تفسير الطبري تفسير الصفحة 365 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 365
366
364
 الآية : 56 - 57
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ مُبَشّراً وَنَذِيراً * قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاّ مَن شَآءَ أَن يَتّخِذَ إِلَىَ رَبّهِ سَبِيلاً }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: وَما أرْسَلْناكَ يا مـحمد إلـى من أرسلناك إلـيه إلاّ مُبَشّرا بـالثواب الـجزيـل, من آمن بك وصدّقك, وآمن بـالذي جئتهم به من عندي, وعملوا به ونَذِيرا من كذّبك وكذّب ما جئتهم به من عندي, فلـم يصدّقوا به, ولـم يعملوا. قُلْ ما أسألُكُمْ عَلَـيْهِ مِنْ أجْرٍ يقول له: قل لهؤلاء الذين أرسلتك إلـيهم, ما أسألكم يا قوم علـى ما جئتكم به من عند ربـي أجرا, فتقولون: إنـما يطلب مـحمد أموالنا بـما يدعونا إلـيه, فلا نتبعه فـيه, ولا نعطيه من أموالنا شيئا. إلاّ مَنْ شاءَ أنْ يَتّـخِذَ إلـى رَبّهِ سَبِـيلاً يقول: لكن من شاء منكم اتـخذ إلـى ربه سبـيلاً, طريقا بإنفـاقه من ماله فـي سبـيـله, وفـيـما يقربه إلـيه من الصدقة والنفقة فـي جهاد عدوّه, وغير ذلك من سبل الـخير.

الآية : 58
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَتَوَكّلْ عَلَى الْحَيّ الّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَىَ بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً }.
يقول تعالـى ذكره: وتوكل يا مـحمد علـى الذي له الـحياة الدائمة التـي لا موت معها. فثق به فـي أمر ربك, وفوّض إلـيه, واستسلـم له, واصبر علـى ما نابك فـيه. قوله: وَسَبّحْ بِحَمْدِهِ يقول: واعبده شكرا منك له علـى ما أنعم به علـيك. قوله: وكَفَـى بِهِ بِذُنُوبِ عبـادِهِ خَبِـيرا يقول: وحسبك بـالـحي الذي لا يـموت خابرا بذنوب خـلقه, فإنه لا يخفـى علـيه شيء منها, وهو مـحصٍ جميعها علـيهم حتـى يجازيهم بها يوم القـيامة.
الآية : 59
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ اسْتَوَىَ عَلَى الْعَرْشِ الرّحْمَـَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً }.
يقول تعالـى ذكره: وَتَوَكّلَ عَلـى الـحَيّ الّذهي لا يَـمُوتُ الّذِي خَـلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضَ وَمَا بَـيْنَهُما فِـي سَتّةِ أيّامٍ فقال: وَما بَـيْنَهُما, وقد ذكر السموات والأرض, والسموات جماع, لأنه وجه ذلك إلـى الصنفـين والشيئين, كما قال القطامي:
ألَـمْ يَحْزُنْكَ أنّ حِبـالَ قَـيْسٍوَتَغْلِبَ قَدْ تَبـايَنَتا انْقِطاعا
يريد: وحبـال تغلب فثنى, والـحبـال جمع, لأنه أراد الشيئين والنوعين.
وقوله: فِـي سِتّةِ أيّامٍ قـيـل: كان ابتداء ذلك يوم الأحد, والفراغ يوم الـجمعة ثُمّ اسْتَوَى عَلـى الْعَرْشِ الرّحمنُ يقول: ثم استوى علـى العرش الرحمن وعلا علـيه, وذلك يوم السبت فـيـما قـيـل. وقوله: فـاسأَلْ بِهِ خَبِـيرا يقول: فـاسأل يا مـحمد خبـيرا بـالرحمن, خبـيرا بخـلقه, فإنه خالق كلّ شيء, ولا يخفـى علـيه ما خـلق. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20070ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قوله فـاسأَلْ بِهِ خَبِـيرا قال: يقول لـمـحمد صلى الله عليه وسلم: إذا أخبرتك شيئا, فـاعلـم أنه كما أخبرتك, أنا الـخبـير والـخبـير فـي قوله: فـاسأَلْ بِهِ خَبِـيرا منصوب علـى الـحال من الهاء التـي فـي قوله به.
الآية : 60
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرّحْمَـَنِ قَالُواْ وَمَا الرّحْمَـَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً }.
يقول تعالـى ذكره: وإذا قـيـل لهؤلاء الذين يعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرّهم: اسْجُدُوا لِلرّحْمَنِ: أي اجعلوا سجودكم لله خالصا دون الاَلهة والأوثان, قالوا: أنَسْجُدُ لِـمَا تَأمُرُنَا.
واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الـمدينة والبصرة: لـمَا تَأْمُرُنا بـمعنى: أنسجد نـحن يا مـحمد لـما تأمرنا أنت أن نسجد له؟ وقرأته عامة قرّاء الكوفة: «لـمَا يَأْمُرُنا» بـالـياء, بـمعنى: أنسجد لـما يأمر الرحمن؟. وذكر بعضهم أن مُسيـلـمة كان يُدعى الرحمن, فلـما قال لهم النبـيّ صلى الله عليه وسلم: اسجدوا للرحمن, قالوا: أنسجد لـما يأمرنا رحمن الـيـمامة؟ يعنون مُسَيـلـمة بـالسجود له.
قال أبو جعفر: والصواب من القول فـي ذلك, أنهما قراءتان مستفـيضتان مشهورتان, قد قرأ بكل واحد منهما علـماء من القرّاء, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب. وقوله: وَزَادَهُمْ نُفُورا يقول: وزاد هؤلاء الـمشركين قول القائل لهم: اسجدوا للرحمن من إخلاص السجود لله, وإفراد الله بـالعبـادة بعدا مـما دعوا إلـيه من ذلك فرارا.
الآية : 61
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {تَبَارَكَ الّذِي جَعَلَ فِي السّمَآءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مّنِيراً }.
يقول تعالـى ذكره: تقدّس الربّ الذي جعل فـي السماء بروجا ويعنـي بـالبروج: القصور, فـي قول بعضهم. ذكر من قال ذلك:
20071ـ حدثنا مـحمد بن العلاء ومـحمد بن الـمثنى وسلـم بن جنادة, قالوا: حدثنا عبد الله بن إدريس, قال: سمعت أبـي, عن عطية بن سعد, فـي قوله تَبـارَكَ الّذِي جَعَلَ فِـي السّماءِ بُرُوجا قال: قصورا فـي السماء, فـيها الـحرس.
20072ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: ثنـي أبو معاوية, قال: ثنـي إسماعيـل, عن يحيى بن رافع, فـي قوله تَبـارَكَ الّذِي جَعَلَ فِـي السّماءِ بُرُوجا قال: قصورا فـي السماء.
20073ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عمرو, عن منصور, عن إبراهيـم جَعَلَ فِـي السّماء بُرُوجا قال: قصورا فـي السماء.
20074ـ حدثنـي إسماعيـل بن سيف, قال: ثنـي علـيّ بن مسهرٍ, عن إسماعيـل, عن أبـي صالـح, فـي قوله تَبـارَكَ الّذِي جَعَلَ فِـي السّماء بُرُوجا قال: قصورا فـي السماء فـيها الـحرس.
وقال آخرون: هي النـجوم الكبـار. ذكر من قال ذلك:
20075ـ حدثنـي ابن الـمثنى, قال: حدثنا يعلـى بن عبـيد, قال: حدثنا إسماعيـل, عن أبـي صالـح تَبـارَكَ الّذي جَعَلَ فِـي السّماءِ بُرُوجا قال: النـجوم الكبـار.
20076ـ قال: ثنا الضحاك, عن مخـلد, عن عيسى بن ميـمون, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد قال: الكواكب.
20077ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة, فـي قوله بُرُوجا قال: البروج: النـجوم.
قال أبو جعفر: وأولـى القولـين فـي ذلك بـالصواب قول من قال: هي قصور فـي السماء, لأن ذلك فـي كلام العرب وَلَوْ كُنْتُـمْ فِـي بُرُوجٍ مُشَيّدَةٍ وقول الأخطل:
كأنّهَا بُرْجُ رُوميّ يُشَيّدُهُبـانٍ بِحِصّ وآجُرَ وأحْجارِ
يعنـي بـالبرج: القصر.
قوله: وَجَعَلَ فـيها سِرَاجا اختلف القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الـمدينة والبصرة: وَجَعَلَ فِـيها سرَاجا علـى التوحيد, ووجهوا تأويـل ذلك إلـى أنه جعل فـيها الشمس, وهي السراج التـي عنـي عندهم بقوله: وَجَعَلَ فِـيها سراجا. كما:
20078ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة, فـي قوله وَجَعَلَ فِـيها سِرَاجا وَقَمَرا مُنِـيرا قال: السراج: الشمس.
وقرأته عامة قرّاء الكوفـيـين: «وَجَعَلَ فِـيها سُرُجا» علـى الـجماع, كأنهم وجهوا تأويـله: وجعل فـيها نـجوما وقَمَرا مُنِـيرا وجعلوا النـجوم سُرُجا إذ كان يُهتدى بها.
والصواب من القول فـي ذلك عندي أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان فـي قَرَأَةِ الأمصار, لكل واحدة منهما وجه مفهوم, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب.
وقوله: وَقَمَرا مُنِـيرا يعنـي بـالـمنـير: الـمضيء.
الآية : 62
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَهُوَ الّذِي جَعَلَ اللّيْلَ وَالنّهَارَ خِلْفَةً لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذّكّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً }.
اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: جَعَلَ اللّـيْـلَ والنّهارَ خِـلْفَةً فقال بعضهم: معناه: أن الله جعل كل واحد منهما خـلفـا من الاَخر, فـي أن ما فـات أحدهما من عمل يعمل فـيه لله, أدرك قضاؤه فـي الاَخر. ذكر من قال ذلك:
20079ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب القمي, عن حفص بن حميد, عن شمر بن عطية, عن شقـيق قال: جاء رجل إلـى عمر بن الـخطاب رضي الله عنه, فقال: فـاتتنـي الصلاة اللـيـلة, فقال: أدرك ما فـاتك من لـيـلتك فـي نهارك, فإن الله جعل اللـيـل والنهار خـلفة لـمن أراد أن يذّكّر, أو أراد شُكورا.
20080ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله وَهُوَ الّذِي جَعَلَ اللّـيْـلَ والنّهارَ خِـلْفَةً يقول: من فـاته شيء من اللـيـل أن يعمله أدركه بـالنهار, أو من النهار أدركه بـاللـيـل.
20081ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن الـحسن, فـي قوله جَعَلَ اللّـيْـلَ والنّهارَ خِـلْفَةً قال: جعل أحدهما خـلفـا للاَخر, إن فـات رجلاً من النهار شيء أدركه من اللـيـل, وإن فـاته من اللـيـل أدركه من النهار.
وقال آخرون: بل معناه أنه جعل كل واحد منهما مخالفـا صاحبه, فجعل هذا أسود وهذا أبـيض. ذكر من قال ذلك:
20082ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله اللّـيْـلَ والنّهارَ خِـلْفَةً قال: أسود وأبـيض.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, مثله.
حدثنا أبو هشام الرفـاعي, قال: حدثنا يحيى بن يـمان, قال: حدثنا سفـيان, عن عمر بن قـيس بن أبـي مسلـم الـماصر, عن مـجاهد وَهُوَ الّذِي جَعَلَ اللّـيْـلَ والنّهارَ خِـلْفَةً قال: أسود وأبـيض.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن كل واحد منهما يخـلف صاحبه, إذا ذهب هذا جاء هذا, وإذا جاء هذا ذهب هذا. ذكر من قال ذلك:
20083ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري, قال: حدثنا قـيس, عن عمر بن قـيس الـماصر, عن مـجاهد, قوله جَعَلَ اللّـيْـلَ والنّهارَ خِـلْفَةً هذا يخـلف هذا, وهذا يخـلف هذا.
20084ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله وَهُوَ الّذِي جَعَلَ اللّـيْـلَ وَالنّهارَ خِـلْفَةً قال: لو لـم يجعلهما خـلفة لـم يدر كيف يعمل, لو كان الدهر لـيلاً كله كيف يدري أحد كيف يصوم, أو كان الدهر نهارا كله كيف يدري أحد كيف يصلـي. قال: والـخـلفة: مختلفـان, يذهب هذا ويأتـي هذا, جعلهما الله خـلفة للعبـاد, وقرأ لِـمَنْ أرَادَ أنْ يَذّكّرَ أوْ أرَادَ شُكُورا والـخـلفة: مصدر, فلذلك وحدت, وهي خبر عن اللـيـل والنهار والعرب تقول: خـلف هذا من كذا خـلفة, وذلك إذا جاء شيء مكان شيء ذهب قبله, كما قال الشاعر:
وَلهَا بـالـمَاطِرُونَ إذَاأكَلَ النّـمْلُ الّذِي جَمَعَا
خِـلْفَةٌ حتـى إذَا ارْتَبَعَتْسَكَنَتْ مِنْ جِلّقٍ بِـيَعَا
وكما قال زهيَر:
بِهَا العَيْنُ والاَرَامُ يَـمْشِينَ خِـلْفَةًوأطْلاؤُها يَنْهَضْنَ مِنْ كُلّ مَـجْثَمِ
يعنـي بقوله: يـمشين خـلفة: تذهب منها طائفة, وتـخـلف مكانها طائفة أخرى. وقد يحتـمل أن زُهَيرا أراد بقوله: خـلفة: مختلفـات الألوان, وأنها ضروب فـي ألوانها وهيئاتها. ويحتـمل أن يكون أراد أنها تذهب فـي مشيها كذا, وتـجيء كذا.
وقوله لـمَنْ أرَادَ أنْ يَذّكّرَ يقول تعالـى ذكره: جعل اللـيـل والنهار, وخـلوف كل واحد منهما الاَخر حجة وآية لـمن أراد أن يذكّر أمر الله, فـينـيب إلـى الـحق أوْ أرَادَ شُكُورا أو أراد شكر نعمة الله التـي أنعمها علـيه فـي اختلاف اللـيـل والنهار.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20085ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله أو أرَادَ شُكُورا قال: شكر نعمة ربه علـيه فـيهما.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, قوله لِـمَنْ أرَادَ أنْ يَذّكّرَ ذاك آية له أوْ أرَادَ شُكُورا قال: شكر نعمة ربه علـيه فـيهما.
واختلف القرّاء فـي قراءة قوله: يَذّكّرَ فقرأ ذلك عامة قرّاء الـمدينة والبصرة وبعض الكوفـيـين: يَذّكّرَ مشددة, بـمعنى يتذكر. وقرأه عامة قرّاء الكوفـيـين: «يَذْكُرَ» مخففة وقد يكون التشديد والتـخفـيف فـي مثل هذا بـمعنى واحد. يقال: ذكرت حاجة فلان وتذكرتها.
والقول فـي ذلك أنهما قراءتان معروفتان متقاربتا الـمعنى, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب فـيهما.
الآية : 63
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَعِبَادُ الرّحْمَـَنِ الّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىَ الأرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً }.
يقول تعالـى ذكره: وَعِبـادُ الرّحْمَنِ الّذِينَ يَـمْشُونَ عَلـى الأرْضِ هَوْنا بـالـحلـم والسكينة والوقار غير مستكبرين, ولا متـجبّرين, ولا ساعين فـيها بـالفساد ومعاصي الله.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل, غير أنهم اختلفوا, فقال بعضهم: عنى بقوله: يَـمْشُونَ عَلـى الأرْضِ هَوْنا أنهم يـمشون علـيها بـالسكينة والوقار. ذكر من قال ذلك:
20086ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد الّذِينَ يَـمْشُونَ عَلـى الأرْض هَوْنا قال: بـالوقار والسكينة.
20087ـ قال: ثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا مـحمد بن أبـي الوضاح, عن عبد الكريـم, عن مـجاهد يَـمْشُونَ عَلـى الأرْض هَوْنا قال: بـالـحلـم والوقار.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نَـجِيح, عن مـجاهد, قوله يَـمْشُونَ عَلـى الأرْضِ هَوْنا قال: بـالوقار والسكينة.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, مثله.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, عن الثوري, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد يَـمْشُونَ عَلـى الأرْضِ هَوْنا بـالوقار والسكينة.
20088ـ حدثنـي يحيى بن طلـحة الـيربوعي, قال: حدثنا شريك, عن سالـم, عن سعيد وَعبد الرحمنِ الّذِينَ يَـمْشُونَ عَلـى الأرْضِ هَوْنا قالا: بـالسكينة والوقار.
20089ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن يـمان, عن شريك, عن جابر, عن عمار, عن عكرمة, فـي قوله يَـمْشُونَ عَلـى الأرْضِ هَوْنا قال: بـالوقار والسكينة.
قال: ثنا ابن يـمان, عن سفـيان, عن منصور, عن مـجاهد, مثله.
20090ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن أيوب, عن عمرو الـملائي يَـمْشُونَ عَلـى الأرْضِ هَوْنا قال: بـالوقار والسكينة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنهم يـمشون علـيها بـالطاعة والتواضع. ذكر من قال ذلك:
20091ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله الّذِينَ يَـمْشُونَ عَلـى الأرْضِ هَوْنا بـالطاعة والعفـاف والتواضع.
20092ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله وَعِبـادُ الرّحْمَنِ الّذِينَ يَـمْشُونَ عَل الأرْضِ هَوْنا قال: يـمشون علـى الأرض بـالطاعة.
20093ـ حدثنـي أحمد بن عبد الرحمن, قال: ثنـي عمي, عبد الله بن وهب, قال: كتب إلـيّ إبراهيـم بن سويد, قال: سمعت زيد بن أسلـم يقول: التـمست تفسير هذه الاَية الّذِينَ يَـمْشُونَ علـى الأرْضِ هَوْنا فلـم أجدها عند أحد, فأتـيت فـي النوم, فقـيـل لـي: هم الذين لا يريدون يفسدون فـي الأرض.
20094ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن يـمان, عن أسامة بن زيد بن أسلـم, عن أبـيه, قال: لا يفسدون فـي الأرض.
20095ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله وَعِبـادُ الرّحْمَنِ الّذِينَ يَـمْشُونَ عَلـى الأرْضِ هَوْنا قال: لا يتكبرون علـى الناس, ولا يتـجبرون, ولا يفسدون. وقرأ قول الله: تِلْكَ الدّارُ الاَخِرَةُ نَـجْعَلُها للّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّا فـي الأرْضِ وَلا فَسادا, وَالعاقِبَةُ للْـمُتّقِـينَ.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنهم يـمشون علـيها بـالـحلـم لا يجهلون علـى من جهل علـيهم. ذكر من قال ذلك:
20096ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن يـمان, عن أبـي الأشهب, عن الـحسن فـي: يَـمْشُونَ عَلـى الأرْضِ هَوْنا قال: حلـماء, وإن جُهِل علـيهم لـم يجهلوا.
20097ـ حدثنا ابن حميد قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا الـحسين, عن يزيد, عن عكرِمة يَـمْشُونَ عَلـى الأرْضِ هَوْنا قال: حلـماء.
20098ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن الـحسن, فـي قوله يَـمْشُونَ عَلـى الأرْضِ هَوْنا قال: علـماء حلـماء لا يجهلون.
وقوله: وَإذَا خاطَبَهُمُ الـجاهِلُونَ قالُوا سَلاما يقول: وإذا خاطبهم الـجاهلون بـالله بـما يكرهونه من القول, أجابوهم بـالـمعروف من القول, والسداد من الـخطاب. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20099ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا أبو الأشهب, عن الـحسن وَإذَا خاطَبَهُمُ... الاَية, قال: حلـماء, وإن جُهل علـيهم لـم يجهلوا.
20100ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا ابن الـمبـارك, عن معمر, عن يحيى بن الـمختار, عن الـحسن, فـي قوله وَإذَا خاطَبَهُمُ الـجاهِلُونَ قالُوا سَلاما قال: إن الـمؤمنـين قوم ذُلُلٌ, ذلّت منهم والله الأسماع والأبصار والـجوارح, حتـى يحسبهم الـجاهل مرضى, وإنهم لأصحاء القلوب, ولكن دخـلهم من الـخوف ما لـم يدخـل غيرهم, ومنعهم من الدنـيا علـمهم بـالاَخرة, فقالوا: الـحمد لله الذي أذهب عنا الـحزن, والله ما حزنهم حزن الدنـيا, ولا تعاظم فـي أنفسهم ما طلبوا به الـجنة, أبكاهم الـخوف من النار, وإنه من لـم يتعزّ بعزاء الله, تَقطّع نفسه علـى الدنـيا حسرات, ومن لـم ير لله علـيه نعمة إلا فـي مطعم ومشرب, فقد قل علـمه, وحضر عذابه.
20101ـ حدثنا ابن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد وَإذَا خاطَبَهُمُ الـجاهِلُونَ قالُوا سَلاما قال: سدادا.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا مـحمد بن أبـي الوضاح, عن عبد الكريـم, عن مـجاهد وَإذَا خاطَبَهُمُ الـجاهِلُونَ قالُوا سَلاما قال: سَدَادا من القول.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, عن الثوريّ عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
20102ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد وَإذَا خاطَبَهُمُ الـجاهِلُونَ قَالُوا سَلاما حلـماء.
20103ـ قال: ثنا الـحسين, قال: حدثنا يحيى بن يـمان, عن أبـي الأشهب, عن الـحسن, قال: حلـماء لا يجهلون, وإن جُهِل علـيهم حلـموا ولـم يسفهوا. هذا نهارهم فكيف لـيـلهم؟ خير لـيـل صفوا أقدامهم, وأجْرَوا دموعهم علـى خدودهم يطلبون إلـى الله جلّ ثناؤه فـي فكاك رقابهم.
قال: ثنا الـحسن, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا عبـادة, عن الـحسن, قال: حلـماء لا يجهلون وإن جهل علـيهم حلـموا.
الآية : 64 - 66
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَالّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجّداً وَقِيَاماً * وَالّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنَا اصْرِفْ عَنّا عَذَابَ جَهَنّمَ إِنّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً }.
يقول تعالـى ذكره: والذين يبـيتون لربهم يصلون لله, يراوحون بـين سجود فـي صلاتهم وقـيام. وقوله: وَقِـياما جمع قائم, كما الصيام جمع صائم. وَالّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنا اصْرِفْ عَنّا عَذابَ جَهَنّـمَ يقول تعالـى ذكره: والذين يدعون الله أن يصرف عنهم عقابه وعذابه حذرا منه ووجلاً.) وقوله: إنّ عَذَابها كانَ غَرَاما يقول: إن عذاب جهنـم كان غراما ملـحّا دائما لازما غير مفـارق من عذّب به من الكفـار, ومهلكا له. ومنه قولهم: رجل مُغْرم, من الغُرْم والدّين. ومنه قـيـل للغريـم غَريـم لطلبه حقه, وإلـحاحه علـى صاحبه فـيه. ومنه قـيـل للرجل الـمولع للنساء: إنه لـمغرَم بـالنساء, وفلان مغرَم بفلان: إذا لـم يصبر عنه ومنه قول الأعشى:
إنْ يُعاقِبْ يَكنْ غَرَاما وَإنْ يُعْطِ جَزِيلاً فإنّهُ لا يُبـالـي
يقول: إن يعاقب يكن عقابه عقابـا لازما, لا يفـارق صاحبه مهلكا له. وقول بشر بن أبـي خازم:
يَوْمَ النّسارِ وَيَوْمَ الـجِفـارِ كانَ عِقابـا وكانَ غَرَاما
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20104ـ حدثنـي علـيّ بن الـحسن اللانـي, قال: أخبرنا الـمعافـى بن عمران الـموصلـي, عن موسى بن عبـيدة, عن مـحمد بن كعب فـي قوله إنّ عَذَابها كانَ غَرَاما قال: إن الله سأل الكفـار عن نعمه, فلـم يردّوها إلـيه, فأغرمهم, فأدخـلهم النار.
20105ـ قال: ثنا الـمعافـى, عن أبـي الأشهب, عن الـحسن, فـي قوله إن عَذَابَها بها كانَ غَرَاما قال: قد علـموا أن كلّ غريـم مفـارق غريـمه إلا غريـم جهنـم.
20106ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله إنّ عَذَابَها كانَ غَرَاما قال: الغرام: الشرّ.
20107ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, فـي قوله إنّ عَذَابها كانَ غَرَاما قال: لا يفـارقه.
وقوله إنّها ساءَتْ مُسْتَقَرّا وَمُقاما يقول: إن جهنـم ساءت مستقرا ومقاما, يعنـي بـالـمستقرّ: القرار, وبـالـمقام: الإقامة كأن معنى الكلام: ساءت جهنـم منزلاً ومقاما. وإذا ضمت الـميـم من الـمقام فهو من الإقامة, وإذا فتـحت فهو من: قمتُ, ويقال: الـمقام إذا فتـحت الـميـم أيضا هو الـمـجلس. ومن الـمُقام بضمّ الـميـم بـمعنى الإقامة, قول سلامة بن جندل:
يَوْمانِ: يَوْمُ مُقاماتٍ وأنْدِيَةٍ وَيَوْمُ سَيْرٍ إلـى الأعْداءِ تأْوِيَبـا
ومن الـمَقام الذي بـمعنى الـمـجلس, قول عبـاس بن مرداس:
فَأتّـي ما وأيّكَ كانَ شَرّا فَقِـيدَ إلـى الـمَقامَة لا يَرَاها
يعنـي: الـمـجلس.
الآية : 67
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَالّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً }.
يقول تعالـى ذكره: والذين إذا أنفقوا أموالهم لـم يسرفوا فـي إنفـاقها.
ثم اختلف أهل التأويـل فـي النفقة التـي عناها الله فـي هذا الـموضع, وما الإسراف فـيها والإقتار. فقال بعضهم: الإسرافُ ما كان من نفقة فـي معصية الله, وإن قلّت. قال: وإياها عنـي الله, وسماها إسرافـا قالوا: والإقتار الـمنع من حقّ الله. ذكر من قال ذلك:
20108ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله وَالّذِينَ إذَا أنْفَقُوا لَـمْ يُسْرفُوا وَلَـمْ يَقْتُرُوا, وكانَ بـينَ ذلك قَوَاما قال: هم الـمؤمنون لا يسرفون فـينفقون فـي معصية الله, ولا يُقترون فـيـمنعون حقوق الله تعالـى.
20109ـ حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا ابن يـمان, عن عثمان بن الأسود, عن مـجاهد, قال: لو أنفقت مثل أبـي قُبـيس ذهبـا فـي طاعة الله ما كان سرفـا, ولو أنفقت صاعا فـي معصية الله كان سرفـا.
20110ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قوله وَالّذِينَ إذَا أنْفَقُوا لَـمْ يُسْرِفُوا وَلَـمْ يَقْتُروا قال: فـي النفقة فـيـما نهاهم وإن كان درهما واحدا, ولـم يقتروا ولـم يُقَصّرُوا عن النفقة فـي الـحقّ.
20111ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله وَالّذِينَ إذَا أنْفَقُوا لَـمْ يُسْرفوا وَلَـمْ يَقْتُرُوا وكانَ بـينَ ذلكَ قَوَاما قال: لـم يسرفوا فـينفقوا فـي معاصي الله. كلّ ما أنفق فـي معصية الله, وإن قلّ فهو إسراف, ولـم يقتروا فـيـمسكوا عن طاعة الله. قال: وما أُمْسِكَ عن طاعة الله وإن كثر فهو إقتار.
20112ـ قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي إبراهيـم بن نشيط, عن عمر مولـى غُفرة أنه سئل عن الإسراف ما هو؟ قال: كلّ شي أنفقته فـي غير طاعة الله فهو سرف.
وقال آخرون: السرف: الـمـجاوزة فـي النفقة الـحدّ والإقتار: التقصير عن الذي لا بدّ منه. ذكر من قال ذلك:
20113ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا عبد السلام بن حرب, عن مغيرة, عن إبراهيـم, قوله وَالّذِينَ إذَا أنْفَقُوا لَـمْ يُسْرِفُوا وَلَـمْ يَقْتُرُوا قال: لا يجيعهم ولا يعريهم ولا ينفق نفقة يقول الناس قد أسرف.
20114ـ حدثنـي سلـيـمان بن عبد الـجبـار, قال: حدثنا مـحمد بن يزيد بن خنـيس أبو عبد الله الـمخزومي الـمكي, قال: سمعت وهيب بن الورد أبـي الورد مولـى بنـي مخزوم, قال: لقـي عالـم عالـما هو فوقه فـي العلـم, فقال: يرحمك الله أخبرنـي عن هذا البناء الذي لا إسراف فـيه ما هو؟ قال: هو ما سترك من الشمس, وأكنّك من الـمطر, قال: يرحمك الله, فأخبرنـي عن هذا الطعام الذي نصيبه لا إسراف فـيه ما هو؟ قال: ما سدّ الـجوع ودونَ الشبع, قال: يرحمك الله, فأخبرنـي عن هذا اللبـاس الذي لا إسراف فـيه ما هو؟ قال: ما ستر عورتك, وأدفأك من البرد.
20115ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي عبد الرحمن بن شريح, عن يزيد بن أبـي حبـيب فـي هذه الاَية وَالّذِينَ إذَا أنْفَقُوا... الاَية, قال: كانوا لا يـلبسون ثوبـا للـجمال, ولا يأكلون طعاما للذّة, ولكن كانوا يريدون من اللبـاس ما يسترون به عورتهم, ويكتَنّون به من الـحرّ والقرّ, ويريدون من الطعام ما سدّ عنهم بـالـجوع, وقوّاهم علـى عبـادة ربهم.
20116ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن العلاء بن عبد الكريـم, عن يزيد بن مرّة الـجعفـي, قال: العلـم خير من العمل, والـحسنة بـين السيئتـين, يعنـي: إذا أنفقوا لـم يسرفوا ولـم يقتروا, وخير الأعمال أوساطها.
20117ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا مسلـم بن إبراهيـم, قال: حدثنا كعب بن فروخ, قال: حدثنا قتادة, عن مطرّف بن عبد الله, قال: خير هذه الأمور أوساطها, والـحسنة بـين السيئتـين. فقلت لقتادة: ما الـحسنة بـين السيئتـين؟ فقال: الّذِينَ إذَا أنْفَقُوا لَـمْ يُسْرِفُوا وَلَـمْ يَقْتُرُوا... الاَية.
وقال آخرون: الإسرافُ هو أن تأكل مال غيرك بغير حقّ. ذكر من قال ذلك:
20118ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا سالـم بن سعيد, عن أبـي مَعْدان, قال: كنت عند عون بن عبد الله بن عتبة, فقال: لـيس الـمسرف من يأكل ماله, إنـما الـمسرف من يأكل مال غيره.
قال أبو جعفر: والصواب من القول فـي ذلك, قول من قال: الإسراف فـي النفقة الذي عناه الله فـي هذا الـموضع: ما جاوز الـحدّ الذي أبـاحه الله لعبـاده إلـى ما فوقه, والإقتار: ما قصر عما أمر الله به, والقوام: بـين ذلك.
وإنـما قلنا إن ذلك كذلك, لأن الـمسرف والـمقتر كذلك ولو كان الإسراف والإقتار فـي النفقة مرخصا فـيهما ما كانا مذمومين, ولا كان الـمسرف ولا الـمقتر مذموما, لأن ما أذن الله فـي فعله فغير مستـحقّ فـاعله الذمّ. فإن قال قائل: فهل لذلك من حدّ معروف تبـينه لنا؟ قـيـل: نعم, ذلك مفهوم فـي كلّ شيء من الـمطاعم والـمشارب والـملابس والصدقة وأعمال البرّ وغير ذلك, نكره تطويـل الكتاب بذكر كلّ نوع من ذلك مفصلاً, غير أن جملة ذلك هو ما بـيّنا, وذلك نـحو أكل آكل من الطعام فوق الشبع ما يضعف بدنه, وينهك قواه, ويشغله عن طاعة ربه, وأداء فرائضه, فذلك من السرف, وأن يترك الأكل وله إلـيه سبـيـل حتـى يضعف ذلك جسمه, ويَنْهَك قواه, ويضعفه عن أداء فرائض عن أداء فرائض ربه, فذلك من الإقتار, وبـين ذلك القَوام علـى هذا النـحو, كلّ ما جانس ما ذكرنا. فأما اتـخاذ الثوب للـجمال, يـلبسه عند اجتـماعه مع الناس, وحضوره الـمـحافل والـجمع والأعياد, دون ثوب مهنته, أو أكله من الطعام ما قوّاه علـى عبـادة ربه, مـما ارتفع عما قد يسدّ الـجوع, مـما هو دونه من الأغذية, غير أنه لا يعين البدن علـى القـيام لله بـالواجب معونته, فذلك خارج عن معنى الإسراف, بل ذلك من القَوام, لأن النبـيّ صلى الله عليه وسلم قد أمر ببعض ذلك, وحضّ علـى بعضه, كقوله: «ما عَلـى أحَدِكُمْ لَوِ اتّـخَذَ ثَوْبَـيْنِ. ثَوْبـا لِـمِهْنَتِهِ, وَثَوْبـا لِـجُمْعَتِهِ وَعِيدِهِ» وكقوله: «إذَا أنْعَمَ اللّهُ عَلـى عَبْدٍ نِعْمَةً أحَبّ أنْ يَرَى أثَرَهُ عَلَـيْهِ», وما أشبه ذلك من الأخبـار التـي قد بـيّناها فـي مواضعها.)
وأما قوله: وكانَ بـينَ ذلكَ قَوَاما فإنه النفقة بـالعدل والـمعروف, علـى ما قد بـيّنا. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20119ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا سفـيان, عن أبـي سلـيـمان, عن وهب بن منبه, فـي قوله وكانَ بـينَ ذلكَ قَوَاما قال: الشطر من أموالهم.
20120ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قوله وكانَ بـينَ ذلكَ قَوَاما: النفقة بـالـحقّ.
20121ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله وكانَ بـينَ ذلكَ قَوَاما قال: القوام: أن ينفقوا فـي طاعة الله, ويـمسكوا عن مـحارم الله.
20122ـ قال: أخبرنـي إبراهيـم بن نشيط, عن عمر مولـى غُفْرة, قال: قلت له: ما القَوام؟ قال: القوام: أن لا تنفق فـي غير حقّ, ولا تـمسك عن حقّ هو علـيك. والقوام فـي كلام العرب, بفتـح القاف, وهو الشيء بـين الشيئين. تقول للـمرأة الـمعتدلة الـخـلق: إنها لـحسنة القوام فـي اعتدالها, كما قال الـحُطَيئة:
طافَتْ أُمامَةُ بـالرّكبْـانِ آوِنَةًيا حُسْنَهُ مِنْ قَوَامٍ مّا وَمُنْتَقَبـا
فأما إذا كسرت القاف فقلت: إنه قِوام أهله, فإنه يعنـي به: أن به يقوم أمرهم وشأنهم. وفـيه لغات آخُرَ, يقال منه: هو قـيام أهله وقـيّـمهم فـي معنى قوامهم. فمعنى الكلام: وكان إنفـاقهم بـين الإسراف والإقتار قواما معتدلاً, لا مـجاوزة عن حدّ الله, ولا تقصيرا عما فرضه الله, ولكن عدلاً بـين ذلك علـى ما أبـاحه جلّ ثناؤه, وأذن فـيه ورخص.
واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: ولـم يَقْتُرُوا فقرأته عامة قرّاء الـمدينة «ولـمْ يُقْتِرُوا» بضمّ الـياء وكسر التاء من: أقتر يقتر. وقرأته عامة قرّاء الكوفـيـين وَلـمْ يَقْتُرُوا بفتـح الـياء وضمّ التاء من: قَتَر يَقْتُر. وقرأته عامة قرّاء البصرة «وَلـمْ يَقْتِروا» بفتـح الـياء وكسر التاء من قتر يقتر.
والصواب من القول فـي ذلك, أن كلّ هذه القراءات علـى اختلاف ألفـاظها لغات مشهورات فـي العرب, وقراءات مستفـيضات وفـي قرّاء الأمصار بـمعنى واحد, فبأيتها قرأ القارىء فمصيب.
وقد بـيّنا معنى الإسراف والإقتار بشواهدهما فـيـما مضى فـي كتابنا فـي كلام العرب, فأغنى ذلك عن إعادته فـي هذا الـموضع. وفـي نصب القَوام وجهان: أحدهما ما ذكرت, وهو أن يجعل فـي كان اسم الإنفـاق بـمعنى: وكان إنفـاقهم ما أنفقوا بـين ذلك قواما: أي عدلاً, والاَخر أن يجعل بـين هو الاسم, فتكون وإن كانت فـي اللفظة نصبـا فـي معنى رفع, كما يقال: كان دون هذا لك كافـيا, يعنـي به: أقلّ من هذا كان لك كافـيا, فكذلك يكون فـي قوله: وكانَ بـينَ ذلكَ قَوَاما لأن معناه: وكان الوسط من ذلك قواما