تفسير الطبري تفسير الصفحة 421 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 421
422
420
 الآية : 23 -24
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {مّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مّن قَضَىَ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدّلُواْ تَبْدِيلاً * لّيَجْزِيَ اللّهُ الصّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً }.
يقول تعالـى ذكره مِنَ الـمُؤْمِنِـينَ بـالله ورسوله رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَـيْه يقول: أوفوا بـما عاهدوه علـيه من الصبر علـى البأساء والضرّاء, وحين البأس فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَـحْبَهُ يقول: فمنهم من فرغ من العمل الذي كان نذره الله وأوجبه له علـى نفسه, فـاستشهد بعض يوم بدر, وبعض يوم أُحد, وبعض فـي غير ذلك من الـمواطن وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ قضاءه والفراغ منه, كما قضى من مضى منهم علـى الوفـاء لله بعهده, والنصر من الله, والظفر علـى عدوّه. والنّـحب: النذر فـي كلام العرب. وللنـحب أيضا فـي كلامهم وجوه غير ذلك, منها الـموت, كما قال الشاعر:
(قَضَى نَـحْبَهُ فِـي مُلْتَقَـى القَوْمِ هَوْبَرُ )
يعنـي: منـيته ونفسه ومنها الـخطر العظيـم, كما قال جرير:
بِطَخْفَةَ جالَدْنا الـمُلُوكَ وَخَيْـلُنَاعَشِيّةَ بِسْطامٍ جَرَيْنَ عَلـى نَـحْبِ
أي علـى خطر عظيـم ومنها النـحيب, يقال: نـحب فـي سيره يومه أجمع: إذا مدّ فلـم ينزل يومه ولـيـلته ومنها التنـحيب, وهو الـخطار, كما قال الشاعر:
وإذْ نَـحّبَتْ كَلْبٌ علـى النّاس أيّهُمْأحَقّ بِتاجِ الـمَاجِدِ الـمُتَكَوّم؟
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21658ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: ثنـي يزيد بن رومان مِنَ الـمُؤْمِنـينَ رجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَـيْهِ: أي وفوا الله بـما عاهدوه علـيه فمنهم من قَضَى نَـحْبَهُ أي فرغ من عمله, ورجع إلـى ربه, كمن استشهد يوم بدر ويوم أُحد ومنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ما وعد الله من نصره والشهادة علـى ما مضى علـيه أصحابه.
21659ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَـحْبَهُ قال: عهده فقتل أو عاش وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ يوما فـيه جهاد, فـيقضي نـحبه عهده, فـيقتل أو يصدق فـي لقائه.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن عيـينة, عن ابن جريج, عن مـجاهد فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَـحْبَهُ قال: عهده وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ قال: يوما فـيه قتال, فـيصدق فـي اللقاء.
قال: ثنا أبـي, عن سفـيان, عن مـجاهد فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَـحْبَهُ قال: مات علـى العهد.
21660ـ قال: ثنا أبو أُسامة, عن عبد الله بن فلان قد سماه ذهب عنى اسمه عن أبـيه فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَـحْبَهُ قال: نذره.
21661ـ حدثنا ابن إدريس, عن طلـحة بن يحيى, عن عمه عيسى بن طلـحة: أن أعرابـيا أتـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فسأله: من الذين قضوا نـحبهم؟ فأعرض عنه, ثم سأله, فأعرض عنه, ودخـل طلـحة من بـاب الـمسجد وعلـيه ثوبـان أخضران, فقال: «هَذَا مِنَ الّذِينَ قَضَوْا نَـحْبَهُمْ».
21662ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا هوّذة, قال: حدثنا عوف, عن الـحسن, قوله فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَـحْبَهُ قال: موته علـى الصدق والوفـاء. وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ الـموت علـى مثل ذلك, ومنهم من بدّل تبديلاً.
حدثنـي مـحمد بن عمارة, قال: حدثنا عبـيد الله بن موسى, قال: أخبرنا إسرائيـل, عن سعيد بن مسروق, عن مـجاهد فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَـحْبَهُ, وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ قال: النـحب: العهد.
21663ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة مِنَ الـمُؤْمِنِـينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدوا اللّهَ عَلَـيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَـحْبَهُ علـى الصدق والوفـاء وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ من نفسه الصدق والوفـاء.
21664ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَـحْبَهُ قال: مات علـى ما هو علـيه من التصديق والإيـمان وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ذلك.
21665ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا ابن أبـي بكير, قال شريك بن عبد الله, أخبرناه عن سالـم, عن سعيد بن جُبَـير, عن ابن عبـاس فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَـحْبَهُ قال: الـموت علـى ما عاهد الله علـيه وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ الـموت علـى ما عاهد الله علـيه.
وقـيـل: إن هذه الاَية نزلت فـي قوم لـم يشهدوا بدرا, فعاهدوا الله أن يفوا قتالاً للـمشركين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, فمنهم من أوفـى فقضى نـحبه, ومنهم من بدّل, ومنهم من أوفـى ولـم يقض نـحبه, وكان منتظرا, علـى ما وصفهم الله به من صفـاتهم فـي هذه الاَية. ذكر من قال ذلك:
21666ـ حدثنا عمرو بن علـيّ, قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, قال: حدثنا حماد بن سلـمة, عن ثابت, عن أنس, أن أنس بن النضر تغيب عن قتال بدر, فقال: تغيبت عن أوّل مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم, لئن رأيت قتالاً لـيرينّ الله ما أصنع فلـما كان يوم أُحُد, وهُزم الناس, لقـي سعد بن معاذ فقال: والله إنـي لأجدُ ريح الـجنة, فتقدّم فقاتل حتـى قُتل, فنزلت فـيه هذه الاَية: مِنَ الـمُؤْمِنِـينَ رِجالُ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَـيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَـحْبَهُ, وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الله بن بكير, قال: حدثنا حميد, قال: زعم أنس بن مالك قال: غاب أنس بن النضر, عن قتال يوم بدر, فقال: غبت عن قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم الـمشركين, لئن أشهدنـي الله قتالاً, لـيرينّ الله ما أصنع فلـما كان يوم أُحُد, انكشف الـمسلـمون, فقال: اللهم إنـي أبرأ إلـيك مـما جاء به هؤلاء الـمشركون, وأعتذر إلـيك مـما صنع هؤلاء, يعنـي الـمسلـمين, فمشى بسيفه, فلقـيه سعد بن معاذ, فقال: أي سعد إنـي لأجد ريح الـجنة دون أُحُد. فقال سعد: يا رسول الله فما استطعت أن أصنع ما صنع. قال أنس بن مالك: فوجدناه بـين القتلـى, به بضع ثمانون جراحة, بـين ضربة بسيف, وطعنة برمـح, ورمية بسهم, فما عرفناه حتـى عرفته أخته ببنانه. قال أنس: فكنا نتـحدّث أن هذه الاَية مِنَ الـمُؤْمِنِـينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَـيْهِ, فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَـحْبَهُ نزلت فـيه, وفـي أصحابه.
حدثنا سوار بن عبد الله, قال: حدثنا الـمعتـمر, قال: سمعت حميدا يحدّث, عن أنس بن مالك, أن أنس بن النضر, غاب عن قتال بدر, ثم ذكر نـحوه.
21667ـ حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا يونس بن بكير, قال: حدثنا طلـحة بن يحيى, عن موسى وعيسى بن طلـحة عن طلـحة أن أعرابـيا أتـى رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: وكانوا لا يجرءون علـى مسألته, فقالوا للأعرابـي: سله مَنْ قَضَى نَـحْبَهُ من هو؟ فسأله, فأعرض عنه, ثم سأله, فأعرض عنه, ثم دخـلت من بـاب الـمسجد وعلـيّ ثـياب خُضر فلـما رآنـي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أيْنَ السّائِلـيُ عَمّنْ قَضَى نَـحْبَهُ؟» قال الأعرابـيّ: أنا يا رسول الله, قال: «هَذَا مِـمّنْ قَضَى نَـحْبَهُ».
21668ـ حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا عبد الـحميد الـحِمّانـي, عن إسحاق بن يحيى الطّلْـحِي, عن موسى بن طلـحة, قال: قام معاوية بن أبـي سفـيان, فقال: إنـي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «طَلْـحَةُ مـمّنْ قَضَى نَـحْبَهُ».
حدثنـي مـحمد بن عمرو بن تـمام الكلبـي, قال: حدثنا سلـيـمان بن أيوب, قال: ثنـي أبـي, عن إسحاق, عن يحيى بن طلـحة, عن عمه موسى بن طلـحة, عن أبـيه طلـحة, قال: لـما قدمنا من أُحُد وصرنا بـالـمدينة, صعد النبـيّ صلى الله عليه وسلم الـمنبر, فخطب الناس وعزّاهم, وأخبرهم بـما لهم فـيه من الأجر, ثم قرأ: رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَـيْهِ... الاَية, قال: فقام إلـيه رجل فقال: يا رسول الله, من هؤلاء؟ فـالتفت وعلـيّ ثوبـات أخضران, فقال: «أيّها السّائِلُ هَذَا مِنْهُمْ».
وقوله: وَما بَدّلُوا تَبْدِيلاً: وما غيروا العهد الذي عاقدوا ربهم تغيـيرا, كما غيره الـمعوّقون القائلون لإخوانهم: هلّ إلـينا, والقائلون: إن بـيوتنا عورة. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21669ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَما بَدّلُوا تَبْديلاً يقول: ما شكّوا وما تردّدوا فـي دينهم, ولا استبدلوا به غيره.
21670ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله وَما بَدّلُوا تَبْديلاً: لـم يغيروا دينهم كما غير الـمنافقون.
وقوله: لِـيَجْزِيَ اللّهُ الصّادِقِـينَ بصِدْقِهِمْ يقول تعالـى ذكره مِنَ الـمُؤْمِنِـينَ رِجالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللّهَ عَلَـيْهِ لِـيَجْزِيَ اللّهُ الصّادِقِـينَ بِصِدْقِهِمْ: يقول: لـيثـيب الله أهل الصدق بصدقهم الله بـما عاهدوه علـيه, ووفـائهم له به وَيُعَذّبَ الـمُنافِقِـينَ إنْ شاءَ بكفرهم بـالله ونفـاقهم أوْ يَتُوبَ عَلَـيهِمْ من نفـاقهم, فـيهديهم للإيـمان. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21671ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة وَيُعَذّبَ الـمُنافِقِـينَ إنْ شاءَ, أوْ يَتُوبَ عَلَـيْهِمْ يقول: إن شاء أخرجهم من النفـاق إلـى الإيـمان.
إن قال قائل: ما وجه الشرط فـي قوله وَيُعَذّبَ الـمُنافِقِـينَ بقوله: إنْ شاءَ والـمنافق كافر وهل يجوز أن لا يشاء تعذيب الـمنافق, فـيقال ويعذّبه إن شاء؟ قـيـل: إن معنى ذلك علـى غير الوجه الذي توهمته. وإنـما معنى ذلك: ويعذّب الـمنافقـين بأن لا يوفقهم للتوبة من نفـاقهم حتـى يـموتوا علـى كفرهم إن شاء, فـيستوجبوا بذلك العذاب, فـالاستثناء إنـما هو من التوفـيق لا من العذاب إن ماتوا علـى نفـاقهم.
وقد بـين ما قلنا فـي ذلك قوله: أوْ يَتُوبَ عَلَـيْهِمْ فمعنى الكلام إذن: ويعذّب الـمنافقـين إذ لـم يهدهم للتوبة, فـيوفقهم لها, أو يتوب علـيهم فلا يعذّبهم.
وقوله: إنّ اللّهَ كانَ غَفُورا رَحِيـما يقول: إن الله كان ذا ستر علـى ذنوب التائبـين, رحيـما بـالتائبـين أن يعاقبهم بعد التوبة.
الآية : 25
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَرَدّ اللّهُ الّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً وَكَفَى اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً }.
يقول تعالـى ذكره: ورَدّ اللّهُ الّذِينَ كَفَرُوا به وبرسوله من قُرَيش وغطفـان بِغَيْظِهِمْ يقول: بكربهم وغمهم, بفوتهم ما أمّلوا من الظفر, وخيبتهم مـما كانوا طَمِعوا فـيه من الغَلَبة لَـمْ ينَالوا خَيْرا يقول: لـم يصيبوا من الـمسلـمين مالاً ولا إسارا وكَفَـى اللّهُ الـمُؤْمِنِـينَ القِتالَ بجنود من الـملائكة والريح التـي بعثها علـيهم. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21672ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: وَرَدّ اللّهُ الّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَـمْ يَنالُوا خَيْرا الأحزاب.
21673ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة, قوله وَرَدّ اللّهُ الّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَـمْ يَنالُوا خَيْرا وذلك يوم أبـي سفـيان والأحزاب, ردّ الله أبـا سفـيان وأصحابه بغيظهم لـم ينالوا خيرا وكَفَـى اللّهُ الـمُؤْمِنِـينَ القِتالَ بـالـجنود من عنده, والريح التـي بعث علـيهم.
21674ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: ثنـي يزيد بن رومان وَرَدّ اللّهُ الّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَـمْ يَنالُوا خَيْرا: أي قريش وغطفـان.
21675ـ حدثنـي الـحسين بن علـيّ الصّدائي, قال: حدثنا شبـابة, قال: حدثنا ابن أبـي ذئب, عن سعيد بن أبـي سعيد الـمقبري, عن عبد الرحمن بن أبـي سعيد الـخدري, عن أبـيه, قال: حُبِسنا يوم الـخندق عن الصلاة, فلـم نصلّ الظهر, ولا العصر, ولا الـمغرب, ولا العشاء, حتـى كان بعد العشاء بهويّ كفـينا, وأنزل الله: وكَفَـى اللّهُ الـمُؤْمِنِـينَ القِتالَ, وكانَ اللّهُ قَوِيّا عَزِيزا فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً, فأقام الصلاة, وصلـى الظهر, فأحسن صلاتها, كما كان يصلـيها فـي وقتها, ثم صلـى العصر كذلك, ثم صلـى الـمغرب كذلك, ثم صلـى العشاء كذلك, جعل لكل صلاة إقامة, وذلك قبل أن تنزل صلاة الـخوف فإنْ خِفْتُـمْ فِرِجالاً أوْ رُكْبـانا.
حدثنـي مـحمد بن عبد الله بن عبد الـحكم, قال: حدثنا ابن أبـي فديك, قال: حدثنا ابن أبـي ذئب, عن الـمقبري عن عبد الرحمن بن أبـي سعيد, عن أبـي سعيد الـخدري قال: حُبسنا يوم الـخندق, فذكر نـحوه.
وقوله: وكانَ اللّهُ قَوِيّا عَزِيزا يقول: وكان الله قويا علـى فعل ما يشاء فعله بخـلقه, فـينصر من شاء منهم علـى من شاء أن يخذله, لا يغلبه غالب عزيزا يقول: هو شديد انتقامه مـمن انتقم منه من أعدائه. كما:
21676ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وكانَ اللّهُ قَويّا عَزيزا: قويا فـي أمره, عزيزا فـي نقمته.
الآية : 26 -27
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَأَنزَلَ الّذِينَ ظَاهَرُوهُم مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيراً }.
يقول تعالـى ذكره: وأنزل الله الذين أعانوا الأحزاب من قريش وغطفـان علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, وذلك هو مظاهرتهم إياه, وعنى بذلك بنـي قريظة, وهم الذين ظاهروا الأحزاب علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله مِنْ أهْلِ الكِتابِ يعنـي: من أهل التوراة, وكانوا يهود: وقوله: منْ صَياصِيهمْ يعنـي: من حصونهم. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21677ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد وأنْزَلَ الّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ قال قريظة, يقول: أنزلهم من صياصيهم.
21678ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله وأنْزَلَ الّذينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ وهم بنو قُرَيظة, ظاهروا أبـا سفـيان وراسلوه, فنكثوا العهد الذي بـينهم وبـين نبـيّ الله. قال: فبـينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند زينب بنت جحش يغسل رأسه, وقد غسلت شقه, إذ أتاه جبرائيـل صلى الله عليه وسلم, فقال: عفـا الله عنك, ما وضعت الـملائكة سلاحها منذ أربعين لـيـلة, فـانهض إلـى بنـي قريظة, فإنـي قد قطعت أوتارهم, وفتـحت أبوابهم, وتركتهم فـي زلزال وبلبـال قال: فـاستلأم رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم سلك سكة بنـي غنـم, فـاتبعه الناس وقد عصب حاجبه بـالتراب قال: فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصروهم وناداهم: يا إخوان القردة, فقالوا: يا أبـا القاسم ما كنت فحاشا, فنزلوا علـى حكم ابن معاذ, وكان بـينهم وبـين قومه حلف, فرجوا أن تأخذه فـيهم هوادة, وأومأ إلـيهم أبو لبـابة أنه الذبح, فأنزل الله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَـخُونُوا اللّهَ والرّسُولَ وتَـخُونُوا أماناتكمْ وأنْتُـمْ تَعْلَـمُونَ فحكم فـيهم أن تقتل مقاتلتهم, وأن تسبى ذراريهم, وأن عقارهم للـمهاجرين دون الأنصار, فقال قومه وعشيرته: آثرت الـمهاجرين بـالعقار علـينا قال: فإنكم كنتـم ذوي عقار, وإن الـمهاجرين كانوا لا عقار لهم. وذُكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر وقال: «قَضَى فِـيكُمْ بِحُكْمِ اللّهِ».
21679ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: لـما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الـخندق راجعا إلـى الـمدينة والـمسلـمون, ووضعوا السلاح, فلـما كانت الظهر أتـى جبريـل رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما:
21680ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق, عن ابن شهاب الزهري معتـجرا بعمامة من استبرق, علـى بغلة علـيها رحالة, علـيها قطيفة من ديبـاج فقال: أقد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: «نعم», قال جبريـل: ما وضعت الـملائكة السلاح بعد, ما رجعت الاَن إلاّ من طلب القوم, إن الله يأمرك يا مـحمد بـالسير إلـى بنـي قريظة, وأنا عامد إلـى بنـي قريظة, فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا, فأذّن فـي الناس: إن من كان سامعا مطيعا فلا يصلـينّ العصر إلاّ فـي بنـي قريظة. وقدّم رسول الله صلى الله عليه وسلم علـيّ بن أبـي طالب رضي الله عنه برايته إلـى بنـي قريظة وابتدرها الناس, فسار علـيّ بن أبـي طالب رضي الله عنه حتـى إذا دنا من الـحصون, سمع منها مقالة قبـيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم منهم فرجع حتـى لقـي رسول الله صلى الله عليه وسلم بـالطريق, فقال: يا رسول الله لا علـيك ألاّ تدنو من هؤلاء الأخبـاث, قال: «لِـمَ؟ أظُنّك سَمِعْتَ لـي مِنْهُمْ أذًى», قال: نعم يا رسول الله. قال: «لَوْ قَدْ رأَونِـي لَـمْ يقُولُوا مِنْ ذلكَ شَيْئا». فلـما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم قال: «يا إخْوَانَ القِرَدَة هَلْ أخْزَاكُمُ اللّهُ وأنْزَلَ بِكُمْ نِقْمَتَهُ؟» قالُوا: يا أبـا القاسم, ما كنت جهولاً ومرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم علـى أصحابه بـالصورين قبل أن يصل إلـى بنـي قريظة, فقال: «هل مَرّ بِكُمْ أحَدٌ؟» فقالوا: يا رسول الله, قد مرّ بنا دِحية بن خـلـيفة الكلبـي علـى بغلة بـيضاء علـيها رحالة علـيها قطيفة ديبـاج, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذَاكَ جَبْرَائِيـلُ بعِثَ إلـى بَنِـي قُرَيْظَةَ يُزَلْزلُ بِهِمْ حُصُونَهُمْ, وَيَقْذفُ الرّعْبَ فِـي قُلُوبِهِمْ» فلـما أتـى رسول الله صلى الله عليه وسلم قريظة نزل علـى بئر من آبـارها فـي ناحية من أموالهم يقال لها: بئر أنا, فتلاحق به الناس, فأتاه رجال من بعد العشاء الاَخرة, ولـم يصلوا العصر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يُصَلّـيَنّ أحَدٌ العَصْرَ إلاّ فِـي بَنِـي قُرَيْظَةَ», فصلوا العصر فما عابهم الله بذلك فـي كتابه ولا عنفهم به رسوله.
21681ـ والـحديث عن مـحمد بن إسحاق, عن أبـيه, عن معبد بن كعب بن مالك الأنصاري, قال: وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين لـيـلة حتـى جهدهم الـحصار وقذف الله فـي قلوبهم الرعب. وقد كان حُيَـيّ بن أخطب دخـل علـى بنـي قريظة فـي حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفـان وفـاء لكعب بن أسد بـما كان عاهده علـيه فلـما أيقنوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم حتـى يناجزهم, قال كعب بن أسد لهم: يا معشر يهود, إنه قد نزل بكم من الأمر ما ترون, وإنـي عارض علـيكم خلالاً ثلاثا, فخذوا أيها قالوا: وما هنّ؟ قال: نبـايع هذا الرجل ونصدّقه, فوالله لقد تبـين لكم إنه لنبـيّ مرسل, وإنه الذي كنتـم تـجدونه فـي كتابكم, فتأمنوا علـى دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم, قالوا: لا نفـارق حكم التوراة أبدا, ولا نستبدل به غيره قال: فإذا أبـيتـم هذه علـيّ, فهلـمّ فلنقتل أبناءنا ونساءنا, ثم نـخرج إلـى مـحمد وأصحابه رجالاً مصلتـين بـالسيوف, ولـم نترك وراءنا ثقلاً يهمنا حتـى يحكم الله بـيننا وبـين مـحمد, فإن نهلك نهلك ولـم نترك وراءنا شيئا نـخشى علـيه, وإن نظهر فلعمري لنتـخذنّ النساء والأبناء, قالوا: نقتل هؤلاء الـمساكين, فما خير العيش بعدهم قال: فإذا أبـيتـم هذه علـيّ, فإن اللـيـلة لـيـلة السبت, وإنه عسى أن يكون مـحمد وأصحابه قد أمنوا, فـانزلوا لعلنا أن نصيب من مـحمد وأصحابه غرّة. قالوا: نفسد سبتنا ونـحدث فـيه ما لـم يكن أحدث فـيه من كان قبلنا؟ أما من قد علـمت فأصابهم من الـمسخ ما لـم يخف علـيك؟ قال: ما بـات رجل منكم منذ ولدته أمه لـيـلة واحدة من الدهر حازما, قال: ثم إنهم بعثوا إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن ابعث إلـينا أبـا لبـابة بن عبد الـمنذر أخا بنـي عمرو بن عوف, وكانوا من حلفـاء الأوس, نستشيره فـي أمرنا فأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم فلـما رأوه قام إلـيه الرجال, وجهش إلـيه النساء والصبـيان يبكون فـي وجهه, فرقّ لهم وقالوا له: يا أبـا لبـابة, أترى أن ننزل علـى حكم مـحمد؟ قال: نعم, وأشار بـيده إلـى حلقه, إنه الذبح قال أبو لبـابة: فوالله ما زالت قدماي حتـى عرفت أنـي قد خُنت الله ورسوله ثم انطلق أبو لبـابة علـى وجهه, ولـم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتـى ارتبط فـي الـمسجد إلـى عمود من عُمده وقال: لا أبرح مكانـي حتـى يتوب الله علـيّ مـما صنعت وعاهد الله لا يطأ بنـي قريظة أبدا ولا يرانـي الله فـي بلد خنت الله ورسوله فـيه أبدا. فلـما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره, وكان قد استبطأه, قال: «أما إنّهُ لَوْ كانَ جاءَنِـي لاسْتَغْفَرْتُ لَهُ. أمّا إذْ فَعَلَ ما فَعَلَ, فَمَا أنا بـالّذي أُطْلِقُهُ مِنْ مَكانِه حتـى يَتُوبَ اللّهُ عَلَـيْهِ» ثم إن ثعلبة بن سعية, وأسيد بن سعية, وأسد بن عبـيد, وهم نفر من بنـي هذيـل لـيسوا من بنـي قريظة, ولا النضير, نسبهم فوق ذلك, هم بنو عمّ القوم, أسلـموا تلك اللـيـلة التـي نزلت فـيها قريظة علـى حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم, وخرج فـي تلك اللـيـلة عمرو بن سعدى القرظي, فمرّ بحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم, وعلـيه مـحمد بن مسلـمة الأنصاري تلك اللـيـلة فلـما رآه قال: مَنْ هَذَا؟ قال: عمرو بن سعدى وكان عمرو قد أبى أن يدخـل مع بنـي قريظة فـي غدرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لا أغدر بـمـحمد أبدا, فقال مـحمد بن مسلـمة حين عرفه: اللهمّ لا تـحرمنـي إقالة عثرات الكرام, ثم خـلـى سبـيـله فخرج علـى وجهه حتـى بـات فـي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بـالـمدينة تلك اللـيـلة, ثم ذهب, فلا يُدرى أين ذهب من أرض الله إلـى يومه هذا فذُكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم شأنه, فقال: «ذَاكَ رَجُلٌ نَـجّاهُ اللّهُ بِوَفـائهِ». قال: وبعض الناس كان يزعم أنه كان أُوثق برمة فـيـمن أوثق من بنـي قريظة حين نزلوا علـى حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأصبحت رمته مُلقاة, ولا يُدرَى أين ذهب, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الـمقالة, فـالله أعلـم.
فلـما أصبحوا, نزلوا علـى حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فتواثبت الأوس, فقالوا: يا رسول الله إنهم موالـينا دون الـخزرج, وقد فعلت فـي موالـي الـخزرج بـالأمس ما قد علـمت, وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بنـي قريظة حاصر بنـي قـينقاع, وكانوا حلفـاء الـخزرج, فنزلوا علـى حكمه, فسأله إياهم عبد الله بن أُبـيّ بن سلول, فوهبهم له فلـما كلّـمته الأوس, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا تَرْضَوْنَ يا مَعْشَرَ الأَوْسِ أنْ يَحْكُمَ فِـيهِمْ رَجُلٌ مِنْكُمْ؟» قالوا: بلـى, قال: «فَذَاكَ إلـى سَعْدِ بْنِ مُعاذٍ» وكان سعد بن معاذ قد جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي خيـمة امرأة من أسلـم يقال لها رفـيدة فـي مسجده, كانت تداوي الـجَرْحَى, وتـحتسب بنفسها علـى خدمة من كانت به ضيعة من الـمسلـمين. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لقومه حين أصابه السهم بـالـخندق: «اجْعَلُوهُ فِـي خَيْـمَةِ رُفِـيْدَةَ حتـى أعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ» فلـما حكّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي بنـي قريظة, أتاه قومه فـاحتـملوه علـى حمار, وقد وطئوا له بوسادة من أدم, وكان رجلاً جسيـما, ثم أقبلوا معه إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهم يقولون: يا أبـا عمرو أحسن فـي موالـيك, فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاك ذلك لتُـحسن فـيهم فلـما أكثروا علـيه قال: قد آن لسعد أن لا تأخذه فـي الله لومة لائم, فرجع بعض من كان معه من قومه إلـى دار بنـي عبد الأشهل, فنعى إلـيهم رجال بنـي قريظة قبل أن يصل إلـيهم سعد بن معاذ من كلـمته التـي سمع منه فلـما انتهى سعد إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم والـمسلـمين, قال: قوموا إلـى سيدكم, فقاموا إلـيه فقالوا: يا أبـا عمرو إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاك موالـيَك لتـحكم فـيهم, فقال سعد: علـيكم بذلك عهد الله وميثاقه, إن الـحكم فـيهم كما حكمت, قال: نعم, قال: وعلـى من ههنا فـي الناحية التـي فـيها رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالاً له, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نَعَمْ», قال سعد: فإنـي أحكم فـيهم أن تُقتل الرجال, وتقسّم الأموال, وتْسبى الذراري والنساء.
21682ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: فحدثنـي مـحمد بن إسحاق, عن عاصم بن عمر بن قتادة, عن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ, عن علقمة بن وقاص اللـيثـي, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ حَكَمْتَ فِـيهِمْ بِحُكْمِ اللّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أرْقِعَةٍ», ثم استنزلوا, فحبسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي دار ابنة الـحارث امرأة من بنـي النّـجار. ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلـى سوق الـمدينة, التـي هي سوقها الـيوم, فخندق بها خنادق, ثم بعث إلـيهم, فضرب أعناقهم فـي تلك الـخنادق, يخرج بهم إلـيه أرسالاً, وفـيهم عدوّ الله حُيَـيّ بن أخطب, وكعب بن أسد رأس القوم, وهم ستّ مئة أو سبع مئة, والـمكثر منهم يقول: كانوا من الثمان مئة إلـى التسع مئة, وقد قالوا لكعب بن أسد وهم يُذهب بهم إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالاً: يا كعب, ما ترى ما يُصنع بنا؟ فقال كعب: أفـي كلّ موطن لا تعقلون؟ ألا ترون الداعي لا ينزع, وإنه من يُذهب به منكم فما يرجع, هو والله القتل فلـم يزل ذلك الدأب حتـى فرغ منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأُتـي بحُيـيّ بن أخطب عدوّ الله, وعلـيه حلة له فُقّاحية قد شققها علـيه من كل ناحية كموضع الأنـملة أنـملة أنـملة, لئلا يسلبها مـجموعة يداه إلـى عنقه بحبل, فلـما نظر إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أما والله ما لـمت نفسي فـي عداوتك, ولكنه من يخذل الله يُخْذَل ثم أقبل علـى الناس فقال: أيها الناس, إنه لا بأس بأمر الله, كتاب الله وقدره, وملـحمة قد كُتِبت علـى بنـي إسرائيـل, ثم جلس فضربت عنقه فقال جبل بن جوّال الثعلبـي:
لعَمرُكَ مَا لامَ ابنُ أخْطَبَ نَفْسهولكنّهُ مَنْ يَخْذُلِ اللّهَ يُخْذَلِ
لـجَاهَدَ حتـى أبْلَغَ النّفْسَ عُذْرَهاوقَلْقَلَ يَبغي العِزّ كلّ مُقَلْقَلِ
21683ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: حدثنا مـحمد بن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير, عن عروة بن الزبـير, عن عائشة, قالت: لـم يقتل من نسائهم إلاّ امرأة واحدة, قالت: والله إنها لعندي تـحدّث معي وتضحك ظهرا, ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل رجالهم بـالسوق, إذ هتف هاتف بـاسمها: أين فلانة؟ قالت: أنا والله. قالت: قلت: ويـلك ما لك؟ قالت: أقتل؟ قلت: ولِـمَ؟ قالت: لـحدث أحدثته قال: فـانطلق بها, فضُربت عنقها, فكانت عائشة تقول: ما أنسى عجبـي منها طيب نفس, وكثرة ضحك, وقد عرفت أنها تُقتل.
21684ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: ثنـي زيد بن رومان وأنْزَلَ الّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ والصياصي: الـحصون والاَطام التـي كانوا فـيها وَقذَفَ فِـي قُلُوبِهِمُ الرّعْبَ.
21685ـ حدثنا عمرو بن مالك البكري, قال: حدثنا وكيع بن الـجرّاح وحدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن ابن عيـينة, عن عمرو بن دينار, عن عكرمة مِنْ صَياصِيهِمْ قال: من حصونهم.
21686ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد مِنْ صَياصِيهِمْ يقول: أنزلهم من صياصيهم, قال: قصورهم.
21687ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله مِنْ صَياصِيهِمْ: أي من حصونهم وآطامهم.
21688ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وأَنْزَلَ الّذِينَ ظاهَرُوهمْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ قال: الصياصي: حصونهم التـي ظنوا أنها مانعتهم من الله تبـارك وتعالـى.
وأصل الصياصي: جمع صيصة يقال: وعنى بها ههنا: حصونهم والعرب تقول لطرف الـجبل: صيصة ويقال لأصل الشيء: صيصة يقال: جزّ الله صيصة فلان: أي أصله ويقال لشوك الـحاكة: صياصي, كما قال الشاعر:
(كَوَقْعِ الصّياصِي فِـي النّسِيجِ الـمُـمَدّدِ )
وهي شوكتا الديك. وقوله: وَقَذَفَ فِـي قُلُوبِهُمُ الرّعْبَ يقول: وألقـى فـي قلوبهم الـخوف منكم فَريقا تَقْتُلُونَ يقول: تقتلون منهم جماعة, وهم الذين قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم حين ظهر علـيهم وتَأْسِرُونَ فَرِيقا يقول: وتأسرون منهم جماعة, وهم نساؤهم وذراريهم الذين سبوا, كما:
21689ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة فَرِيقا تَقْتُلُونَ الذين ضربت أعناقهم وتَأْسِرُونَ فَرِيقا الذين سبوا.
21690ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: ثنـي يزيد بن رومان فَرِيقا تَقْتُلُونَ وتَأْسِرُونَ فَرِيقا أي قتل الرجال وسبى الذراريّ والنساء. وأوْرَثَكُمْ أرْضَهُمْ وَديارَهُمْ وأمْوَالَهُم يقول: وملككم بعد مهلكهم أرضهم, يعنـي مزارعهم ومغارسهم وديارهم يقول: ومساكنهم وأموالهم يعنـي سائر الأموال غير الأرض والدور.
وقوله: وأرْضا لَـمْ تَطَئُوها اختلف أهل التأويـل فـيها, أيّ أرض هي؟ فقال بعضهم: هي الروم وفـارس ونـحوها من البلاد التـي فتـحها الله بعد ذلك علـى الـمسلـمين. ذكر من قال ذلك:
21691ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وأرْضا لَـمْ تَطَئُوها قال: قال الـحسن: هي الروم وفـارس, وما فتـح الله علـيهم.
وقال آخرون: هي مكة. وقال آخرون: بل هي خيبر. ذكر من قال ذلك:
21692ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: ثنـي يزيد بن رومان وأرْضا لَـمْ تَطَئُوها قال: خيبر.
21693ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله وأوْرَثَكُمْ أرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ قال: قُرَيظة والنضير أهل الكتاب وأرْضا لَـمْ تَطَئُوها قال: خيبر.
والصواب من القول فـي ذلك أن يقال: إن الله تعالـى ذكره أخبر أنه أورث الـمؤمنـين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أرض بنـي قريظة وديارهم وأموالهم, وأرضا لـم يطئوها يومئذٍ ولـم تكن مكة ولا خَيبر, ولا أرض فـارس والروم ولا الـيـمن, مـما كان وطئوه يومئذٍ, ثم وطئوا ذلك بعد, وأورثهموه الله, وذلك كله داخـل فـي قوله وأرْضا لَـمْ تَطَئُوها لأنه تعالـى ذكره لـم يخصص من ذلك بعضا دون بعض. وكانَ اللّهُ علـى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرا يقول تعالـى ذكره: وكان الله علـى أن أورث الـمؤمنـين ذلك, وعلـى نصره إياهم, وغير ذلك من الأمور قدرة, لا يتعذّر علـيه شيء أراده, ولا يـمتنع علـيه فعل شيء حاول فعله.

الآية : 28 -29
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَأَيّهَا النّبِيّ قُل لأزْوَاجِكَ إِن كُنتُنّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنّ وَأُسَرّحْكُنّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِن كُنتُنّ تُرِدْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالدّارَ الاَخِرَةَ فَإِنّ اللّهَ أَعَدّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنّ أَجْراً عَظِيماً }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا مـحمد لاِءَزْوَاجِكَ إنْ كُنْتنّ تُرِدْنَ الـحَياةَ الدّنْـيا وَزِينَتَها فَتَعالَـيْنَ أُمّتّعْكُنّ يقول فإنـي أمتعكن ما أوجب الله علـى الرجال للنساء من الـمتعة عند فراقهم إياهنّ بـالطلاق بقوله: وَمَتّعُوهُنّ علـى الـمُوسِعِ قَدَرُهُ, وَعلـى الـمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعا بـالـمَعْرُوفِ حَقّا علـى الـمُـحْسِنِـينَ وقوله: وأُسَرّحْكُنّ سَراحا جَمِيلاً يقول: وأطلقكنّ علـى ما أذن الله به, وأدّب به عبـاده بقوله: إذَا طَلّقْتُـمُ النّساءَ فَطَلّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ. وَإنْ كُنْتُنّ تُرِدْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ يقول: وإن كنتنّ تردن رضا الله ورضا رسوله وطاعتهما فأطعنهما فإنّ اللّهَ أعَدّ للْـمُـحْسِناتِ مِنْكُنّ وهن العاملات منهنّ بأمر الله وأمر رسوله أجْرا عَظِيـما.
وذُكر أن هذه الاَية نزلت علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أن عائشة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من عرض الدنـيا, إما زيادة فـي النفقة, أو غير ذلك, فـاعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه شهرا فـيـما ذكر, ثم أمره الله أن يخيرهنّ بـين الصبر علـيه, والرضا بـما قسم لهنّ, والعمل بطاعة الله, وبـين أن يـمتّعهنّ ويفـارقهنّ إن لـم يرضين بـالذي يقسم لهن. وقـيـل: كان سبب ذلك غيرة كانت عائشة غارتها. ذكر الرواية بقول من قال: كان ذلك من أجل شيء من النفقة وغيرها.
21694ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا ابن علـية, عن أيوب, عن أبـي الزبـير, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لـم يخرج صلوات, فقالوا: ما شأنه؟ فقال عمر: إن شئتـم لأعلـمنّ لكم شأنه فأتـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فجعل يتكلـم ويرفع صوته, حتـى أذن له. قال: فجعلت أقول فـي نفسي: أيّ شيء أكلـم به رسول الله صلى الله عليه وسلم لعله يضحك, أو كلـمة نـحوها؟ فقلت: يا رسول الله لو رأيت فلانة وسألتنـي النفقة فصككتها صكة, فقال: «ذلكَ حَبَسَنِـي عَنكُمْ» قال: فأتـى حفصة, فقال: لا تسألـي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا, ما كانت لك من حاجة فإلـيّ ثم تتبع نساء النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فجعل يكلـمهنّ, فقال لعائشة: أيغرّك أنك امرأة حسناء, وأن زوجك يحبك؟ لتنتهينّ, أو لـينزلنّ فـيك القرآن قال: فقالت أمّ سلـمة: يا ابن الـخطّاب, أو مَا بقـي لك إلاّ أن تدخـل بـين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبـين نسائه, ولن تسأل الـمرأة إلا لزوجها قال: ونزل القرآن يا أيّها النّبِـيّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إنْ كُنْتنّ تُرِدْنَ الـحَياةَ الدّنْـيا وَزِينَتَهَا... إلـى قوله أجْرا عَظِيـما قال: فبدأ بعائشة فخيرها, وقرأ علـيها القرآن, فقالت: هل بدأت بأحد من نسائك قبلـي؟ قال: «لا», قالت: فإنـي أختار الله ورسوله, والدار الاَخرة, ولا تـخبرهنّ بذلك قال: ثم تتبعهنّ فجعل يخيرهنّ ويقرأ علـيهنّ القرآن, ويخبرهن بـما صنعت عائشة, فتتابعن علـى ذلك.
21695ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: يا أيّها النّبِـيّ قُلْ لاِءَزْوَاجِكَ إنْ كُنْتُنّ تُرِدْنَ الـحَياةَ الدّنْـيا وَزِينَتَها فَتَعالَـيْنَ أُمَتّعْكُنّ وأُسَرّحْكُنّ سَرَاحا جَمِيلاً... إلـى قوله: أجْرا عَظِيـما قال: قال الـحسن وقتادة: خيرهنّ بـين الدنـيا والاَخرة والـجنة والنار فـي شيء كنّ أردنه من الدنـيا. وقال عكرمة فـي غيرة: كانت غارتها عائشة, وكان تـحته يومئذٍ تسع نسوة, خمس من قُرَيش: عائشة, وحفصة, وأمّ حبـيبة بنت أبـي سفـيان, وسودة بنت زمعة, وأمّ سلـمة بنت أبـي أميّة, وكانت تـحته صفـية ابنة حُيـيّ الـخَيبرية, وميـمونة بنت الـحارث الهلالـية, وزينب بنت جحش الأسدية, وجُوَيرية بنت الـحارث من بنـي الـمصطلق, وبدأ بعائشة, فلـما اختارت الله ورسوله والدار الاَخرة, رُئي الفرح فـي وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم, فتتابعن كلهنّ علـى ذلك واخترن الله ورسوله والدار الاَخرة.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الأعلـى, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, عن الـحسن, وهو قول قتادة, فـي قول الله يا أيّها النَبِـيّ قُلْ لاِءَزْوَاجِكَ إنْ كُنْتُنّ تُرِدْنَ الـحَياةَ الدّنْـيا وَزينَتَها... إلـى قوله عَظِيـما قالا: أمره الله أن يخيرهنّ بـين الدنـيا والاَخرة والـجنة والنار قال قتادة: وهي غيرة من عائشة فـي شيء أرادته من الدنـيا, وكان تـحته تسع نسوة: عائشة, وحفصة, وأمّ حبـيبة بنت أبـي سفـيان, وسودة بنت زمعة, وأمّ سلـمة بنت أبـي أميّة, وزينب بنت جحش, وميـمونة بنت الـحارث الهلالـية, وجُوَيرية بنت الـحارث من بنـي الـمصطلق, وصفـية بنت حُيـيّ بن أخطب فبدأ بعائشة, وكانت أحبهنّ إلـيه فلـما اختارت الله ورسوله والدار الاَخرة, رُئي الفرح فـي وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فتتابعن علـى ذلك.
21696ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الأعلـى, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, عن الـحسن, وهو قول قتادة قال: لـما اختَرْنَ الله ورسوله شكرهنّ الله علـى ذلك فقال لا يحلّ لكَ النساءُ مِنْ بَعدُ وَلاَ أنْ تَبَدّلَ بهِنّ مِنْ أزْوَاجٍ وَلَوْ أعْجبكَ حُسنُهنّ فقصره الله علـيهنّ, وهنّ التسع اللاتـي اخترن الله ورسوله. ذكر من قال ذلك من أجل الغيرة:
21697ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قول الله: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنّ, وَتُؤْوِي إلَـيْكَ مَنْ تَشاءُ... الاَية, قال: كان أزواجه قد تغايرن علـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فهجرهنّ شهرا, نزل التـخيـير من الله له فـيهنّ يا أيّها النّبِـيّ قُلْ لاِءَزْوَاجِكَ إنْ كُنْتُنّ تُرِدْنَ الـحَياةَ الدّنْـيا وَزِينَتَها فقرأ حتـى بلغ وَلا تبَرّجْنَ تَبرّجَ الـجاهِلِـيّةِ الأُولـى فخيرهنّ بـين أن يخترن أن يخـلـى سبـيـلهنّ ويسرّحهنّ, وبـين أن يقمن إن أردن الله ورسوله علـى أنهنّ أمّهات الـمؤمنـين, لا ينكحن أبدا, وعلـى أنه يؤوي إلـيه من يشاء منهنّ, لـمن وهب نفسه له حتـى يكون هو يرفع رأسه إلـيها, ويرجي من يشاء حتـى يكون هو يرفع رأسه إلـيها, ومن ابتغى مـمن هي عنده وعزل فلا جناح علـيه, ذلك أدنى أن تقرّ أعينهنّ, ولا يحزنّ, ويرضين إذا علـمن أنه من قضائي علـيهنّ, إيثار بعضهنّ علـى بعض, أدنى أن يرضين قال: ومن ابتغيت مـمن عزلت من ابتغى أصابه, ومن عزل لـم يصبه, فخيرهنّ بـين أن يرضين بهذا, أو يفـارقهنّ, فـاخترن الله ورسوله, إلاّ امرأة واحدة بدوية ذهبت وكان علـى ذلك, وقد شرط له هذا الشرط, ما زال يعدل بـينهنّ حتـى لقـي الله.
21698ـ حدثنا أحمد بن عبدة الضبـي, قال: حدثنا أبو عوانة, عن عمر بن أبـي سلـمة, عن أبـيه, قال: قالت عائشة: لـما نزل الـخيار, قال لـي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّـي أُرِيدُ أنْ أذْكُرَ لَكِ أمْرا فَلا تَقْضِي فِـيهِ شَيْئا حتـى تَسْتأْمِرِي أبَوَيْكِ» قالت: قلت: وما هو يا رسول الله؟ قال: فردّه علـيها, فقالت: ما هو يا رسول الله؟ قال: فقرأ علـيهنّ يا أيّها النّبِـيّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إنْ كُنْتُنّ تُردْنَ الـحَياةَ الدّنْـيا وَزِينَتَها... إلـى آخر الاَية قالت: قلت: بل نـختار الله ورسوله قالت: ففرح بذلك النبـيّ صلى الله عليه وسلم.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا مـحمد بن بشر, عن مـحمد بن عمرو, عن أبـي سلـمة, عن عائشة, قالت: لـما نزلت آية التـخيـير, بدأ النبـيّ صلى الله عليه وسلم بعائشة, فقال: «يا عائِشَةُ إنّـي عارضٌ عَلَـيْكِ أمْرا فَلا تَفْتاتِـي فِـيهِ بشَيْءٍ حتـى تَعْرِضِيهِ علـى أبَوَيْكِ, أبـي بَكْر وأُمّ رُومانَ» فقالت: يا رسول الله وما هو؟ قال: «قال الله يا أيّها النّبِـي قُلْ لأَزْوَاجكَ إنْ كُنْتُنّ تُرِدْنَ الـحَياةَ الدّنْـيا وَزينَتَها إلـى عَظِيـما, فقلت: إنـي أريد الله ورسوله, والدار الاَخرة, ولا أؤامر فـي ذلك أبويّ أبـا بكر وأمّ رومان, فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم استقرأ الـحُجَرَ فقال: «إن عائشة قالت كذا», فقلن: ونـحن نقول مثل ما قالت عائشة.
حدثنا سعيد بن يحيى الأموي, قال: حدثنا أبـي, عن ابن إسحاق, عن عبد الله بن أبـي بكر, عن عمرة, عن عائشة, أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم لـما نزل إلـى نسائه أُمر أن يخيرهنّ, فدخـل علـيّ فقال: «سأذكر لَكِ أمْرا وَلا تَعْجَلِـي حتـى تَسْتَشِيرِي أبـاكِ», فقلت: وما هو يا نبـيّ الله؟ قال: «إنّـي أُمِرْتُ أنْ أُخَيّرَكُنّ», وتلا علـيها آية التـخيـير إلـى آخر الاَيتـين قالت: قلت: وما الذي تقول؟ لا تعجلـي حتـى تستشيري أبـاك, فإنـي أختار الله ورسوله فسُرّ بذلك, وعرض علـى نسائه, فتتابعن كلهنّ, فـاخترن الله ورسوله.
حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي موسى بن علـيّ, ويونس بن يزيد, عن ابن شهاب, قال: أخبرنـي أبو سلـمة بن عبد الرحمن, أن عائشة زوج النبـيّ صلى الله عليه وسلم قالت: لـما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتـخيـير أزواجه, بدأنـي, فقال: «إنّـي ذَاكِرٌ لَكِ أمْرا, فَلا علَـيْكِ أنْ لا تَعْجَلِـي حتـى تَسْتأْمِرِي أبَوَيْكِ» قالت: قد علـم أن أبويّ لـم يكونا لـيأمرانـي بفراقه قالت: ثم تلا هذه الاَية: يا أيّها النّبِـيّ قُلْ لاِءَزْوَاجِكَ إنْ كُنْتُنّ تُرِدْنَ الـحَياةَ الدّنْـيا وَزِينَتَها فَتَعالَـيْنَ أمَتّعْكُنّ وأُسَرّحْكُنّ سَرَاحا جَمِيلاً قالت: فقلت: ففـي أيّ هذا استأمر أبويّ؟ فإنـي أريد الله ورسوله, والدار الاَخرة قالت عائشة: ثم فعل أزواج النبـيّ صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت, فلـم يكن ذلك حين قاله لهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم, فـاخترنه طلاقا من أجل أنهنّ اخترنه.
الآية : 30
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَنِسَآءَ النّبِيّ مَن يَأْتِ مِنكُنّ بِفَاحِشَةٍ مّبَيّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً }.
يقول تعالـى ذكره لأزواج النبـيّ صلى الله عليه وسلم: يا نِساء النّبِـيّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنّ بفـاحِشَةٍ مَبَـيّنَةٍ يقول: من يزن منكنّ الزنى الـمعروف الذي أوجب الله علـيه الـحدّ, يضاعف لها العذاب علـى فجورها فـي الاَخرة ضعفـين علـى فجور أزواج الناس غيرهم, كما:
21699ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس يُضَاعَفْ لَهَا العَذَابُ ضِعْفَـيْنِ قال: يعنـي عذاب الاَخرة.
واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الأمصار: يُضَاعَفْ لَهَا العَذَابُ بـالألف, غير أبـي عمرو, فإنه قرأ ذلك: «يُضَعّفْ» بتشديد العين تأوّلاً منه فـي قراءته ذلك أن يضعّف, بـمعنى: تضعيف الشيء مرّة واحدة, وذلك أن يجعل الشيء شيئين, فكأن معنى الكلام عنده: أن يجعل عذاب من يأتـي من نساء النبـيّ صلى الله عليه وسلم بفـاحشة مبـينة فـي الدنـيا والاَخرة, مثلـي عذاب سائر النساء غيرهنّ, ويقول: إنّ يُضَاعَفْ بـمعنى أنْ يجْعَل إلـى الشيء مثلاه, حتـى يكون ثلاثة أمثاله فكأن معنى من قرأ يُضَاعَفْ عنده كان أن عذابها ثلاثة أمثال عذاب غيرها من النساء من غير أزواج النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فلذلك اختار «يضعّف» علـى يضاعف. وأنكر الاَخرون الذين قرءوا ذلك يضاعف ما كان يقول فـي ذلك, ويقولون: لا نعلـم بـين: ويُضاعَفْ ويُضَعّفْ فرقا.
والصواب من القراءة فـي ذلك ما علـيه قرّاء الأمصار, وذلك يُضَاعَفْ. وأما التأويـل الذي ذهب إلـيه أبو عمرو, فتأويـل لا نعلـم أحدا من أهل العلـم ادّعاه غيره, وغير أبـي عُبـيدة معمر بن الـمثنى, ولا يجوز خلاف ما جاءت به الـحجة مـجمعة علـيه بتأويـل لا برهان له من الوجه الذي يجب التسلـيـم له