تفسير الطبري تفسير الصفحة 345 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 345
346
344
 الآية : 44
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { ثُمّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلّ مَا جَآءَ أُمّةً رّسُولُهَا كَذّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لّقَوْمٍ لاّ يُؤْمِنُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: ثُمّ أرْسَلْنا إلـى الأمـم التـي أنشأنا بعد ثمود رُسُلَنا تَتْرَى يعنـي: يتبع بعضها بعضا, وبعضها فـي أثر بعض. وهي من الـمواترة, وهي اسم لـجمع مثل «شيء», لا يقال: جاءنـي فلان تترى, كما لا يقال: جاءنـي فلان مواترة, وهي تنوّن ولا تنوّن, وفـيها الـياء, فمن لـم ينوّنها فَعْلَـى من وترت, ومن قال «تترا» يوهم أن الـياء أصلـية كما قـيـل: مِعْزًى بـالـياء, ومَعْزا وبُهْمَى بُهْما ونـحو ذلك, فأجريت أحيانا وترك إجراؤها أحيانا, فمن جعلها «فَعْلَـى» وقـف علـيها, أشاء إلـى الكسر, ومن جعلها ألف إعراب لـم يشر, لأن ألف الإعراب لا تكسر, لا يقال: رأيت زيدا, فـيشار فـيه إلـى الكسر.
وبنـحو الذي قلنا فـي تأويـل ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19303ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: حدثنا معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: ثُمّ أرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرَى يقول: يَتْبع بعضها بعضا.
حدثنا مـحمد بن سعد, قال: ثنى أبـي, قال: ثنى عمي, قال: ثنى أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: ثُمّ أرْسَلْنا رُسُلَنَا تتْرَى يقول: بعضها علـى أثر بعض.
19304ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى. وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قول الله: تَتْرَى قال: اتبـاع بعضها بعضا.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد: ثُمّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرَى قال: يتبع بعضها بعضا.
19305ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: ثُمّ أرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرَى قال: بعضهم علـى أثر بعض, يتبع بعضهم بعضا.
واختلفت قرّاء الأمصار فـي قراءة ذلك, فقرأ ذلك بعض قرّاء أهل مكة وبعض أهل الـمدينة وبعض أهل البصرة: «تَتْرًى» بـالتنوين. وكان بعض أهل مكة وبعض أهل الـمدينة وعامة قرّاء الكوفة يقرءونه: تَتْرَى بإرسال الـياء علـى مثال «فَعْلَـى». والقول فـي ذلك أنهما قراءتان مشهورتان, ولغتان معروفتان فـي كلام العرب بـمعنى واحد, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب غير أنّـي مع ذلك أختار القراءة بغير تنوين, لأنه أفصح اللغتـين وأشهرهما.
وقوله: كُلّـما جاءَ أُمّةً رَسُولُهَا كَذّبُوهُ يقول: كلـما جاء أمة من تلك الأمـم التـي أنشأناها بعد ثمود رسولها الذي نرسله إلـيهم, كذّبوه فـيـما جاءهم به من الـحقّ من عندنا. وقوله: فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضا يقول: فأتبعنا بعض تلك الأمـم بعضا بـالهلاك فأهلكنا بعضهم فـي إثر بعض. وقوله: وَجَعَلْناهُمْ أحادِيثَ للناس ومثلاً يُتَـحدّث بهم, وقد يجوز أن يكون جمع حديث. وإنـما قـيـل: وَجَعَلْناهُمْ أحادِيثَ لأنهم جُعلوا حديثا ومثلاً يُتـمثّل بهم فـي الشرّ, ولا يقال فـي الـخير: جعلته حديثا ولا أُحدوثة. وقوله: فَبُعْدا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ يقول: فأبعد الله قوما لا يؤمنون بـالله ولا يصدّقون برسوله.
الآية : 45 -46
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { ثُمّ أَرْسَلْنَا مُوسَىَ وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مّبِينٍ * إِلَىَ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: ثم أرسلنا بعد الرسل الذين وصف صفتهم قبل هذه الاَية, موسى وأخاه هارون إلـى فرعون وأشراف قومه من القبط بآياتِنَا يقول: بحججنا, فـاسْتَكْبَرُوا عن اتّبـاعها والإيـمان بـما جاءهم به من عند الله. وكانُوا قَوْما عالِـينَ يقول: وكانوا قوما عالـين علـى أهل ناحيتهم ومن فـي بلادهم من بنـي إسرائيـل وغيرهم بـالظلـم, قاهرين لهم.
وكان ابن زيد يقول فـي ذلك ما:
19306ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, وقوله: وكانُوا قَوْما عالِـينَ قال: عَلَوا علـى رسلهم وعصَوا ربهم ذلك علوّهم. وقرأ: تِلكَ الدّارُ الاَخِرَةُ… الاَية.

الآية : 47 - 48
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { فَقَالُوَاْ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ * فَكَذّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ الْمُهْلَكِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: فقال فرعون وملؤه: أنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا فنتبعهما وَقَوْمُهُما من بنـي إسرائيـل لَنا عابِدُونَ يعنون أنهم لهم مطيعون متذللون, يأتـمرون لأمرهم ويدينون لهم. والعرب تسمي كل من دان الـملك عابدا له, ومن ذلك قـيـل لأهل الـحِيرة: العبـاد, لأنهم كانوا أهل طاعة لـملوك العجم.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19307ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: قال فرعون: أنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا... الاَية, نذهب نرفعهم فوقنا, ونكون تـحتهم, ونـحن الـيوم فوقهم وهم تـحتنا, كيف نصنع ذلك؟ وذلك حين أتوهم بـالرسالة. وقرأ: وَتَكُونَ لَكُما الكِبْرياءُ فِـي الأَرْضِ قال: العلوّ فـي الأرض.
وقوله: فَكَذّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الـمُهْلَكِينَ يقول: فكذّب فرعون وملؤه موسى وهارون, فكانوا مـمن أهلَكَهم الله كما أهلك من قبلهم من الأمـم بتكذيبها رسلها.

الآية : 49 - 50
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىَ الْكِتَابَ لَعَلّهُمْ يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَآ إِلَىَ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ }.
يقول تعالـى ذكره: ولقد آتـينا موسى التوراة, لـيهتدي بها قومه من بنـي إسرائيـل, ويعلـموا بـما فـيها. وَجَعَلْنا ابْنَ مَرْيَـمَ وأُمّهُ يقول: وجعلنا ابن مريـم وأمه حجة لنا علـى من كان بـينهم, وعلـى قدرتنا علـى إنشاء الأجسام من غير أصل, كما أنشأنا خـلق عيسى من غير أب. كما:
19308ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا مَعْمر, عن قَتادة, فـي قوله: وَجَعَلْنا ابْنَع مَرْيَـمَ وأُمّهُ قال: ولدته من غير أب هو له.
ولذلك وُحّدت الاَية, وقد ذكر مريـم وابنها.
وقوله وآوَيْناهما إلـى رَبْوَةٍ يقول: وضمـمناهما وصيرناهما إلـى ربوة, يقال: أوى فلان إلـى موضع كذا, فهو يأوِي إلـيه. إذا صار إلـيه وعلـى مثال «أفعلته» فهو يُؤْويه. وقوله إلـى رَبْوَة يعنـي: إلـى مكان مرتفع من الأرض علـى ما حوله ولذلك قـيـل للرجل يكون فـي رفعة من قومه وعزّ وشرف وعدد: هو فـي ربوة من قومه, وفـيها لغتان: ضمّ الراء وكسرها إذا أريد بها الاسم, وإذا أريد بها الفعلة من الـمصدر قـيـل رَبَـا رَبْوة.
واختلف أهل التأويـل فـي الـمكان الذي وصفه الله بهذه الصفة وآوَى إلـيه مريـم وابنها, فقال بعضهم: هو الرّملة من فلسطين. ذكر من قال ذلك:
19309ـ حدثنـي مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا صفوان بن عيسى, قال: حدثنا بشر بن رافع, قال: ثنـي ابن عمّ لأبـي هريرة, يقال له أبو عبد الله, قال: قال لنا أبو هريرة: الزموا هذه الرملة من فلسطين, فإنها الربوة التـي قال الله: وآوَيْناهُما إلـى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ.
19310ـ حدثنـي عصام بن رَوّاد بن الـجراح, قال: حدثنا أبـي, قال: حدثنا عبـاد أبو عتبة الـخوّاص, قال: حدثنا يحيى بن أبـي عمرو السيبـانـي, عن ابن وَعْلة, عن كريب, قال: ما أدري ما حدثنا مُرّة النَبْهزيّ, أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذكر أن الربوة هي الرملة».
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, عن بشر بن رافع, عن أبـي عبد الله بن عمّ أبـي هريرة, قال: سمعت أبـا هريرة يقول فـي قول الله: إلـى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ قال: هي الرملة من فلسطين.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا صفوان, قال: حدثنا بشر بن رافع, قال: حدثنا أبو عبد الله ابن عمّ, أبـي هريرة, قال: قال لنا أبو هريرة: الزموا هذه الرملة التـي بفلسطين, فإنها الربوة التـي قال الله: وآوَيْناهُما إلـى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ.
وقال آخرون: هي دمشق. ذكر من قال ذلك:
19311ـ حدثنا أحمد بن الولـيد القرشي, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن يحيى بن سعيد, عن سعيد بن الـمسيب أنه قال فـي هذه الاَية: وآوَيْناهُما إلـى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ قال: زعموا أنها دمشق.
حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, قال: بلغنـي, عن ابن الـمسيب أنه قال دمشق.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن يحيى بن سعيد, عن سعيد بن الـمسيب, مثله.
19312ـ حدثنـي يحيى بن عثمان بن صالـح السهمي, قال: حدثنا ابن بكير, قال: حدثنا اللـيث بن سعد, قال: ثنـي عبد الله بن لهيعة, عن يحيى بن سعيد, عن سعيد بن الـمسيب, فـي قوله: وآوَيْناهُما إلـى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ قال: إلـى ربوة من رُبـا مصر. قال: ولـيس الرّبَـا إلاّ فـي مصر, والـماء حين يُرسَل تكون الربَـا علـيها القرى, لولا الربَـا لغرقت تلك القرى.
وقال آخرون: هي بـيت الـمقدس. ذكر من قال ذلك:
19313ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قَتادة, قال: هو بـيت الـمقدس.
19314ـ قال: ثنامـحمد بن ثور, عن معمر, عن قَتادة قال: كان كعب يقول: بـيت الـمقدس أقرب إلـى السماء بثمانـيةَ عَشَر ميلاً.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن كعب, مثله.
وأولـى هذه الأقوال بتأويـل ذلك: أنها مكان مرتفع ذو استواء وماء ظاهر ولـيس كذلك صفة الرملة, لأن الرملة لا ماء بها مُعِين, والله تعالـى ذكره وصف هذه الربوة بأنها ذات قرار ومَعِين.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19315ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: وآوَيْناهُما إلـى رَبْوَةٍ قال: الربوة: الـمستوية.
19316ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: إلـى رَبْوَةٍ قال: مستوية.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, مثله.
وقوله: ذَات قَرَارٍ وَمَعِينٍ يقول تعالـى ذكره: من صفة الربوة التـي آوينا إلـيها مريـم وابنها عيسى, أنها أرض منبسطة وساحة وذات ماء ظاهر لغير البـاطن جارٍ.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19317ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: وَمَعِينٍ قال: الـمَعِين: الـماء الـجاري, وهو النهر الذي قال الله: قَدْ جَعَلَ رَبّكَ تَـحْتَكِ سَرِيّا.
19318ـ حدثنـي مـحمد بن عمارة الأسديّ, قال: حدثنا عبـيد الله بن موسى, قال: أخبرنا إسرائيـل, عن أبـي يحيى, عن مـجاهد, فـي قوله: ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعينٍ قال: الـمَعِين: الـماء.
حدثنـي مـحمد بن عمارة الأسديّ, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: مَعِين, قال: ماء.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, مثله.
19319ـ حدثنـي سلـيـمان بن عبد الـجبـار, قال: حدثنا مـحمد بن الصّلْت, قال: حدثنا شريك, عن سالـم, عن سعيد, فـي قوله: ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعينٍ قال: الـمكان الـمستوى, والـمَعِين: الـماء الظاهر.
19320ـ حُدثت عن الـحسين بن الفرج, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: وَمَعِينٍ: هو الـماء الظاهر.
وقال آخرون: عُنـي بـالقرار الثمار. ذكر من قال ذلك:
19321ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قَتادة: ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ هي ذات ثمار, وهي بـيت الـمقدس.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة, مثله.
قال أبو جعفر: وهذا القول الذي قاله قَتادة فـي معنى: ذَاتِ قَرَارٍ وإن لـم يكن أراد بقوله: إنها إنـما وصفت بأنها ذات قرار, لـما فـيها من الثمار, ومن أجل ذلك يستقرّ فـيها ساكنوها, فلا وجه له نعرفه. وأما مَعِينٍ فإنه مفعول من عِنْته فأنا أعينه, وهو معين وقد يجوز أن يكون فعيلاً من مَعَن يـمعن, فهو معين من الـماعون ومنه قول عَبـيد بن الأبرص:
وَاهِيَةٌ أوْ مَعِينٌ مُـمْعِنٌأوْ هَضْبَةٌ دُونَها لُهُوبُ

الآية : 51
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { يَأَيّهَا الرّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطّيّبَاتِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ }.
يقول تعالـى ذكره: وقلنا لعيسى: يا أيها الرسل كلوا من الـحلال الذي طيّبه الله لكم دون الـحرام, وَاعْمَلُوا صَالِـحا تقول فـي الكلام للرجل الواحد: أيها القوم كفوا عنّا أذاكم, وكما قال: الّذِينَ قَالَ لهم النّاسُ, وهو رجل واحد.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19322ـ حدثنـي ابن عبد الأعلـى بن واصل, قال: ثنـي عبـيد بن إسحاق الضبـيّ العطار, عن حفص بن عمر الفزاريّ, عن أبـي إسحاق السبـيعيّ, عن عمرو بن شرحبـيـل: يا أيّها الرّسُلُ كُلُوا مِنَ الطّيّبـاتِ وَاعْمَلُوا صَالـحا قال: كان عيسى ابن مريـم يأكل من غزل أمه.
وقوله: إنّـي بِـمَا تَعْمَلُونَ عَلِـيـمٌ يقول: إنـي بأعمالكم ذو علـم, لا يخفـى علـيّ منها شيء, وأنا مـجازيكم بجميعها, وموفّـيكم أجوركم وثوابكم علـيها, فخذوا فـي صالـحات الأعمال واجتهدوا.
الآية : 52
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَإِنّ هَـَذِهِ أُمّتُكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبّكُمْ فَاتّقُونِ }.
اختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: وَإنّ هَذِهِ أمّتُكُمْ أُمّةً وَاحدَةً, فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الـمدينة والبصرة: «وأنّ» بـالفتـح, بـمعنى: إنـي بـما تعملون علـيـم, وأن هذه أمتكم أمة واحدة. فعلـى هذا التأويـل «أنّ» فـي موضع خفض, عطف بها علـى «ما» من قوله: بِـما تَعْمَلُونَ, وقد يحتـمل أن تكون فـي موضع نصب إذا قرىء ذلك كذلك, ويكون معنى الكلام حينئذٍ: واعلـموا أن هذه, ويكون نصبها بفعل مضمر. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفـيـين بـالكسر: وَإنّ هذه علـى الاستئناف. والكسر فـي ذلك عندي علـى الابتداء هو الصواب, لأن الـخبر من الله عن قـيـله لعيسى: يا أيّها الرُسُلُ مبتدأ, فقوله: وَإنّ هَذِهِ مردود علـيه عطفـا به علـيه فكان معنى الكلام: وقلنا لعيسى: يا أيها الرسل كلوا من الطيبـات, وقلنا: وإن هذه أمتكم أمة واحدة. وقـيـل: إن الأمة الذي فـي هذا الـموضع: الدّين والـملة. ذكر من قال ذلك:
19323ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جُرَيج, فـي قوله: وَإنّ هَذِهِ أُمّتُكُمُ أُمّةً وَاحِدَةً قال: الـملة والدين.
وقوله: وأنا رَبّكُمْ فـاتّقُونِ يقول: وأنا مولاكم فـاتقون بطاعتـي تأمنوا عقابـي. ونصبت «أمة واحدة» علـى الـحال. وذُكر عن بعضهم أنه قرأ ذلك رفعا. وكان بعض نـحويّـي البصرة يقول: رَفْع ذلك إذا رفع علـى الـخبر, ويجعل أمتكم نصبـا علـى البدل من هذه. وأما نـحويّو الكوفة فـيأبُون ذلك إلاّ فـي ضرورة شعر, وقالوا: لا يقال: مررت بهذا غلامكم لأن «هذا» لا تتبعه إلاّ الألف واللام والأجناس, لأن «هذا» إشارة إلـى عدد, فـالـحاجة فـي ذلك إلـى تبـيـين الـمراد من الـمشار إلـيه أيّ الأجناس هو؟ وقالوا: وإذا قـيـل: هذه أمتكم واحدة, والأمة غائبة وهذه حاضرة, قالوا: فغير جائز أن يبـين عن الـحاضر بـالغائب, قالوا: فلذلك لـم يجز: إن هذا زيد قائم, من أجل أن هذا مـحتاج إلـى الـجنس لا إلـى الـمعرفة.
الآية : 53
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { فَتَقَطّعُوَاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ }.
اختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: زُبُرا فقرأته عامة قرّاء الـمدينة والعراق: زُبُرا بـمعنى جمع الزّبور. فتأويـل الكلام علـى قراءة هؤلاء: فتفرّق القوم الذين أمرهم الله من أمة الرسول عيسى بـالاجتـماع علـى الدين الواحد والـملة الواحدة, دينهم الذي أمرهم الله بلزومه زُبُرا كُتُبـا, فدان كل فريق منهم بكتاب غير الكتاب الذين دان به الفريق الاَخر, كالـيهود الذين زعموا أنهم دانوا بحكم التوراة وكذّبوا بحكم الإنـجيـل والقرآن, وكالنصارى الذين دانوا بـالإنـجيـل بزعمهم وكذّبوا بحكم الفرقان. ذكر من تأوّل ذلك كذلك:
19324ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قَتادة زُبُرا قال: كُتُبـا.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة, مثله.
19325ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: بَـيْنَهُمْ زُبُرا قال: كُتُب الله فرّقوها قطعا.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد: فَتَقَطّعُوا أمْرَهُمْ بَـيْنَهُمْ زُبُرا قال مـجاهد: كُتُبهم فرّقوها قطعا.
وقال آخرون من أهل هذه القراءة: إنـما معنى الكلام: فتفرّقوا دينهم بـينهم كُتُبـا أحدثوها يحتـجّون فـيها لـمذاهبهم. ذكر من قال ذلك:
19326ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: فَتَقَطّعُوا أمْرَهُمْ بَـيْنَهُمْ زُبُرا كُلّ حَزْبٍ بِـمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ قال: هذا ما اختلفوا فـيه من الأديان والكتب, كلّ معجبون برأيهم, لـيس أهل هواء إلاّ وهم معجبون برأيهم وهواهم وصاحبهم الذي اخترق ذلك لهم.
وقرأ ذلك عامة قرّاء الشام: «فَتَقَطّعُوا أمْرَهُمْ بَـيْنَهُمْ زُبَرا» بضم الزاء وفتـح البـاء, بـمعنى: فتفرّقوا أمرهم بـينهم قِطَعا كزُبَر الـحديد, وذلك القِطَع منها, واحدتها زُبْرة, من قول الله: آتُونِـي زُبَرَ الـحَدِيد فصار بعضهم يهودا وبعضهم نصارى.
والقراءة التـي نـختار فـي ذلك: قراءة من قرأه بضم الزاء والبـاء, لإجماع أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك علـى أنه مراد به الكتب, فذلك يبـين عن صحة ما اخترنا فـي ذلك, لأن الزّبُر هي الكتب, يقال منه: زَبَرْت الكتاب: إذ كتبته.
فتأويـل الكلام: فتفرّق الذين أمرهم الله بلزوم دينه من الأمـم دينهم بـينهم كتبـا, كما بـيّنا قبل.
وقوله: كُلّ حَزْبٍ بِـمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ يقول: كل فريق من تلك الأمـم بـما اختاروه لأنفسهم من الدين والكتب فرحون, معجبون به, لا يرون أن الـحقّ سواه. كما:
19327ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: كُلّ حَزْبٍ بِـمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ قطعة, وهؤلاء هم أهل الكتاب.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد: كُلّ حِزْبٍ قطعة, أهل الكتاب.
الآية : 54 - 55
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتّىَ حِينٍ * أَيَحْسَبُونَ أَنّمَا نُمِدّهُمْ بِهِ مِن مّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاّ يَشْعُرُونَ }.
قال أبو جعفر: يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: فدع يا مـحمد هؤلاء الذين تقطّعوا أمرهم بـينهم زبرا, فـي غَمْرَتِهِمْ فـي ضلالتهم وغيهم, حَتّـى حِينٍ يعنـي إلـى أجل سيأتـيهم عند مـجيئه عذابـي.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19328ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد: فَذَرْهُمْ فِـي غَمْرَتِهِمْ حتـى حِينٍ قال: فـي ضلالهم.
19329ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: فَذَرْهُم فِـي غَمْرَتِهِمْ حتـى حِينٍ قال: الغَمْرة: الغَمْر.
وقوله: أيَحْسَبُونَ أنّـما نُـمِدّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِـينٍ يقول تعالـى ذكره: أيحسب هؤلاء الأحزاب الذين فرقوا دينهم زُبُرا, أن الذي نعطيهم فـي عاجل الدنـيا من مال وبنـين نُسارِعُ لَهُمْ يقول: نسابق لهم فـي خيرات الاَخرة, ونبـادر لهم فـيها؟ و «ما» من قوله: أنّـمَا نُـمِدّهُمْ بهِ نصب, لأنها بـمعنى «الذي». بَلْ لا يَشْعُرُونَ يقول تعالـى ذكره تكذيبـا لهم: ما ذلك كذلك, بل لا يعلـمون أن إمدادي إياهم بـما أمدّهم به من ذلك, إنـما هو إملاء واستدراج لهم.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19330ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: أنّـمَا نُـمِدّهُمْ قال: نعطيهم, نسارع لهم, قال: نَزيدهم فـي الـخير, نُـمْلـي لهم, قال: هذا لقريش.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, مثله.
19331ـ حدثنـي مـحمد بن عمر بن علـيّ, قال: ثنـي أشعث بن عبد الله, قال: حدثنا شعبة, عن خالد الـحذّاء, قال: قلت لعبد الرحمن بن أبـي بكرة, قول الله: نُسارِعُ لَهُمُ فِـي الـخَيْرَاتِ؟ قال: يسارع لهم فـي الـخيرات.
وكأن عبد الرحمن بن أبـي بكرة وجه بقراءته ذلك كذلك, إلـى أن تأويـله: يسارع لهم إمدادنا إياهم بـالـمال والبنـين فـي الـخيرات.

الآية : 57 - 59
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { إِنّ الّذِينَ هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مّشْفِقُونَ * وَالّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالّذِينَ هُم بِرَبّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ }.
يعنـي تعالـى ذكره: إنّ الّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبّهِمْ مُشْفِقُونَ إن الذين هم من خشيتهم وخوفهم من عذاب الله مشفقون, فهم من خشيتهم من ذلك دائبون فـي طاعته جادّون فـي طلب مرضاته. وَالّذِينَ هُمْ بآياتِ رَبّهِمْ يُؤْمِنُونَ يقول: والذين هم بآيات كتابه وحججه مصدّقون. الذين هُمْ بِرَبّهِمْ لا يُشْرِكُونَ يقول: والذين يُخـلصون لربهم عبـادتهم, فلا يجعلون له فـيها لغيره شركا لوثَن ولا لصنـم, ولا يُراءون بها أحدا من خـلقه, ولكنهم يجعلون أعمالهم لوجهه خالصا, وإياه يقصدون بـالطاعة والعبـادة دون كل شيء سواه