تفسير الطبري تفسير الصفحة 42 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 42
043
041
 الآية : 253
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{تِلْكَ الرّسُلُ فَضّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ مّنْهُمْ مّن كَلّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيّنَاتِ وَأَيّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَآءَ اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الّذِينَ مِن بَعْدِهِم مّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيّنَاتُ وَلَـَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُمْ مّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـَكِنّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: {تِلْكَ الرّسُلُ} الذين قصّ الله قصصهم فـي هذه السورة, كموسى بن عمران وإبراهيـم وإسماعيـل وإسحاق ويعقوب وشمويـل وداود, وسائر من ذكر نبأهم فـي هذه السورة. يقول تعالـى ذكره: هؤلاء رسلـي فضلت بعضهم علـى بعض, فكلـمت بعضهم ـ والذي كلـمته منهم موسى صلى الله عليه وسلم ـ ورفعت بعضهم درجات علـى بعض بـالكرامة ورفعة الـمنزلة. كما:
4639ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قول الله تعالـى ذكره: {تِلْكَ الرّسُلُ فَضّلْنا بَعْضَهُمْ علـى بَعْضٍ} قال: يقول: منهم من كلّـم الله ورفع بعضهم علـى بعض درجات. يقول: كلـم الله موسى, وأرسل مـحمدا إلـى الناس كافة. 4640ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد بنـحوه.
ومـما يدل علـى صحة ما قلنا فـي ذلك قول النبـيّ صلى الله عليه وسلم: «أُعْطِيتُ خَمْسا لَـمْ يُعْطَهُنّ أحَدٌ قَبْلِـي: بُعِثْتُ إلـى الأحْمَرِ وَالأَسْوَدِ, وَنُصِرْتُ بـالرّعْبِ, فإنّ العَدُوّ لَـيُرْعَبُ مِنّـي علـى مَسِيرَةِ شَهْرٍ, وَجُعِلَتْ لِـيَ الأرْضُ مَسْجِدا وَطَهُورا, وأُحِلّتْ لِـيَ الغَنَائِمُ ولَـمْ تَـحِلّ لأحَدٍ كانَ قَبْلِـي, وَقِـيـلَ لـي: سَلْ تُعْطَهْ, فـاخْتَبأتُها شَفـاعَةً لأُمّتِـي, فَهِيَ نائِلَةٌ مِنْكُمْ إنْ شاءَ اللّهُ مَنْ لا يُشْرِكُ بـاللّهِ شَيْئا».
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وآتَـيْنَا عِيسَى ابنَ مَرْيَـمَ البَـيّنَاتِ وَأيّدْناهُ بُرُوحِ القُدُسِ}.
يعنـي تعالـى ذكره بذلك: {وآتَـيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَـمَ البَـيّنَاتِ} وآتـينا عيسى ابن مريـم الـحجج والأدلة علـى نبوّته: من إبراء الأكْمَهِ والأبرص, وإحياء الـموتـى, وما أشبه ذلك, مع الإنـجيـل الذي أنزلته إلـيه, فبـينت فـيه ما فرضت علـيه.
ويعنـي تعالـى ذكره بقوله: {وأيّدْناهُ} وقوّيناه وأعنّاه {بِرُوحِ القُدُسِ} يعنـي بروح الله, وهو جبريـل. وقد ذكرنا اختلاف أهل العلـم فـي معنى روح القدس والذي هو أولـى بـالصواب من القول فـي ذلك فـيـما مضى قبل, فأغنى ذلك عن إعادته فـي هذا الـموضع.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَوْ شاءَ اللّهُ ما اقْتَتَلَ الّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ البَـيّناتُ}.
يعنـي تعالـى ذكره بذلك: ولو أراد الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البـينات, يعنـي من بعد الرسل الذين وصفهم بأنه فضل بعضهم علـى بعض, ورفع بعضهم درجات, وبعد عيسى ابن مريـم, وقد جاءهم من الاَيات بـما فـيه مُزْدَجَرٌ لـمن هداه الله ووفقه.
ويعنـي بقوله: {مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَـيّناتُ} يعنـي من بعد ما جاءهم من آيات الله ما أبـان لهم الـحق, وأوضح لهم السبـيـل.
وقد قـيـل: إن الهاء والـميـم فـي قوله: {مِنْ بَعْدِهِمْ} من ذكر موسى وعيسى: ذكر من قال ذلك:
4641ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {وَلَوْ شَاءَ اللّهُ مَا اقتتَلَ الّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَـيّناتُ} يقول: من بعد موسى وعيسى.
4642ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع قوله: {وَلَوْ شاءَ اللّهُ ما اقتتَلَ الّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بعدِ ما جاءَتْهُمُ البَـيّناتُ} يقول: من بعد موسى وعيسى.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَكِنِ اختَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللّهُ ما اقْتَتَلُوا وَلَكِنّ اللّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ}.
يعنـي تعالـى ذكره بذلك: ولكن اختلف هؤلاء الذين من بعد الرسل لـما لـم يشأ الله منهم تعالـى ذكره أن لا يقتتلوا, فـاقتتلوا من بعد ما جاءتهم البـينات من عند ربهم بتـحريـم الاقتتال والاختلاف, وبعد ثبوت الـحجة علـيهم بوحدانـية الله ورسالة رسله ووحي كتابه, فكفر بـالله وبآياته بعضهم, وآمن بذلك بعضهم. فأخبر تعالـى ذكره: أنهم أتوا ما أتوا من الكفر والـمعاصي بعد علـمهم بقـيام الـحجة علـيهم بأنهم علـى خطأ, تعمدا منهم للكفر بـالله وآياته. ثم قال تعالـى ذكره لعبـاده: {وَلَوْ شاءَ اللّهُ ما اقْتَتَلُو} يقول: ولو أراد الله أن يحجزهم بعصمته وتوفـيقه إياهم عن معصيته فلا يقتتلوا ما اقتتلوا ولا اختلفوا, {وَلكِنّ الله يَفْعَلُ ما يُرِيدُ} بأن يوفق هذا لطاعته والإيـمان به فـيؤمن به ويطيعه, ويخذل هذا فـيكفر به ويعصيه.
الآية : 254
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ أَنْفِقُواْ مِمّا رَزَقْنَاكُم مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظّالِمُونَ }
يعنـي تعالـى ذكره بذلك: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا فـي سبـيـل الله مـما رزقناكم من أموالكم, وتصدقوا منها, وآتوا منها الـحقوق التـي فرضناها علـيكم. وكذلك كان ابن جريج يقول فـيـما بلغنا عنه.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِـمّا رَزَقْناكُمْ} قال: من الزكاة والتطوّع.
{مِنْ قَبْلِ أنْ يَأتِـيَ يَوْمٌ لاَ بَـيْعٌ فِـيهِ وَلا خُـلّةٌ وَلا شَفَـاعَةٌ} يقول: ادّخروا لأنفسكم عند الله فـي دنـياكم من أموالكم بـالنفقة منها فـي سبـيـل الله, والصدقة علـى أهل الـمسكنة والـحاجة, وإيتاء ما فرض الله علـيكم فـيها, وابتاعوا بها ما عنده مـما أعدّه لأولـيائه من الكرامة, بتقديـم ذلك لأنفسكم, ما دام لكم السبـيـل إلـى ابتـياعه, بـما ندبتكم إلـيه, وأمرتكم به من النفقة من أموالكم. {مِنْ قَبْلِ أنْ يَأتِـيَ يَوْمٌ لا بَـيْعٌ فِـيهِ} يعنـي من قبل مـجيء يوم لا بـيع فـيه, يقول: لا تقدرون فـيه علـى ابتـياع ما كنتـم علـى ابتـياعه بـالنفقة من أموالكم التـي أمرتكم به, أو ندبتكم إلـيه فـي الدنـيا قادرين, لأنه يوم جزاء وثواب وعقاب, لا يوم عمل واكتساب وطاعة ومعصية, فـيكون لكم إلـى ابتـياع منازل أهل الكرامة بـالنفقة حينئذ, أو بـالعمل بطاعة الله, سبـيـلٌ¹ ثم أعلـمهم تعالـى ذكره أن ذلك الـيوم ـ مع ارتفـاع العمل الذي ينال به رضا الله, أو الوصول إلـى كرامته بـالنفقة من الأموال, إذ كان لا مال هنالك يـمكن إدراك ذلك به ـ يومٌ لا مُخالّة فـيه نافعة كما كانت فـي الدنـيا, فإن خـلـيـل الرجل فـي الدنـيا قد كان ينفعه فـيها بـالنصرة له علـى من حاوله بـمكروه وأراده بسوء, والـمظاهرة له علـى ذلك. فآيسهم تعالـى ذكره أيضا من ذلك, لأنه لا أحد يوم القـيامة ينصر أحدا من الله, بل الأخلاّء بعضهم لبعض عدوّ إلا الـمتقـين, كما قال الله تعالـى ذكره. وأخبرهم أيضا أنهم يومئذ مع فقدهم السبـيـل إلـى ابتـياع ما كان لهم إلـى ابتـياعه سبـيـل فـي الدنـيا بـالنفقة من أموالهم, والعمل بأبدانهم, وعدمهم النصراء من الـخلان, والظهراء من الإخوان, لا شافع لهم يشفع عند الله كما كان ذلك لهم فـي الدنـيا, فقد كان بعضهم يشفع فـي الدنـيا لبعض بـالقرابة والـجوار والـخُـلّة, وغير ذلك من الأسبـاب, فبطل ذلك كله يومئذ, كما أخبر تعالـى ذكره ن قـيـل أعدائه من أهل الـجحيـم فـي الاَخرة إذا صاروا فـيها: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيـمٍ}.
وهذه الآية مخرجها فـي الشفـاعة عام والـمراد بها خاص. وإنـما معناه: من قبل أن يأتـي يوم لا بـيع فـيه ولا خـلة ولا شفـاعة لأهل الكفر بـالله, لأن أهل ولاية الله والإيـمان به يشفع بعضهم لبعض. وقد بـينا صحة ذلك بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. وكان قتادة يقول فـي ذلك بـما:
4643ـ حدثنا به بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة فـي قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِـمّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أنْ يَأتِـيَ يَوْمٌ لا بَـيْعٌ فِـيهِ وَلا خُـلّةٌ وَلا شَفـاعَةٌ} قد علـم الله أن ناسا يتـحابون فـي الدنـيا, ويشفع بعضهم لبعض, فأما يوم القـيامة فلا خُـلّة إلا خُـلّة الـمتقـين.
وأما قوله: {وَالكافِرُونَ هُمُ الظّالِـمُونَ} فإنه يعنـي تعالـى ذكره بذلك: والـجاحدون لله الـمكذبون به وبرسله هم الظالـمون. يقول: هم الواضعون جحودهم فـي غير موضعه, والفـاعلون غير ما لهم فعله, والقائلون ما لـيس لهم قوله. وقد دللنا علـى معنى الظلـم بشواهده فـيـما مضى قبل بـما أغنى عن إعادته. وفـي قوله تعالـى ذكره فـي هذا الـموضع: {وَالكافِرُونَ هُمُ الظّالِـمُونَ} دلالة واضحة علـى صحة ما قلناه, وأن قوله: {وَلا خُـلّةٌ وَلا شَفَـاعَةٌ} إنـما هو مراد به أهل الكفر¹ فلذلك أتبع قوله ذلك: {وَالكافِرُونَ هُمُ الظّالِـمُونَ} فدل بذلك علـى أن معنى ذلك: حرمنا الكفـار النصرة من الأخلاء, والشفـاعة من الأولـياء والأقربـاء, ولـم نكن لهم فـي فعلنا ذلك بهم ظالـمين, إذ كان ذلك جزاء منا لـما سلف منهم من الكفر بـالله فـي الدنـيا, بل الكافرون هم الظالـمون أنفسهم بـما أتَوْا من الأفعال التـي أوجبوا لها العقوبة من ربهم.
فإن قال قائل: وكيف صرف الوعيد إلـى الكفـار والآية مبتدأة بذكر أهل الإيـمان؟ قـيـل له: إن الآية قد تقدمها ذكر صنفـين من الناس: أحدهما أهل كفر, والاَخر أهل إيـمان, وذلك قوله: {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} ثم عقب الله تعالـى ذكره الصنفـين بـما ذكرهم به, فحض أهل الإيـمان به علـى ما يقرّبهم إلـيه من النفقة فـي طاعته وفـي جهاد أعدائه من أهل الكفر به قبل مـجيء الـيوم الذي وصف صفته وأخبر فـيه عن حال أعدائه من أهل الكفر به, إذ كان قتال أهل الكفر به فـي معصيته ونفقتهم فـي الصدّ عن سبـيـله, فقال تعالـى ذكره: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُو} أنتـم {مِـمّا رَزَقْنَاكُمْ} فـي طاعتـي, إذ كان أهل الكفر بـي ينفقون فـي معصيتـي, {مِنْ قَبْلِ أنْ يَأتِـيَ يَوْمٌ لا بَـيْعٌ فِـيهِ} فـيدرك أهل الكفر فـيه ابتـياع ما فرطوا فـي ابتـياعه فـي دنـياهم, {وَلاَ خُـلّةٌ} لهم يومئذ تنصرهم منـي, ولا شافع لهم يشفع عندي فتنـجيهم شفـاعته لهم من عقابـي¹ وهذا يومئذ فعلـي بهم جزاء لهم علـى كفرهم, وهم الظالـمون أنفسهم دونـي, لأنـي غير ظلام لعبـيدي. وقد:
4644ـ حدثنـي مـحمد بن عبد الرحيـم, قال: ثنـي عمرو بن أبـي سلـمة, قال: سمعت عمر بن سلـيـمان, يحدّث عن عطاء بن دينار أنه قال: الـحمد لله الذي قال: {وَالكافِرُونَ هُمُ الظّالِـمُونَ} ولـم يقل: «الظالـمون هم الكافرون».
الآية : 255
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{اللّهُ لاَ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ الْحَيّ الْقَيّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لّهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَن ذَا الّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مّنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيّهُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيّ الْعَظِيمُ }
قد دللنا فـيـما مضى علـى تأويـل قوله: «اللّهُ».
وأما تأويـل قوله: {لا إلَهَ إلاّ هُوَ} فإن معناه: النهي عن أن يعبد شيء غير الله الـحيّ القـيوم الذي صفته ما وصف به نفسه تعالـى ذكره فـي هذه الآية. يقول: «الله» الذي له عبـادة الـخـلق «الـحيّ القـيوم», لا إله سواه, لا معبود سواه, يعنـي: ولا تعبدوا شيئاف سوى الـحَيّ القَـيّوم الذي لا تَأخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ, والذي صفته ما وصف فـي هذه الآية. وهذه الآية إبـانة من الله تعالـى ذكره للـمؤمنـين به وبرسوله عما جاءت به أقوال الـمختلفـين فـي البـينات من بعد الرسل الذين أخبرنا تعالـى ذكره أنه فضل بعضهم علـى بعض, واختلفوا فـيه, فـاقتتلوا فـيه كفرا به من بعض, وإيـمانا به من بعض. فـالـحمد لله الذي هدانا للتصديق به ووفقنا للإقرار به.
وأما قوله: {الـحَيّ} فإنه يعنـي: الذي له الـحياة الدائمة, والبقاء الذي لا أوّل له يحدّ, ولا آخر له يُؤْمَد, إذ كان كل ما سواه فإنه وإن كان حيا فلـحياته أول مـحدود وآخر مأمود, ينقطع بـانقطاع أمدها وينقضي بـانقضاء غايتها.
وبـما قلنا فـي ذلك قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
4645ـ حدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع قوله: {الـحَيّ} حيّ لا يـموت.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, مثله.
وقد اختلف أهل البحث فـي تأويـل ذلك, فقال بعضهم: إنـما سمى الله نفسه حيا لصرفه الأمور مصارفها وتقديره الأشياء مقاديرها, فهو حيّ بـالتدبـير لا بحياة.
وقال آخرون: بل هو حيّ بحياة هي له صفة.
وقال آخرون: بل ذلك اسم من الأسماء تسمى به, فقلناه تسلـيـما لأمره.
وأما قوله: {القَـيّومُ} فإنه «الفـيعول» من القـيام, وأصله «القـيووم»: سبق عين الفعل وهي واو ياء ساكنة, فـاندغمتا فصارتا ياء مشددة¹ وكذلك تفعل العرب فـي كل واو كانت للفعل عينا سبقتها ياء ساكنة. ومعنى قوله: {القَـيّومُ}: القائم برزق ما خـلق وحفظه, كما قال أمية:
لَـمْ يُخْـلَقِ السّماءُ والنّـجُومُوالشّمْسُ مَعْها قَمَرٌ يقومُ
قَدّرَهُ الـمُهَيْـمِنُ القَـيّومُوالـحَشْرُ والـجَنّةُ والـجحيـمُ
إلا لأمرٍ شأنُهُ عَظِيـمُ
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
4646ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: {القَـيّومُ} قال: القائم علـى كل شيء.
4647ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, عن ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: {القَـيّومُ} قـيـم كل شيء, يكلؤه ويرزقه ويحفظه.
4648ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {القَـيّومُ} وهو القائم.
4649ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك: {الـحَيّ الْقَـيّومُ} قال: القائم الدائم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لا تَأخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ}.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: {لاَ تَأخُذُهُ سِنَةٌ} لا يأخذه نعاس فـينعس, ولا نوم فـيستثقل نوما. والوسن: خثورة النوم, ومنه قول عديّ بن الرقاع:
وَسْنانُ أقْصَدَهُ النّعاسَ فَرَنّقَتْفـي عَيْنِهِ سِنَةٌ وَلَـيْسَ بِنائِمِ
ومن الدلـيـل علـى ما قلنا من أنها خثورة النوم فـي عين الإنسان, قول الأعشى ميـمون بن قـيس:
تُعاطِي الضّجِيعَ إذَا أقْبَلَتْبُعَيْدَ النّعاسِ وَقَبْلَ الوَسَنْ
وقال آخر:
بـاكَرَتْها الأغْرَابُ فـي سِنَةِ النّوْمِ فَتَـجْرِي خِلالَ شَوْكِ السّيالِ
يعنـي عند هبوبها من النوم ووسن النوم فـي عينها, يقال منه: وسن فلان فهو يَوْسَنُ وَسَنا وسِنَةً وهو وسنان, إذا كان كذلك.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
4650ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس قوله تعالـى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} قال: السنة: النعاس, والنوم: هو النوم.
حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} السنة: النعاس.
4651ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة والـحسن فـي قوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} قالا: نعسة.
4652ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: أخبرنا هشيـم, عن جويبر, عن الضحاك فـي قوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} قال: السنة: الوسنة, وهو دون النوم, والنوم: الاستثقال.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} السنة: النعاس, والنوم: الاستثقال.
حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب, قال: أخبرنا يزيد, قال: أخبرنا جويبر, عن الضحاك, مثله سواء.
4653ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} أما سنة: فهو ريح النوم الذي يأخذ فـي الوجه فـينعس الإنسان.
4654ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} قال: السنة: الوسنان بـين النائم والـيقظان.
4655ـ حدثنـي عبـاس بن أبـي طالب, قال: حدثنا منـجاب بن الـحرث, قال: حدثنا علـيّ بن مسهر, عن إسماعيـل عن يحيـى بن رافع: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} قال: النعاس.
4656ـ حدثنـي يونس, قال أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: {لا تأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} قال: الوسنان: الذي يقوم من النوم لا يعقل, حتـى ربـما أخذ السيف علـى أهله.
وإنـما عنى تعالـى ذكره بقوله: {لا تَأخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} لا تـحله الاَفـات, ولا تناله العاهات. وذلك أن السنة والنوم معنـيان يغمران فهم ذي الفهم, ويزيلان من أصابـاه عن الـحال التـي كان علـيها قبل أن يصيبـاه.
فتأويـل الكلام إذ كان الأمر علـى ما وصفنا: الله لا إله إلا هو الـحيّ الذي لا يـموت, القـيوم علـى كل ما هو دونه بـالرزق والكلاءة والتدبـير والتصريف من حال إلـى حال, لا تأخذه سنة ولا نوم, لا يغيره ما يغير غيره, ولا يزيـله عما لـم يزل علـيه تنقل الأحوال وتصريف اللـيالـي والأيام, بل هو الدائم علـى حال, والقـيوم علـى جميع الأنام, لو نام كان مغلوبـا مقهورا, لأن النوم غالب النائم قاهره, ولو وسن لكانت السموات والأرض وما فـيهما دكّا, لأن قـيام جميع ذلك بتدبـيره وقدرته, والنوم شاغل الـمدبر عن التدبـير, والنعاس مانعٌ الـمقدّر عن التقدير بوسنه. كما:
4657ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, قال: وأخبرنـي الـحكم بن أبـان, عن عكرمة مولـى ابن عبـاس فـي قوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} أن موسى سأل الـملائكة: هل ينام الله؟ فأوحى الله إلـى الـملائكة, وأمرهم أن يؤرّقوه ثلاثا فلا يتركوه ينام. ففعلوا, ثم أعطوه قارورتـين فأمسكوه, ثم تركوه وحذروه أن يكسرهما. قال: فجعل ينعس وهما فـي يديه, فـي كل يد واحدة. قال: فجعل ينعس وينتبه, وينعس وينتبه, حتـى نعس نعسة, فضرب بإحداهما الأخرى فكسرهما. قال معمر: إنـما هو مثل ضربه الله, يقول: فكذلك السموات والأرض فـي يديه.
4658ـ حدثنا إسحاق بن أبـي إسرائيـل, قال: حدثنا هشام بن يوسف, عن أمية بن شبل, عن الـحكم بن أبـان, عن عكرمة, عن أبـي هريرة, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى صلى الله عليه وسلم علـى الـمنبر, قال: «وَقَعَ فِـي نَفْسِ مُوسَى هَلْ يَنامُ اللّهُ تَعالـى ذِكْرُهُ؟ فأرْسَلَ اللّهُ إلَـيْهِ مَلَكا فَأرّقَهُ ثَلاثا, ثُمّ أعْطَاهُ قارُورَتَـيْنِ, فِـي كُلّ يَدٍ قارُورَةٌ, وأمَرَهُ أنْ يَحْتَفِظَ بِهما» قال: «فَجَعَلَ يَنامُ وَتَكادُ يَدَاهُ تَلْتَقِـيَانِ, ثُمّ يَسْتَـيْقِظُ فَـيَحْبِسُ إحْدَاهُمَا عَنِ الأُخْرَى, ثُمّ نَامَ نَوْمَةً فَـاصْطَفَقَتْ يَدَاهُ وَانْكَسَرَتِ القارُورَتَانِ». قال: ضرب الله مثلاً له, أن الله لو كان ينام لـم تستـمسك السماء والأرض.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لَهُ مَا فِـي السّمَوَاتِ وَما فِـي الأرْضِ مَنْ ذَا الّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلاّ بإذْنِهِ}.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: {لَهُ مَا فِـي السّمَوَاتِ وَمَا فِـي الأَرْضِ} أنه مالك جميع ذلك بغير شريك ولا نديد, وخالق جميعه دون كل آلهة ومعبود. وإنـما يعنـي بذلك أنه لا تنبغي العبـادة لشيء سواه, لأن الـمـملوك إنا هو طوع يد مالكه, ولـيس له خدمة غيره إلا بأمره. يقول: فجميع ما فـي السموات والأرض ملكي وخـلقـي, فلا ينبغي أن يعبد أحد من خـلقـي غيري وأنا مالكه, لأنه لا ينبغي للعبد أن يعبد غير مالكه, ولا يطيع سوى مولاه.
وأما قوله: {مَنْ ذَا الّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلاّ بِإذْنِهِ} يعنـي بذلك: من ذا الذي يشفع لـمـمالـيكه إن أراد عقوبتهم إلا أن يخـلـيه, ويأذن له بـالشفـاعة لهم. وإنـما قال ذلك تعالـى ذكره لأن الـمشركين قالوا: ما نعبد أوثاننا هذه إلا لـيقرّبونا إلـى الله زلفـى, فقال الله تعالـى ذكره لهم: لـي ما فـي السموات وما فـي الأرض مع السموات والأرض ملكا, فلا ينبغي العبـادة لغيري, فلا تعبدوا الأوثان التـي تزعمون أنها تقربكم منـي زلفـى, فإنها لا تنفعكم عندي ولا تغنـي عنكم شيئا, ولا يشفع عندي أحد لأحد إلا بتـخـلـيتـي إياه والشفـاعة لـمن يشفع له, من رسلـي وأولـيائي وأهل طاعتـي.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَعْلَـمُ ما بَـيْنَ أيْدِيهِمْ وَما خَـلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْـمِهِ إلاّ بِـمَا شاءَ}.
يعنـي تعالـى ذكره بذلك أنه الـمـحيط بكل ما كان وبكل ما هو كائن علـما, لا يخفـى علـيه شيء منه.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
4659ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن الـحكم: {وَيَعْلَـمُ مَا بَـيْنَ أَيْدِيهِمْ} الدنـيا {وَما خَـلْفَهُمْ} الاَخرة.
4660ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: {يَعْلَـمُ مَا بَـيْنَ أيْدِيهِمْ} ما مضى من الدنـيا {وَما خَـلْفَهُمْ} من الاَخرة.
4661ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج قوله: {يَعْلَـمُ مَا بَـيْنَ أيْدِيهِمْ} ما مضى أمامهم من الدنـيا {وَما خَـلْفَهُمْ} ما يكون بعدهم من الدنـيا والاَخرة.
4662ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {يَعْلَـمُ مَا بَـيْنَ أيْدِيهِمْ} قال: ما بـين أيديهم فـالدنـيا {وَما خَـلْفَهُمْ} فـالاَخرة.
وأما قوله: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْـمِهِ إِلاّ بِـمَا شاءَ} فإنه يعنـي تعالـى ذكره أنه العالـم الذي لا يخفـى علـيه شيء مـحيط بذلك كله مـحص له دون سائر من دونه, وأنه لا يعلـم أحد سواه شيئا إلا بـما شاء هو أن يعلـمه فأراد فعلـمه.
وإنـما يعنـي بذلك أن العبـادة لا تنبغي لـمن كان بـالأشياء جاهلاً فكيف يعبد من لا يعقل شيئا البتة من وثن وصنـم, يقول: أخـلصوا العبـادة لـمن هو مـحيط بـالأشياء كلها يعلـمها, لا يخفـى علـيه صغيرها وكبـيرها.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
4663ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْـمِهِ} يقول: لا يعلـمون بشيء من علـمه إلا بـما شاء هو أن يعلـمهم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَسِعَ كُرْسِيّهُ السّمَوَاتِ وَالأَرْضَ}.
اختلف أهل التأويـل فـي معنى الكرسي الذي أخبر الله تعالـى ذكره فـي هذه الآية أنه وسع السموات والأرض, فقال بعضهم: هو علـم الله تعالـى ذكره. ذكر من قال ذلك:
4664ـ حدثنا أبو كريب وسلـم بن جنادة, قالا: حدثنا ابن إدريس, عن مطرف, عن جعفر بن أبـي الـمغيرة, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس: {وَسِعَ كُرْسِيّهُ} قال: كرسيه: علـمه.
4665ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا مطرّف, عن جعفر بن أبـي الـمغيرة, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, مثله, وزاد فـيه: ألا ترى إلـى قوله: {وَلاَ يَؤُوُدُهُ حِفْظُهُمَ
وقال آخرون: الكرسي: موضع القدمين. ذكر من قال ذلك:
4666ـ حدثنـي علـيّ بن مسلـم الطوسي, قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي مـحمد بن جحادة, عن سلـمة بن كهيـل, عن عمارة بن عمير, عن أبـي موسى, قال: الكرسي: موضع القدمين, وله أطيط كأطيط الرحل.
4667ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {وَسِعَ كُرْسِيّهُ السّمَوَاتِ وَالأرْضَ} فإن السموات والأرض فـي جوف الكرسي, والكرسي بـين يدي العرش, وهو موضع قدميه.
4668ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك قوله: {وَسِعَ كُرْسِيّهُ السّمَوَاتِ وَالأرْضَ} قال: كرسيه الذي يوضع تـحت العرش, الذي يجعل الـملوك علـيه أقدامهم.
4669ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري, عن سفـيان, عن عمار الدهنـي, عن مسلـم البطين, قال: الكرسي: موضع القدمين.
4670ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: {وَسِعَ كُرْسِيّهُ السّمَوَاتِ وَالأرْضَ} قال: لـما نزلت: {وَسِعَ كُرْسِيّهُ السّمَوَاتِ وَالأرْضَ} قال أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله هذا الكرسي وسع السموات والأرض, فكيف العرش؟ فأنزل الله تعالـى: {وَما قَدَرُوا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ} إلـى قوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالـى عَمّا يُشْرِكُونَ}.
4671ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: {وَسِعَ كُرْسِيّهُ السّمَوَاتِ والأرْضَ} قال ابن زيد: فحدثنـي أبـي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما السّمَوَاتُ السّبْعُ فِـي الكُرْسِيّ إلاّ كَدَرَاهِمَ سَبْعَةٍ أُلْقِـيَتْ فِـي تُرْسٍ». قال: وقال أبو ذر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما الكُرْسِيّ فـي العَرْشِ إلاّ كَحَلْقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ أُلْقِـيَتْ بَـيْنَ ظَهْرَيْ فَلاةٍ مِنَ الأرْضِ».
وقال آخرون: الكرسي: هو العرش نفسه. ذكر من قال ذلك:
4672ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك, قال: كان الـحسن يقول: الكرسي: هو العرش.
قال أبو جعفر: ولكل قول من هذه الأقوال وجه ومذهب, غير أن الذي هو أولـى بتأويـل الآية ما جاء به الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهو ما:
4673ـ حدثنـي به عبد الله بن أبـي زياد القطوانـي, قال: حدثنا عبـيد الله بن موسى, قال: أخبرنا إسرائيـل, عن أبـي إسحاق, عن عبد الله بن خـلـيفة, قال: أتت امرأة النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فقالت: ادع الله أن يدخـلنـي الـجنة! فعظم الربّ تعالـى ذكره, ثم قال: «إنّ كُرْسِيّهُ وَسِعَ السّمَوَاتِ وَالأرْضَ, وَإنّهُ لَـيَقْعُدُ عَلَـيْهِ فَمَا يَفْضُلُ مِنْهُ مِقْدَارُ أرْبَعِ أصَابِعَ» ثم قال بأصابعه فجمعها: «وَإنّ لَهُ أطيطا كأطِيطِ الرّحْلِ الـجَدِيدِ إذَا رُكِبَ مِنْ ثِقَلِه».
حدثنـي عبد الله بن أبـي زياد, قال: حدثنا يحيـى بن أبـي بكر, عن إسرائيـل, عن أبـي إسحاق, عن عبد الله بن خـلـيفة, عن عمر, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم, بنـحوه.
حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا إسرائيـل, عن أبـي إسحاق, عن عبد الله بن خـلـيفة, قال: جاءت امرأة, فذكر نـحوه.
وأما الذي يدل علـى صحته ظاهر القرآن فقول ابن عبـاس الذي رواه جعفر بن أبـي الـمغيرة عن سعيد بن جبـير عنه أنه قال: هو علـمه, وذلك لدلالة قوله تعالـى ذكره: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُم} علـى أن ذلك كذلك, فأخبر أنه لا يؤوده حِفظ ما علـم, وأحاط به مـما فـي السموات والأرض, وكما أخبر عن ملائكته أنهم قالوا فـي دعائهم: {رَبّنَا وَسِعْتَ كُلّ شَيْءٍ رَحمَةً وَعِلْـم} فأخبر تعالـى ذكره أن علـمه وسع كل شيء, فكذلك قوله: {وَسِعَ كُرْسِيّهُ السّمَوَاتِ وَالأرْضَ}. وأصل الكرسي: العلـم, ومنه قـيـل للصحيفة يكون فـيها علـم مكتوب كُرّاسة, ومنه قول الراجز فـي صفة قانص:
حتـى إذَا ما احْتازَها تَكَرّسا
يعنـي علـم. ومنه يقال للعلـماء: الكراسي, لأنهم الـمعتـمد علـيهم, كما يقال: أوتاد الأرض, يعنـي بذلك أنهم العلـماء الذين تصلـح بهم الأرض¹ ومنه قول الشاعر:
يَحُفّ بِهِمْ بِـيضُ الوُجُوهِ وَعُصْبَةٌكَرَاسِيّ بـالأحْدَاثِ حِينَ تَنُوبُ
يعنـي بذلك علـماء بحوادث الأمور ونوازلها.
والعرب تسمي أصل كل شيء: الكِرْس, يقال منه: فلان كريـم الكِرْس: أي كريـم الأرض, قال العجاج:
قَدْ عَلِـمَ القُدّوسُ مَوْلَـى القُدْسِأنّ أبـا العَبّـاسِ أوْلَـى نَفْسِ
بِـمَعْدن الـمُلْـكِ الكَرِيـمِ الكِـرْسِ
يعنـي بذلك: الكريـم الأصل, ويُروى:
فِـي مَعْـدِنِ العزّ الكَرِيـمِ الكِـرْسِ
(القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العَلِـيّ العَظِيـمُ}.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: {وَلا يَؤُوُدُهُ حِفْظُهُمَ} ولا يشقّ علـيه ولا يثقله, يقال منه: قد آنى هذا الأمر فهو يؤودنـي أَوْدا وإيادا, ويقال: ما آدك فهو لـي آئد, يعنـي بذلك: ما أثقلك فهو لـي مثقل.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
4674ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس: {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَ} يقول: لا يثقل علـيه.
حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُم} قال: لا يثقل علـيه حفظهما.
4675ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَ} لا يثقل علـيه لا يجهده حفظهما.
4676ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر عن الـحسن وقتادة فـي قوله: {وَلاَ يَؤُوُدُهُ حِفْظُهُمَ} قال: لا يثقل علـيه شيء.
حدثنـي مـحمد بن عبد الله بن بزيع, قال: حدثنا يوسف بن خالد السمتـي, قال: حدثنا نافع بن مالك, عن عكرمة, عن ابن عبـاس فـي قوله: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَ} قال: لا يثقل علـيه حفظهما.
4677ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن أبـي زائدة, وحدثنا يحيـى بن أبـي طالب, قال: أخبرنا يزيد, قالا جميعا: أخبرنا جويبر, عن الضحاك: {وَلاَ يَؤُوُدُهُ حِفْظُهُمَ} قال: لا يثقل علـيه.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيـى بن واضح, عن عبـيد, عن الضحاك, مثله.
4678ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: سمعته ـ يعنـي خلادا ـ يقول: سمعت أبـا عبد الرحمن الـمدينـي يقول فـي هذه الآية: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَ} قال: لا يكثر علـيه.
4679ـ حدثنا مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى بن ميـمون, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَ} قال: لا يَكْرُثُهُ.
4680ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَ} قال: لا يثقل علـيه.
4681ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع قوله: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَ} يقول: لا يثقل علـيه حفظهما.
4682ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَ} قال: لا يعزّ علـيه حفظهما.
قال أبو جعفر: والهاء والـميـم والألف فـي قوله: {حِفْظُهُمَ} من ذكر السموات والأرض¹ فتأويـل الكلام: وسع كرسيه السموات والأرض, ولا يثقل علـيه حفظ السموات والأرض.
وأما تأويـل قوله: {وَهُوَ العَلِـيّ} فإنه يعنـي: والله العلـيّ. والعلِـيّ: الفعيـل من قولك علا يعلو علوّا: إذا ارتفع, فهو عالٍ وعلـيّ, والعلـيّ: ذو العلوّ والارتفـاع علـى خـلقه بقدرته. وكذلك قوله: {العَظِيـمُ} ذو العظمة, الذي كل شيء دونه, فلا شيء أعظم منه. كما:
4683ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس: العظيـم الذي قد كمل فـي عظمته.
واختلف أهل البحث فـي معنى قوله: {وَهُوَ العَلِـيّ} فقال بعضهم: يعنـي بذلك¹ وهو العلـيّ عن النظير والأشبـاه. وأنكروا أن يكون معنى ذلك: وهو العلـيّ الـمكان, وقالوا: غير جائز أن يخـلو منه مكان, ولا معنى لوصفه بعلوّ الـمكان¹ لأن ذلك وصفه بأنه فـي مكان دون مكان.
وقال آخرون: معنى ذلك: وهو العلـيّ علـى خـلقه بـارتفـاع مكانه عن أماكن خـلقه, لأنه تعالـى ذكره فوق جميع خـلقه وخـلقه دونه, كما وصف به نفسه أنه علـى العرش, فهو عالٍ بذلك علـيهم.
وكذلك اختلفوا فـي معنى قوله: {العَظِيـمُ} فقال بعضهم: معنى العظيـم فـي هذا الـموضع: الـمعظم صرف الـمُفَعّل إلـى فعيـل, كما قـيـل للـخمر الـمعتقة: خمر عتـيق, كما قال الشاعر:
وكأنّ الـخَمْرَ العَتِـيقَ مِنَ الإسْــفَنْطِ مَـمْزُوجَةً بِـمَاءٍ زُلالِ
وإنـما هي معتقة. قالوا: فقوله «العظيـم» معناه: الـمعظم الذي يعظمه خـلقه ويهابونه ويتقونه. قالوا: وإما يحتـمل قول القائل: هو عظيـم أحد معنـيـين: أحدهما: ما وصفنا من أنه معظم¹ والاَخر: أنه عظيـم فـي الـمساحة والوزن. قالوا: وفـي بطول القول بأن يكون معنى ذلك: أنه عظيـم فـي الـمساحة والوزن صحة القول بـما قلنا.
وقال آخرون: بل تأويـل قوله: {العَظِيـمُ} هو أن له عظمة هي له صفة. وقالوا: لا نصف عظمته بكيفـية, ولكنا نضيف ذلك إلـيه من جهة الإثبـات, وننفـي عنه أن يكون ذلك علـى معنى مشابهة العظم الـمعروف من العبـاد, لأن ذلك تشبـيه له بخـلقه, ولـيس كذلك. وأنكر هؤلاء ما قاله أهل الـمقالة التـي قدمنا ذكرها, وقالوا: لو كان معنى ذلك أنه معظم, لوجب أن يكون قد كان غير عظيـم قبل أن يخـلق الـخـلق, وأن يبطل معنى ذلك عند فناء الـخـلق, لأنه لا معظم له فـي هذه الأحوال.
وقال آخرون: بل قوله: إنه العظيـم وصف منه نفسه بـالعظم. وقالوا: كل ما دونه من خـلقه فبـمعنى الصغر لصغرهم عن عظمته.
الآية : 256
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدّينِ قَد تّبَيّنَ الرّشْدُ مِنَ الْغَيّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
اختلف أهل التأويـل فـي معنى ذلك, فقال بعضهم: نزلت هذه الآية فـي قوم من الأنصار, أو فـي رجل منهم كان لهم أولاد قد هوّدوهم أو نصروهم¹ فلـما جاء الله بـالإسلام أرادوا إكراههم علـيه, فنهاهم الله عن ذلك, حتـى يكونوا هم يختارون الدخول فـي الإسلام. ذكر من قال ذلك:
4684ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا ابن أبـي عديّ, عن شعبة, عن أبـي بشر, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس قال: كانت الـمرأة تكون مِقْلاتا, فتـجعل علـى نفسها إن عاش لها ولد أن تهوّده¹ فلـما أجلـيت بنو النضير كان فـيهم من أبناء الأنصار, فقالوا: لا ندع أبناءنا! فأنزل الله تعالـى ذكره: {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ قَدْ تَبَـيّنَ الرّشْدُ مِنَ الغَيّ}.
4685ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا سعيد, عن أبـي بشر, عن سعيد بن جبـير, قال: كانت الـمرأة تكون مِقْلـى ولا يعيش لها ولد ـ قال شعبة: وإنـما هو مقلات ـ, فتـجعل علـيها إن بقـي لها ولد لتهوّدنه. قال: فلـما أجلـيت بنو النضير كان فـيهم منهم, فقالت الأنصار: كيف نصنع بأبنائنا؟ فنزلت هذه الآية: {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ قَدْ تَبَـيّنَ الرّشْدُ مِنَ الغَيّ} قال: من شاء أن يقـيـم أقام, ومن شاء أن يذهب ذهب.
4686ـ حدثنا حميد بن مسعدة, قال: حدثنا بشر بن الـمفضل, قال: حدثنا داود, وحدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن علـية, عن داود, عن عامر, قال: كانت الـمرأة من الأنصار تكون مقلاتا لا يعيش لها ولد, فتنذر إن عاش ولدها أن تـجعله مع أهل الكتاب علـى دينهم. فجاء الإسلام وطوائف من أبناء الأنصار علـى دينهم, فقالوا: إنـما جعلناهم علـى دينهم, ونـحن نرى أن دينهم أفضل من ديننا, وإذ جاء الله بـالإسلام فلنكرهنهم! فنزلت: {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ} فكان فصل ما بـين من اختار الـيهودية والإسلام, فمن لـحق بهم اختار الـيهودية, ومن أقام اختار الإسلام. ولفظ الـحديث لـحميد.
4687ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا معتـمر بن سلـيـمان, قال: سمعت داود, عن عامر, بنـحو معناه, إلا أنه قال: فكان فصل ما بـينهم إجلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بنـي النضير, فلـحق بهم من كان يهوديا ولـم يسلـم منهم, وبقـي من أسلـم.
حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا عبد الأعلـى, قال: حدثنا داود, عن عامر بنـحوه, إلا أنه قال: إجلاء النضير إلـى خيبر, فمن اختار الإسلام أقام, ومن كره لـحق بخيبر.
4688ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن أبـي إسحاق, عن مـحمد بن أبـي مـحمد الـحرشي مولـى زيد بن ثابت عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس قوله: {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ قَدْ تَبَـيّنَ الرّشْدُ مِنَ الغَيّ} قال: نزلت فـي رجل من الأنصار من بنـي سالـم بن عوف يقال له الـحصين¹ كان له ابنان نصرانـيان, وكان هو رجلاً مسلـما, فقال للنبـيّ صلى الله عليه وسلم: ألا أستكرههما فإنهما قد أبـيا إلا النصرانـية؟ فأنزل الله فـيه ذلك.
4689ـ حدثنـي الـمثنى قال: حدثنا حجاج بن الـمنهال, قال: حدثنا أبو عوانة, عن أبـي بشر, قال: سألت سعيد بن جبـير عن قوله: {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ قَدْ تَبَـيّنَ الرّشْدُ مِنَ الغَيّ} قال: نزلت هذه فـي الأنصار. قال: قلت خاصة؟ قال: خاصة. قال: كانت الـمرأة فـي الـجاهلـية تنذر إن ولدت ولدا أن تـجعله فـي الـيهود تلتـمس بذلك طول بقائه. قال: فجاء الإسلام وفـيهم منهم¹ فلـما أجلـيت النضير, قالوا: يا رسول الله, أبناؤنا وإخواننا فـيهم, قال: فسكت عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأنزل الله تعالـى ذكره: {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ قَدْ تَبَـيّنَ الرّشْدُ مِنَ الغَيّ} قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قَدْ خُيّرَ أصْحَابُكُمْ, فإن اخْتارُوكُمْ فَهُمْ مِنْكُمْ, وَإنِ اخْتارُوهُمْ فَهُمْ مِنْهُمْ» قال: فأجلوهم معهم.
4690ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي قوله: {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ قَدْ تَبَـيّنَ الرّشْدُ مِنَ الغَيّ} إلـى: {لاَ انْفِصَامَ لَهَ} قال: نزلت فـي رجل من الأنصار يقال له أبو الـحصين: كان له ابنان, فقدم تـجار من الشام إلـى الـمدينة يحملون الزيت¹ فلـما بـاعوا وأرادوا أن يرجعوا أتاهم ابنا أبـي الـحصين, فدعوهما إلـى النصرانـية فتنصرا, فرجعا إلـى الشام معهم. فأتـى أبوهما إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: إن ابنـيّ تنصرا وخرجا, فأطلبهما؟ فقال: «لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ قَدْ تَبَـيّنَ الرّشْدُ مِنَ الغَيّ» ولـم يؤمر يومئذ بقتال أهل الكتاب. وقال: «أبْعَدَهُما الله! هما أوّل من كَفَرَ». فوجد أبو الـحصين فـي نفسه علـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم حين لـم يبعث فـي طلبهما, فنزلت: {فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّـى يُحَكّمُوكَ فِـيـمَا شَجَرَ بَـيْنَهُمْ ثُمّ لاَ يَجِدُوا فِـي أنْفُسِهِمْ حَرَجا مِـمّا قَضَيْتَ وَيُسَلّـمُوا تَسْلِـيـم} ثم إنه نسخ: {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ} فأمر بقتال أهل الكتاب فـي سورة براءة.
4691ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ} قال: كانت فـي الـيهود يهود أرضعوا رجالاً من الأوس, فلـما أمر النبـيّ صلى الله عليه وسلم بإجلائهم, قال أبناؤهم من الأوس: لنذهبنّ معهم, ولنديننّ بدينهم! فمنعهم أهلوهم, وأكرهوهم علـى الإسلام, ففـيهم نزلت هذه الآية.
4692ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, وحدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد جميعا, عن سفـيان, عن خصيف, عن مـجاهد: {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ} قال: كان ناس من الأنصار مسترضعين فـي بنـي قريظة, فأرادوا أن يكرهوهم علـى الإسلام, فنزلت: {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ قَدْ تَبَـيّنَ الرّشْدُ مِنَ الغَيّ}.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي الـحجاج, عن ابن جريج, قال: قال مـجاهد: كانت النضير يهودا فأرضعوا. ثم ذكر نـحو حديث مـحمد بن عمرو, عن أبـي عاصم. قال ابن جريج: وأخبرنـي عبد الكريـم, عن مـجاهد أنهم كانوا قد دان بدينهم أبناءُ الأوس, دانوا بدين النضير.
4693ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن داود بن أبـي هند, عن الشعبـي: أن الـمرأة من الأنصار كانت تنذر إن عاش ولدها لتـجعلّنه فـي أهل الكتاب فلـما جاء الإسلام قالت الأنصار: يا رسول الله ألا نُكره أولادنا الذين هم فـي يهود علـى الإسلام, فإنا إنـما جعلناهم فـيها ونـحن نرى أن الـيهودية أفضل الأديان؟ فلـما إذ جاء الله بـالإسلام, أفلا نكرههم علـى الإسلام؟ فأنزل الله تعالـى ذكره: {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ قَدْ تَبَـيّنَ الرّشْدُ مِنَ الغَيّ}.
حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن داود, عن الشعبـي مثله, وزاد: قال: كان فصل ما بـين من اختار الـيهود منهم وبـين من اختار الإسلام, إجلاء بنـي النضير¹ فمن خرج مع بنـي النضير كان منهم, ومن تركهم اختار الإسلام.
4694ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ} إلـى قوله: {العُرْوَةِ الوُثْقَـى} قال: هذا منسوخ.
4695ـ حدثنـي سعيد بن الربـيع الرازي, قال: حدثنا سفـيان, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, ووائل, عن الـحسن: أن أناسا من الأنصار كانوا مسترضَعين فـي بنـي النضير, فلـما أجلوا, أراد أهلوهم أن يـلـحقوهم بدينهم, فنزلت: {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ}.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا يُكره أهلُ الكتاب علـى الدين إذا بذلوا الـجزية, ولكنهم يُقرّون علـى دينهم. وقالوا: الآية فـي خاصّ من الكفـار, ولـم ينسخ منها شيء. ذكر من قال ذلك:
4696ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ قَدْ تَبَـيّنَ الرّشْدُ مِنَ الغَيّ} قال: أكره علـيه هذا الـحيّ من العرب, لأنهم كانوا أمة أمية, لـيس لهم كتاب يعرفونه, فلـم يقبل منهم غير الإسلام, ولا يكره علـيه أهل الكتاب إذا أقرّوا بـالـجزية أو بـالـخراج, ولـم يفتنوا عن دينهم, فـيخـلّـى عنهم.
حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا سلـيـمان, قال: حدثنا أبو هلال, قال: حدثنا قتادة فـي قوله: {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ} قال: هو هذا الـحيّ من العرب أكرهوا علـى الدين, لـم يقبل منهم إلا القتل أو الإسلام, وأهل الكتاب قبلت منهم الـجزية ولـم يقتلوا.
4697ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا الـحكم بن بشير, قال: حدثنا عمرو بن قـيس, عن جويبر, عن الضحاك فـي قوله: {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ} قال: أُمِرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتل جزيرة العرب من أهل الأوثان, فلـم يقبل منهم إلا «لا إلَه إلاّ الله», أو السيف. ثم أُمِرَ فـيـمن سواهم بأن يقبل منهم الـجزية¹ فقال: {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ قَدْ تَبَـيّنَ الرّشْدُ مِنَ الغَيّ}.
حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ} قال: كانت العرب لـيس لها دين, فأكرهوا علـى الدين بـالسيف, قال: ولا يكره الـيهود ولا النصارى والـمـجوس إذا أعطوا الـجزية.
4698ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا ابن عيـينة, عن ابن أبـي نـجيح, قال: سمعت مـجاهدا يقول لغلام له نصرانـي: يا جرير أسلـم! ثم قال: هكذا كان يقال لهم.
4699ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ قَدْ تَبَـيّنَ الرّشْدُ مِنَ الغَيّ} قال: وذلك لـما دخـل الناس فـي الإسلام, وأعطى أهل الكتاب الـجزية.
وقال آخرون: هذه الآية منسوخة, وإنـما نزلت قبل أن يفرض القتال. ذكر من قال ذلك:
4700ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي يعقوب بن عبد الرحمن الزهري قال: سألت زيد بن أسلـم عن قول الله تعالـى ذكره: {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ} قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بـمكة عشر سنـين لا يُكره أحدا فـي الدين, فأبى الـمشركون إلا أن يقاتلوهم, فـاستأذن الله فـي قتالهم, فأذن له.
وأولـى هذه الأقوال بـالصواب قول من قال: نزلت هذه الآية فـي خاص من الناس, وقال: عنى بقوله تعالـى ذكره: {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ} أهل الكتابـين والـمـجوس, وكل من جاء إقراره علـى دينه الـمخالف دين الـحق, وأخذ الـجزية منه. وأنكروا أن يكون شيء منها منسوخا.
وإنـما قلنا هذا القول أولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب لـما قد دللنا علـيه فـي كتابنا كتاب «اللطيف من البـيان عن أصول الأحكام» من أن الناسخ غير كائن ناسخا إلا ما نفـى حكم الـمنسوخ, فلـم يجز اجتـماعهما. فأما ما كان ظاهره العموم من الأمر والنهي وبـاطنه الـخصوص, فهو من الناسخ والـمنسوخ بـمعزل. وإذ كان ذلك كذلك, وكان غير مستـحيـل أن يقال: لا إكراه لأحد مـمن أخذت منه الـجزية فـي الدين, ولـم يكن فـي الآية دلـيـل علـى أن تأويـلها بخلاف ذلك, وكان الـمسلـمون جميعا قد نقلوا عن نبـيهم صلى الله عليه وسلم أنه أكره علـى الإسلام قوما, فأبى أن يقبل منهم إلا الإسلام, وحكم بقتلهم إن امتنعوا منه, وذلك كعبدة الأوثان من مشركي العرب, وكالـمرتدّ عن دينه دين الـحقّ إلـى الكفر ومن أشبههم, وأنه ترك إكراه آخرين علـى الإسلام بقبوله الـجزية منه, وإقراره علـى دينه البـاطل, وذلك كأهل الكتابـين, ومن أشبههم¹ كان بـينا بذلك أن معنى قوله: {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ} إنـما هو لا إكراه فـي الدين لأحد مـمن حل قبول الـجزية منه بأدائه الـجزية, ورضاه بحكم الإسلام. ولا معنى لقول من زعم أن الآية منسوخة الـحكم بـالإذن بـالـمـحاربة.
فإن قال قائل: فما أنت قائل فـيـما روي عن ابن عبـاس وعمن رُوي عنه: من أنها نزلت فـي قوم من الأنصار أرادوا أن يكرهوا أولادهم علـى الإسلام؟ قلنا: ذلك غير مدفوعة صحته, ولكن الآية قد تنزل فـي خاصّ من الأمر, ثم يكون حكمها عاما فـي كل ما جانس الـمعنى الذي أنزلت فـيه. فـالذين أنزلت فـيهم هذه الآية علـى ما ذكر ابن عبـاس وغيره, إنـما كانوا قوما دانوا بدين أهل التوراة قبل ثبوت عقد الإسلام لهم, فنهى الله تعالـى ذكره عن إكراههم علـى الإسلام, وأنزل بـالنهي عن ذلك آية يعمّ حكمها كل من كان فـي مثل معناهم مـمن كان علـى دين من الأديان التـي يجوز أخذ الـجزية من أهلها, وإقرارهم علـيها علـى النـحو الذي قلنا فـي ذلك.
ومعنى قوله: {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ} لا يكره أحد فـي دين الإسلام علـيه, وإنـما أدخـلت الألف واللام فـي الدين تعريفـا للدين الذي عنى الله بقوله: لا إكراه فـيه, وأنه هو الإسلام. وقد يحتـمل أن يكون أدخـلتا عقـيبـا من الهاء الـمنوية فـي الدين, فـيكون معنى الكلام حينئذ: وهو العلـيّ العظيـم لا إكراه فـي دينه, قد تبـين الرشد من الغيّ. وكأنّ هذا القول أشبه بتأويـل الآية عندي.
وأما قوله: {قَدْ تَبَـيّنَ الرّشْدُ} فإنه مصدر من قول القائل: رَشِدتُ فأنا أرْشَدُ رَشَدا ورُشْدا وَرَشادا, وذلك إذا أصاب الـحقّ والصواب. وأما الغيّ, فإنه مصدر من قول القائل: قد غَوَى فلان فهو يَغْوَى غَيّا وغَوَايَةً. وبعض العرب يقول: غَوَى فلان يَغْوَى. والذي علـيه قراءة القراء: {ما ضَلّ صَاحِبُكُمْ وَما غَوَى} بـالفتـح, وهي أفصح اللغتـين, وذلك إذا عدا الـحقّ وتـجاوزه فضلّ.
فتأويـل الكلام إذا: (قد وضح الـحقّ من البـاطل, واستبـان لطالب الـحق والرشاد وجه مطلبه, فتـميز من الضلالة والغواية, فلا تكرهوا من أهل الكتابـين, ومن أبحت لكم أخذ الـجزية منه, علـى دينكم, دين الـحق¹ فإن من حاد عن الرشاد بعد استبـانته له, فإلـى ربه أمره, وهو ولـيّ عقوبته فـي معاده