تفسير الطبري تفسير الصفحة 420 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 420
421
419
 الآية : 16-17
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُل لّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لاّ تُمَتّعُونَ إِلاّ قَلِيلاً * قُلْ مَن ذَا الّذِي يَعْصِمُكُمْ مّنَ اللّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوَءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا مـحمد لهؤلاء الذين يستأذنوك فـي الانصراف عنك ويقولون إن بـيوتنا عورة: لَنْ يَنْفَعَكُمُ الفِرَارُ إنْ فَرَرْتُـمْ مِنَ الـمَوْتِ أوِ القَتْل يقول: لأن ذلك, أو ما كتب الله منهما واصل إلـيكم بكل حال, كرهتـم أو أحببتـم. وإذا لا تُـمَتّعُونَ إلاّ قَلِـيلاً يقول: وإذا فررتـم من الـموت أو القتل لـم يزد فراركم ذلك فـي أعماركم وآجالكم, بل إنـما تـمتعون فـي هذه الدنـيا إلـى الوقت الذي كتب لكم, ثم يأتـيكم ما كتب لكم وعلـيكم. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21634ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الفِرَارُ إنْ فَرَرْتُـمْ منَ الـمَوْتِ أوِ القَتْلِ, وَإذا لا تُـمَتّعُونَ إلاّ قَلِـيلاً وإنـما الدنـيا كلها قلـيـل.
21635ـ حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا ابن يـمان, عن سفـيان, عن منصور, عن أبـي رزين, عن ربـيع بن خيثم وَإذا لا تُـمَتّعُونَ إلاّ قَلِـيلاً قال: إلـى آجالهم.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن منصور, عن أبـي رزين, عن ربـيع بن خيثم وَإذا لا تُـمَتّعُونَ إلاّ قَلِـيلاً قال: ما بـينهم وبـين الأجل.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا يحيى وعبد الرحمن قالا: حدثنا سفـيان, عن منصور, عن الأعمش, عن أبـي رزين, عن الربـيع بن خيثم مثله, إلاّ أنه قال: ما بـينهم وبـين آجالهم.
21636ـ حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن منصور, عن أبـي رزين, أنه قال فـي هذه الاَية فَلْـيَضْحَكُوا قَلـيلاً وَلْـيَبْكوا كَثِـيرا قال: لـيضحكوا فـي الدنـيا قلـيلاً, ولـيبكوا فـي النار كثـيرا. وقال فـي هذه الاَية: وَإذا لا تُـمَتّعُونَ إلاّ قَلِـيلاً قال: إلـى آجالهم. أحد هذين الـحديثـين رفعه إلـى ربـيع بن خيثم.
حدثنا ابن وكيع, قال: ثنـي أبـي, عن الأعمش, عن أبـي رزين, عن الربـيع بن خيثم وَإذَا لا تُـمَتّعُونَ إلاّ قَلِـيلاً قال: الأجل. ورفع قوله تُـمَتّعُونَ ولـم ينصب بإذن للواو التـي معها, وذلك أنه إذا كان قبلها واو, كان معنى «إذا» التأخير بعد الفعل, كأنه قـيـل: ولو فرّوا لا يـمتّعون إلاّ قلـيلاً إذا, وقد يُنصب بها أحيانا, وإن كان معها واو, لأن الفعل متروك, فكأنها لأوّل الكلام.
وقوله قُلْ مَنْ ذَا الّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللّهِ إنْ أرَادَ بِكُمْ سُوءا أوْ أرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً يقول تعالـى ذكره: قل يا مـحمد لهؤلاء الذين يستأذنونك ويقولون: إن بـيوتنا عورة هربـا من القتل: من ذا الذي يـمنعكم من الله إن هو أراد بكم سوءا فـي أنفسكم, من قتل أو بلاء أو غير ذلك, أو عافـية وسلامة؟ وهل ما يكون بكم فـي أنفسكم من سوء أو رحمة إلاّ من قِبَله؟ كما:
21637ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: ثنـي يزيد بن رومان قُلْ مَنْ ذَا الّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللّهِ إنْ أرَادَ بِكُمْ سُوءا أوْ أرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً أي أنه لـيس الأمر إلاّ ما قضيت.
وقوله: وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ وَلِـيّا وَلا نَصِيرا يقول تعالـى ذكره: ولا يجد هؤلاء الـمنافقون إن أراد الله بهم سوءا فـي أنفسهم وأموالهم من دون الله ولـيا يـلـيهم بـالكفـاية ولا نصيرا ينصرهم من الله فـيدفع عنهم ما أراد الله بهم من سوء ذلك.

الآية : 18 -19
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ الْمُعَوّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاّ قَلِيلاً * أَشِحّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَآءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كَالّذِي يُغْشَىَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحّةً عَلَى الْخَيْرِ أوْلَـَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً }.
يقول تعالـى ذكره: قد يعلـم الله الذين يعوّقون الناس منكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فـيصدّونهم عنه, وعن شهود الـحرب معه, نفـاقا منهم, وتـخذيلاً عن الإسلام وأهله والقائِلِـينَ لإخْوَانِهِمْ هَلُـمّ إلَـيْنا: أي تعالوا إلـينا, ودعوا مـحمدا, فلا تشهدوا معه مشهده, فإنا نـخاف علـيكم الهلاك بهلاكه. وَلا يَأْتُونَ البأْسَ إلاّ قَلِـيلاً يقول: ولا يشهدون الـحرب والقتال إن شهدوا إلاّ تعذيرا, ودفعا عن أنفسهم الـمؤمنـين. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21638ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله قَدْ يَعْلَـمُ اللّهُ الـمُعَوّقِـينَ مِنْكُمْ والقائِلِـينَ لإخْوَانِهِمْ قال: هؤلاء ناس من الـمنافقـين كانوا يقولون لإخوانهم: ما مـحمد وأصحابه إلاّ أكلة رأس, ولو كانوا لـحما لالتهمهم أبو سفـيان وأصحابه, دعوا هذا الرجل فإنه هالك.
وقوله: وَلا يَأْتُونَ البأْسَ إلاّ قَلِـيلاً: أي لا يشهدون القتال, يغيبون عنه.
21639ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: حدثنا يزيد بن رومان قَدْ يَعْلَـمُ اللّهُ الـمُعَوّقِـينَ مِنْكُمْ: أي أهل النفـاق وَالقائِلِـينَ لإخْوَانِهِمْ هَلُـمّ إلَـيْنا, وَلا يَأْتُونَ البأْسَ إلاّ قَلِـيلاً: أي إلاّ دفعا وتعذيرا.
21640ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله قَدْ يَعْلَـمُ اللّهُ الـمُعَوّقِـينَ مِنْكُمْ, والقائِلِـينَ لإخْوَانِهِمْ... إلـى آخر الاَية, قال: هذا يوم الأحزاب, انصرف رجل من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, فوجد أخاه بـين يديه شواء ورغيف ونبـيذ, فقال له: أنت ههنا فـي الشواء والرغيف والنبـيذ, ورسول الله صلى الله عليه وسلم بـين الرماح والسيوف؟ فقال: هلـمّ إلـى هذا, فقد بلغ بك وبصاحبك, والذي يحلف به لا يستقبلها مـحمد أبدا, فقال: كذبت والذي يحلف به قال, وكان أخاه من أبـيه وأمّه: أما والله لأخبرنّ النبـيّ صلى الله عليه وسلم أمرك قال: وذهب إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم لـيخبره قال: فوجده قد نزل جبرائيـل علـيه السلام بخبره قَدْ يَعْلَـمُ اللّهُ الـمُعَوّقِـين مِنْكُمْ والقائِلِـينَ لإخْوَانِهِمْ هَلُـمّ إلَـيْنا, وَلا يَأْتُون البأْسَ قَلِـيلاً.
وقوله أشِحّةً عَلَـيْكُمْ اختلف أهل التأويـل فـي الـمعنى الذي وصف الله به هؤلاء الـمنافقـين, فـي هذا الـموضع من الشحّ, فقال بعضهم: وصفهم بـالشّحّ علـيهم فـي الغنـيـمة. ذكر من قال ذلك:
21641ـ حدثنـي بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة أشِحّةً عَلَـيْكُمْ فـي الغنـيـمة.
وقال آخرون: بل وصفهم بـالشحّ علـيهم بـالـخير. ذكر من قال ذلك:
21642ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: ثنـي عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد أشِحّةً عَلَـيْكُمْ قال: بـالـخير, الـمنافقون. وقال غيره: معناه: أشحة علـيكم بـالنفقة علـى ضعفـاء الـمؤمنـين منكم.
والصواب من القول فـي ذلك عندي أن يقال: إن الله وصف هؤلاء الـمنافقـين بـالـجبن والشّحّ, ولـم يخصُص وصفهم من معانـي الشحّ, بـمعنى دون معنى, فهم كما وصفهم الله به أشحة علـى الـمؤمنـين بـالغنـيـمة والـخير والنفقة فـي سبـيـل الله, علـى أهل مسكنة الـمسلـمين. ونصب قوله أشِحّةً عَلَـيْكُمْ علـى الـحال من ذكر الاسم الذي فـي قوله وَلا يأْتُونَ البأْسَ, كأنه قـيـل: هم جبناء عند البأس, أشحاء عند قَسْم الغنـيـمة, بـالغنـيـمة. وقد يحتـمل أن يكون قَطْعا من قوله: قَدْ يَعْلَـمُ اللّهُ الـمُعَوّقِـينَ مِنْكُمْ فـيكون تأويـله: قد يعلـم الله الذين يعوّقون الناس علـى القتال, ويَشِحّون عند الفتـح بـالغنـيـمة. ويجوز أن يكون أيضا قَطْعا من قوله: هلـم إلـينا أشحة, وهم هكذا أشحة. ووصفهم جلّ ثناؤه بـما وصفهم من الشحّ علـى الـمؤمنـين, لِـما فـي أنفسهم لهم من العداوة والضّغْن. كما:
21643ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: ثنـي يزيد بن رُومان أشِحّةً عَلَـيْكُمْ أي للضّغْن الذي فـي أنفسهم.
وقوله: فإذَا جاءَ الـخَوْفُ... إلـى قوله مِنَ الـمَوْتِ يقول تعالـى ذكره: فإذا حضر البأُس, وجاء القتال, خافوا الهلاك والقَتْل, رأيتهم يا مـحمد ينظرون إلـيك لِواذا بك, تَدُور أعينهم, خوفـا من القتل, وفرارا منه. كالّذِي يُغْشَى عَلَـيْهِ مِنَ الـمَوْتِ يقول: كدَوَران عين الذي يُغْشَى علـيه من الـموت النازل به فإذَا ذَهَبَ الـخَوْفُ يقول: فإذا انقطعت الـحربُ واطمأنوا سَلَقُوكُمْ بألْسِنَةٍ حِدادٍ. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21644ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة فإذَا جاءَ الـخَوْفُ رأيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إلَـيْكَ تَدُورُ أعْيُنُهُمْ من الـخوف.
21645ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: ثنـي يزيد بن رومان فإذَا جاءَ الـخَوْفُ رأيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إلَـيْكَ تَدُورُ أعْيُنُهُمْ كالّذِي يُغْشَى عَلَـيْهِ منَ الـمَوْتِ: أي إعظاما وفَرقا منه.
وأما قوله سَلَقُوكُمْ بألْسنَةٍ حِدادٍ. فإنه يقول: عَضّوكم بألسنة ذَرِبة. ويقال للرجل الـخطيب الذّرِب اللسان: خطيب مِسْلَق ومِصْلَق, وخطيب سَلاّق وصَلاّق.
وقد اختلف أهل التأويـل فـي الـمعنى الذي وصف تعالـى ذكره هؤلاء الـمنافقـين أنهم يَسْلُقون الـمؤمنـين به, فقال بعضهم: ذلك سَلْقُهم إياهم عند الغنـيـمة, بـمسألتهم القَسْمَ لهم. ذكر من قال ذلك:
21646ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة فإذَا ذَهَبَ الـخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بألْسِنَةٍ حِدادٍ أما عند الغنـيـمة, فأشحّ قوم, وأسوأ مُقاسَمَة: أعطُونا أعطُونا, فإنا قد شِهدنا معكم. وأما عند البأس فأجبن قوم, وأخذله للـحقّ.
وقال آخرون: بل ذلك سَلْقُهُمْ إياهم بـالأذَى. ذكر ذلك عن ابن عبـاس:
21647ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله سَلَقُوكُم بألْسِنَةٍ حِدادٍ قال: استقبلوكم.
21648ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد سَلَقُوكُمْ بألْسِنَةٍ حِدادٍ قال: كَلّـموكم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنهم يَسْلُقونهم من القول بـما تُـحبون, نفـاقا منهم. ذكر من قال ذلك:
21649ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: ثنـي يزيد بن رُومان فإذَا ذَهَبَ الـخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بألْسِنَةٍ حِدَادٍ فـي القول بـما تـحبون, لأنهم لا يرجون آخرة, ولا تَـحمُلهم حِسْبة, فهم يهابون الـموت هيبة من لا يرجو ما بعده.
وأشبه هذه الأقوال بـما دلّ علـيه ظاهر التنزيـل قول من قال سَلَقُوكُمْ بألْسِنَةٍ حِدَادٍ أشِحّةً عَلـى الـخَيْرِ فأخبر أن سَلْقَهُمْ الـمسلـمين شُحَا منهم علـى الغنـيـمة والـخير, فمعلوم إذ كان ذلك كذلك, أن ذلك لطلب الغنـيـمة. وإذا كان ذلك منهم لطلب الغنـيـمة, دخـل فـي ذلك قول من قال: معنى ذلك: سَلَقوكم بـالأذى, لأن فعلهم ذلك كذلك, لا شكّ أنه للـمؤمنـين أذى.
وقوله: أشِحّةً عَلـى الـخَيْرِ يقول: أشحّة علـى الغنـيـمة, إذا ظفر الـمؤمنون. وقوله: لَـمْ يُؤْمنُوا فأحُبَطَ اللّهُ أعمالَهُمْ يقول تعالـى ذكره: هؤلاء الذين وصفتُ لك صفتهم فـي هذه الاَيات, لـم يصدّقوا الله ورسوله, ولكنهم أهل كفر ونِفـاق. فأحبط الله أعمالهم يقول: فأذهب الله أجورَ أعمالهم وأبطلَها. وذُكر أن الذي وُصِفَ بهذه الصفة كان بَدْريّا, فأحبط الله عمله. ذكر من قال ذلك:
21650ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله فَأَحْبَطَ اللّهُ أعمالَهُمْ وكانَ ذلكَ علـى اللّهِ يَسِيرا قال: فحدثنـي أبـي أنه كان بدريا, وأن قوله: أحْبَطَ اللّهُ أعمالَهُمْ: أحبط الله عمله يوم بدر.
وقوله: وكانَ ذلكَ علـى اللّهِ يَسِيرا يقول تعالـى ذكره: وكان إحبـاط عملهم الذي كانوا عملوا قبل ارتدادهم ونفـاقهم علـى الله يسيرا.

الآية : 20
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَحْسَبُونَ الأحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ وَإِن يَأْتِ الأحْزَابُ يَوَدّواْ لَوْ أَنّهُمْ بَادُونَ فِي الأعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مّا قَاتَلُوَاْ إِلاّ قَلِيلاً }.
يقول تعالـى ذكره: يحسب هؤلاء الـمنافقون الأحزاب, وهم قريش وغطفـان. كما:
21651ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: ثنـي يزيد بن رومان يَحْسَبُونَ الأحْزَابُ لَـمْ يَذْهَبُوا قريش وغطفـان.
وقوله: لَـمْ يَذْهَبُوا يقول: لـم ينصرفوا, وإن كانوا قد انصرفوا جبنا وهَلعا منهم. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21652ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: يَحْسَبُونَ الأحْزَابَ لَـمْ يَذْهَبُوا قال: يحسبونهم قريبـا.
وذُكر أن ذلك فـي قراءة عبد الله: «يَحْسَبُونَ الأحْزَابَ قَدْ ذَهَبُوا, فإذَا وَجَدُوهُمْ لَـمْ يَذْهَبُوا وَدّوا لَوْ أنّهُمْ بـادُونَ فِـي الأعْرَابِ».
وقوله: وَإنْ يَأْتِ الأحْزَابُ يَوَدّوا لَوْ أنهُمْ بـادُونَ فِـي الأعْرابِ يقول تعالـى ذكره: وإن يأت الـمؤمنـين الأحزاب وهم الـجماعة: واحدهم حزب يَوَدّوا يقول: يتـمنوا من الـخوف والـجبن أنهم غيب عنكم فـي البـادية مع الأعراب خوفـا من القتل. وذلك أن قوله: لَوْ أنّهُمْ بـادُونَ فِـي الأعْرَابِ تقول: قد بدا فلان إذا صار فـي البدو فهو يبدو, وهو بـاد وأما الأعراب: فإنهم جمع أعرابـيّ, وواحد العرب عربـيّ, وإنـما قـيـل أعرابـيّ لأهل البدو, فرقا بـين أهل البوادي والأمصار, فجعل الأعراب لأهل البـادية, والعرب لأهل الـمصر.
وقوله: يَسأَلُونَ عَنْ أنْبـائِكُمْ يقول: يستـخبر هؤلاء الـمنافقون أيها الـمؤمنون الناس عن أنبـائكم, يعنـي عن أخبـاركم بـالبـادية, هل هلك مـحمد وأصحابه؟ نقول: يتـمنون أن يسمعوا أخبـاركم بهلاككم, أن لا يشهدوا معكم مشاهدكم. وَلَوْ كانُوا فِـيكُمْ ما قاتَلُوا إلاّ قَلِـيلاً يقول تعالـى ذكره للـمؤمنـين: ولو كانوا أيضا فـيكم ما نفعوكم, وما قاتلوا الـمشركين إلاّ قلـيلاً. يقول: إلاّ تعذيرا, لأنهم لا يقاتلونهم حسبة ولا رجاء ثواب. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21653ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله يَسألَونَ عَنْ أنْبـائِكُمْ قال: أخبـاركم. وقرأت قرّاء الأمصار جميعا سوى عاصم الـجحدري: يَسأَلُونَ عَنْ أنْبـائِكُمْ بـمعنى: يسألون من قدم علـيهم من الناس عن أنبـاء عسكركم وأخبـاركم, وذكر عن عاصم الـجحدري أنه كان يقرأ ذلك: «يَسّاءَلونَ» بتشديد السين, بـمعنى: يتساءلون: أي يسأل بعضهم بعضا عن ذلك.
والصواب من القول فـي ذلك عندنا ما علـيه قرّاء الأمصار, لإجماع الـحجة من القرّاء علـيه.
الآية : 21 -22
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو اللّهَ وَالْيَوْمَ الاَخِرَ وَذَكَرَ اللّهَ كَثِيراً * وَلَمّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ قَالُواْ هَـَذَا مَا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً }.
اختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: أُسْوَةٌ فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار: «إسْوَةٌ» بكسر الألف, خلا عاصم بن أبـي النـجود, فإنه قرأه بـالضمّ: أُسْوَةٌ. وكان يحيى بن وثاب يقرأ هذه بـالكسر, ويقرأ قوله لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِـيهِمْ أُسْوَةٌ بـالضمّ, وهما لغتان. وذُكر أن الكسر فـي أهل الـحجاز, والضمّ فـي قـيس. يقولون: أُسوة, وأُخوة. وهذا عتاب من الله للـمتـخـلفـين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعسكره بـالـمدينة, من الـمؤمنـين به. يقول لهم جلّ ثناؤه: لقد كان لكم فـي رسول الله أسوة حسنة, أن تتأسوا به, وتكونوا معه حيث كان, ولا تتـخـلّفوا عنه. لِـمَنْ كانَ يَرْجُو اللّهَ يقول: فإن من يرجو ثواب الله ورحمته فـي الاَخرة لا يرغب بنفسه, ولكنه تكون له به أُسوة فـي أن يكون معه حيث يكون هو. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21654ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: ثنـي يزيد بن رومان, قال: ثم أقبل علـى الـمؤمنـين, فقال لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِـي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لـمَنْ كانَ يَرْجُو اللّهَ وَالـيَومَ الاَخِرَ أن لا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه, ولا عن مكان هو به. وَذَكَرَ اللّهَ كَثِـيرا يقول: وأكثر ذكر الله فـي الـخوف والشدّة والرخاء.
وقوله: ولَـمّا رأى الـمُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ يقول: ولـمّا عاين الـمؤمنون بـالله ورسوله جماعات الكفـار قالوا تسلـيـما منهم لأمر الله, وإيقانا منهم بأن ذلك إنـجاز وعده لهم, الذي وعدهم بقوله أمْ حَسِبْتُـمْ أنْ تَدْخُـلُوا الـجَنّةَ ولَـمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الّذِينَ خَـلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ... إلـى قوله قَرِيبٌ هذا ما وعدنا الله ورسوله, وصدق الله ورسوله, فأحسن الله علـيهم بذلك من يقـينهم, وتسلـيـمهم لأمره الثناء, فقال: وما زادهم اجتـماع الأحزاب علـيهم إلاّ إيـمانا بـالله وتسلـيـما لقضائه وأمره, ورزقهم به النصر والظفر علـى الأعداء. وبـالذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21655ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: ولَـمّا رأى الـمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ... الاَية قال: ذلك أن الله قال لهم فـي سورة البقرة أمْ حَسِبْتُـمْ أنْ تَدْخُـلُوا الـجَنّةَ... إلـى قوله إنّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ قال: فلـما مسهم البلاء حيث رابطوا الأحزاب فـي الـخندق, تأوّل الـمؤمنون ذلك, ولـم يزدهم ذلك إلاّ إيـمانا وتسلـيـما.
21656ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: ثنـي يزيد بن رومان, قال: ثم ذكر الـمؤمنـين وصدقهم وتصديقهم بـما وعدهم الله من البلاء يختبرهم به قالُوا هَذَا ما وَعَدَنا اللّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَما زَادَهُمْ إلاّ إيـمانا وَتَسْلِـيـما: أي صبرا علـى البلاء, وتسلـيـما للقضاء, وتصديقا بتـحقـيق ما كان الله وعدهم ورسوله.
21657ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ولَـمّا رأى الـمُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ قالُوا هَذَا ما وَعَدَنا اللّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وكان الله قد وعدهم فـي سورة البقرة فقال: أمْ حَسِبْتُـمْ أنْ تَدْخُـلُوا الـجَنّةَ ولَـمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الّذِينَ خَـلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسّتْهُمْ البأْساءُ والضّرّاءُ وَزُلْزِلُوا حتـى يَقُولَ الرّسُولُ وَالّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ خيرهم وأصبرهم وأعلـمهم بـالله مَتـى نَصْرُ اللّهِ ألا إنّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ هذا والله البلاء والنقص الشديد, وإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لـما رأوا ما أصابهم من الشدّة والبلاء قالُوا هَذَا ما وَعَدَنا اللّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَما زَادَهُمْ إلاّ إيـمَانا وَتَسْلِـيـما وتصديقا بـما وعدهم الله, وتسلـيـما لقضاء الله