تفسير الطبري تفسير الصفحة 432 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 432
433
431
 الآية : 32
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ الّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لِلّذِينَ اسْتُضْعِفُوَاْ أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ الْهُدَىَ بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مّجْرِمِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: قالَ الّذِينَ اسْتَكْبَرُوا فـي الدنـيا, فرأسوا فـي الضلالة والكفر بـالله لِلّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فـيها فكانوا أتبـاعا لأهل الضلالة منهم, إذ قالوا لهم لَوْلا أنْتُـمْ لَكُنّا مُؤْمِنِـينَ أَنـحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الهُدَى ومنعناكم من اتبـاع الـحقّ بَعْدَ إذْ جاءَكُمْ من عند الله, يبـين لكم بَلْ كُنْتُـمْ مُـجْرِمِينَ فمنعكم إيثاركم الكفر بـالله علـى الإيـمان من اتبـاع الهدى, والإيـمان بـالله ورسوله.
الآية : 33
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَالَ الّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ بَلْ مَكْرُ الْلّيْلِ وَالنّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نّكْفُرَ بِاللّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرّواْ النّدَامَةَ لَمّا رَأَوُاْ اْلَعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلاَلَ فِيَ أَعْنَاقِ الّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: وَقالَ الّذِينَ اسْتُضْعِفُوا من الكفرة بـالله فـي الدنـيا, فكانوا أتبـاعا لرؤسائهم فـي الضلالة لِلّذِينَ اسْتَكْبَرُوا فـيها, فكانوا لهم رؤساء بَلْ مَكْرُ كم لنا ب اللّـيْـلِ والنّهارِ صدّنا عن الهدى إذْ تَأْمُرُونَنا أنْ نَكْفُرَ بـاللّهِ وَنـجْعَلَ لَهُ أمثالاً وأشبـاها فـي العبـادة والألوهة فأضيف الـمكر إلـى اللـيـل والنهار. والـمعنى ما ذكرنا من مكر الـمستكبرين بـالـمستضعفـين فـي اللـيـل والنهار, علـى اتساع العرب فـي الذي قد عُرِف معناها فـيه من منطِقها, من نقل صفة الشيء إلـى غيره, فتقول للرجل: يا فلان نهارك صائم ولـيـلك قائم, وكما قال الشاعر:
(ونِـمْتِ وَما لَـيْـلُ الـمَطِيّ بِنائمِ )
وما أشبه ذلك مـما قد مضى بـياننا له فـي غير هذا الـموضع من كتابنا هذا. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
22045ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: بَلْ مَكْرُ اللّـيْـلِ والنّهارِ إذ تَأْمُرُونَنا أنْ نَكْفُرَ بـالله وَنـجْعَلَ لَهُ أنْدَادا يقول: بل مكرُكُم بنا فـي اللـيـل والنهار أيها العظماء الرؤساء حتـى أزلتـمونا عن عبـادة الله.
وقد ذُكر فـي تأويـله عن سعيد بن جبـير ما:
22046ـ حدثنا أبو كُريب, قال: حدثنا ابن يـمان, عن أشعث, عن جعفر, عن سعيد بن جُبَـير بَلْ مَكْرُ اللّـيْـلِ والنّهارِ قال: مَرّ اللـيـل والنهار.
وقوله: إذْ تَأْمُرُونَنا أنْ نَكْفُرَ بـاللّهِ يقول: حين تأمروننا أن نكفر بـالله.
وقوله: ونـجعَلَ لَهُ أنْدَادا يقول: شركاء, كما:
22047ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ونَـجْعَلَ لَهُ أنْدَادا شركاء.
قوله: وأَسَرّوا النّدامَةَ لَـمّا رأَوُا العَذَابَ يقول: وندموا علـى ما فرّطوا من طاعة الله فـي الدنـيا حين عاينوا عذاب الله الذي أعدّه لهم, كما:
22048ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وأَسَرّوا النّدَامَةَ بـينهم لَـمّا رأَوُا العَذَابَ.
قوله: وَجَعَلْنا الأَغْلالَ فِـي أعْناقِ الّذِينَ كَفَرُوا وغُلّت أيدي الكافرين بـالله فـي جهنـم إلـى أعناقهم فـي جوامع من نار جهنـم, جزاء بـما كانوا بـالله فـي الدنـيا يكفرون, يقول جلّ ثناؤه: ما يفعل الله ذلك بهم إلاّ ثوابـا لأعمالهم الـخبـيثة التـي كانوا فـي الدنـيا يعملونها, ومكافأة لهم علـيها.
الآية : 34
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مّن نّذِيرٍ إِلاّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: وما بعثنا إلـى أهل قرية نذيرا يُنذرهم بأسَنا أن ينزل بهم علـى معصيتهم إيانا, إلاّ قال كُبراؤها ورؤساؤها فـي الضلالة كما قال قوم فرعون من الـمشركين له: إنا بـما أُرسلتـم به من النّذارة, وبُعثتـم به من توحيد الله, والبراءة من الاَلهة والأنداد كافرون. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
22049ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَما أرْسَلْنا فِـي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إلاّ قالَ مُتْرَفُوها إنّا بِـمَا أُرْسِلْتُـمْ بِهِ كافِرُونَ قال: هم رؤوسهم وقادتهم فـي الشرّ.
الآية : 35 -36
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذّبِينَ * قُلْ إِنّ رَبّي يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ وَلَـَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }. يقول تعالـى ذكره: وقال أهل الاستكبـار علـى الله من كل قرية أرسلنا فـيها نذيرا لأنبـيائنا ورسلنا: نـحن أكْثَرُ أمْوَالاً وأوْلادا وَما نَـحْنُ فِـي الاَخرَةِ بِـمُعَذّبـينَ لأن الله لو لـم يكن راضيا ما نـحن علـيه من الـملة والعمل لـم يخوّلنا الأموال والأولاد, ولـم يبسط لنا فـي الرزق, وإنـما أعطانا ما أعطانا من ذلك لرضاه أعمالنا, وآثرنا بـما آثرنا علـى غيرنا لفضلنا, وزلفة لنا عنده يقول الله لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: قل لهم يا مـحمد: إن ربـي يبسط الرزق من الـمعاش والرياش فـي الدنـيا لـمن يشاء من خـلقه ويَقْدِر فـيضيق علـى من يشاء لا لـمـحبة فـيـمن يبسط له ذلك ولا خير فـيه ولا زُلْفة له, استـحقّ بها منه, ولا لبُغض منه لـمن قدر علـيه ذلك, ولا مَقْت, ولكنه يفعل ذلك مِـحْنة لعبـاده وابتلاء, وأكثر الناس لا يعلـمون أن الله يفعل ذلك اختبـارا لعبـاده, ولكنهم يظنون أن ذلك منه مـحبة لـمن بَسَطَ له ومَقْت لـمن قَدَر علـيه. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
22050ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَما أمْوَالُكُمْ وَلا أوْلادُكمْ بـالتـي تُقَرّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفَـى... الاَية, قال: قالوا: نـحن أكثر أموالاً وأولادا, فأخبرهم الله أنه لـيست أموالكم ولا أولادكم بـالتـي تقرّبكم عندنا زُلْفـى, إلاّ مَنْ آمَنَ وعَمِلَ صَالـحا, قال: وهذا قول الـمشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, قالوا: لو لـم يكن الله عنا راضيا لـم يعطنا هذا, كما قال قارون: لولا أن الله رَضِيَ بـي وبحالـي ما أعطانـي هذا, قال: أوَ لَـمْ يَعْلَـمْ أنّ اللّهَ قَدْ أهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ... إلـى آخر الاَية.

الآية : 37
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالّتِي تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىَ إِلاّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَـَئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ الضّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ }.
يقول جلّ ثناؤه: وما أموالكم التـي تفتـخرون بها أيّها القوم علـى الناس, ولا أولادكم الذين تتكبرون بهم بـالتـي تقرّبكم منا قُرْبَةً. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
22051ـ حدثنا مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: عِنْدَنا زُلْفَـى قال: قُربَى.
22052ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَما أمْوَالُكُمْ وَلا أوْلادُكُمْ بـالّتِـي تُقَرّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفَـى لا يعتبر الناس بكثرة الـمال والولد, وإن الكافر قد يُعْطَى الـمال, وربـما حُبِس عن الـمؤمن.
وقال جلّ ثناؤه: وَما أمْوَالُكُمْ وَلا أوْلادُكُمْ بـالتـي تُقَرّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفَـى ولـم يقل بـاللّتـين, وقد ذكر الأموال والأولاد, وهما نوعان مختلفـان لأنه ذُكر من كل نوع منهما جمع يصلـح فـيه التـي ولو قال قائل: أراد بذلك أحد النوعين لـم يبعد قوله, وكان ذلك كقول الشاعر:
نَـحْنُ بِـمَا عِنْدَنا, وأنْتَ بِـمَاعِنْدَكَ رَاضٍ والرأيُ مُخْتَلِفُ
ولـم يقل: راضيان.
وقوله: إلاّ مَنْ آمَنَ وعَمِلَ صَالِـحا اختلف أهل التأويـل فـي معنى ذلك فقال بعضهم: معنى ذلك: وما أموالكم ولا أولادكم بـالتـي تقرّبكم عندنا زُلفـى, إلاّ من آمن وعمل صالـحا, فإنه تقرّبهم أموالهم وأولادهم بطاعتهم الله فـي ذلك وأدائهم فـيه حقه إلـى الله زلفـى دون أهل الكفر بـالله. ذكر من قال ذلك:
22053ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قول الله: إلاّ مَنْ آمَنَ وعَمِلَ صَالِـحا قال: لـم تضرّهم أموالهم ولا أولادهم فـي الدنـيا للـمؤمنـين, وقرأ: لِلّذِينَ أحْسَنُوا الـحُسْنَى وَزِيادَةٌ فـالـحُسنى: الـجنة, والزيادة: ما أعطاهم الله فـي الدنـيا لـم يحاسبهم به, كما حاسب الاَخرين, فمن حملها علـى هذا التأويـل نصب بوقوع تقرّب علـيه, وقد يحتـمل أن يكون «من» فـي موضع رفع, فـيكون كأنه قـيـل: وما هو إلاّ من آمن وعمل صالـحا.
وقوله: فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضّعْفِ يقول: فهؤلاء لهم من الله علـى أعمالهم الصالـحة الضعف من الثواب, بـالواحدة عشر. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
22054ـ حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضّعْفِ بِـمَا عَمِلُوا قال: بأعمالهم الواحد عشر, وفـي سبـيـل الله بـالواحد سبعُ مئة.
وقوله: فِـي الغُرُفـاتِ آمِنُونَ يقول: وهم فـي غرفـات الـجنات آمنون من عذاب الله.

الآية : 38
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَالّذِينَ يَسْعَوْنَ فِيَ آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَـَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: والذين يعملون فـي آياتنا, يعنـي: فـي حججنا وآي كتابنا, يبتغون إبطاله, ويريدون إطفـاء نوره معاونـين, يحسبون أنهم يفوتوننا بأنفسهم, ويُعْجزوننا أُولَئكَ فـي العَذابِ مُـحْضَرونَ يعنـي فـي عذاب جهنـم مـحضرون يوم القـيامة قُلْ إنّ رَبّـي يَبْسُطُ الرّزْقَ لِـمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبـادِهِ يقول تعالـى ذكره: قل يا مـحمد إن ربـي يبسط الرزق لـمن يشاء من خَـلْقه, فـيوسعه علـيه تكرمة له وغير تكرمة, ويَقْدِر علـى من يشاء منهم فـيضيقه ويقتره إهانة له وغير إهانة, بل مِـحنة واختبـارا وَما أنْفَقْتُـمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْـلِفُهُ يقول: وما أنفقتـم أيها الناس من نفقة فـي طاعة الله, فإن الله يخـلفها علـيكم. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
22055ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا يحيى, قال: حدثنا سفـيان, عن الـمنهال بن عمرو, عن سعيد بن جُبَـير وَما أنْفَقْتُـمْ منْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْـلِفُهُ قال: ما كان فـي غير إسراف ولا تقتـير.
وقوله: وَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِـينَ يقول: وهو خير من قـيـل إنه يَرْزُق ووُصِف به, وذلك أنه قد يوصف بذلك من دونه, فـيقال: فلان يَرزُق أهله وعياله