تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 42 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 42

041

قوله: 255- "لا إله إلا هو" أي لا معبود بحق إلا هو، وهذه الجملة خبر المبتدأ. والحي: الباقي، وقيل: الذي لا يزول ولا يحول، وقيل: المصرف للأمور والمقدر للأشياء. قال الطبري عن قوم إنه يقال حي كما وصف نفسه، ويسلم ذلك دون أن ينظر فيه، وهو خبر ثان ومبتدأ محذوف. والقيوم القائم على كل نفس بما كسبت، وقيل: القائم بذاته المقيم لغيره، وقيل: القائم بتدبير الخلق وحفظه، وقيل: هو الذي لا ينام، وقيل: الذي لا بديل له. وأصل قيوم قيووم اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فأدغمت الأولى في الثانية بعد قلب الواو ياء. وقرأ ابن مسعود وعلقمة والنخعي والأعمش الحي القيام بالألف، وروي ذلك عن عمر، ولا خلاف بين أهل اللغة أن القيوم أعرف عند العرب وأصح بناء، وأثبت علة. والسنة: النعاس في قول الجمهور، والنعاس: ما يتقدم النوم من الفتور وانطباق العينين، فإذا صار في القلب صار نوماً. وفرق المفصل بين السنة والنعاس والنوم فقال: السنة من الرأس، والنعاس في العين، والنوم في القلب انتهى. والذي ينبغي التعويل عليه في الفرق بين السنة والنوم أن السنة لا يفقد معها العقل، بخلاف النوم فإنه استرخاء أعضاء الدماغ من رطوبات الأبخرة حتى يفقد معه العقل، بل وجميع الإدراكات بسائر المشاعر، والمراد أنه لا يعتريه سبحانه شيء منهما، وقدم السنة على النوم، لكونها تتقدمه في الوجود. قال الرازي في تفسيره: إن السنة ما تتقدم النوم، فإذا كانت عبارة عن مقدمة النوم، فإذا قيل: لا تأخذه سنة دل على أنه لا يأخذه نوم بطريق الأولى، فكان ذكر النوم تكراراً، قلنا: تقدير الآية لا تأخذه سنة فضلاً عن أن يأخذه نوم، والله أعلم بمراده انتهى. وأقول: إن هذه الأولولية التي ذكرها غير مسلمة، فإن النوم قد يرد ابتداء من دون ما ذكر من النعاس. وإذا ورد على القلب والعين دفعة واحدة فإنه قال له نوم، ولا يقال له سنة، فلا يستلزم نفي السنة نفي النوم. وقد ورد عن العرب نفيهما جميعاً، ومنه قول زهير: ولا سنة طوال الدهر تأخذه ولا ينام وما في أمره فند فلم يكتف بنفي السنة، وأيضاً فإن الإنسان يقدر على أن يدفع عن نفسه السنة، ولا يقدر على أن يدفع عن نفسه النوم، فقد يأخذه النوم ولا تأخذه السنة، فلو وقع الاقتصار في النظم القرآني على نفي السنة لم يفد ذلك نفي النوم، وهكذا لو وقع الاقتصار على نفي النوم لم يفد نفي السنة، فكم من ذي سنة غير نائم، وكرر حرف النفي للتنصيص على شمول النفي لكل واحد منهما. قوله: "من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه" في هذا الاستفهام من الإنكار على من يزعم أن أحداً من عباده يقدر على أن ينفع أحداً منهم بشفاعة أو غيرها والتقريع والتوبيخ له ما لا مزيد عليه، وفيه من الدفع في صدور عباد القبور والصد في وجوههم والفت في أعضادهم ما لا يقادر قدره ولا يبلغ مداه، والذي يستفاد منه فوق ما يستفاد من قوله تعالى: "ولا يشفعون إلا لمن ارتضى" وقوله تعالى: "وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى" وقوله تعالى: "لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن" بدرجات كثيرة. وقد بينت الأحاديث الصحيحة الثابتة في دواوين الإسلام صفة الشفاعة، ولمن هي، ومن يقوم بها. قوله: "يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم" الضميران لما في السموات والأرض بتغليب العقلاء على غيرهم، وما بين أيديهم وما خلفهم عبارة عن المتقدم عليهم والمتأخر عنهم، أو عن الدنيا والآخرة وما فيهما. قوله: "ولا يحيطون بشيء من علمه" قد تقدم معنى الإحاطة، والعلم هنا بمعنى المعلوم: أي لا يحيطون بشيء من معلوماته. قوله: "وسع كرسيه" الكرسي الظاهر أنه الجسم الذي وردت الآثار بصفته كما سيأتي بيان ذلك. وقد نفى ودوده جماعة من المعتزلة، وأخطئوا في ذلك خطأ بيناً، وغلطوا غلطاً فاحشاً. وقال بعض السلف: إن الكرسي هنا عبارة عن العلم. قالوا: ومنه قيل للعلماء الكراسي، ومنه الكراسة التي يجمع فيها العلم، ومنه قول الشاعر: تحف بهم بيض الوجوه وعصبة كراسي بالأخبار حين تنوب ورجح هذا القول ابن جرير الطبري، وقيل كرسيه: قدرته التي يمسك بها السموات والأرض، كما يقال: اجعل لهذا الحائط كرسياً: أي ما يعمده، وقيل: إن الكرسي هو العرش، وقيل: هو تصوير لعظمته ولا حقيقة له، وقيل: هو عبارة عن الملك. والحق القول الأول، ولا وجه للعدول عن المعنى الحقيقي إلا مجرد خيالات تسببت عن جهالات وضلالات، والمراد بكونه وسع السموات والأرض أنها صارت فيه وأنه وسعها ولم يضق عنها لكونه بسيطاً واسعاً. وقوله: "ولا يؤوده حفظهما" معناه لا يثقله ثقالة أدنى الشيء، بمعنى أثقلني وتحملت منه مشقة. وقال الزجاج: يجوز أن يكون الضمير في قوله: "يؤوده" لله سبحانه، ويجوز أن يكون للكرسي لأنه من أمر الله " العلي " يراد به علو القدرة والمنزلة. وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا: هو العلي عن خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه. قال ابن عطية: وهذه أقوال جهلة مجسمين، وكان الواجب أن لا تحكى انتهى. والخلاف في إثبات الجهة معروفة، ولكن الناشئ على مذهب يرى غيره خارجاً عن الشرع ولا ينظر في أدلته ولا يلتفت إليها، والكتاب والسنة هما المعيار الذي يعرف به الحق من الباطل، ويتبين به الصحيح من الفاسد "ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض" ولا شك أن هذا اللفظ يطلق على الظاهر الغالب كما في قوله: "إن فرعون علا في الأرض" وقال الشاعر: فلما علونا واستوينا عليهم تركناهم صرعى لنسر وكاسر والعظيم بمعنى عظم شأنه وخطره. قال في الكشاف: إن الجملة الأولى بيان لقيامه بتدبير الخلق وكونه مهيمناً عليه غير ساه عنه. والثانية بيان لكونه مالكاً لما يدبره. والجملة الثالثة بيان لكبرياء شأنه. والجملة الرابعة بيان لإحاطته بأحوال الخلق وعلمه بالمرتضى منهم المستوجب للشفاعة وغير المرتضى. والجملة الخامسة بيان لسعة علمه وتعلقه بالمعلومات كلها، أو لجلاله وعظم قدره. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم في قوله: "الحي" أي حي لا يموت " القيوم " القائم الذي لا بديل له. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي عن مجاهد في قوله: "القيوم" قال: القائم على كل شيء. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: القيوم الذي لا زوال له. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في قوله: "لا تأخذه سنة ولا نوم" قال: السنة النعاس، والنوم هو النوم. وأخرجوا إلا البيهقي عن السدي قال: السنة ريح النوم الذي تأخذه في الوجه فينعس الإنسان. وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله: "يعلم ما بين أيديهم" قال: ما مضى من الدنيا "وما خلفهم" من الآخرة. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس "ما بين أيديهم" ما قدموا من أعمالهم "وما خلفهم" ما أضاعوا من أعمالهم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: "وسع كرسيه" قال: علمه، ألا ترى إلى قوله: "ولا يؤوده حفظهما". وأخرج الدارقطني في الصفات والخطيب في تاريخه عنه قال: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله "وسع كرسيه" قال: كرسيه موضع قدمه، والعرش لا يقدر قدره إلا الله عز وجل". وأخرجه الحاكم وصححه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ والبيهقي عن أبي موسى الأشعري مثله موقوفاً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لو أن السموات السبع والأرضين السبع بسطن ثم وصلن بعضهن إلى بعض ما كن في سعته: يعني الكرسي إلا بمنزلة الحلقة في المفازة. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه والبيهقي عن أبي ذر الغفاري: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكرسي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده ما السموات السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة". وأخرج عبد بن حميد والبزار وأبو يعلى وابن جرير وأبو الشيخ والطبراني والضياء المقدسي في المختارة عن عمر قال: "أتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: ادع الله أن يدخلني الجنة، فعظم الرب سبحانه وقال: إن كرسيه وسع السموات والأرض، وإن له أطيطاً كأطيط الرحل الجديد من ثقله" وفي إسناده عبد الله بن خليفة وليس بالمشهور. وفي سماعه من عمر نظر، ومنهم من يرويه عن عمر موقوفاً. وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعاً: أنه موضع القدمين. وفي إسناده الحكم بن ظهير الفزاري الكوفي وهو متروك. وقد ورد عن جماعة من السلف من الصحابة وغيرهم في وصف الكرسي آثار لا حاجة في بسطها. وقد روى أبو داود في كتاب السنة من سننه من حديث جبير بن مطعم حديثاً في صفته، وكذلك أورد ابن مردويه عن بريدة وجابر وغيرهما. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ولا يؤوده حفظهما" قال: لا يثقل عليه. وأخرج ابن أبي حاتم عنه "ولا يؤوده" قال: ولا يكثره. وأخرج ابن جرير عنه قال: العظيم الذي قد كمل في عظمته. واعلم أنه قد ورد في فضل هذه الآية أحاديث. فأخرج أحمد ومسلم واللفظ له عن أبي بن كعب "أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله أي آية من كتاب الله أعظم؟ قال: آية الكرسي، قال: ليهنك العلم أبا المنذر". وأخرج النسائي وأبو يعلى وابن حبان وأبو الشيخ في العظمة والطبراني والحاكم وصححه عن أبي بن كعب: أنه كان له جرن فيه تمر، فكان يتعاهده، فوجده ينقص، فحرسه ذات ليلة فإذا هو بداية شبه الغلام المحتلم، قال: فسلمت فرد السلام، فقلت: ما أنت، جني أم إنسي؟ قال: جني، قلت: ناولني يدك، فناولني فإذا يده يد كلب وشعره شعر كلب، فقلت: هكذا خلق الجن؟ قال: لقد علمت الجن أن ما فيهم من هو أشد مني، قلت: ما حملك على ما صنعت؟ قال: بلغني أنك رجل تحب الصدقة فأحببنا أن نصيب من طعامك، فقال له أبي: فما الذي يجيرنا منكم؟ قال: هذه الآية آية الكرسي التي في سورة البقرة "من قالها حين يمسي أجير منا حتى يصبح، ومن قالها حين يصبح أجير منا حتى يمسي- فلما أصبح أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: صدق الخبيث". وأخرج البخاري في تاريخه والطبراني وأبو نعيم في المعرفة بسند رجاله ثقات عن ابن الأسقع البكري "أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءهم في صفة المهاجرين، فسأله إنسان أي آية في القرآن آعظم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم" حتى انقضت الآية". وأخرج أحمد من حديث أبي ذر مرفوعاً نحوه. وأخرج الخطيب البغدادي في تاريخه عن أنس مرفوعاً نحوه أيضاً. وأخرج الدارمي عن أنفع بن عبد الله الكلاعي نحوه. وأخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة قال: "وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو وذكر قصة، وفي آخرها أنه قال له: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: ما هي؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح- فأخبر أبو هريرة بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أما إنه صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب يا أبا هريرة؟ قال: لا، قال: ذلك شيطان كذا". وأخرج نحو ذلك أحمد عن أبي أيوب. وأخرج الطبراني والحاكم وأبو نعيم والبيهقي عن معاذ بن جبل مرفوعاً نحوه. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أعظم آية في كتاب الله- الله لا إله إلا هو الحي القيوم". وأخرج نحوه أحمد والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن أبي ذر مرفوعاً. وأخرج نحوه أيضاً أحمد والطبراني من حديث أبي أمامة مرفوعاً. وأخرج سعيد بن منصور والحاكم والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سورة البقرة فيها آية سيدة آي القرآن لا تقرأ في بيت فيه شيطان إلا خرج منه، آية الكرسي". قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأخرج الحاكم من حديث زائدة مرفوعاً "لكل شيء سنام، وسنام القرآن سورة البقرة، وفيها آية هي سيدة آي القرآن، آية الكرسي"، وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث حكيم بن جبير. وقد تكلم فيه شعبة وضعفه، وكذا ضعفه أحمد ويحيى بن معين وغير واحد، وتركه ابن مهدي، وكذبه السعدي. وأخرج أبو داود والترمذي وصححه من حديث أسماء بنت يزيد بن السكن قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في هاتين الآيتين: "الله لا إله إلا هو الحي القيوم"، و" الم * الله لا إله إلا هو " إن فيهما اسم الله الأعظم. وقد وردت أحاديث في فضلها غير هذه، وورد أيضاً في فضل قراءتها دبر الصلوات وفي غير ذلك، وورد أيضاً في فضلها مع مشاركة غيرها لها أحاديث، وورد عن السلف في ذلك شيء كثير.
قد اختلف أهل العلم في قوله: 256- "لا إكراه في الدين" على أقوال: الأول إنها منسوخة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أكره العرب على دين الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلا بالإسلام، والناسخ لها قوله تعالى: "يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين" وقال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين" وقال: " ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون "، وقد ذهب إلى هذا كثير من المفسرين. القول الثاني أنها ليست بمنسوخة وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصة، وأنهم لا يكرهون على الإسلام إذا أدوا الجزية، بل الذين يكرهون هم أهل الأوثان، فلا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، وإلى هذا ذهب الشعبي والحسن وقتادة والضحاك. القول الثالث: أن هذه الآية في الأنصار خاصة، وسيأتي بيان ما ورد في ذلك. القول الرابع: أن معناها لا تقولوا لمن أسلم تحت السيف إنه مكره فلا إكراه في الدين. القول الخامس: أنها وردت في السبي متى كانوا من أهل الكتاب لم يجبروا على الإسلام. وقال ابن كثير في تفسيره: أي لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام، فإنه بين واضح جلي دلائله وبراهينه لا تحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهاً مقسوراً، وهذا يصلح أن يكون قولاً سادساً. وقال في الكشاف في تفسيره هذه الآية: أي لم يجبر الله أمر الإيمان على الإجبار والقسر، ولكن على التمكين والاختيار، ونحوه قوله: "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" أي: لو شاء لقسرهم على الإيمان، ولكن لم يفعل، وبني الأمر على الاختيار، وهذا يصلح أن يكون قولاً سابعاً. والذي ينبغي اعتماده ويتعين الوقوف عنده: أنها في السبب الذي نزلت لأجله محكمة غير منسوخة، وهو أن المرأة من الأنصار تكون مقلاة لا يكاد يعيش لها ولد، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده، فلما أجليت يهود بني نضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا: لا ندع أبناءنا فنزلت، أخرجه أبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وابن مردويه والبيهقي في السنن والضياء في المختارة عن ابن عباس. وقد وردت هذه القصة من وجوه، حاصلها ما ذكره ابن عباس مع زيادات تتضمن أن الأنصار قالوا: إنما جعلناهم على دينهم: أي دين اليهود، ونحن نرى أن دينهم أفضل من ديننا، وأن الله جاء بالإسلام فلنكرهنهم، فلما نزلت خير الأبناء رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكرههم على الإسلام. وهذا يقتضي أن أهل الكتاب لا يكرهون على الإسلام إذا اختاروا البقاء على دينهم وأدوا الجزية. وأما أهل الحرب فالآية وإن كانت تعمهم، لأن النكرة في سياق النفي وتريف الدين يفيدان ذلك، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لكن قد خص هذا العموم بما ورد من آيات في إكراه أهل الحرب من الكفار على الإسلام. قوله: "قد تبين الرشد من الغي" الرشد هنا الإيمان، والغي الكفر: أي قد تميز أحدهما على الآخر. وهذا استئناف يتضمن التعليل لما قبله. والطاغوت فعلوت من طغى يطغي ويطغو: إذا جاوز الحد. قال سيبويه: هو اسم مذكر مفرد: أي اسم جنس يشمل القليل والكثير، وقال أبو على الفارسي: إنه مصدر كرهبوت وجبروت يوصف به الواحد والجمع، وقلبت لامه إلى موضع العين وعينه إلى موضع اللام كجبذ وجذب، ثم تقلب الواو ألفاً لتحركها وتحرك ما قبلها، فقيل: طاغوت، واختار هذا القول النحاس، وقيل: أصل الطاغوت في اللغة مأخوذ من الطغيان يؤدي معناه من غير اشتقاق، كما قيل: لآلئ من اللؤلؤ. وقال المبرد: هو جمع. قال ابن عطية: وذلك مردود. قال الجوهري: والطاغوت: الكاهن والشيطان وكل رأس في الضلال، وقد يكون واحداً. قال الله تعالى :"يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به" وقد يكون جمعاً. قال الله تعالى: "أولياؤهم الطاغوت" والجمع طواغيت: أي فمن يكفر بالشيطان أو الأصنام أو أهل الكهانة ورؤوس الضلالة أو بالجميع "ويؤمن بالله" عز وجل بعد ما تميز له الرشد من الغي فقد فاز وتمسك بالحبل الوثيق: أي المحكم. والوثقى فعلى من الوثاقة وجمعها وثق مثل الفضلى والفضل. وقد اختلف المفسرون في تفسير العروة الوثقى بعد اتفاقهم على أن ذلك من باب التشبيه والتمثيل لما هو معلوم بالدليل بما هو مدرك بالحاسة، فقيل: المراد بالعروة الإيمان، وقيل: الإسلام، وقيل: لا إله إلا الله، ولا مانع من الحمل على الجميع. والانفصام: الانكسار من غير بينونة. قال الجوهري: فصم الشيء كسره من غير أن يبين. وأما القصم بالقاف فهو الكسر مع البينونة، وفسر صاحب الكشاف الانفصام بالانقطاع.