تفسير الطبري تفسير الصفحة 431 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 431
432
430
 الآية : 23
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلاَ تَنفَعُ الشّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتّىَ إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبّكُمْ قَالُواْ الْحَقّ وَهُوَ الْعَلِيّ الْكَبِيرُ }.
يقول تعالـى ذكره: ولا تنفع شفـاعة شافع كائنا من كان الشافع لـمن شَفَع له, إلا أن يشفع لـمن أذن الله فـي الشفـاعة. يقول تعالـى: فإذا كانت الشفـاعات لا تنفع عند الله أحدا إلا لـمن أذِن الله فـي الشفـاعة له, والله لا يأذن لأحد من أولـيائه فـي الشفـاعة لأحد من الكفرة به, وأنتـم أهل كفر به أيها الـمشركون, فكيف تعبدون من تعبدونه من دون الله زعما منكم أنكم تعبدونه, لـيقرّبكم إلـى الله زُلْفَـى, ولـيشفع لكم عند ربكم «فمن» إذ كان هذا معنى الكلام التـي فـي قوله إلاّ لِـمَنْ أَذِنَ لَهُ: الـمشفوع له.
واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: أَذِنَ لَهُ فقرأ ذلك عامة القرّاء بضم الألف مِن «أَذِنَ لَهُ» علـى وجه ما لـم يسمّ فـاعله. وقرأه بعض الكوفـيـين: أَذِنَ لَهُ علـى اختلاف أيضا عنه فـيه, بـمعنى أذن الله له.
وقوله: حتـى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ يقول: حتـى إذا جُلِـيَ عن قلوبهم, وكشف عنها الفزع وذهب.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: 22023ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: حتـى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ يعنـي: جُلِـيَ.
22024ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد حتـى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قال: كشف عنها الغطاء يوم القـيامة.
22025ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: إذا جلـي عن قلوبهم.
واختلف أهل التأويـل فـي الـموصوفـين بهذه الصفة مَنْ هُم؟ وما السبب الذي من أجله فُزّع عن قلوبهم؟ فقال بعضهم: الذي فُزّع عن قلوبهم الـملائكة, قالوا: وإنـما يفزّع عن قلوبهم من غشية تصيبهم عند سماعهم الله بـالوحي. ذكر من قال ذلك:
22026ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن عُلَـية, عن داود, عن الشّعبـيّ, قال: قال ابن مسعود فـي هذه الاَية: حتـى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قال: إذا حدث أمر عند ذي العرش سَمع مَن دونه من الـملائكة صوتا كجرّ السلسلة علـى الصفـا, فـيُغْشى علـيهم, فإذا ذهب الفزع عن قلوبهم تنادَوا: ماذَا قالَ رَبّكُمْ قال: فـيقول من شاء, قال: الـحقّ, وهو العلـيّ الكبـير.
22027ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا الـمعتـمر, قال: سمعت داود, عن عامر, عن مسروق قال: إذا حدث عند ذي العرش أمر سمعت الـملائكة صوتا, كجرّ السلسلة علـى الصفـا, قال: فـيُغْشَى علـيهم, فإذا فُزّع عن قلوبهم, قالوا: ماذا قال ربكم؟ قال: فـيقول من شاء الله: الـحَقّ, وهو العلـيّ الكبـير.
حدثنا ابن الـمثنى, قال: ثنـي عبد الأعلـى, قال: حدثنا داود, عن عامر, عن ابن مسعود, أنه قال: إذا حدث أمر عند ذي العرش, ثم ذكر نـحو معناه إلاّ أنه قال: فـيُغْشَى علـيهم من الفزع, حتـى إذا ذهب ذلك عنهم تنادوا: ماذا قال ربكم؟
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن إبراهيـم, عن عبد الله بن مسعود, فـي قوله: حتـى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قال: إن الوحي إذا أُلقـي سمع أهل السموات صلصلة كصلصلة السلسلة علـى الصفوان, قال: فـيتنادون فـي السموات. ماذا قال ربكم؟ قال: فـيتنادون: الـحَقّ, وهو العلـيّ الكبـير.
وبه عن منصور, عن أبـي الضّحَى, عن مسروق, عن عبد الله, مثله.
22028ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب, عن جعفر, عن سعيد, قال: يُنَزّلُ الأمرُ من عند ربّ العزّة إلـى السماء الدنـيا, فـيفُزَع أهل السماء الدنـيا, حتـى يستبـين لهم الأمر الذي نُزّل فـيه, فـيقول بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم؟ فـيقولون: قال الـحقّ, وهو العلـيّ الكبـير, فذلك قوله: حتـى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ... الاَية.
22029ـ حدثنا أحمد بن عَبْدة الضّبـيّ, قال: حدثنا سفـيان بن عيـينة, عن عمرو بن دينار, عن عكرِمة, قال: حدثنا أبو هريرة, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ اللّهَ إذَا قَضَى أمْرا فِـي السّماءِ ضَرَبَتِ الـمَلائِكَةُ بأجْنِـحَتِها جَمِيعا, ولقوله صوت كصوت السلسلة علـى الصفـا الصّفْوان, فذلك قوله»: حتـى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذَا قالَ رَبّكُمْ قالُوا الـحقّ وَهُو العَلِـيّ الكَبِـيرُ.
22030ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن عُلَـية, قال: حدثنا أيوب, عن هشام بن عروة, قال: قال الـحارث بن هشام لرسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يأتـيك الوحي؟ قال: «يَأْتِـينِـي فِـي صَلَصَلَةٍ كَصَلْصَلَةِ الـجَرَسِ فَـيَفْصِمُ عَنّـي حِينَ يَفْصِمُ وَقَدْ وَعَيْتُهُ, ويَأْتِـي أحْيانا فِـي مِثْلِ صُورَةِ الرّجُلِ, فَـيُكَلّـمُنِـي بِهِ كَلاما, وَهُوَ أهْوَنُ عَلـيّ».
22031ـ حدثنـي زكريا بن أَبـان الـمصريّ, قال: حدثنا نعيـم, قال: حدثنا الولـيد بن مسلـم, عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر, عن ابن أبـي زكريا, عن جابر بن حَيْوَة, عن النوّاس بن سمعان, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذَا أرَادَ اللّهُ أنْ يُوحِيَ بـالأَمْرِ تَكَلّـمَ بـالوَحْيِ, أخَذَتِ السّمَوَاتِ مِنْهُ رَجْفَةٌ أوْ قالَ رِعْدَةٌ شَدِيدَةٌ خَوْفَ أمْرِ اللّهِ, فإذا سَمِعَ بذلكَ أهْلُ السّمَوَاتِ صَعِقُوا وَخَرّوا لِلّهِ سُجّدا, فَـيَكُونُ أوّلَ مَنْ يَرْفَعُ رأسَهُ جَبْرائِيـلُ, فَـيُكَلّـمُهُ اللّهُ مِنْ وَحْيِهِ بِـمَا أرَادَ, ثُمّ يَـمُرّ جَبْرائِيـلُ علـى الـمَلائِكَةِ كُلّـما مَرّ بِسَماءٍ سأَلَهُ مَلائِكَتُها. ماذَا قال رَبّنا يا جَبْرائِيـلُ؟ فَـيَقُولُ جَبْرَائِيـلُ. قالَ الـحَقّ وَهُوَ العِلـيّ الكَبِـيرُ, قالَ: فَـيَقُولُونَ كُلّهُمْ مِثْلَ ما قالَ جَبْرائِيـلُ, فَـيَنْتَهي جَبْرائِيـلُ بـالوَحْيِ حَيثُ أمَرَهُ اللّهُ».
22032ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: حتـى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ... الاَية. قال: كان ابن عبـاس يقول: إن الله لـما أراد أن يوحي إلـى مـحمد, دعا جبريـل, فلـما تكلـم ربنا بـالوحي, كان صوته كصوت الـحديد علـى الصفـا فلـما سمع أهل السموات صوت الـحديد خرّوا سُجّدا فلـما أَتـيَ علـيهم جبرائيـل بـالرسالة رفعوا رُؤوسهم, فقالوا: ماذَا قالَ رَبّكُمْ قالُوا الـحَقّ وَهُوَ العَلِـيّ الكَبِـيرُ وهذا قول الـملائكة.
22033ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله حتـى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ... إلـى وَهُوَ العَلِـيّ الكَبِـير قال: لـما أوحَي الله تعالـى ذكره إلـى مـحمد صلى الله عليه وسلم دعا الرسولَ من الـملائكة, فبعث بـالوحْي, سمعت الـملائكة صوت الـجَبـار يتكلـم بـالوحي فلـما كُشِف عن قلوبهم سألوا عما قال الله, فقالوا: الـحقّ, وعلـموا أن الله لا يقول إلا حَقا, وأنه مُنـجز ما وعد. قال ابن عبـاس: وصوت الوحي كصوت الـحديد علـى الصفـا فلـما سمعوه خرّوا سجّدا فلـما رفعوا رؤوسهم قالُوا ماذَا قالَ رَبّكُمْ قالُوا الـحَقّ وَهُوَ العَلِـيّ الكَبِـيرُ ثم أمر الله نبـيه أن يسأل الناس قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السّمَوَاتِ... إلـى قوله: فِـي ضَلالٍ مُبِـينٍ.
22034ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو عامر, قال: حدثنا قُرّة, عن عبد الله بن القاسم, فـي قوله: حتـى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ... الاَية, قال: الوحي ينزل من السماء, فإذا قضاه قالُوا ماذَا قالَ رَبّكُمْ قالُوا الـحَقّ وَهُوَ العَلِـيّ الكَبِـيرُ.
22035ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن مغيرة, عن إبراهيـم, عن عبد الله, فـي قوله: حتـى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قال: إن الوحي إذا قَضَى فـي زوايا السماء, قال: مثل وقع الفُولاذ علـى الصخرة, قال: فـيُشْفِقون, لا يدرون ما حدث, فـيفزعون, فإذا مرّت بهم الرسل قالُوا ماذا قالَ رَبّكُمْ قالُوا الـحَقّ وَهُوَ العَلـيّ الكَبِـيرُ.
وقال آخرون مـمن قال: الـموصوفون بذلك الـملائكة: إنـما يُفَزّع عن قلوبهم فَزعُهُم من قضاء الله الذي يقضيه حذرا أن يكون ذلك قـيام الساعة. ذكر من قال ذلك:
22036ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: حتـى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذَا قالَ رَبّكُمْ... الاَية, قال: يوحي الله إلـى جبرائيـل, فَتَفرّق الـملائكة, أو تفزع مخافة أن يكون شيء من أمر الساعة, فإذا جُلِـيَ عن قلوبهم, وعلـموا أنه لـيس ذلك من أمر الساعة قالُوا ماذَا قالَ رَبّكُمْ قالُوا الـحَقّ وَهُوَ العَلِـيّ الكَبِـيرُ.
وقال آخرون: بل ذلك من فعل ملائكة السموات إذا مرّت بها الـمعقّبـات فزَعا أن يكون حدث أمر الساعة. ذكر من قال ذلك:
22037ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: حتـى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ... الاَية, زعم ابن مسعود أن الـملائكة الـمُعَقبـات الذين يختلفون إلـى الأرض يكتبون أعمالهم, إذا أرسلهم الربّ فـانـحدروا سمع لهم صوت شديد, فـيحسب الذين هم أسفل منهم من الـملائكة أنه من أمر الساعة, فخرّوا سُجّدا, وهكذا كلـما مرُوا علـيهم يفعلون ذلك من خوف ربهم.
وقال آخرون: بل الـموصوفون بذلك الـمشركون, قالوا: وإنـما يُفزّع الشيطان عن قلوبهم قال: وإنـما يقولون: ماذا قال ربكم عند نزول الـمنـية بهم. ذكر من قال ذلك:
22038ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: حتـى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قال: فَزّع الشيطان عن قلوبهم وفـارقهم وأمانـيهم, وما كان يضلهم قالُوا ماذَا قالَ رَبّكُمْ قالُوا الـحَقّ وَهُوَ العَلِـيّ الكَبِـيرُ قال: وهذا فـي بنـي آدم, وهذا عند الـموت أقرّوا به حين لـم ينفعهم الإقرار.
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب, القول الذي ذكره الشّعْبـيّ, عن ابن مسعود لصحة الـخبر الذي ذكرناه عن ابن عبـاس, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتأيـيده. وإذ كان ذلك كذلك, فمعنى الكلام: لا تنفع الشفـاعة عنده, إلا لـمن أذن له أن يشفَع عنده, فإذا أذن الله لـمن أذن له أن يشفع فزع لسماعه إذنه, حتـى إذا فُزّع عن قلوبهم, فجُلّـيَ عنها, وكشَف الفزع عنهم, قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالت الـملائكة: الـحقّ, وهو العلـيّ علـى كل شيء الكبـير الذي لا شيء دونه. والعرب تستعمل فُزّع فـي معنـيـين, فتقول للشجاع الذي به تنزل الأمور التـي يفزَع منها: وهو مُفَزّع وتقول للـجبـان الذي يَفْزَع من كلّ شيء: إنه لـمُفَزّع, وكذلك تقول للرجل الذي يقضي له الناس فـي الأمور بـالغلبة علـى من نازله فـيها: هو مُغَلّب وإذا أريد به هذا الـمعنى كان غالبـا وتقول للرجل أيضا الذي هو مغلوب أبدا: مُغَلّب.
وقد اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الأمصار أجمعون: فُزّعَ بـالزاي والعين علـى التأويـل الذي ذكرناه عن ابن مسعود ومن قال بقوله فـي ذلك. ورُوي عن الـحسن أنه قرأ ذلك: «حتـى إذَا فُزِعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ» بـالراء والغين علـى التأويـل الذي ذكرناه عن ابن زيد. وقد يحتـمل توجيه معنى قراءة الـحسن ذلك كذلك, إلـى «حتـى إذَا فُزِغَ عَنْ قُلُوبِهِمْ» فصارت فـارغة من الفزع الذي كان حلّ بها. ذُكر عن مـجاهد أنه قرأ ذلك: «فُزِعَ» بـمعنى: كَشَف الله الفزع عنها.
والصواب من القراءة فـي ذلك القراءة بـالزاي والعين لإجماع الـحجة من القراء وأهل التأويـل علـيها, ولصحة الـخبر الذي ذكرناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتأيـيدها, والدلالة علـى صحتها.
الآية : 24
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مّنَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُلِ اللّهُ وَإِنّآ أَوْ إِيّاكُمْ لَعَلَىَ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: قل يا مـحمد لهؤلاء الـمشركين بربهم الأوثان والأصنام: من يرزقكم من السموات والأرض بإنزاله الغيث علـيكم منها حياة لـحروثكم, وصلاحا لـمعايشكم, وتسخيره الشمس والقمر والنـجوم لـمنافعكم, ومنافع أقواتكم, والأرض بإخراجه منها أقواتكم وأقوات أنعامكم؟ وترك الـخبر عن جواب القوم استغناء بدلالة الكلام علـيه, ثم ذكره, وهو: فإن قالوا: لا ندري, فقل: الذي يرزقكم ذلك الله, وإنا أو إياكم أيها القوم لعلـي هُدًى أو فـي ضلال مبـين يقول: قل لهم: إنا لعلـى هدى أو فـي ضلال, أو إنكم علـى ضلال أو هُدًى. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
22039ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ قُلِ اللّهُ وإنّا أوْ إيّاكُمْ لعَلـى هُدًى أوْ فِـي ضَلالٍ مُبِـينٍ قال: قد قال ذلك أصحاب مـحمد للـمشركين, والله ما أنا وأنتـم علـى أمر واحد, إنّ أحد الفريقـين لـمهتد.
وقد قال قوم: معنى ذلك: وإنا لعلـى هدى, وإنكم لفـي ضلال مبـين. ذكر من قال ذلك:
22040ـ حدثنـي إسحاق بن إبراهيـم الشهيديّ, قال: حدثنا عتاب بن بشير, عن خصيف عن عكرمة وزياد, فـي قوله: وَإنّا أوْ إيّاكُمْ لَعَلـى هَدًى أوْ فِـي ضَلالٍ مُبِـينٍ قال: إنا لعلـى هدى وإنكم لفـي ضلال مبـين.
واختلف أهل العربـية فـي وجه دخول «أو» فـي هذا الـموضع, فقال بعض نـحويـيّ البصرة: لـيس ذلك لأنه شك, ولكن هذا فـي كلام العرب علـى أنه هو الـمهتدِي, قال: وقد يقول الرجل لعبده: أحدنا ضارب صاحبه, ولا يكون فـيه إشكال علـى السامع أن الـمولـى هو الضارب.
وقال آخر منهم: معنى ذلك: إنا لعلـى هدى, وإنكم إياكم فـي ضلال مبـين, لأن العرب تضع «أو» فـي موضع واو الـموالاة, قال جرير:
أثَعْلَبَةَ الفَوَارِسِ أوْ رِياحاعَدَلْتَ بِهِمْ طُهَيّةَ والـخِشابـا
قال: يعنـي ثعلبة ورياحا, قال: وقد تكلـم بهذا من لا يشكّ فـي دينه, وقد علـموا أنهم علـى هدى, وأولئك فـي ضلال, فـيقال: هذا وإن كان كلاما واحدا علـى جهة الاستهزاء, فقال: هذا لهم, وقال:
فإنْ يَكُ حُبّهُمْ رُشْدا أُصِبْهُوَلسْتُ بِـمُخْطىءٍ إنْ كانَ غَيّا
وقال بعض نـحويـي الكوفة: معنى «أو» ومعنى الواو فـي هذا الـموضع فـي الـمعنى, غير أن القرينة علـى غير ذلك لا تكون «أو» بـمنزلة الواو, ولكنها تكون فـي الأمر الـمفوّض, كما تقول: إن شئت فخذ درهما أو اثنـين, فله أن يأخذ اثنـين أو واحدا, ولـيس له أن يأخذ ثلاثة. قال: وهو فـي قول من لا يبصر العربـية, ويجعل «أو» بـمنزلة الواو, ويجوز له أن يأخذ ثلاثة, لأنه فـي قولهم بـمنزلة قولك: خذ درهما أو اثنـين قال: والـمعنى فـي إنّا أو إياكُمْ إنا لضالون أو مهتدون, وإنكم أيضا لضالون, وهو يعلـم أن رسوله الـمهتدي, وأن غيره الضالّ. قال: وأنت تقول فـي الكلام للرجل يكذّبك. واللّهِ إن أحدنا لكاذب, وأنت تعنـيه, وكذّبته تكذيبـا غير مكشوف, وهو فـي القرآن وكلام العرب كثـير, أن يوجّه الكلام إلـى أحسن مذاهبه, إذا عرف, كقول القائل لـمن قال: والله لقد قدم فلان, وهو كاذب فـيقول: قل: إن شاء الله, أو قل: فـيـما أظنّ, فـيكذّبه بأحسن تصريح التكذيب. قال: ومن كلام العرب أن يقولوا: قاتله الله, ثم يستقبح فـيقولون: قاتله الله, وكاتعه الله. قال: ومن ذلك: ويحَك, وويسَك, إنـما هي فـي معنى: ويْـلَك, إلا أنها دونها.
والصواب من القول فـي ذلك عندي أن ذلك أمر من الله لنبـيه بتكذيب من أمره بخطابه بهذا القول بأجمل التكذيب, كما يقول الرجل لصاحب له يخاطبه, وهو يريد تكذيبه فـي خبر له: أحدنا كاذب, وقائل ذلك يعنـي صاحبه, لا نفسه فلهذا الـمعنى صير الكلام بأو.
الآية : 25 -26
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُل لاّ تُسْأَلُونَ عَمّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمّا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبّنَا ثُمّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقّ وَهُوَ الْفَتّاحُ الْعَلِيمُ }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء الـمشركين: أحد فريقـينا علـى هدى والاَخر علـى ضلال, لا تُسْألون أنتـم عما أجرمنا نـحن من جرم, وركبنا من إثم, ولا نُسأَلُ نـحن عما تعملون أنتـم من عمل, قل لهم: يجمع بـيننا ربنا يوم القـيامة عنده, ثم يفتـح بـيننا بـالـحقّ. يقول: ثم يقضي بـيننا بـالعدل, فـيتبـين عند ذلك الـمهتدي منا من الضالّ وَهُوَ الفَتّاحُ العَلِـيـمُ يقول: والله القاضي العلـيـم بـالقضاء بـين خـلقه, لأنه لا تـخفـى عنه خافـية, ولا يحتاج إلـى شهود تعرّفه الـمُـحقّ من الـمبطل. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
22041ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: قُلْ يَجْمَعُ بَـيْنَنا رَبّنا يوم القـيامة ثُمّ يَفْتَـحُ بَـيْنَنا: أي يقضي بـيننا.
22042ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: وَهُوَ الفَتّاحُ العَلِـيـمُ يقول: القاضي.
الآية : 27
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُلْ أَرُونِيَ الّذيِنَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَآءَ كَلاّ بَلْ هُوَ اللّهُ الْعَزِيزُ الْحْكِيمُ }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: قل يا مـحمد لهؤلاء الـمشركين بـالله الاَلهة والأصنام: أَرُونـي أيّها القوم الّذين ألـحقتـموهم بـالله فصيّرتـموهم له شركاء فـي عبـادتكم إياهم: ماذا خـلقوا من الأرض, أم لهم شرك فـي السموات, كلاّ يقول تعالـى ذكره: كذبوا, لـيس الأمر كما وصفوا, ولا كما جعلوا وقالوا من أن لله شريكا, بل هو الـمعبود الذي لا شريك له, ولا يصلـح أن يكون له شريك فـي ملكه, العزيز فـي انتقامه مـمن أشرك به من خـلقه, الـحكيـم فـي تدبـيره خـلقه.

الآية : 28
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ كَآفّةً لّلنّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَـَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: وما أرسلناك يا مـحمد إلـى هؤلاء الـمشركين بـالله من قومك خاصة, ولكنا أرسلناك كافة للناس أجمعين, العرب منهم والعجم, والأحمر والأسود, بشيرا من أطاعك, ونذيرا من كذّبك, وَلَكِنّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَـمُونَ أن الله أرسلك كذلك إلـى جميع البشر. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
22043ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَما أرْسَلْناكَ إلاّ كافّةً للنّاس قال: أرسل الله مـحمدا إلـى العرب والعجم, فأكرمُهُم علـى الله أطوعهم له.
ذُكر لنا أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنا سابِقُ العَرَبِ, وَصُهَيْبُ سابِقُ الرّومِ, وَبِلالُ سابِقُ الـحَبَشَةِ, وَسَلْـمانُ سابِقُ فـارِسَ».
الآية : 29 -30
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَيَقُولُونَ مَتَىَ هَـَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُل لّكُم مّيعَادُ يَوْمٍ لاّ تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: ويقول هؤلاء الـمشركون بـالله إذا سمعوا وعيد الله الكفـار وما هو فـاعل بهم فـي معادهم مـما أنزل الله فـي كتابه: مَتـى هَذَا الوَعْدُ جائيا, وفـي أيّ وقت هو كائن إنْ كُنْتُـمْ فـيـما تَعِدُوننا من ذلك صَادِقِـينَ أنه كائن, قال الله لنبـيه: قُلْ لهم يا مـحمد: لَكُمْ أيها القوم مِيعادُ يَوْمٍ هو آتـيكم لا تَسْتأْخِرُونَ عَنْهُ إذا جاءكم ساعَةً فتنظروا للتوبة والإنابة وَلا تسْتَقدِمونَ قبله بـالعذاب, لأن الله جعل لكم ذلك أجلاً.

الآية : 31
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لَن نّؤْمِنَ بِهَـَذَا الْقُرْآنِ وَلاَ بِالّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَىَ إِذِ الظّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنّا مُؤْمِنِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: وَقَالَ الّذِينَ كَفَروا من مشركي العرب: لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا القُرآنِ الذي جاءنا به مـحمد صلى الله عليه وسلم, ولا بـالكتاب الذي جاء به غيره من بـين يديه, كما:
22044ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا القُرآنِ وَلا بـالّذِي بـينَ يَدَيْهِ قال: قال الـمشركون: لن نؤمن بهذا القرآن, وَلا بـالّذِي بـينَ يَدَيْهِ من الكتب والأنبـياء.
وقوله: وَلَوْ تَرَى إذِ الظّالِـمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبّهِمْ يتلاومون, يحاور بعضهم بعضا, يقول الـمستضعفون كانوا فـي الدنـيا للذين كانوا علـيهم فـيها يستكبرون: لولا أنتـم أيها الرؤساء والكبراء فـي الدْنـيا لكنا مؤمنـين بـالله وآياته