه إذا لـحقك صار من ورائك, وكأنك إذا بلغته صار بـين يديك. قال: فلذلك جاز الوجهان.
وقوله: يَأْخُذُ كُلّ سَفِـينَةٍ غَصْبـا فـيقول القائل: فما أغنى خَرْق هذا العالـم السفـينة التـي ركبها عن أهلها, إذ كان من أجل خرقها يأخذ السفن كلها, مَعِيبها وغير معيبها, وما كان وجه اعتلاله فـي خرقها بأنه خرقها, لأن وراءهم ملك يأخذ كلّ سفـينة غصبـا؟ قـيـل: إن معنى ذلك, أنه يأخذ كل سفـينة صحيحة غصبـا, ويدع منها كلّ معيبة, لا أنه كان يأخذ صحاحها وغير صحاحها. فإن قال: وما الدلـيـل علـى أن ذلك كذلك؟ قـيـل: قوله: فأَرَدْتُ أنْ أعِيبَها فأبـان بذلك أنه إنـما عابها, لأن الـمعيبة منها لا يعرض لها, فـاكتفـى بذلك من أن يقال: وكان وراءهم ملك يأخذ كلّ سفـينة صحيحة غصبـا علـى أن ذلك فـي بعض القراءات كذلك.
17527ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, قال: هي فـي حرف ابن مسعود: «وكان وراءهم ملك يأخذ كلّ سفـينة صالـحة غصبـا».
17528ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: ثنـي الـحسن بن دينار, عن الـحكم بن عيـينة, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, قال: فـي قراءة أُبـي: «وكان وراءهم ملك يأخذ كلّ سفـينة صالـحة غصبـا». وإنـما عبتها لأردّه عنها.
17529ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج وكانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلّ سَفِـينَةٍ غَصْبـا فإذا خـلفوه أصلـحوها بزفت فـاستـمتعوا بها. قال ابن جريج: أخبرنـي وهب بن سلـيـمان, عن شعيب الـجَبَـائِي, أن اسم الرجل الذي يأخذ كلّ سفـينة غصبـا: هُدَدُ بنُ بُدد.
الآية : 80 و 81
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَأَمّا الْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبّهُمَا خَيْراً مّنْهُ زَكَـاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً }.
يقول تعالـى ذكره: وأما الغلام, فإنه كان كافرا, وكان أبواه مؤمنـين, فعلـمنا أنه يرهقهما. يقول: يغشيهما طغيانا, وهو الاستكبـار علـى الله, وكفرا به. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. وقد ذُكر ذلك فـي بعض الـحروف. وأما الغلام فكان كافرا. ذكر من قال ذلك:
17530ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة: «وأمّا الغُلامُ فَكانَ كافِرا» فـي حرف أُبـيّ, وكان أبواه مؤمنـين فأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبّهُمَا خَيْرا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْما.
17531ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَأمّا الغُلامُ فَكانَ أبَوَاه مُوْمِنَـيْنِ وكان كافرا بعض القراءة. وقوله: فَخَشِينا وهي فـي مصحف عبد الله: «فخَافَ رَبّكَ أنْ يُرْهِقَهُما طُغْيانا وكُفْرا».
17532ـ حدثنا عمرو بن علـيّ, قال: حدثنا أبو قتـيبة, قال: حدثنا عبد الـجبـار بن عبـاس الهمْدانـي, عنا بن إسحاق, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, عن أبـيّ بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الغُلامُ الّذِي قَتَلَهُ الـخَضِرُ طُبِعَ يَوْمَ طُبِعَ كافِرا».
والـخشية والـخوف توجههما العرب إلـى معنى الظنّ, وتوجه هذه الـحروف إلـى معنى العلـم بـالشيء الذي يُدرك من غير جهة الـحسّ والعيان. وقد بـيّنا ذلك بشواهده فـي غير هذا الـموضع, بـما أغنى عن إعادته.
وكان بعض أهل العربـية من أهل البصرة يقول: معنى قوله خَشِينا فـي هذا الـموضع: كرهنا, لأنّ الله لا يخشَى. وقال فـي بعض القراءات: فخاف ربكُ, قال: وهو مثل خفت الرجلـين أن يعولا, وهو لا يخاف من ذلك أكثر من أنه يكرهه لهما.
وقوله: فأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبّهُمَا: اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأه جماعة من قرّاء الـمكيـين والـمدنـيـين والبصريـين: «فأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبّهُمَا». وكان بعضهم يعتلّ لصحة ذلك بأنه وجد ذلك مشدّدا فـي عامّة القرآن, كقول الله عزّ وجلّ: فَبَدّلَ الّذِينَ ظَلَـمُوا, وقوله: وَإذَا بَدّلْنا آيَةً مَكانَ إيَةٍ, فألـحق قوله: فأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا بِه. وقرأ ذلك عامّة قرّاء الكوفة: فأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا بتـخفـيف الدال. وكان بعض من قرأ ذلك كذلك من أهل العربـية يقول: أبدل يُبْدِل بـالتـخفـيف وبَدّل يُبدّل بـالتشديد: بـمعنى واحد.
والصواب من القول فـي ذلك عندي: أنهما قراءتان متقاربتا الـمعنى, قد قرأ بكلّ واحدة منهما جماعة من القرّاء, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب. وقـيـل: إن الله عزّ وجلّ أبدل أبَوَي الغلام الذي قتله صاحب موسى منه بجارية. ذكر من قال ذلك:
17533ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا هاشم بن القاسم, قال: حدثنا الـمبـارك بن سعيد, قال: حدثنا عمرو بن قـيس فـي قوله: فأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبّهُمَا خَيْرا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْما قال: بلغنـي أنها جارية.
17534ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج, أخبرنـي سلـيـمان بن أميّة أنه سمع يعقوب بن عاصم يقول: أُبْدِلاَ مكان الغلام جارية.
17535ـ قال ابن جريج: وأخبرنـي عبد الله بن عثمان بن خُثَـيـم, أنه سمع سعيد بن جبـير يقول: أبدلا مكان الغلام جارية.
وقال آخرون: أبدلهما ربهما بغلام مسلـم. ذكر من قال ذلك:
17536ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج فأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبّهُمَا خَيْرا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْما قال: كانت أمه حُبلـى يومئذ بغلام مسلـم.
17537ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو سفـيان, عن معمر, عن قتادة, أنه ذكر الغلام الذي قتله الـخضر, فقال: قد فرح به أبواه حين ولد وحزنا علـيه حين قتل, ولو بقـي كان فـيه هلاكهما, فلـيرض امرؤ بقضاء الله, فإن قضاء الله للـمؤمن فـيـماط يكره خير له من قضائه فـيـما يحبّ.
وقوله: خَيْرا مِنْهُ زَكاةً يقول: خيرا من الغلام الذي قتله صلاحا ودينا, كما:
17538ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قوله: فأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبّهُمَا خَيْرا مِنْهُ زَكَاةً قال: الإسلام.
وقوله: وأقْرَبَ رُحْما اختلف أهل التأويـل فـي تأويـله, فقال بعضهم: معنى ذلك: وأقرب رحمة بوالديه وأبرّ بهما من الـمقتول. ذكر من قال ذلك:
17539ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر عن قتادة وأقْرَبَ رُحْما: أبرّ بوالديه.
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سيعد, عن قتادة وأقْرَبَ رُحْما أي أقرب خيرا.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وأقرب أن يرحمه أبواه منهما للـمقتول. ذكر من قال ذلك:
17540ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج وأقْرَبَ رُحْما أرحم به منهما بـالذي قتل الـخضر.
وكان بعض أهل العربـية يتأوّل ذلك: وأقرب أن يرحماه والرّحْم: مصدر رحمت, يقال: رَحِمته رَحْمة ورُحما. وكان بعض البصريـين يقول: من الرّحِم والقرابة. وقد يقال: رُحْم ورُحُم مثل عُسْر وعُسُر, وهُلْك وهُلُك, واستشهد لقوله ذلك ببـيت العجاج:
ولَـمْ تُعَوّجْ رُحْمُ مَنْ تَعَوّجا
ولا وجه للرّحيـم فـي هذا الـموضع. لأن الـمقتول كان الذي أبدل الله منه والديه ولدا لأبوي الـمقتول, فقرابتهما من والديه, وقربهما منه فـي الرّحيـم سواء. وإنـما معنى ذلك: وأقرب من الـمقتول أن يرحم والديه فـيبرهما كما قال قتادة. وقد يتوجه الكلام إلـى أن يكون معناه. وأقرب أن يرحماه, غير أنه لا قائل من أهل تأويـل تأوّله كذلك. فإذ لـم يكن فـيه قائل, فـالصواب فـيه ما قلنا لـما بـيّنا.
الآية : 82
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَأَمّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مّن رّبّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِـع عّلَيْهِ صَبْراً }.
يقول تعالـى ذكره مخبرا عن قول صاحب موسى: وأما الـحائط الذي أقمته, فإنه كان لغلامين يتـيـمين فـي الـمدينة, وكان تـحته كنزلهما.
اختلف أهل التأويـل فـي ذكل الكنز, فقال بعضهم: كان صُحُفـا فـيها علِـم مدفونة. ذكر من قال ذلك:
17541ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس وكانَ تَـحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال: كان تـحته كنْزُ علـم.
17542ـ حدثنا يعقوب, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا حصين, عن سعيد بن جبـير: وكانَ تَـحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال: كان كنز علـم.
حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن أبـي حصين, عن سعيد بن جبـير وكانَ تَـحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال: علـم.
حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا أبو داود, قال: حدثنا شعبة, عن أبـي حصين, عن سعيد بن جبـير وكانَ تَـحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال: علـم.
17543ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله وكانَ تَـحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال: صحف لغلامين فـيها علـم.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, قال: صحف علـم.
17544ـ حدثنـي أحمد بن حازم الغفـاريّ, قال: حدثنا هنادة ابنة مالك الشيبـانـية, قالت: سمعت صاحبـي حماد بن الولـيد الثقـفـي يقول: سمعت جعفر بن مـحمد يقول فـي قول الله عزّ وجلّ: وكانَ تَـحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال: سطران ونصف, لـم يتـمّ الثالث: «عجبت للـموقن بـالرزق كيف يتعب, وعجبت للـموقن بـالـحساب كيف يغفل, وعجبت للـموقن بـالـموت كيف يفرح» وقد قال: وَإنْ كانَ مِثْقالَ حَبّةٍ مِنْ خَرْدَلِ أتـيْنا بِها وَكَفـى بِنا حاسِبِـينَ قالت: وذكر أنهما حُفِظا بصلاح أبـيهما, ولـم يذكر منهما صلاح, وكان بـينهما وبـين الأب الذي حُفظا به سبعة آبـاء, كان نساجا.
17545ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا الـحسن بن ندبة, قال: حدثنا سلـمة بن مـحمد, عن نعيـم العنبريّ, وكان من جُلساء الـحسن, قال: سمعت الـحسن يقول فـي قوله: وكانَ تَـحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال: لوح من ذهب مكتوب فـيه: «بسم الله الرحمَن الرحيـم: عجبت لـمن يؤمن كيف يحزن وعجبت لـمن يوقن بـالـموت كيف يفرح وعجبت لـمن يعرف الدنـيا وتقلبها بأهلها, كيف يطمئنّ إلـيها لا إله إلا الله, مـحمد رسول الله».
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: ثنـي ابن إسحاق, عن الـحسن بن عمارة, عن الـحكم, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس أنه كان يقول: ما كان الكنز إلا علْـما.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا ابن عيـينة, عن حميد, عن مـجاهد, فـي قوله وكانَ تَـحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال: صُحُف من علـم.
17546ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وعب, قال: أخبرنـي عبد الله بن عياش, عن عمر مولـى غُفْرة, قال: إن الكنز الذي قال الله فـي السورة التـي يذكر فـيها الكهف وكانَ تَـحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال: كان لوحا من ذهب مصمت, مكتوبـا فـيه: بسم الله الرحمَن الرحيـم. عَجَبٌ مـمن عرف الـموت ثم ضحك, عَجَبٌ مـمن أيقن بـالقدر ثم نَصِب, عَجَبٌ مـمن أيقن بـالـموت ثم أمن, أشهد أن لا إله إلا الله, وأن مـحمدا عبده ورسوله.
وقال آخرون: بل كان مالاً مكنوزا. ذكر من قال ذلك:
17547ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا هشام, قال: أخبرنا حصين, عن عكرمة وكانَ تَـحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال: كنز مال.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن أبـي حصين, عن عكرمة, مثله.
حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا أبو داود, عن شعبة, قال: أخبرنـي أبو حُصَين, عن عكرمة, مثله, قال شعبة: ولـم نسمعه منه.
17548ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة وكانَ تَـحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال: مال لهما, قال قتادة: أُحِلّ الكنز لـمن كان قبلنا, وحُرّم علـينا, فإن الله يُحلّ من أمره ما يشاء, ويحرّم, وهي السنن والفرائض, ويحلّ لأمة, ويحرّم علـى أخرى, لكنّ الله لا يقبل من أحد مضى إلا الإخلاص والتوحيد له.
وأولـى التأويـلـين فـي ذلك بـالصواب: القول الذي قاله عِكْرمة, لأن الـمعروف من كلام العرب أن الكنز اسم لـما يكنز من من مال, وأن كلّ ما كنز فقد وقع علـيه اسم كنز, فإن التأويـل مصروف إلـى الأغلب من استعمال الـمخاطبـين بـالتنزيـل, ما لـم يأت دلـيـل يجب من أجله صرفه إلـى غير ذلك, لعلل قد بـيّناها فـي غير موضع.
وقوله: وكان أبُوهُما صَالِـحا فأرَادَ رَبّكَ أنْ يَبْلُغا أشُدّهُما يقول: فأراد ربك أن يدركا ويبلغا قوتهما وشدّتهما, ويستـخرجا حينئذ كنزهما الـمكنوز تـحت الـجدار الذي أقمته, رحمة من ربك بهما, يقول: فعلت فعل هذا بـالـجدار, رحمة من ربك للـيتـيـمين. وكان ابن عبـاس يقول فـي ذلك ما:
17549ـ حدثنـي موسى بن عبد الرحمن, قال: حدثنا أبو أسامة, عن مسعر, عن عبد الـملك بن ميسرة, عن سعيد بن جبـير, قال: قال ابن عبـاس, فـي قوله وَكانَ أبُوهُما صالِـحا قال: حُفِظا بصلاح أبـيهما, وما ذكر منهما صلاح.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا سفـيان, عن مسعر, عن عبد الـملك بن ميسرة, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, مثله.
وقوله: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أمْرِي يقول: وما فعلت يا موسى جميع الذي رأيتنـي فعلته عن رأيـي, ومن تلقاء نفسي, وإنـما فعلته عن أمر الله إياي به, كما:
17550ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أمْرِي: كان عبدا مأمورا, فمضى لأمر الله.
17551ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أمْرِي ما رأيت أجمع ما فعلته عن نفسي.
وقوله: ذَلِكَ تَأْوِيـلُ ما لَـمْ تَسْطِعْ عَلَـيْهِ صَبْرا يقول: هذا الذي ذكرت لك من الأسبـاب التـي من أجلها فعلت الأفعال التـي استنكرتها منـي, تأويـل. يقول: ما تؤول إلـيه وترجع الأفعال التـي لـم تسطع علـى ترك مسألتك إياي عنها, وإنكارك لها صبرا.
وهذه القصص التـي أخبر الله عزّ وجلّ نبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم بها عن موسى وصاحبه, تأديب منه له, وتقدمٌ إلـيه بترك الاستعجال بعقوبة الـمشركين الذين كذّبوه واستهزؤوا به وبكتابه, وإعلام منه له أن أفعاله بهم وإن جرت فـيـما ترى الأعين بـما قد يجري مثله أحيانا لأولـيائه, فإن تأويـله صائر بهم إلـى أحوال أعدائه فـيها, كما كانت أفعال صاحب موسى واقعة بخلاف الصحة فـي الظاهر عند موسى, إذ لـم يكن عالـما بعواقبها, وهي ماضية علـى الصحة فـي الـحقـيقة وآئلة إلـى الصواب فـي العاقبة, ينبىء عن صحة ذلك قوله: وَرَبّكَ الْغَفُورُ ذُو الرّحْمَةِ لَوْ يُوءَاخِذُهُمْ بِـمَا كَسَبُوا لَعَجّلَ لَهُمْ العَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلا. ثم عقب ذلك بقصة موسى وصاحبه, يعلـم نبـيه أن تركه جلّ جلاله تعجيـل العذاب لهؤلاء الـمشركين, بغير نظر منه لهم, وإن ذلك فـيـما يَحْسِب من لا علـم له بـما اللهمدبر فـيهم, نظرا منه لهم, لأن تأويـل ذلك صائر إلـى هلاكهم وبوارهم بـالسيف فـي الدنـيا واستـحقاقهم من الله فـي الاَخرة الـخَزْيَ الدائم