تفسير الطبري تفسير الصفحة 309 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 309
310
308
 الآية : 52 و 53
القول فـي تأويـل قوله تعالـى. { وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطّورِ الأيْمَنِ وَقَرّبْنَاهُ نَجِيّاً * وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً }.
يقول تعالـى ذكره: ونادينا موسى من ناحية الـجبل, ويعنـي بـالأيـمن: يـمين موسى, لأن الـجبل لا يـمين له ولا شمال, وإنـما ذلك كما يقال: قام عن يـمين القبلة وعن شمالها. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
17914ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, فـي قوله: مِنْ جانِبِ الطّورِ الأيـمَنِ قال: جانب الـجبل الأيـمن.
وقد بـيّنا معنى الطور واختلاف الـمختلفـين فـيه, ودللنا علـى الصواب من القول فـيـما مضى, بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. وقوله: وَقَرّبْناهُ نَـجِيّا يقول تعالـى ذكره: وأدنـيناه مناجيا, كما يقال: فلان نديـم فلان ومنادمه, وجلـيس فلان ومـجالسه. وذُكر أن الله جلّ ثناؤه أدناه, حتـى سمع صريف القلـم. ذكر من قال ذلك:
17915ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا يحيى, قال: حدثنا سفـيان, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس وَقَرّبْناهُ نـجِيّا قال: أُدْنـيَ حتـى سمع صريف القلـم.
17916ـ حدثنا مـحمد بن منصور الطّوسِيّ, قال: حدثنا يحيى بن أبـي بكر, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, قال: أراه عن مـجاهد, فـي قوله: وَقَرّبْناهُ نَـجِيّا قال: بـين السماء الرابعة, أو قال: السابعة, وبـين العرش سبعون ألف حجاب: حجاب نور, وحجاب ظلـمة, وحجاب نور, وحجاب ظلـمة فما زال يقرب موسى حتـى كان بـينه وبـينه حجاب, وسمع صَريف القلـم قالَ رَبّ أرِنِـي أنْظُرْ إلَـيْكَ.
17917ـ حدثنا علـيّ بن سهل, قال: ثنـي حجاج, عن أبـي جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية, قال: قرّبه منه حتـى سمع صريف القلـم.
17918ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن عطاء, عن ميسرة وَقَرّبْناهُ نَـجِيّا قال: أُدْنِـيَ حتـى سمع صريف القلـم فـي اللوح, وقال شعبة: أردفه جبرائيـل علـيه السلام.
وقال قتادة فـي ذلك, ما:
17919ـ حدثنا به الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, فـي قوله: وَقَرّبْناهُ نَـجِيّا قال: نـجا بصدقه.
وقوله: وَوَهَبْنا لَهُ منْ رَحْمَتنا أخاهُ هارُونَ يقول: ووهبنا لـموسى رحمة منا أخاه هارون نَبِـيّا يقول: أيّدناه بنبوّته, وأعنّاه بها, كما:
17920ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن عُلَـية, عن داود, عن عكرمة, قال: قال ابن عبـاس: قوله: وَوَهَبْنا لَهُ منْ رَحْمَتِنا أخاهُ هارُونَ نَبِـيّا قال: كان هارون أكبر من موسى, ولكن أراد وهب له نبوّته.

الآية : 54
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نّبِيّاً }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: واذكر يا مـحمد فـي الكتاب إسماعيـل بن إبراهيـم, فـاقصص خبره إنه كان لا يكذب وعده, ولا يخـلف, ولكنه كان إذا وعد ربه, أو عبدا من عبـاده وعدا وفـى به, كما:
17921ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قوله: إنّهُ كانَ صَادِقَ الوَعْدِ قال: لـم يَعِدْ ربه عِدة إلا أنـجزها.
17922ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي عمرو بن الـحارث أن سهل بن عقـيـل, حدّثه أن إسماعيـل علـيه السلام وعد رجلاً مكانا أن يأتـيه, فجاء ونسي الرجل, فظلّ به إسماعيـل, وبـات حتـى جاء الرجل من الغد, فقال: ما برحت من هاهنا؟ قال: لا, قال: إنـي نسيت, قال: لـم أكن لأبرح حتـى تأتـي, فبذلك كان صادقا.
الآية : 55
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:{ وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصّـلاَةِ وَالزّكَـاةِ وَكَانَ عِندَ رَبّهِ مَرْضِيّاً }.
يقول تعالـى ذكره: وكانَ يأْمُرُ أهْلَهُ بِإقامة الصّلاةِ و إيتاء الزّكاةِ وكانَ عِنْدَ رَبّهِ مَرْضِيّا عمله, مـحمودا فـيـما كلفه ربه, غير مقصر فـي طاعته.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنّهُ كَانَ صِدّيقاً نّبِيّاً * وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً }.
يقول تعالـى ذكره: واذكر يا مـحمد فـي كتابنا هذا إدريس إنّهُ كانَ صِدّيقا لا يقول الكذب, نَبِـيّانوحي إلـيه من أمرنا ما نشاء وَرَفَعْناهُ مَكانا عَلِـيّا ذكر أن الله رفعه وهو حيّ إلـى السماء الرابعة, فذلك معنى قوله: وَرَفَعْناهُ مَكانا عَلِـيّا يعنـي به إلـى مكان ذي علوّ وارتفـاع. وقال بعضهم: رُفع إلـى السماء السادسة. وقال آخرون: الرابعة. ذكر الرواية بذلك:
17923ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي جرير بن حازم, عن سلـيـمان الأعمش, عن شمر بن عطية, عن هلال بن يساف, قال: سأل ابن عبـاس كعبـا وأنا حاضر, فقال له: ما قول الله تعالـى لإدريس وَرَفَعْناهُ مَكانا عَلِـيّا قال كعب: أما إدريس, فإن الله أوحى إلـيه: إنـي رافع لك كلّ يوم مثل عمل جميع بنـي آدم, فأحبّ أن تزداد عملاً, فأتاه خـلـيـل له من الـملائكة, فقال: إن الله أوحى إلـيّ كذا وكذا, فكلـمْ لـي ملك الـموت, فلـيؤخرنـي حتـى أزداد عملاً, فحمله بـين جناحيه, ثم صعد به إلـى السماء فلـما كان فـي السماء الرابعة, تلقاهم ملك الـموت منـحدرا, فكلـم ملك الـموت فـي الذي كلـمه فـيه إدريس, فقال: وأين إدريس؟ فقال: هوذا علـى ظهري, قال ملك الـموت: فـالعجب بعثت أقبض روح إدريس فـي السماء الرابعة, فجعلت أقول: كيف أقبض روحه فـي السماء الرابعة وهو فـي الأرض؟ فقبض روحه هناك, فذلك قول الله تبـارك وتعالـى: وَرَفَعْناهُ مَكانا عَلِـيّا.
17924ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: وَرَفَعْناهُ مَكانا عَلِـيّا قال: إدريس رُفع فلـم يـمت, كما رُفع عيسى.
حدثنا القاسم, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, مثله, إلا أنه قال: ولـم يـمت.
17925ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس وَرَفَعْناهُ مَكانا عَلِـيّا قال: رفع إلـى السماء السادسة, فمات فـيها.
17926ـ حدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: وَرَفَعْناهُ مكانا علـيا إدريس أدركه الـموت فـي السماء السادسة.
17927ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن منصور, عن مـجاهد ورفعناه مكانا علـيا قال: السماء الرابعة.
17928ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن يـمان, عن سفـيان, عن أبـي هارون العبدي, عن أبـي سعيد الـخدري ورفعناه مكانا علـيا قال: فـي السماء الرابعة.
17929ـ حدثنا علـيّ بن سهيـل, قال: حدثنا حجاج, قال: حدثنا أبو جعفر الرازي, عن الربـيع بن أنس, عن أبـي العالـية الرياحي, عن أبـي هريرة أو غيره «شكّ أبو جعفر الرازي» قال: لـما أسري بـالنبـيّ صلى الله عليه وسلم صعد به جبريـل إلـى السماء الرابعة, فـاستفتـح فقـيـل: من هذا؟ قال: جبرائيـل, قالوا: ومن معه؟ قال: مـحمد, قالوا: أوقد أرسل إلـيه؟ قال: نعم, قالوا: حياه الله من أخ ومن خـلـيفة, فنعم الأخ ونعم الـخـلـيفة, ونعم الـمـجيء جاء, قال: فدخـل فإذا هو برجل, قال: هذا إدريس رفعه الله مكانا علـيا.
17930ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, فـي قوله ورفعناه مكانا علـيا قال: حدثنا أنس بن مالك أن نبـيّ الله حدث أنه لـما عرج به إلـى السماء قال: أتـيت علـى إدريس فـي السماء الرابعة.
الآية : 56 و 57
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:{ وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصّـلاَةِ وَالزّكَـاةِ وَكَانَ عِندَ رَبّهِ مَرْضِيّاً }.
يقول تعالـى ذكره: وكانَ يأْمُرُ أهْلَهُ بِإقامة الصّلاةِ و إيتاء الزّكاةِ وكانَ عِنْدَ رَبّهِ مَرْضِيّا عمله, مـحمودا فـيـما كلفه ربه, غير مقصر فـي طاعته.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنّهُ كَانَ صِدّيقاً نّبِيّاً * وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً }.
يقول تعالـى ذكره: واذكر يا مـحمد فـي كتابنا هذا إدريس إنّهُ كانَ صِدّيقا لا يقول الكذب, نَبِـيّانوحي إلـيه من أمرنا ما نشاء وَرَفَعْناهُ مَكانا عَلِـيّا ذكر أن الله رفعه وهو حيّ إلـى السماء الرابعة, فذلك معنى قوله: وَرَفَعْناهُ مَكانا عَلِـيّا يعنـي به إلـى مكان ذي علوّ وارتفـاع. وقال بعضهم: رُفع إلـى السماء السادسة. وقال آخرون: الرابعة. ذكر الرواية بذلك:
17923ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي جرير بن حازم, عن سلـيـمان الأعمش, عن شمر بن عطية, عن هلال بن يساف, قال: سأل ابن عبـاس كعبـا وأنا حاضر, فقال له: ما قول الله تعالـى لإدريس وَرَفَعْناهُ مَكانا عَلِـيّا قال كعب: أما إدريس, فإن الله أوحى إلـيه: إنـي رافع لك كلّ يوم مثل عمل جميع بنـي آدم, فأحبّ أن تزداد عملاً, فأتاه خـلـيـل له من الـملائكة, فقال: إن الله أوحى إلـيّ كذا وكذا, فكلـمْ لـي ملك الـموت, فلـيؤخرنـي حتـى أزداد عملاً, فحمله بـين جناحيه, ثم صعد به إلـى السماء فلـما كان فـي السماء الرابعة, تلقاهم ملك الـموت منـحدرا, فكلـم ملك الـموت فـي الذي كلـمه فـيه إدريس, فقال: وأين إدريس؟ فقال: هوذا علـى ظهري, قال ملك الـموت: فـالعجب بعثت أقبض روح إدريس فـي السماء الرابعة, فجعلت أقول: كيف أقبض روحه فـي السماء الرابعة وهو فـي الأرض؟ فقبض روحه هناك, فذلك قول الله تبـارك وتعالـى: وَرَفَعْناهُ مَكانا عَلِـيّا.
17924ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: وَرَفَعْناهُ مَكانا عَلِـيّا قال: إدريس رُفع فلـم يـمت, كما رُفع عيسى.
حدثنا القاسم, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, مثله, إلا أنه قال: ولـم يـمت.
17925ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس وَرَفَعْناهُ مَكانا عَلِـيّا قال: رفع إلـى السماء السادسة, فمات فـيها.
17926ـ حدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: وَرَفَعْناهُ مكانا علـيا إدريس أدركه الـموت فـي السماء السادسة.
17927ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن منصور, عن مـجاهد ورفعناه مكانا علـيا قال: السماء الرابعة.
17928ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن يـمان, عن سفـيان, عن أبـي هارون العبدي, عن أبـي سعيد الـخدري ورفعناه مكانا علـيا قال: فـي السماء الرابعة.
17929ـ حدثنا علـيّ بن سهيـل, قال: حدثنا حجاج, قال: حدثنا أبو جعفر الرازي, عن الربـيع بن أنس, عن أبـي العالـية الرياحي, عن أبـي هريرة أو غيره «شكّ أبو جعفر الرازي» قال: لـما أسري بـالنبـيّ صلى الله عليه وسلم صعد به جبريـل إلـى السماء الرابعة, فـاستفتـح فقـيـل: من هذا؟ قال: جبرائيـل, قالوا: ومن معه؟ قال: مـحمد, قالوا: أوقد أرسل إلـيه؟ قال: نعم, قالوا: حياه الله من أخ ومن خـلـيفة, فنعم الأخ ونعم الـخـلـيفة, ونعم الـمـجيء جاء, قال: فدخـل فإذا هو برجل, قال: هذا إدريس رفعه الله مكانا علـيا.
17930ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, فـي قوله ورفعناه مكانا علـيا قال: حدثنا أنس بن مالك أن نبـيّ الله حدث أنه لـما عرج به إلـى السماء قال: أتـيت علـى إدريس فـي السماء الرابعة.

الآية : 58
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { أُولَـَئِكَ الّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مّنَ النّبِيّيْنَ مِن ذُرّيّةِ ءادَمَ وَمِمّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرّيّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَآ إِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرّحْمَـَنِ خَرّواْ سُجّداً وَبُكِيّاً }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه صلى الله عليه وسلم: هؤلاء الذين اقتصصتُ علـيك أنبـاءهم فـي هذه السورة يا مـحمد, الذين أنعم الله علـيهم بتوفـيقه, فهداهم لطريق الرشد من الأنبـياء من ذريه آدم, ومن ذرية من حملنا مع نوح فـي الفُلك, ومن ذرية إبراهيـم خـلـيـل الرحمن, ومن ذرية إسرائيـل, ومـمن هدينا للإيـمان بـالله والعمل بطاعته واجتبـينا: يقول: ومـمن اصطفـينا واخترنا لرسالتنا ووحينا, فـالذي عنى به من ذرية آدم إدريس, والذي عنى به من ذرية من حملنا مع نوح إبراهيـم, والذي عنى به من ذرية إبراهيـم إسحاق ويعقوب وإسماعيـل, والذي عنى به من ذرية إسرائيـل: موسى وهارون وزكريا وعيسى وأمه مريـم, ولذلك فرق تعالـى ذكره أنسابهم وإن كان يجمع جميعهم آدم لأن فـيهم من لـيس من ولد من كان مع نوح فـي السفـينة, وهو إدريس, وإدريس جدّ نوح.
وقوله تعالـى ذكره: إذَا تُتلـى عَلَـيهِمْ آياتُ الرّحمنِ يقول: إذا تتلـى علـى هؤلاء الذين أنعم الله علـيهم من النبـيـين أدلة الله وحججه التـي أنزلها علـيهم فـي كتبه, خرّوا لله سجدا, استكانة له وتذللاً وخضوعا لأمره وانقـيادا, وَبُكِيّا يقول: خرّوا سجدا وهم بـاكون, والبُكِيّ: جمع بـاك, كما العُتِـيّ جمع عات والـجُثِـيّ: جمع جاث, فجمع وهو فـاعل علـى فعول, كما يجمع القاعد قعودا, والـجالس جلوسا, وكان القـياس أن يكون: وبُكوّا وعتوّا, ولكن كرهت الواو بعد الضمة فقلبت ياء, كما قـيـل فـي جمع دلو أدل. وفـي جمع البهو أبه, وأصل ذلك أفعل أدلو وأبهو, فقلبت الواو ياء لـمـجيئها بعد الضمة استثقالاً, وفـي ذلك لغتان مستفـيضتان, قد قرأ بكلّ واحدة علـماء من القرّاء بـالقرآن بكيا وعتوّا بـالضمّ, وبكيا وعتـيا بـالكسر. وقد يجوز أن يكون البكيّ هو البكاء بعينه. وقد:
17931ـ حدثنا ابن بشاء, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن الأعمش, عن إبراهيـم, قال: قرأ عمر بن الـخطاب سورة مريـم فسجد وقال: هذا السجود, فأين البكيّ؟ يريد: فأين البكاء.
الآية : 59
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصّلاَةَ وَاتّبَعُواْ الشّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً }.
يقول تعالـى ذكره: فحدث من بعد هؤلاء الذين ذكرت من الأنبـياء الذين أنعمت علـيهم, ووصفت صفتهم فـي هذه السورة, خـلْف سوء خـلفوهم فـي الأرض أضاعو الصلاة.
ثم اختلْف أهل التأويـل فـي صفة إضاعتهم الصلاة, فقال بعضهم: كانت إضاعتهموها تأخيرهم إياها عن مواقـيتها, وتضيـيعهم أوقاتها. ذكر من قال ذلك:
17932ـ حدثنـي علـيّ بن سعد الكندي, قال: حدثنا عيسى بن يونس, عن الأوزاعي, عن موسى بن سلـيـمان, عن القاسم بن مخيـمرة, فـي قوله: فخَـلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَـلْفٌ أضَاعُوا الصّلاةَ قال: إنـما أضاعوا الـمواقـيت, ولو كان تركا كان كفرا.
حدثنا إسحاق بن زيد الـخطابـي, قال: حدثنا الفريابـي, عن الأوزاعي, عن القاسم بن مخيـمرة, نـحوه.
حدثنا عبد الكريـم بن أبـي عمير, قال: ثنـي الولـيد بن مسلـم, عن أبـي عمرو, عن القاسم بن مخيـمرة, قال: أضاعوا الـمواقـيت, ولو تركوها لصاروا بتركها كفـارا.
حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا الولـيد بن مسلـم, عن الأوزاعي, عن القاسم, نـحوه.
17933ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا عيسى, عن الأوزاعي, عن إبراهيـم بن يزيد, أن عمر بن عبد العزيز بعث رجلاً إلـى مصر لأمر أعجله للـمسلـمين, فخرج إلـى حرسه, وقد كان تقدم إلـيهم أن لا يقوموا إذا رأوه, قال: فأوسعوا له, فجلس بـينهم فقال: أيكم يعرف الرجل الذي بعثناه إلـى مصر؟ فقالوا: كلنا نعرفه, قال: فلـيقم أحدثكم سنا, فلـيدعه, فأتاه الرسول فقال: لا تعجلنـي أشدّ علـيّ ثـيابـي, فأتاه فقال: إن الـيوم الـجمعة, فلا تبرحن حتـى تصلـي, وإنا بعثناك فـي أمر أعجله للـمسلـمين, فلا يعجلنك ما بعثناك له أن تؤخر الصلاة عن ميقاتها, فإنك مصلـيها لا مـحالة, ثم قرأ: فخَـلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَـلْفٌ أضَاعُوا الصّلاةَ واتّبَعُوا الشّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَـلْقَوْنَ غَيّا ثم قال: لـم يكن إضاعتهم تركها, ولكن أضاعوا الوقت.
17934ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن الـمسعودي, عن القاسم بن عبد الرحمن, والـحسن بن مسعود, عن ابن مسعود, أنه قـيـل له: إن الله يكثر ذكر الصلاة فـي القرآن الّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهمْ سَاهُونَ و عَلـى صَلاَتِهمْ دَائِمُونَ و عَلـى صَلاَتِهمْ يُحَافِظُونَ فقال ابن مسعود رضي الله عنه: علـى مواقـيتها, قالوا: ما كنا نرى ذلك إلا علـى الترك, قال: ذاك الكفر.
17935ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا عمر أبو حفص الأبـار, عن منصور بن الـمعتـمر, قال: قال مسروق: لا يحافظ أحد علـى الصلوات الـخمس, فـيكتب من الغافلـين, وفـي إفراطهنّ الهلكة, وإفراطهنّ: إضاعتهنّ عن وقتهنّ.
وقال آخرون: بل كانت إضاعتهموها: تركها. ذكر من قال ذلك:
17936ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنا أبو صخر, عن القرظي, أنه قال فـي هذه الاَية فَخَـلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَـلْفٌ أضَاعُوا الصّلاةَ واتّبَعُوا الشّهَوَاتِ يقول: تركوا الصلاة.
قال أبو جعفر: وأولـى التأويـلـين فـي ذلك عندي بتأويـل الاَية, قول من قال: أضعتـموها تركهم إياها لدلالة قول الله تعالـى ذكره بعده علـى أن ذلك كذلك, وذلك قوله جلّ ثناؤه: إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وعَمِلَ صَالِـحا فلو كان الذين وصفهم بأنهم ضيعوها مؤمنـين لـم يستثن منهم من آمن, وهم مؤمنون ولكنهم كانوا كفـارا لا يصلون لله, ولا يؤدّون له فريضة فسقة قد آثروا شهوات أنفسهم علـى طاعة الله, وقد قـيـل: إن الذين وصفهم الله بهذه الصفة قوم من هذه الأمة يكونون فـي آخر الزمان.
17937ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى. وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن. قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: فخَـلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَـلْفٌ أضَاعُوا الصّلاة واتّبَعُوا الشّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَـلْقَوْنَ غَيّا قال: عند قـيام الساعة, وذهاب صالـحي أمة مـحمد صلى الله عليه وسلم ينزو بعضهم علـى بعض فـي الأزقة. قال مـحمد بن عمرو: زنا. وقال الـحارث: زناة.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد مثله, وقال: زنا, كما قال ابن عمرو.
17938ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو تـميـلة, عن أبـي حمزة, عن جابر, عن عكرمة ومـجاهد وعطاء بن أبـي ربـاح فخَـلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَـلْفٌ... الاَية, قال: هم أمة مـحمد.
17939ـ وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الأشيب, قال: حدثنا شريك, عن أبـي تـميـم بن مهاجر فـي قول الله: فخَـلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَـلْفٌ أضَاعُوا الصّلاة قال: هم فـي هذه الأمة يتراكبون تراكب الأنعام والـحمر فـي الطرق, لا يخافون الله فـي السماء, ولا يستـحيون الناس فـي الأرض.
وأما قوله: فَسَوْفَ يَـلْقَوْنَ غَيّا فإنه يعنـي أن هؤلاء الـخـلْف الذين خـلفوا بعد أولئك الذين أنعم الله علـيهم من النبـيـين سيدخـلون غيا, وهو اسم واد من أودية جهنـم, أو اسم بئر من آبـارها, كما:
17940ـ حدثنـي عبـاس بن أبـي طالب, قال: حدثنا مـحمد بن زياد بن رزان, قال: حدثنا شرقـي بن قطامي, عن لقمان بن عامر الـخزاعي, قال: جئت أبـا أمامة صديّ بن عجلان البـاهلـي, فقلت: حدّثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: فدعا بطعام, ثم قال: قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: «لَوْ أنّ صخْرَةً زِنَةَ عَشْرِ أوَاقٍ قُذِفَ بِها منْ شَفـيرٍ جَهَنّـمَ ما بَلَغَتْ قَعْرَها خَمْسينَ خَرِيفـا, ثُمّ تَنْتَهي إلـى غَيَ وأثامٍ», قال: قُلْتُ وَما غيّ وَما أثامٌ؟ قالَ: «بْئرَانِ فـي أسْفَلٍ جَهَنّـمَ يَسِيـلُ فِـيهِما صَدِيدُ أهْلِ النّارِ, وَهُما اللّتانِ ذَكَرَ اللّهُ فِـي كِتابِهِ أضَاعُوا الصّلاةَ واتّبَعُوا الشّهَوَاتٍ فَسَوْفَ يَـلْقَوْنَ غَيّا, وقوله فـي الفُرقان: وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلكَ يَـلْقَ أثاما».
17941ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا عمرو بن عاصم, قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان, عن أبـيه, عن قتادة, عن أبـي أيوب, عن عبد الله بن عمرو فَسَوْفَ يَـلْقَوْنَ غَيّا قال: واديا فـي جهنـم.
حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن أبـي إسحاق, عن أبـي عبـيدة, عن عبد الله فَسَوْفَ يَـلْقَوْنَ غَيّا قال: واديا فـي النار.
17942ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن أبـي إسحاق, عن أبـي عبـيدة, عن عبد الله أنه قال فـي هذه الاَية فَسَوْفَ يَـلْقَوْنَ غَيّا قال: نهر فـي جهنـم خبـيث الطعم بعيد القعر.
حدثنـي مـحمد بن عبـيد الـمـحاربـي, قال: حدثنا أبو الأحوص, عن أبـي إسحاق, عن أبـي عبـيدة, عن أبـيه, فـي قوله: فَخَـلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَـلْفٌ أضَاعُوا الصّلاةَ واتّبَعُوا الشّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَـلْقَوْنَ غَيّا قال: الغيّ: نهر جهنـم فـي النار, يعذّب فـيه الذين اتبعوا الشهوات.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو الأحوص, عن أبـي إسحاق, عن أبـي عبـيدة, عن أبـيه, فـي قوله فَخَـلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَـلْفٌ أضَاعُوا الصّلاةَ واتّبَعُوا الشّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَـلْقَوْنَ غَيّا قال: الغيّ: نهر جهنـم فـي النار, يعذّب فـيه الذين اتبعوا الشهوات.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو الأحوص, عن أبـي إسحاق, عن أبـي عبـيدة, عن عبد الله أضَاعُوا الصّلاةَ واتّبَعُوا الشّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَـلْقَوْنَ غَيّا قال: نهر فـي النار يقذف فـيه الذين اتبعوا الشهوات.
وقال آخرون: بل عنى بـالغيٌ فـي هذا الـموضع: الـخسران. ذكر من قال ذلك:
17943ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: فَسَوْفَ يَـلْقَوْنَ غَيّا يقول: خسرانا.
وقال آخرون: بل عنى به الشرّ. ذكر من قال ذلك:
17944ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: فسَوْفَ يَـلْقَوْنَ غَيّا قال: الغيّ: الشرّ ومنه قول الشاعر:
فمَنْ يَـلْقَ خَيْرا يحْمَدِ الناسُ أمْرَهُوَمَنْ يَغْوَ لا يَعْدَمْ علـى الغَيّ لائما
قال أبو جعفر: وكلّ هذه الأقوال متقاربـات الـمعانـي, وذلك أن من ورد البئرين اللتـين ذكرهما النبـيّ صلى الله عليه وسلم, والوادي الذي ذكره ابن مسعود فـي جهنـم, فدخـل ذلك, فقد لاقـى خسرانا وشرّا, حسبه به شرّا.
الآية : 60
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { إِلاّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَـَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً }.
يقول تعالـى ذكره: فسوف يـلقـي هؤلاء الـخـلف السوء الذين وصف صفتهم غيا, إلا الذين تابوا فراجعوا أمرا الله, والإيـمان به وبرسوله وعَمِلَ صَالـحا يقول: وأطاع الله فـيـما أمره ونهاه عنه, وأدّى فرائضه, واجتنب مـحارمه فأُولَئِكَ يَدْخُـلُونَ الـجَنّةَ يقول: فإن أولئك منهم خاصة يدخـلون الـجنة دون من هلك منهم علـى كفره, وإضاعته الصلاة واتبـاعه الشهوات. وقوله: وَلا يُظْلَـمُونَ شَيْئا يقول: ولا يُبخسون من جزاء أعمالهم شيئا, ولا يجمع بـينهم وبـين الذين هلكوا من الـخـلف السوء منهم قبل توبتهم من ضلالهم, وقبل إنابتهم إلـى طاعة ربهم فـي جهنـم, ولكنهم يدخـلون مدخـل أهل الإيـمان.
الآية : 61
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { جَنّاتِ عَدْنٍ الّتِي وَعَدَ الرّحْمَـَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً }.
يقول تعالـى ذكره: فأولئك يدخـلون الـجنة جَنّاتِ عَدْنٍ. ولوله: جَنّاتِ عَدْنٍ نصب ترجمة عن الـجنة. ويعنـي بقوله: جَنّاتِ عَدْنٍ: بساتـين إقامة. وقد بـيّنت ذلك فـيـما مضى قبل بشواهده الـمغنـية عن إعادته. وقوله: التـي وَعَدَ الرّحْمَنُ عِبـادَهُ بـالغَيْبِ يقول: هذه الـجنات التـي وعد الرحمن عبـاده الـمؤمنـين أن يدخـلوها بـالغيب, لأنهم لـم يروها ولـم يعاينوها, فهي غيب لهم. وقوله: إنّهُ كانَ وَعْدهُ مأتِـيّا يقول تعالـى ذكره: إن الله كان وعده, ووعده فـي هذا الـموضع موعوده, وهو الـجنة مأتـيا يأتـيه أولـياؤه وأهل طاعته الذين يدخـلهموها الله. وقال بعض نـحويـي الكوفة: خرج الـخبر علـى أن الوعد هو الـمأتـيّ, ومعناه: أنه هو الذي يأتـي, ولـم يقل: وكان وعده آتـيا, لأن كلّ ما أتاك فأنت تأتـيه, وقال: ألا ترى أنك تقول: أتـيت علـى خمسين سنة, وأتت علـىّ خمسون سنة, وكلّ ذلك صواب, وقد بـيّنت القول فـيه, والهاء فـي قوله إنّهُ من ذكر الرحمن.
الآية : 62
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { لاّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاّ سَلاَماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً }.
يقول تعالـى ذكره: لا يسمع هؤلاء الذين يدخـلون الـجنة فـيها لغوا, وهو الهَدْي والبـاطل من القول والكلام إلاّ سَلاَما وهذا من الاستثناء الـمنقطع, ومعناه: ولكن يسمعون سلاما, وهو تـحية الـملائكة إياهم. وقوله: ولَهُمْ رِزْقُهُمْ فِـيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّا يقول: ولهم طعامهم وما يشتهون من الـمطاعم والـمشارب فـي قدر وقت البُكرة ووقت العشيّ من نهار أيام الدنـيا, وإنـما يعنـي أن الذي بـين غدائهم وعشائهم فـي الـجنة قدر ما بـين غداء أحدنا فـي الدنـيا وعشائه, وكذلك ما بـين العشاء والغداء وذلك لأنه لا لـيـل فـي الـجنة ولا نهار, وذلك كقوله: خَـلَقَ الأرْضَ فـي يومَيْنِ و خَـلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضَ فِـي سِتّةِ أيّام يعنـي به: من أيام الدنـيا, كما:
17945ـ حدثنا علـيّ بن سهل, قال: حدثنا الولـيد بن مسلـم, قال: سألت زهير بن مـحمد, عن قول الله: ولَهُمْ رِزْقهُمْ فِـيها بُكْرَةٍ وَعَشِيّا قال: لـيس فـي الـجنة لـيـل, هم فـي نور أبدا, ولهم مقدار اللـيـل والنهار, يعرفون مقدار اللـيـل بـارخاء الـحجب وإغلاق الأبواب, ويعرفون مقدار النهار برفع الـحجب, وفتـح الأبواب.
17946ـ حدثنا علـيّ, قال: حدثنا الولـيد, عن خـلـيد, عن الـحسن, وذكر أبواب الـجنة, فقال: أبواب يُرى ظاهرها من بـاطنها, فَتكلـم وَتكلـم, فتهمهم انفتـحي انغلقـي, فتفعل.
17947ـ حدثنـي ابن حرب, قال: حدثنا موسى بن إسماعيـل, قال: حدثنا عامر بن يساف, عن يحيى, قال: كانت العرب فـي زمانهم من وجد منهم عشاء وغداء, فذاك الناعم فـي أنفسهم, فأنزل الله ولَهُمْ رِزْقُهُم فِـيها بُكْرَةٍ وَعَشِيّا: قدر ما بـين غدائكم فـي الدنـيا إلـى عشائكم.
17948ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, فـي قوله: ولَهُمْ رِزْقُهُمْ فِـيها بُكْرَةً وَعَشِيّا قال: كانت العرب إذا أصاب أحدُهم الغداء والعشاء عجب له, فأخبرهم الله أن لهم فـي الـجنة بكرة وعشيا, قدر ذلك الغداء والعشاء.
17949ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوريّ, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قال: لـيس بكرة ولا عشيّ, ولكن يؤتون به علـى ما كانوا يشتهون فـي الدنـيا.
17950ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله ولَهُمْ رِزْقُهُمْ فِـيها بُكْرَةٍ وعَشِيّا فـيها ساعتان بكرة وعشيّ, فإن ذلك لهم لـيس ثم لـيـل, إنـما هو ضوء ونور.
الآية : 63
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { تِلْكَ الْجَنّةُ الّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً }.
يقول تعالـى ذكره: هذه الـجنة التـي وصفت لكم أيها الناس صفتها, هي الـجنة التـي نورثها, يقول: نورث مساكن أهل النار فـيها مِنْ عِبـادِنا مَنْ كانَ تَقِـيّا يقول: من كان ذا اتقاء عذاب الله بأداء فرائضه, واجتناب معاصيه.
الآية : 64
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَمَا نَتَنَزّلُ إِلاّ بِأَمْرِ رَبّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبّكَ نَسِيّاً }.
ذُكر أن هذه الاَية نزلت من أجل استبطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم جبرائيـل بـالوحي, وقد ذكرت بعض الرواية, ونذكر إن شاء الله بـاقـي ما حضَرنا ذكره مـما لـم نذكر قبل. ذكر من قال ذلك:
17951ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عبد الله, قال: حدثنا عبد الله بن أبـان العجلـي, وقبـيصة ووكيع وحدثنا سفـيان بن وكيع قال: حدثنا أبـي, جميعا عن عمر بن ذرّ, قال: سمعت أبـي يذكر عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, أن مـحمدا قال لـجبرائيـل: «ما يَـمْنَعُكَ أنْ تَزُورَنا أكْثَرَ مِـمّا تَزُورُنا» فنزلت هذه الاَية: ومَا نَتَنّزلُ إلاّ بأَمْرِ رَبّكَ لَهُ ما بـينَ أيْدِينا ومَا خَـلْفَنا ومَا بـينَ ذلكَ ومَا كانَ رَبّكَ نَسِيّا قال: هذا الـجواب لـمـحمد صلى الله عليه وسلم.
حدثنـي مـحمد بن معمر, قال: حدثنا عبد الـملك بن عمرو, قال: حدثنا عمر بن ذرّ, قال: ثنـي أبـي, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم قال لـجبرائيـل: «ما يَـمْنَعُكَ أن تَزَوُرَنا أكْثَرَ مِـمّا تَزُورُنا؟ فنزلت ومَا نَتَنّزلُ إلاّ بأمْرِ رَبّكَ» حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله وومَا نَتَنّزلُ إلاّ بأمْرِ رَبّكَ... إلـى ومَا كانَ رَبّكَ نَسِيّا قال: احتبس جبرائيـل عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فوجِد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وحزن, فأتاه جبرائيـل فقال: يا مـحمد ومَا نَتَنّزلُ إلاّ بأمْرِ رَبّكَ لَهُ ما بـينَ أيْدِينا ومَا خَـلْفَنا ومَا بـينَ ذلكَ ومَا كانَ رَبّكَ نَسِيّا.
17952ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, قال: لبث جبرائيـل عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فكأن النبـيّ استبطأه, فلـما أتاه قال له جبرائيـل: ومَا نَتَنّزلُ إلاّ بأمْرِ رَبّكَ... الاَية.
17953ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة ومَا نَتَنّزلُ إلاّ بأمْرِ رَبّكَ لَهُ ما بـينَ أيْدِينا ومَا خَـلْفَنا قال: هذا قول جبرائيـل, احتبس جبرائيـل فـي بعض الوحي, فقال نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم: «ما جِئْتَ حتـى اشْتَقْتُ إلَـيْكَ» فقال له جبرائيـل: ومَا نَتَنّزلُ إلاّ بأمْرِ رَبّكَ لَهُ ما بـينَ أيْدِينا ومَا خَـلْفَنا».
17954ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قول الله تبـارك وتعالـى ومَا نَتَنّزلُ إلاّ بأمْرِ رَبّكَ قال: قول الـملائكة حين استراثهم مـحمد صلى الله عليه وسلم, كالتـي فـي الضحى.
17955ـ حدثنا القاسم, قال حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, قال: لبث جبرائيـل عن مـحمد اثنتـي عشرة لـيـلة, ويقولون: قُلـي, فلـما جاءه قال: أيْ جَبْرائِيـلُ لَقَدْ رِثْتَ عَلـيّ حتـى لَقَدْ ظَنّ الـمُشْرِكُونَ كُلّ ظَنّ» فنزلت: ومَا نَتَنّزلُ إلاّ بأمْرِ رَبّكَ لَهُ ما بـينَ أيْدِينا ومَا خَـلْفَنا ومَا بـينَ ذلكَ ومَا كانَ رَبّكَ نَسِيّا.
17956ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ, يقول: حدثنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: ومَا نَتَنّزلُ إلاّ بأمْرِ رَبّكَ احتبس عن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم حتـى تكلـم الـمشركون فـي ذلك, واشتدّ ذلك علـى نبـيّ الله, فأتاه جبرائيـل, فقال: اشتدّ علـيك احتبـاسنا عنك, وتكلـم فـي ذلك الـمشركون, وإنـما أنا عبد الله ورسوله, إذا أمرنـي بأمر أطعته ومَا نَتَنّزلُ إلاّ بأمْرِ رَبّكَ يقول: بقول ربك. ثم اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: لَهُ ما بـينَ أيْدِينا ومَا خَـلْفَنا ومَا بـينَ ذلكَ فقال بعضهم: يعنـي بقوله ما بـينَ أيْدِينا من الدنـيا, وبقوله: ومَا خَـلْفَنا الاَخرة ومَا بـينَ ذلكَ النفختـين. ذكر من قال ذلك:
17957ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن أبـي جعفر, عن الربـيع لَهُ ما بـينَ أيْدِينا يعنـي الدنـيا ومَا خَـلْفَنا الاَخرة ومَا بـينَ ذلكَ النفختـين.
17958ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن أبـي جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية, قال ما بـينَ أيْدِينا من الدنـيا ومَا خَـلْفَنا من أمر الاَخرة ومَا بـينَ ذلكَ ما بـين النفختـين.
وقال آخرون: ما بـينَ أيْدِينا الاَخرة ومَا خَـلْفَنا الدنـيا ومَا بـينَ ذلكَ ما بـين الدنـيا والاَخرة. ذكر من قال ذلك:
17959ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس بـينَ أيْدِينا الاَخرة ومَا خَـلْفَنا من الدنـيا.
17960ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة لَهُ ما بـينَ أيْدِينا من أمر الاَخرة ومَا خَـلْفَنا من أمر الدنـيا ومَا بـينَ ذلكَ ما بـين الدنـيا والاَخرة ومَا كانَ رَبّكَ نَسِيّا.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة لَهُ ما بـينَ أيْدِينا من الاَخرة وَما خَـلْفَنا من الدنـيا وَما بـينَ ذلكَ ما بـين النفختـين.
17961ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: ما بـينَ أيْدِينا من الاَخرة وَما خَـلْفَنا من الدنـيا.
وقال آخرون فـي ذلك بـما:
17962ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج ما بـينَ أيْدِينا قال: ما مضى أمامنا من الدنـيا وَما خَـلْفَنا ما يكون بعدنا من الدنـيا والاَخرة وَما بـينَ ذلكَ قال: ما بـين ما مضى أمامهم, وبـين ما يكون بعدهم.
وكان بعض أهل العربـية من أهل البصرة يتأوّل ذلك له ما بـينَ أيْدِينا قبل أن نـخـلق وَما خَـلْفَنا بعد الفناء وَما بـينَ ذلكَ حين كنا.
قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب, قول من قال: معناه: له ما بـين أيدينا من أمر الاَخرة, لأن ذلك لـم يجيء وهو جاء, فهو بـين أيديهم, فإن الأغلب فـي استعمال الناس إذا قالوا: هذا الأمر بـين يديك, أنهم يعنون به ما لـم يجيء, وأنه جاء, فلذلك قلنا: ذلك أولـى بـالصواب. وما خـلفنا من أمر الدنـيا, وذلك ما قد خـلفوه فمضى, فصار خـلفهم بتـخـلـيفهم إياه, وكذلك تقول العرب لـما قد جاوزه الـمرء وخـلفه هو خـلفه, ووراءه وما بـين ذلك: ما بـين ما لـم يـمض من أمر الدنـيا إلـى الاَخرة, لأن ذلك هو الذي بـين ذينك الوقتـين.
وإنـما قلنا: ذلك أولـى التأويلات به, لأن ذلك هو الظاهر الأغلب, وإنـما يحمل تأويـل القرآن علـى الأغلب من معانـيه, ما لـم يـمنع من ذلك ما يجب التسلـيـم له. فتأمل الكلام إذن: فلا تستبطئنا يا مـحمد فـي تـخـلفنا عنك, فإنا لا نتنزّل من السماء إلـى الأرض إلا بأمر ربك لنا بـالنزول إلـيها, لله ما هو حادث من أمور الاَخرة التـي لـم تأت وهي آتـية, وما قد مضى فخـلفناه من أمر الدنـيا, وما بـين وقتنا هذا إلـى قـيام الساعة. بـيده ذلك كله, وهو مالكه ومصرّفه, لا يـملك ذلك غيره, فلـيس لنا أن نـحدث فـي سلطانه أمرا إلا بأمره إيانا به وَما كانَ رَبّكَ نَسِيّا يقول: ولـم يكن ربك ذا نسيان, فـيتأخر نزولـي إلـيك بنسيانه إياك بل هو الذي لا يعزُب عنه شيء فـي السماء ولا فـي الأرض فتبـارك وتعالـى ولكنه أعلـم بـما يدبر ويقضي فـي خـلقه. جل ثناؤه. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
17963ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد وَما كانَ رَبّكَ نَسِيّا قال: ما نسيك ربك