تفسير الطبري تفسير الصفحة 44 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 44
045
043
 الآية : 260
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَىَ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىَ وَلَـكِن لّيَطْمَئِنّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مّنَ الطّيْرِ فَصُرْهُنّ إِلَيْكَ ثُمّ اجْعَلْ عَلَىَ كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنّ جُزْءًا ثُمّ ادْعُهُنّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
يعنـي تعالـى ذكره بذلك: ألـم تر إذ قال إبراهيـم ربّ أرنـي. وإنـما صلـح أن يعطف بقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيـمُ} علـى قوله: {أوْ كالّذِي مَرّ علـى قَرْيَةٍ} وقوله: {ألَـمْ تَرَ إِلـى الّذِي حَاجّ إِبْرَاهِيـمَ فِـي رَبّهِ} لأن قوله: {ألَـمْ تَرَ} لـيس معناه: ألـم تر بعينـيك, وإنـما معناه: ألـم تر بقلبك, فمعناه: ألـم تعلـم فتذكر, فهو وإن كان لفظه لفظ الرؤية فـيعطف علـيه أحيانا بـما يوافق لفظه من الكلام, وأحيانا بـما يوافق معناه.
واختلف أهل التأويـل فـي سبب مسألة إبراهيـم ربه أن يريه كيف يحيـي الـموت؟ فقال بعضهم: كانت مسألته ذلك ربه, أنه رأى دابة قد تقسمتها السبـاع والطير, فسأل ربه أن يريه كيفـية إحيائه إياها مع تفرّق لـحومها فـي بطون طير الهواء وسبـاع الأرض لـيرى ذلك عيانا, فـيزداد يقـينا برؤيته ذلك عيانا إلـى علـمه به خبرا, فأراه الله ذلك مثلاً بـما أخبر أنه أمره به. ذكر من قال ذلك:
4792ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيـمُ رَبّ أرِنِـي كَيْفَ تُـحْيِـي الـمَوْتَـى} ذكر لنا أن خـلـيـل الله إبراهيـم صلى الله عليه وسلم أتـى علـى دابة توزّعتها الدوابّ والسبـاع, فقال: {رَبّ أرِنِـي كَيْفَ تُـحْيِـي الـمَوْتـى قَالَ أوَلَـمْ تُوءْمِنْ قَالَ بَلَـى وَلَكِنْ لِـيَطْمَئِنّ قَلْبِـي}.
4793ـ حدثت عن الـحسن, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {رَبّ أرِنِـي كَيْفَ تُـحْيِـي الـمَوْتَـى} قال: مرّ إبراهيـم علـى دابة ميت قد بلـي وتقسمته الرياح والسبـاع, فقام ينظر, فقال: سبحان الله, كيف يحيـي الله هذا؟ وقد علـم أن الله قادر علـى ذلك, فذلك قوله: {رَبّ أرِنِـي كَيْفَ تُـحْيِـي الـمَوْتَـى}.
4794ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج: بلغنـي أن إبرهيـم بـينا هو يسير علـى الطريق, إذا هو بجيفة حمار علـيها السبـاع والطير قد تـمزّعت لـحمها وبقـي عظامها. فلـما ذهبت السبـاع, وطارت الطير علـى الـجبـال والاَكام, فوقـف وتعجب ثم قال: ربّ قد علـمت لتـجمعنها من بطون هذه السبـاع والطير {رَبّ أرِنِـي كَيْفَ تُـحْيِـي الـمَوْتَـى قَالَ أَوَلَـمْ تُوءْمِنْ قَالَ بَلَـى} ولكن لـيس الـخبر كالـمعاينة.
4795ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: مرّ إبراهيـم بحوت نصفه فـي البرّ, ونصفه فـي البحر, فما كان منه فـي البحر فدوابّ البحر تأكله, وما كان منه فـي البرّ فـالسبـاع ودوابّ البرّ تأكله, فقال له الـخبـيث: يا إبراهيـم متـى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء؟ فقال: يا ربّ أرنـي كيف تـحيـي الـموتـى! قال: أولـم تؤمن؟ قال: بلـى ولكن لـيطمئنّ قلبـي.
وقال آخرون: بل كان سبب مسألته ربه ذلك, الـمناظرة والـمـحاجة التـي جرت بـينه وبـين نـمروذ فـي ذلك. ذكر من قال ذلك:
4796ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق, قال: لـما جرى بـين إبراهيـم وبـين قومه ما جرى مـما قصه الله فـي سورة الأنبـياء, قال نـمروذ فـيـما يذكرون لإبراهيـم: أرأيت إلَهك هذا الذي تعبد وتدعو إلـى عبـادته وتذكر من قدرته التـي تعظمه بها علـى غيره ما هو؟ قال له إبراهيـم: ربـي الذي يحيـي ويـميت. قال نـمروذ: أنا أحيـي وأميت. فقال له إبراهيـم: كيف تـحيـي وتـميت؟ ثم ذكر ما قصّ الله من مـحاجته إياه. قال: فقال إبراهيـم عند ذلك: {رَبّ أرِنِـي كَيْفَ تُـحْيِـي الـمَوْتَـى قَالَ أوَلَـمْ تُوءْمِنْ قَالَ بَلَـى وَلَكِنْ لِـيَطْمَئِنّ قَلْبِـي} من غير شكّ فـي الله تعالـى ذكره ولا فـي قدرته, ولكنه أحبّ أن يعلـم ذلك وتاق إلـيه قلبه, فقال: لـيطمئنّ قلبـي, أي ما تاق إلـيه إذا هو علـمه.
وهذان القولان, أعنـي الأول وهذا الاَخر, متقاربـا الـمعنى فـي أن مسألة إبراهيـم ربه أن يريه كيف يحيـي الـموتـى كانت لـيرى عيانا ما كان عنده من علـم ذلك خبرا.
وقال آخرون: بل كانت مسألته ذلك ربه عند البشارة التـي أتته من الله بأنه اتـخذه خـلـيلاً, فسأل ربه أن يريه عاجلاً من العلامة له علـى ذلك لـيطمئن قلبه بأنه قد اصطفـاه لنفسه خـلـيلاً, ويكون ذلك لـما عنده من الـيقـين مؤيدا. ذكر من قال ذلك:
4797ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي, قال: لـما اتـخذ الله إبراهيـم خـلـيلاً سأل ملك الـموت ربه أن يأذن له أن يبشر إبراهيـم بذلك, فأذن له, فأتـى إبراهيـم ولـيس فـي البـيت فدخـل داره, وكان إبراهيـم أغير الناس, إن خرج أغلق البـاب¹ فلـما جاء وجد فـي داره رجلاً, فثار إلـيه لـيأخذه, قال: من أذن لك أن تدخـل داري؟ قال ملك الـموت: أذن لـي ربّ هذه الدار, قال إبراهيـم: صدقت! وعرف أنه ملك الـموت, قال: من أنت؟ قال: أنا ملك الـموت جئتك أبشرك بأن الله قد اتـخذك خـلـيلاً. فحمد الله وقال: يا ملك الـموت أرنـي الصورة التـي تقبض فـيها أنفـاس الكفـار. قال: يا إبراهيـم لا تطيق ذلك. قال: بلـى. قال: فأعرِضْ! فأعرض إبراهيـم ثم نظر إلـيه, فإذا هو برجل أسود تنال رأسه السماء يخرج من فـيه لهب النار, لـيس من شعرة فـي جسده إلا فـي صورة رجل أسود يخرج من فـيه ومسامعه لهب النار. فغشي علـى إبراهيـم, ثم أفـاق وقد تـحوّل ملك الـموت فـي الصورة الأولـى, فقال: يا ملك الـموت لو لـم يـلق الكافر عند الـموت من البلاء والـحزن إلا صورتك لكفـاه, فأرنـي كيف تقبض أنفـاس الـمؤمنـين! قال: فأعرِضْ! فأعرض إبراهيـم ثم التفت, فإذا هو برجل شاب أحسن الناس وجها وأطيبه ريحا, فـي ثـياب بـيض, فقال: يا ملك الـموت لو لـم يكن للـمؤمن عند ربه من قرّة العين والكرامة إلا صورتك هذه لكان يكفـيه. فـانطلق ملك الـموت, وقام إبراهيـم يدعو ربه يقول: {رَبّ أرِنِـي كَيْفَ تُـحْيِـي الـمَوْتَـى} حتـى أعلـم أنـي خـلـيـلك {قَالَ أوَلَـمْ تُوءْمِنْ} بأنـي خـلـيـلك, يقول تصدق, {قَالَ بَلْـى وَلَكِنْ لِـيَطْمَئِنّ قَلْبِـي} بخـلولتك.
4798ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري, قال: حدثنا عمرو بن ثابت, عن أبـيه, عن سعيد بن جبـير: {وَلَكِنْ لِـيَطْمَئِنّ قَلْبِـي} قال: بـالـخُـلة.
وقال آخرون: قال ذلك لربه لأنه شكّ فـي قدرة الله علـى إحياء الـموتـى. ذكر من قال ذلك:
4799ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن أيوب فـي قوله: {وَلَكِنْ لِـيَطْمَئِنّ قَلْبِـي} قال: قال ابن عبـاس: ما فـي القرآن آية أرجى عندي منها.
4800ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, قال: سمعت زيد بن علـي يحدث عن رجل, عن سعيد بن الـمسيب, قال: اتّعد عبد الله بن عبـاس وعبد الله بن عمرو أن يجتـمعا, قال: ونـحن يومئذٍ شببة, فقال أحدهما لصاحبه: أيّ آية فـي كتاب الله أرجى لهذه الأمة؟ فقال عبد الله بن عمرو {يا عِبـادِيَ الّذِينَ أَسْرَفُوا علـى أنْفُسِهِمْ} حتـى ختـم الآية, فقال ابن عبـاس: أما إن كنت تقول إنها, وإن أرجى منها لهذه الأمة قول إبرهيـم صلى الله عليه وسلم {رَبّ أرِنِـي كَيْفَ تُـحْيِـي الـمَوْتَـى قَالَ أوَلَـمْ تُوءْمِنْ قَالَ بَلَـى وَلَكِنْ لِـيَطْمَئِنّ قَلْبِـي}.
4801ـ حدثنا القاسم, قال: ثنـي الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: سألت عطاء بن أبـي ربـاح, عن قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيـمُ رَبّ أرِنِـي كَيْفَ تُـحْيِـي الـمَوْتَـى قالَ أوَلَـمْ تُوءْمِنْ قَالَ بَلَـى وَلَكِنْ لَـيَطْمَئِنّ قَلْبِـي} قال: دخـل قلب إبراهيـم بعض ما يدخـل قلوب الناس, فقال: {رب أرنـي كيف تـحيـي الـموتـى قال أولـم تؤمن قال بلـى... قال فخذ أربعة من الطير} لـيريه.
4802ـ حدثنـي زكريا بن يحيـى بن أبـان الـمصري, قال: حدثنا سعيد بن تلـيد, قال: حدثنا عبد الرحمن بن القاسم, قال: ثنـي بكر بن مضر, عن عمرو بن الـحارث, عن يونس بن يزيد, عن ابن شهاب, قال: أخبرنـي أبو سلـمة بن عبد الرحمن وسعيد بن الـمسيب, عن أبـي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نَـحْنُ أحَقّ بـالشّكّ مِنْ إبْرَاهِيـمَ, قَالَ: رَبّ أرِنِـي كَيْفَ تُـحْيِـي الـمَوْتَـى, قَالَ أوَلَـمْ تُوءْمِنْ؟ قَالَ بَلَـى وَلَكِنْ لِـيَطْمَئِنّ قَلْبِـي».
حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي يونس عن ابن شهاب وسعيد بن الـمسيب, عن أبـي هريرة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذكر نـحوه.
وأولـى هذه الأقوال بتأويـل الآية, ما صحّ به الـخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال, وهو قوله: «نَـحْنُ أحَقّ بـالشّكّ مِنْ إِبْرَاهِيـمَ, قَالَ رَبّ أرِنِـي كَيْفَ تُـحْيِـي الـمَوْتَـى, قَالَ أَوَلَـمْ تُوءْمِنْ» وأن تكون مسألته ربه ما سأله أن يريه من إحياء الـموتـى لعارض من الشيطان عرض فـي قلبه, كالذي ذكرنا عن ابن زيد آنفـا من أن إبراهيـم لـما رأى الـحوت الذي بعضه فـي البرّ وبعضه فـي البحر قد تعاوره دوابّ البرّ ودوابّ البحر وطير الهواء, ألقـى الشيطان فـي نفسه فقال: متـى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء؟ فسأل إبراهيـم حينئذٍ ربه أن يريه كيف يحيـي الـموتـى لـيعاين ذلك عيانا, فلا يقدر بعد ذلك الشيطان أن يـلقـي فـي قلبه مثل الذي ألقـى فـيه عند رؤيته ما رأى من ذلك, فقال له ربه: {أوَلَـمْ تُوءْمِنْ} يقول: أولـم تصدق يا إبراهيـم بأنـي علـى ذلك قادر؟ قال: بلـى يا ربّ, لكن سألتك أن ترينـي ذلك لـيطمئنّ قلبـي, فلا يقدر الشيطان أن يـلقـي فـي قلبـي مثل الذي فعل عند رؤيتـي هذا الـحوت.
4803ـ حدثنـي بذلك يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, عن ابن زيد.
ومعنى قوله: {لِـيَطْمَئِنّ قَلْبِـي} لـيسكن ويهدأ بـالـيقـين الذي يستـيقنه. وهذا التأويـل الذي قلناه فـي ذلك هو تأويـل الذين وجهوا معنى قوله: {لِـيَطْمَئِنّ قَلْبِـي} إلـى أنه لـيزداد إيـمانا, أو إلـى أنه لـيوفق. ذكر من قال ذلك: لـيوفق, أو لـيزداد يقـينا أو إيـمانا:
4804ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا أبو نعيـم, عن سفـيان, عن قـيس بن مسلـم, عن سعيد بن جبـير: {لِـيَطْمَئِنّ قَلْبِـي} قال: لـيوفق.
4805ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان. وحدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفـيان, عن أبـي الهيثم, عن سعيد بن جبـير: {لِـيَطْمَئِنّ قَلْبِـي} قال: لـيزداد يقـينـي.
4806ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك: {وَلَكِنْ لِـيَطْمَئِنّ قَلْبِـي} يقول: لـيزداد يقـينا.
4807ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {وَلَكِنْ لِـيَطْمَئِنّ قَلْبِـي} قال: وأراد نبـيّ الله إبراهيـم لـيزداد يقـينا إلـى يقـينه.
حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: قال معمر وقال قتادة: لـيزداد يقـينا.
4808ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: {وَلَكِنْ لِـيَطْمَئِنّ قَلْبِـي} قال: أراد إبراهيـم أن يزداد يقـينا.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن كثـير البصري, قال: حدثنا إسرائيـل, قال: حدثنا أبو الهيثم, عن سعيد بن جبـير: {لِـيَطْمَئِنّ قَلْبِـي} قال: لـيزداد يقـينـي.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا الفضل بن دكين, قال: حدثنا سفـيان, عن أبـي الهيثم, عن سعيد بن جبـير: {وَلَكِنْ لِـيَطْمَئِنّ قَلْبِـي} قال: لـيزداد يقـينا.
4809ـ حدثنا صالـح بن مسمار, قال: حدثنا زيد بن الـحبـاب, قال: حدثنا خـلف بن خـلـيفة, قال: حدثنا لـيث بن أبـي سلـيـم, عن مـجاهد وإبراهيـم فـي قوله: {لِـيَطْمَئِنّ قَلْبِـي} قال: لأزداد إيـمانا مع إيـمانـي.
حدثنا صالـح, قال: حدثنا زيد, قال: أخبرنا زياد, عن عبد الله العامري, قال: حدثنا لـيث, عن أبـي الهيثم, عن سعيد بن جبـير فـي قول الله: {لِـيَطْمَئِنّ قَلْبِـي} قال: لأزداد إيـمانا مع إيـمانـي.
وقد ذكرنا فـيـما مضى قول من قال: معنى قوله: {لِـيَطْمَئِنّ قَلْبِـي} بأنـي خـلـيـلك.
وقال آخرون: معنى قوله: {لِـيَطْمَئِنّ قَلْبِـي} لأعلـم أنك تـجيبنـي إذا دعوتك وتعطينـي إذا سألتك. ذكر من قال ذلك:
4810ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـي, عن ابن عبـاس قوله: {لِـيَطْمَئِنّ قَلْبِـي} قال: أعلـم أنك تـجيبنـي إذا دعوتك, وتعطينـي إذا سألتك.
وأما تأويـل قوله: {قَالَ أوَلَـمْ تُوءْمِنْ} فإنه: أولـم تصدّق؟ كما:
4811ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي, وحدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفـيان, عن قـيس بن مسلـم, عن سعيد بن جبـير قوله: {أوَلَـمْ تُوءْمِنْ} قال: أولـم توقن بأنـي خـلـيـلك؟
4812ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: {أوَلَـمْ تُوءْمِنْ} قال: أولـم توقن.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ فَخُذْ أرْبَعَةً مِنَ الطّيْرِ}.
يعنـي تعالـى ذكره بذلك: قال الله له: فخذ أربعة من الطير. فذكر أن الأربعة من الطير: الديك, والطاووس, والغراب, والـحمام. ذكر من قال ذلك:
4813ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق, عن بعض أهل العلـم: أن أهل الكتاب الأول يذكرون أنه أخذ طاوسا, وديكا, وغرابـا, وحماما.
4814ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قال: الأربعة من الطير: الديك, والطاووس, والغراب, والـحمام.
4815ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج: {قَالَ فَخُذْ أرْبَعَةً مِنَ الطّيْرِ} قال ابن جريج: زعموا أنه ديك, وغراب, وطاووس, وحمامة.
4816ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: {قالَ فَخُذْ أرْبَعَةً مِنَ الطّيْرِ} قال: فأخذ طاوسا, وحماما, وغرابـا, وديكا¹ مخالفة أجناسها وألوانها.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَصُرْهُنّ إلَـيْكَ}.
اختلفت القراء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قراء أهل الـمدينة والـحجاز والبصرة: {فَصُرْهُنّ إلَـيْكَ} بضم الصاد من قول القائل: صُرْت إلـى هذا الأمر: إذا ملت إلـيه أَصُور صَوَرا, ويقال: إنـي إلـيكم لأَصْوَرُ أي مشتاق مائل, ومنه قول الشاعر:
الله يَعْلَـمُ أنّا فـي تَلَفّتِنايَوْمَ الفِرَاقِ إلـى أحْبـابِنا صُورُ
وهو جمع أَصْوَر وصَوْرَاء وصُور, مثل أسود وسوداء وسود. ومنه قول الطرماح:
عَفَـائِفُ إِلاّ ذَاكَ أوْ أنْ يَصُورَهاهَوًى والهَوَى للعاشِقِـينَ صَرُوعُ
يعنـي بقوله: «أو أن يصورها هوى»: يـميـلها.
فمعنى قوله: {فَصُرْهُنّ إِلَـيْكَ} اضمـمهنّ إلـيك ووجههن نـحوك, كما يقال: صُرْ وجهك إلـيّ, أي أقبل به إلـيّ. ومن وجه قوله: {فَصُرْهُنّ إِلَـيْكَ} إلـى هذا التأويـل كان فـي الكلام عنده متروك قد ترك ذكره استغناء بدلالة الظاهر علـيه, ويكون معناه حينئذٍ عنده, قال: فخذ أربعة من الطير فصرهنّ إلـيك, ثم قطعهن, ثم اجعل علـى كل جبل منهنّ جزءا. وقد يحتـمل أن يكون معنى ذلك إذا قرىء كذلك بضم الصاد: قَطّعهن, كما قال تَوْبَة بن الـحُمَيّر:
فلـمّا جَذَبْتُ الـحبْلَ أطّتْ نُسُوعُهُبأطرافِ عِيدان شَديدٍ أُسُورُهَا
فَأدْنَتْ لِـيَ الأسْبـابَ حتـى بلغتُهابنَهْضِي وقَد كانَ ارتقائي يَصُورُها
يعنـي يقطعها. وإذا كان ذلك تأويـل قوله: {فَصُرْهُنّ إِلَـيْكَ} كان فـي الكلام تقديـم وتأخير, ويكون معناه: فخذ أربعة من الطير إلـيك فصرهن, ويكون إلـيك من صلة «خذ».
وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة: «فَصِرْهُنّ إِلَـيْكَ» بـالكسر, بـمعنى قطعهن.
وقد زعم جماعة من نـحويـي الكوفة أنهم لا يعرفون فصُرهنّ ولا فصِرْهُن, بـمعنى قطعهن فـي كلام العرب, وأنهم لا يعرفون كسر الصاد وضمها فـي ذلك إلا بـمعنى واحد, وأنهما جميعا لغتان بـمعنى الإمالة, وأن كسر الصاد منها لغة فـي هذيـل وسلـيـم¹ وأنشدوا لبعض بنـي سلـيـم:
وَفَرْعٍ يَصِيرُ الـجِيدَ وَحْفٍ كأنّهُعلـى اللّـيتِ قِنْوَانُ الكُرُومِ الدّوَالِـحُ
يعنـي بقوله يصير: يـميـل, وأن أهل هذه اللغة يقولون: صاره وهو يصيره صَيْرا, وصِرْ وجهك إلـيّ: أي أمله, كما تقول: صُرْه.
وزعم بعض نـحويـي الكوفة أنه لا يعرف لقوله: {فَصُرْهُنّ} ولا لقراءة من قرأ: «فَصِرْهُنّ» بضم الصاد وكسرها وجها فـي التقطيع, إلا أن يكون «فَصِرْهُنّ إِلَـيْكَ» فـي قراءة من قرأه بكسر الصاد من الـمقلوب, وذلك أن تكون لام فعله جعلت مكان عينه, وعينه مكان لامه, فـيكون من صَرَى يَصْرِي صَرْيا, فإن العرب تقول: بـات يَصْري فـي حوضه: إذا استقـى, ثم قطع واستقـى, ومن ذلك قول الشاعر:
صَرَتْ نَظْرَةً لَوْ صَادَفَتْ جَوزَ دارِعٍغَدَا والعَواصِي منْ دَمِ الـجوفِ تَنْعَرُ
صرت: قطعت نظرة. ومنه قول الاَخر:
يقولونَ إنّ الشّام يقْتُلُ أهْلَهُفَمَنْ لـي إذا لـم آتِهِ بخُـلُودِ
تَعَرّبَ آبـائي فهلاّ صَرَاهُمُمِنَ الـمَوْتِ أنْ لـم يذهَبوا وجُدودي
يعنـي قطعهم, ثم نقلت ياؤها التـي هي لام الفعل فجعلت عينا للفعل, وحولت عينها فجعلت لامها, فقـيـل صار يصير, كما قـيـل: عَثِـي يَعْثَى عَثا, ثم حوّلت لامها, فجعلت عينها, فقـيـل عاث يعيث.
فأما نـحويو البصرة فإنهم قالوا: {فَصُرْهُنّ إلَـيْكَ} سواء معناه إذا قرىء بـالضم من الصاد وبـالكسر فـي أنه معنـيّ به فـي هذا الـموضع التقطيع, قالوا: وهما لغتان: إحداهما صَار يَصُور, والأخرى صَار يَصِير, واستشهدوا علـى ذلك ببـيت توبة بن الـحمير الذي ذكرنا قبل, وببـيت الـمعلـى بن جمّال العبدي:
وجاءَتْ خِـلْعَةٌ دُهْسٌ صَفـايَايَصُورُ عُنُوقَها أحْوَى زَنِـيـمُ
بـمعنى يفرق عنوقها ويقطعها, وببـيت خنساء:
لـظـلـت الـشّـمُ مـنـهـا وَهْـيَ تـنــصـارُ
يعنـي بـالشمّ: الـجبـال أنها تتصدّع وتتفرّق. وببـيت أبـي ذؤيب:
فـانْصَرْنَ مِنْ فَزَعٍ وسَدّ فُرُوجَهُغُبْرٌ ضَوَارٍ وافـيانِ وأجْدَعُ
قالوا: فلقول القائل: صُرْت الشيء معنـيان: أملته, وقطعته, وحكوا سماعا: صُرْنا به الـحكم: فصلنا به الـحكم.
وهذا القول الذي ذكرناه عن البصريـين من أن معنى الضم فـي الصاد من قوله: {فَصُرْهُنّ إِلَـيْكَ} والكسر سواء بـمعنى واحد, وأنهما لغتان معناهما فـي هذا الـموضع فقطعهن, وأن معنى إلـيك تقديـمها قبل فصرهن من أجل أنها صلة قوله: «فخذ», أولـى بـالصواب من قول الذين حكينا قولهم من نـحويـي الكوفـيـين الذي أنكروا أن يكون للتقطيع فـي ذلك وجه مفهوم إلا علـى معنى القلب الذي ذكرت, لإجماع أهل التأويـل علـى أن معنى قوله: {فَصُرْهُنّ} غير خارج من أحد معنـيـين: إما قطّعهنّ, وإما اضمـمهنّ إلـيك, بـالكسر قرىء ذلك أو بـالضم. ففـي إجماع جميعهم علـى ذلك علـى غير مراعاة منهم كسر الصاد وضمها, ولا تفريق منهم بـين معنـيـي القراءتـين أعنـي الكسر والضم, أوضح الدلـيـل علـى صحة قول القائلـين من نـحويـي أهل البصرة فـي ذلك ما حكينا عنهم من القول, وخطأ قول نـحويـي الكوفـيـين¹ لأنهم لو كانوا إنـما تأولوا قوله: {فَصُرْهُنّ} بـمعنى فقطعهن, علـى أن أصل الكلام فأصرهنّ, ثم قلبت فقـيـل فصِرهن بكسر الصاد لتـحوّل ياء فأصرهن مكان رائه, وانتقال رائه مكان يائه, لكان لا شك مع معرفتهم بلغتهم وعلـمهم بـمنطقهم, قد فصلوا بـين معنى ذلك إذا قرىء بكسر صاده, وبـينه إذا قرىء بضمها, إذ كان غير جائز لـمن قلب فأصرهن إلـى فصِرْهُن أن يقرأه فصرهن بضم الصاد, وهم مع اختلاف قراءتهم ذلك قد تأوّلوه تأويلاً واحدا علـى أحد الوجيهن اللذين ذكرنا. ففـي ذلك أوضح الدلـيـل علـى خطأ قول من قال: إن ذلك إذا قرىء بكسر الصاد بتأويـل التقطيع مقلوب من صَرِيَ يَصْرَي إلـى صار يصير, وجهل من زعم أن قول القائل صار يصور وصار يصير غير معروف فـي كلام العرب بـمعنى قطع.
ذكر من حضرنا قوله فـي تأويـل قول الله تعالـى ذكره: {فَصُرْهُنّ} أنه بـمعنى فقطعهنّ.
4817ـ حدثنا سلـيـمان بن عبد الـجبـار, قال: حدثنا مـحمد بن الصلت, قال: حدثنا أبو كدينة, عن عطاء, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس: {فَصُرْهُنّ} قال: هي نبطية فشققهن.
4818ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن أبـي جمرة, عن ابن عبـاس أنه قال فـي هذه الآية: {فَخُذْ أرْبَعَةً مِنَ الطّيْرِ فَصُرْهُنّ إِلَـيْكَ} قال: إنـما هو مثل. قال: قطعهنّ ثم اجعلهن فـي أربـاع الدنـيا, ربعا ههنا, وربعا ههنا, ثم ادعهنّ يأتـينك سعيا.
4819ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس: {فَصُرْهُنّ} قال: قطعهن.
4820ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا حصين, عن أبـي مالك فـي قوله: {فَصُرْهُنّ إِلَـيْكَ} يقول: قطعهن.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: أخبرنا هشيـم, عن حصين, عن أبـي مالك, مثله.
4821ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا يحيـى بن يـمان, عن أشعث, عن جعفر, عن سعيد: {فَصُرْهُنّ} قال: قال جناح ذه عند رأس ذه, ورأس ذه عند جناح ذه.
4822ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان, عن أبـيه, قال: زعم أبو عمرو, عن عكرمة فـي قوله: {فَصُرْهُنّ إِلَـيْكَ} قال: قال عكرمة بـالنبطية: قطعهن.
4823ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا إسرائيـل, عن يحيـى, عن مـجاهد: {فَصُرْهُنّ إِلَـيْكَ} قال: قطعهن.
4824ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: {فَصْرُهُنّ إِلَـيْكَ} انتفهن بريشهن ولـحومهن تـمزيقا, ثم اخـلط لـحومهن بريشهن.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: {فَصُرْهُنّ إِلَـيْكَ} قال: انتفهن بريشهن ولـحومهن تـمزيقا.
4825ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {فَصْرُهُنّ إِلَـيْكَ} أمر نبـيّ الله علـيه السلام أن يأخذ أربعة من الطير فـيذبحهن, ثم يخـلط بـين لـحومهن وريشهن ودمائهن.
4826ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: {فَصُرْهُنّ إِلَـيْكَ} قال: فمزّقهن, قال: أمر أن يخـلط الدماء بـالدماء, والريش بـالريش, ثم اجعل علـى كل جبل منهنّ جزءا.
4827ـ حدثت عن الـحسين بن الفرج, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك: {فَصُرْهُنّ إِلَـيْكَ} يقول: فشققهن وهو بـالنبطية صرّى, وهو التشقـيق.
حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {فَصُرْهُنّ إِلَـيْكَ} يقول قطعهن.
4828ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: {فَصُرْهُنّ إِلَـيْكَ} يقول قطعهن إلـيك ومزّقهن تـمزيقا.
4829ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {فَصُرْهُنّ إِلَـيْكَ} أي قطعهن, وهو الصّوْر فـي كلام العرب.
ففـيـما ذكرنا من أقوال من روينا فـي تأويـل قوله: {فَصُرْهُنّ إِلَـيْكَ} أنه بـمعنى فقطعهن إلـيك, دلالة واضحة علـى صحة ما قلنا فـي ذلك, وفساد قول من خالفنا فـيه. وإذ كان ذلك كذلك, فسواء قرأ القارىء ذلك بضم الصاد فصُرْهن إلـيك أو كسرها فصِرْهن إذْ كانت اللغتان معروفتـين بـمعنى واحد, غير أن الأمر وإن كان كذلك, فإن أحبهما إلـيّ أن أقرأ به «فصُرْهن إلـيك» بضم الصاد, لأنها أعلـى اللغتـين وأشهرهما وأكثرهما فـي أحياء العرب. وعند نفر قلـيـل من أهل التأويـل أنها بـمعنى أوثق. ذكر من قال ذلك:
4830ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: {فَصُرْهُنّ إِلَـيْكَ} صرهن: أوثقهن.
4831ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قلت لعطاء قوله: {فَصُرْهُنّ إِلَـيْكَ} قال: اضمـمهنّ إلـيك.
4832ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: {فَصُرْهُنّ إِلَـيْكَ} قال: اجمعهن.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ثُمّ اجْعَلْ علـى كُلّ جَبَلٍ مِنْهُنّ جُزْءا ثُمّ ادْعُهُنّ يأتِـينَكَ سَعْي}.
اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: {ثُمّ اجْعَل علـى كُلّ جَبَلٍ مِنْهُنّ جُزْء} فقال بعضهم: يعنـي بذلك علـى كل ربع من أربـاع الدنـيا جزءا منهن. ذكر من قال ذلك:
4833ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن أبـي جمرة, عن ابن عبـاس: {ثُمّ اجْعَلْ عَلـى كُلّ جَبَلٍ مِنْهُنّ جُزْء} قال: اجعلهن فـي أربـاع الدنـيا: ربعا ههنا, وربعا ههنا, وربعا ههنا, وربعا ههنا, ثم ادعهن يأتـينك سعيا.
حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: {ثُمّ اجْعَلْ علـى كُلّ جَبَلٍ مِنْهُنّ جُزْء} قال: لـما أوثقهن ذبحهن, ثم جعل علـى كل جبل منهن جزءا.
4834ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: قال: أمر نبـيّ الله أن يأخذ أربعة من الطير فـيذبحهن, ثم يخـلط بـين لـحومهن وريشهن ودمائهن, ثم يجزئهن علـى أربعة أجبل, فذكر لنا أنه شكل علـى أجنـحتهن, وأمسك برؤوسهن بـيده, فجعل العظم يذهب إلـى العظم, والريشة إلـى الريشة, والبَضعة إلـى البضعة, وذلك بعين خـلـيـل الله إبراهيـم صلى الله عليه وسلم. ثم دعاهن فأتـينه سعيا علـى أرجلهن, ويـلقـي كل طير برأسه. وهذا مثل آتاه الله إبراهيـم. يقول: كما بعث هذه الأطيار من هذه الأجبل الأربعة, كذلك يبعث الله الناس يوم القـيامة من أربـاع الأرض ونواحيها.
4835ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, قال: ذبحهن, ثم قطعهن, ثم خـلط بـين لـحومهن وريشهن, ثم قسمهن علـى أربعة أجزاء, فجعل علـى كل جبل منهن جزءا, فجعل العظم يذهب إلـى العظم, والريشة إلـى الريشة, والبضعة إلـى البضعة, وذلك بعين خـلـيـل الله إبراهيـم, ثم دعاهن فأتـينه سعيا, يقول: شدّا علـى أرجلهن. وهذا مثل أراه الله إبراهيـم, يقول: كما بعثت هذه الأطيار من هذه الأجبل الأربعة, كذلك يبعث الله الناس يوم القـيامة من أربـاع الأرض ونواحيها.
4836ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: حدثنا ابن إسحاق, عن بعض أهل العلـم: أن أهل الكتاب يذكرون أنه أخذ الأطيار الأربعة, ثم قطع كل طير بأربعة أجزاء, ثم عمد إلـى أربعة أجبـال, فجعل علـى كل جبل ربعا من كل طائر, فكان علـى كل جبل ربع من الطاووس, وربع من الديك, وربع من الغراب وربع من الـحمام. ثم دعاهن فقال: تعالـين بإذن الله كما كنتـم! فوثب كل ربع منها إلـى صاحبه حتـى اجتـمعن, فكان كل طائر كما كان قبل أن يقطعه, ثم أقبلن إلـيه سعيا, كما قال الله. وقـيـل: يا إبراهيـم هكذا يجمع الله العبـاد, ويحيـي الـموتـى للبعث من مشارق الأرض ومغاربها, وشامها ويـمنها. فأراه الله إحياء الـموتـى بقدرته, حتـى عرف ذلك بغير ما قال نـمروذ من الكذب والبـاطل.
4837ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: {ثُمّ اجْعَلْ عَلـى كُلّ جَبَلٍ مِنْهُنّ جُزْء} قال: فأخذ طاووسا, وحمامة, وغرابـا, وديكا, ثم قال: فرّقهن, اجعل رأس كل واحد وجؤشوش الاَخر وجناحي الاَخر ورجلـي الاَخر معه! فقطعهن وفرّقهن أربـاعا علـى الـجبـال, ثم دعاهن فجئنه جميعا, فقال الله: كما ناديتهن فجئنك, فكما أحيـيت هؤلاء وجمعتهن بعد هذا, فكذلك أجمع هؤلاء أيضا¹ يعنـي الـموتـى.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ثم اجعل علـى كل جبل من الأجبـال التـي كانت الأطيار والسبـاع التـي كانت تأكل من لـحم الدابة التـي رآها إبراهيـم ميتة, فسأل إبراهيـم عند رؤيته إياها أن يريه كيف يحيـيها وسائر الأموات غيرها. وقالوا: كانت سبعة أجبـال. ذكر من قال ذلك:
4838ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: لـما قال إبراهيـم ما قال عند رؤيته الدابة التـي تفرّقت الطير والسبـاع عنها حين دنا منها, وسأل ربه ما سأل, قال: فخذ أربعة من الطير ـ قال ابن جريج: فذبحها ـ ثم اخـلط بـين دمائهن وريشهن ولـحومهن, ثم اجعل علـى كل جبل منهن جزءا حيث رأيت الطير ذهبت والسبـاع! قال: فجعلهن سبعة أجزاء, وأمسك رءوسهن عنده, ثم دعاهن بإذن الله, فنظر إلـى كل قطرة من دم تطير إلـى القطرة الأخرى, وكل ريشة تطير إلـى الريشة الأخرى, وكل بَضعة وكل عظم يطير بعضه إلـى بعض من رءوس الـجبـال, حتـى لقـيت كل جثة بعضها بعضا فـي السماء, ثم أقبلن يسعين حتـى وصلت رأسها.
4839ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي, قال: فخذ أربعة من الطير فصرهن إلـيك, ثم اجعل علـى سبعة أجبـال, فـاجعل علـى كل جبل منهن جزءا, ثم ادعهن يأتـينك سعيا! فأخذ إبراهيـم أربعة من الطير, فقطعهن أعضاء, لـم يجعل عضوا من طير مع صاحبه, ثم جعل رأس هذا مع رجل هذا, وصدر هذا مع جناح هذا, وقسمهن علـى سبعة أجبـال, ثم دعاهن فطار كل عضو إلـى صاحبه, ثم أقبلن إلـيه جميعا.
وقال آخرون: بل أمره الله أن يجعل ذلك علـى كل جبل. ذكر من قال ذلك:
4840ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: {ثُمّ اجْعَلْ علـى كُلّ جَبَلٍ مِنْهُنّ جُزْء} قال: ثم بدّدهن علـى كل جبل يأتـينك سعيا, وكذلك يحيـي الله الـموتـى.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: ثم اجعلهن أجزاء علـى كل جبل, ثم ادعهن يأتـينك سعيا, كذلك يحيـي الله الـموتـى¹ هو مثل ضربه الله لإبراهيـم.
حدثنا القاسم, ثال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا حجاج, قال: قال ابن جريج, قال مـجاهد: {ثُمّ اجْعَلْ علـى كُلّ جَبَلٍ مِنْهُنّ جُزْء} ثم بدّدهن أجزاء علـى كل جبل, ثم ادعهن: تعالـين بإذن الله! فكذلك يحيـي الله الـموتـى¹ مثل ضربه الله لإبراهيـم صلى الله عليه وسلم.
4841ـ حدثنـي الـمثنى, قال: ثنـي إسحاق, قال: حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك, قال: أمره أن يخالف بـين قوائمهن ورءوسهن وأجنـحتهن, ثم يجعل علـى كل جبل منهن جزءا.
« ـ حدثت عن الـحسين بن الفرج, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {ثُمّ اجْعَلْ علـى كُلّ جَبَلٍ مِنْهُنّ جُزْء} فخالف إبراهيـم بـين قوائمهن وأجنـحتهن.
(وأولـى التأويلات بـالآية ما قاله مـجاهد, وهو أن الله تعالـى ذكره أمر إبراهيـم بتفريق أعضاء الأطيار الأربعة بعد تقطيعه إياهن علـى جميع الأجبـال التـي كان يصل إبراهيـم فـي وقت تكلـيف الله إياه تفريق ذلك وتبديدها علـيها أجزاء, لأن الله تعالـى ذكره قال له: {ثُمّ اجْعَلْ علـى كُلّ جَبَلٍ مِنْهُنّ جُزْء} والكل حرف يدل علـى الإحاطة بـما أضيف إلـيه لفظه واحد ومعناه الـجمع. فإذا كان ذلك كذلك فلن يجوز أن تكون الـجبـال التـي أمر الله إبراهيـم بتفريق أجزاء الأطيار الأربعة علـيه خارجة من أحد معنـيـين: إما أن تكون بعضا أو جميعا¹ فإن كانت بعضا فغير جائز أن يكون ذلك البعض إلا ما كان لإبراهيـم السبـيـل إلـى تفريق أعضاء الأطيار الأربعة علـيه. أو يكون جميعا, فـيكون أيضا كذلك. وقد أخبر الله تعالـى ذكره أنه أمره بأن يجعل ذلك علـى كل جبل, وذلك إما كل جبل وقد عرفهن إبراهيـم بأعيانهن, وإما ما فـي الأرض من الـجبـال.
فأما قول من قال: إن ذلك أربعة أجبل, وقول من قال: هنّ سبعة¹ فلا دلالة عندنا علـى صحة شيء من ذلك فنستـجير القول به. وإنـما أمر الله إبراهيـم صلى الله عليه وسلم أن يجعل الأطيار الأربعة أجزاء متفرّقة علـى كل جبل لـيري إبراهيـم قدرته علـى جمع أجزائهن وهن متفرّقات متبددات فـي أماكن مختلفة شتّـى, حتـى يؤلف بعضهن إلـى بعض, فـيعدن كهيئتهن قبل تقطيعهن وتـمزيقهن وقبل تفريق أجزائهن علـى الـجبـال أطيارا أحياء يطرن, فـيطمئنّ قلب إبراهيـم ويعلـم أن كذلك يجمع الله أوصال الـموتـى لبعث القـيامة وتألـيفه أجزاءهم بعد البلـى وردّ كل عضو من أعضائهم إلـى موضعه كالذي كان قبل الرد. والـجزء من كل شيء هو البعض منه كان منقسما جميعه علـيه علـى صحة أو غير منقسم, فهو بذلك من معناه مخالف معنى السهم¹ لأن السهم من الشيء: هو البعض الـمنقسم علـيه جميعه علـى صحة, ولذلك كثر استعمال الناس فـي كلامهم عند ذكرهم أنصبـاءهم من الـمواريث السهام دون الأجزاء.
وأما قوله: {ثُمّ ادْعُهُنّ} فإن معناه ما ذكرت آنفـا عن مـجاهد أنه قال: هو أنه أمر أن يقول لأجزاء الأطيار بعد تفريقهن علـى كل جبل تعالـين بإذن الله.
فإن قال قائل: أمر إبراهيـم أن يدعوهنّ وهن مـمزّقات أجزاء علـى رءوس الـجبـال أمواتا, أم بعد ما أحيـين؟ فإن كان أمر أن يدعوهن وهن مـمزّقات لا أرواح فـيهنّ, فما وجه أمر من لا حياة فـيه بـالإقبـال؟ وإن كان أمر بدعائهن بعد ما أحيـين, فما كانت حاجة إبراهيـم إلـى دعائهن وقد أبصرهن ينشرن علـى رءوس الـجبـال؟ قـيـل: إن أمر الله تعالـى ذكره إبراهيـم صلى الله عليه وسلم بدعائهن وهن أجزاء متفرّقات إنـما هو أمر تكوين, كقول الله للذين مسخهم قردة بعد ما كانوا إنسا: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} لا أمر عبـادة, فـيكون مـحالاً إلا بعد وجود الـمأمور الـمتعبد.
(القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاعْلَـمْ أنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيـمٌ}.
يعنـي تعالـى ذكره بذلك: واعلـم يا إبراهيـم أن الذي أحيا هذه الأطيار بعد تـمزيقك إياهنّ, وتفريقك أجزاءهنّ علـى الـجبـال, فجمعهن وردّ إلـيهن الروح, حتـى أعادهن كهيئتهن قبل تفريقهن, {عَزِيزٌ} فـي بطشه إذا بطش بـمن بطش من الـجبـابرة والـمتكبرة الذين خالفوا أمره, وعصوا رسله, وعبدوا غيره, وفـي نقمته حتـى ينتقم منهم, {حَكِيـمٌ} فـي أمره.
4842ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: حدثنا ابن إسحاق: {وَاعْلَـمْ أَنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيـمٌ} قال: عزيز فـي بطشه, حكيـم فـي أمره.
4843ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: {وَاعْلَـمْ أنّ اللّهَ عَزِيزٌ} فـي نقمته {حَكِيـمٌ} فِـي أمره.
الآية : 261
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{مّثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّئَةُ حَبّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }
وهذه الآية مردودة إلـى قوله: {مَنْ ذَا الّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضا حَسَنا فَـيُضَاعِفَهُ لَهُ أضْعافـا كَثِـيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَـيْهِ تُرْجَعُونَ}. والاَيات التـي بعدها إلـى قوله: {مَثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ} من قصص بنـي إسرائيـل وخبرهم مع طالوت وجالوت, وما بعد ذلك من نبإ الذي حاجّ إبراهيـم مع إبراهيـم, وأمر الذي مرّ علـى القرية الـخاوية علـى عروشها, وقصة إبراهيـم ومسألته ربه ما سأل مـما قد ذكرناه قبل¹ اعتراض من الله تعالـى ذكره بـما اعترض به من قصصهم بـين ذلك احتـجاجا منه ببعضه علـى الـمشركين الذين كانوا يكذبون بـالبعث وقـيام الساعة, وحضّا منه ببعضه للـمؤمنـين علـى الـجهاد فـي سبـيـله الذي أمرهم به فـي قوله: {وَقَاتِلُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ وَاعْلَـمُوا أنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِـيـمٌ}. يعرّفهم فـيهم أنه ناصرهم وإن قلّ عددهم وكثر عدد عدوّهم, ويعدهم النصرة علـيهم, ويعلـمهم سنته فـيـمن كان علـى منهاجهم من ابتغاء رضوان الله أنه مؤيدهم, وفـيـمن كان علـى سبـيـل أعدائهم من الكفـار بأنه خاذلهم ومفرّق جمعهم وموهن كيدهم, وقطعا منه ببعض عذر الـيهود الذين كانوا بـين ظهرانـي مهاجرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم, بـما أطلع نبـيه علـيه من خفـيّ أمورهم, ومكتوم أسرار أوائلهم وأسلافهم التـي لـم يعلـمها سواهم, لـيعلـموا أن ما أتاهم به مـحمد صلى الله عليه وسلم من عند الله, وأنه لـيس بتـخرّص ولا اختلاق, وإعذارا منه به إلـى أهل النفـاق منهم, لـيحذروا بشكهم فـي أمر مـحمد صلى الله عليه وسلم أن يحلّ بهم من بأسه وسطوته, مثل الذي أحلهما بأسلافهم الذين كانوا فـي القرية التـي أهلكها, فتركها خاوية علـى عروشها. ثم عاد تعالـى ذكره إلـى الـخبر عن الذي يقرض الله قرضا حسنا, وما عنده له من الثواب علـى قرضه, فقال: {مَثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ} يعنـي بذلك: مثل الذين ينفقون أموالهم علـى أنفسهم فـي جهاد أعداء الله بأنفسهم وأموالهم, {كَمَثَلِ حَبّةٍ} من حبـات الـحنطة أو الشعير, أو غير ذلك من نبـات الأرض التـي تسنبل سنبلة بذرها زارع. «فأنبتت», يعنـي فأخرجت {سَبْعَ سَنَابِلَ فـي كُلّ سُنْبُلَةٍ مائة حَبّة}, يقول: فكذلك الـمنفق ماله علـى نفسه فـي سبـيـل الله, له أجره سبعمائة ضعف علـى الواحد من نفقته. كما:
4844ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {كَمَثَلِ حَبّةٍ أنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِـي كُلّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبّةٍ} فهذا لـمن أنفق فـي سبـيـل الله, فله سبعمائة.
4845ـ حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: {مَثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبّةٍ أنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِـي كُلّ سُنْبُلَةٍ مِائَةَ حَبّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِـمَنْ يَشاءُ} قال: هذا الذي ينفق علـى نفسه فـي سبـيـل الله ويخرُج.
4846ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع قوله: {مَثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبّةٍ أنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِـي كُلّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبّةٍ}... الآية. فكان من بـايع النبـيّ صلى الله عليه وسلم علـى الهجرة, ورابط مع النبـيّ صلى الله عليه وسلم بـالـمدينة, ولـم يـلق وجها إلا بإذنه, كانت الـحسنة له بسبعمائة ضعف, ومن بـايع علـى الإسلام كانت الـحسنة له عشر أمثالها.
فإن قال قائل: وهل رأيت سنبلة فـيها مائة حبة أو بلغتك فضرب بها الـمثل الـمنفق فـي سبـيـل الله ماله؟ قـيـل: إن يكن ذلك موجودا فهو ذاك, وإلا فجائز أن يكون معناه: كمثل سنبة أنبتت سبع سنابل فـي كل سنبلة مائة حبة, إن جعل الله ذلك فـيها. ويحتـمل أن يكون معناه: فـي كل سنبلة مائة حبة¹ يعنـي أنها إذا هي بذرت أنبتت مائة حبة, فـيكون ما حدث عن البذر الذي كان منها من الـمائة الـحبة مضافـا إلـيها لأنه كان عنها. وقد تأول ذلك علـى هذا الوجه بعض أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
4847ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك قوله: {مَثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبّةٍ أنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِـي كُلّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبّةٍ} قال: كل سنبلة أنبتت مائة حبة, فهذا لـمن أنفق فـي سبـيـل الله, {وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِـمَنْ يَشاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِـيـمٌ}.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِـمَنْ يَشَاءُ}.
اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: {وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِـمَنْ يَشاءُ}. فقال بعضهم: الله يضاعف لـمن يشاء من عبـاده أجر حسناته بعد الذي أعطى الـمنفق فـي سبـيـله من التضعيف الواحدة سبعمائة. فأما الـمنفق فـي غير سبـيـله, فلا نفقة ما وعده من تضعيف السبعمائة بـالواحدة. ذكر من قال ذلك:
4848ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك, قال: هذا يضاعف لـمن أنفق فـي سبـيـل الله, يعنـي السبعمائة¹ {وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِـمَنْ يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِـيـمٌ} يعنـي لغير الـمنفق فـي سبـيـله.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: والله يضاعف لـمن يشاء من الـمنفقـين فـي سبـيـله علـى السبعمائة إلـى ألفـي ألف ضعف. وهذا قول ذكر عن ابن عبـاس من وجه لـم أجد إسناده فتركت ذكره.
والذي هو أولـى بتأويـل قوله: {وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِـمَنْ يَشَاءُ} والله يضاعف علـى السبعمائة إلـى ما يشاء من التضعيف لـمن يشاء من الـمنفقـين فـي سبـيـله¹ لأنه لـم يجر ذكر الثواب والتضعيف لغير الـمنفق فـي سبـيـل الله فـيجوز لنا توجيه ما وعد تعالـى ذكره فـي هذه الآية من التضعيف إلـى أنه عدة منه علـى العمل علـى غير النفقة فـي سبـيـل الله.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِـيـمٌ}.
يعنـي تعالـى ذكره بذلك: والله واسع أن يزيد من يشاء من خـلقه الـمنفقـين فـي سبـيـله علـى أضعاف السبعمائة التـي وعده أن يزيده, علـيـم من يستـحقّ منهم الزيادة. كما:
4849ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: {وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِـمَنْ يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِـيـمٌ} قال: واسع أن يزيد من سعته, علـيـم عالـم بـمن يزيده.
وقال آخرون: معنى ذلك: والله واسع لتلك الأضعاف, علـيـم بـما ينفق الذين ينفقون أموالهم فـي طاعة الله.
الآية : 262
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }
يعني تعالى ذكره بذلك: المعطي ماله المجاهدين في سبيل الله معونة لهم على جهاد أعداء الله. يقول تعالى ذكره: الذين يعنون المجاهدين في سيبل الله بالإنفاق عليهم وفي حمولتهم, وغير ذلك من مؤنهم, ثم لم يتبع نفقته التي أنفقها عليهم منّا عليهم بإنفاق ذلك عليهم ولا أذى لهم¹ فامتنانه به عليهم بأن ظهر لهم أنه قد اصطنع إليهم بفعله, وعطائه الذي أعطاهموه, تقوية لهم على جهاد عدوّهم معروفا, ويبدي ذلك إما بلسان أو فعل. وأما الأذى فهو شكايته إياهم بسبب ما أعطاهم وقّواهم من النفقة في سبيل الله أنهم لم يقوموا بالواجب عليهم في الجهاد, وما أشبه ذلك من القول الذي يؤذيبه من أنفق عليه. وإنما شرط ذلك في المنفق في سبيل الله, وأوجب الأجر لمن كان غير مانّ ولا مؤذ من أنفق عليه في سبيل الله, لأن النفقة التي هي في سبيل الله مما ابتغي به وجه الله, وطلبه ما عنده, فإذا كان معنى النفقة في سبيل الله هو ما وصفنا, فلا وجه لمنّ المنفق على من أنفق عليه, لأنه لا يد له قبله ولا صنيعة يستحق بها عليه إن لم يكافئه عليها المنّ والأذى, إذ كانت نفقته ما أنفق عليه احتساباوابتغاء ثواب الله وطلب مَرضاته وعلى الله مثويته دون من أنفق ذلك عليه.
وبنـحو الـمعنى الذي قلنا فـي ذلك قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
4850ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: {الّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ ثُمّ لاَ يُتْبَعُونَ ما أنْفَقُوا مَنّا وَلا أذًى لَهُمْ أجْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَـيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} علـم الله أن أناسا يـمنون بعطيتهم, فكره ذلك وقدّم فـيه فقال: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةً يَتْبَعُها أذًى وَاللّهُ غَنِـيّ حَلِـيـمٌ}.
4851ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, قال للاَخرين ـ يعنـي: قال الله للاَخرين, وهم الذين لا يخرجون فـي جهاد عدوّهم ـ: الذين ينفقون أموالهم فـي سبـيـل الله, ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى. قال: فشرط علـيهم. قال: والـخارج لـم يشرط علـيه قلـيلاً ولا كثـيرا, يعنـي بـالـخارج الـخارج فـي الـجهاد الذي ذكر الله فـي قوله: {مَثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبّةٍ}... الآية. قال ابن زيد: وكان أبـي يقول: إن أذن لك أن تعطي من هذا شيئا, أو تقوى فقويت فـي سبـيـل الله, فظننت أنه يثقل علـيه سلامك فكفّ سلامك عنه. قال ابن زيد: فهو خير من السلام. قال: وقالت امرأة لأبـي: يا أبـا أسامة, تدلنـي علـى رجل يخرج فـي سبـيـل الله حقا, فإنهم لا يخرجون إلا لـيأكلوا الفواكه! عندي جعبة وأسهم فـيها. فقال لها: لا بـارك الله لك فـي جعبتك, ولا فـي أسهمك, فقد آذيتـيهم قبل أن تعطيهم! قال: وكان رجل يقول لهم: اخرجوا وكلوا الفواكه.
4852ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك قوله: {لاَ يُتْبِعُونَ ما أنْفَقُوا مَنّا وَلا أذًى} قال: أن لا ينفق الرجل ماله خير من أن ينفقه ثم يتبعه منّا وأذى.
وأما قوله: {لَهُمْ أجْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهِمْ} فإنه يعنـي للذين ينفقون أموالهم فـي سبـيـل الله علـى ما بـين. والهاء والـميـم فـي لهم عائدة علـى «الذين».
ومعنى قوله: {لَهُمْ أجْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهِمْ} لهم ثوابهم وجزاؤهم علـى نفقتهم التـي أنفقوها فـي سبـيـل الله, ثم لا يتبعونها منّا ولا أذى.
وقوله: {وَلاَ خَوْفٌ عَلَـيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} يقول: وهم مع ما لهم من الـجزاء والثواب علـى نفقتهم التـي أنفقوها علـى ما شرطنا¹ لا خوف علـيهم عند مقدمهم علـى الله, وفراقهم الدنـيا, ولا فـي أهوال القـيامة, وأن ينالهم من مكارهها, أو يصيبهم فـيها من عقاب الله, ولا هم يحزنون علـى ما خـلفوا وراءهم فـي الدنـيا.
الآية : 263
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{قَوْلٌ مّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللّهُ غَنِيّ حَلِيمٌ }
يعنى تعالى ذكره بقوله: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ} قول جميـل, ودعاء الرجل لأخيه الـمسلـم. {وَمَغْفِرَةٌ} يعنـي: وستر منه علـيه لـما علـم من خـلته وسوء حالته, خير عند الله من صدقة يتصدقها علـيه يتبعها أذى, يعنـي يشتكيه علـيها ويؤذيه بسببها. كما:
4853ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أذًى} يقول: أن يـمسك ماله خير من أن ينفق ماله ثم يتبعه منّا وأذى.
وأما قوله: {غَنِـيّ حَلِـيـمٌ} فإنه يعنـي: والله غنـيّ عما يتصدقون به, حلـيـم حين لا يعجل بـالعقوبة علـى من يـمنّ بصدقته منكم, ويؤذي فـيها من يتصدّق بها علـيه.
ورُوي عن ابن عبـاس فـي ذلك ما:
4854ـ حدثنا به الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس: الغنـيّ: الذي كمل فـي غناه, والـحلـيـم: الذي قد كمل فـي حلـمه.
الآية : 264
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنّ وَالأذَىَ كَالّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ النّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاّ يَقْدِرُونَ عَلَىَ شَيْءٍ مّمّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }
يعنـي تعالـى ذكره بذلك: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُو} صدّقوا الله ورسوله, {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ}, يقول: لا تبطلوا أجور صدقاتكم بـالـمنّ والأذى, كما أبطل كفر الذي ينفق ماله {رِئَاءَ النّاسِ}, وهو مراءاته إياهم بعمله¹ وذلك أن ينفق ماله فـيـما يرى الناس فـي الظاهر أنه يريد الله تعالـى ذكره فـيحمدونه علـيه وهو مريد به غير الله ولا طالب منه الثواب وإنـما ينفقه كذلك ظاهرا لـيحمده الناس علـيه فـيقولوا: هو سخيّ كريـم, وهو رجل صالـح, فـيحسنوا علـيه به الثناء وهم لا يعلـمون ما هو مستبطن من النـية فـي إنفـاقه ما أنفق, فلا يدرون ما هو علـيه من التكذيب بـالله تعالـى ذكره والـيوم الاَخر.
وأما قوله: {وَلاَ يُوءْمِنُ بِـاللّهِ وَالـيَوْمِ الاَخِرِ} فإن معناه: ولا يصدّق بواحدنـية الله وربوبـيته, ولا بأنه مبعوث بعد مـماته فمـجازًى علـى عمله, فـيجعل عمله لوجه الله وطلب ثوابه وما عنده فـي معاده. وهذه صفة الـمنافق¹ وإنـما قلنا إنه منافق, لأن الـمظهر كفره والـمعلن شركه معلوم أنه لا يكون بشيء من أعماله مرائيا, لأن الـمرائي هو الذي يرائي الناس بـالعمل الذي هو فـي الظاهر لله وفـي البـاطن عامله مراده به حمد الناس علـيه, والكافر لا يخيـل علـى أحد أمره أن أفعاله كلها إنـما هي للشيطان ـ إذا كان معلنا كفره ـ لا لله, ومن كان كذلك فغير كائن مرائيا بأعماله.
وبنـحو ما قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
4855ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال أبو هانىء الـخولانـي, عن عمرو بن حريث, قال: إن الرجل يغزو, لا يسرق ولا يزنـي, ولا يغلّ, لا يرجع بـالكفـاف! فقـيـل له: لـم ذاك؟ قال: فإن الرجل لـيخرج فإذا أصابه من بلاء الله الذي قد حكم علـيه سبّ ولعن إمامه, ولعن ساعة غزا, وقال: لا أعود لغزوة معه أبدا! فهذا علـيه, ولـيس له مثل النفقة فـي سبـيـل الله يتبعها منّ وأذى, فقد ضرب الله مثلها فـي القرآن: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بـالـمَنّ والأذَى} حتـى ختـم الآية.
(القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَـيْهِ تُرَابٌ فَأصَابَهُ وَابِل فَتَرَكَهُ صَلْدا لاَ يَقْدِرُونَ علـى شَيْءٍ مِـمّا كَسَبُوا وَاللّه لا يَهْدِي القَوْمَ الكافِرِينَ}.
يعنـي تعالـى ذكره بذلك: فمثل هذا الذي ينفق ماله رئاء الناس, ولا يؤمن بـالله والـيوم الاَخر. والهاء فـي قوله: {فَمَثَلُهُ} عائدة علـى «الذي». {كمثَل صَفْوَانٍ} والصفوان واحد وجمع, فمن جعله جمعا فـالواحدة صفوانة بـمنزلة تـمرة وتـمر ونـخـلة ونـخـل, ومن جعله واحدا جمعه صفوان وصِفِـيّ وصُفِـيّ, كما قال الشاعر:
مَـوَاقِـعُ الـطّـيْـرِ عـلـى الـصّـفِـيّ
والصفوان هو الصفـا, وهي الـحجارة الـملس. وقوله: {عَلَـيْهِ تُرَابٌ} يعنـي علـى الصفوان تراب, {فأصَابَهُ} يعفنـي أصاب الصفوان, {وَابِلٌ}: وهو الـمطر الشديد العظيـم, كما قال امرؤ القـيس:
ساعَةً ثم انْتـحاها وابلٌساقِطُ الأكْنافِ واهٍ مُنْهَمِرْ
يقال منه: وَبلت السماء فهي تَبِلُ وَبْلاً, وقد وُبِلَت الأرض فهي تُوبَل.
وقوله: {فَتَرَكَهُ صَلْد} يقول: فترك الوابل الصفوان صلدا¹ والصلد من الـحجارة: الصلب الذي لا شيء علـيه من نبـات ولا غيره, وهو من الأرضين ما لا ينبت فـيه شيء, وكذلك من الرءوس, كما قال رؤبة:
لـما رأتْنِـي خَـلَقَ الـمُـمَوّهِبَرّاقَ أصْلادِ الـجبـين الأجْلَهِ
ومن ذلك يقال للقدر الثـخينة البطيئة الغلـي: قِدْرٌ صَلود, وقد صَلدت تَصْلُدُ صُلُودا, ومنه قول تأبط شرّا:
وَلَسْتُ بِجِلْبٍ جِلْبِ لَـيْـلٍ وقِرّةٍولا بصفَـا صَلْدٍ عن الـخير مَعْزِلِ
(ثم رجع تعالـى ذكره إلـى ذكر الـمنافقـين الذين ضرب الـمثل لأعمالهم, فقال: فكذلك أعمالهم بـمنزلة الصفوان الذي كان علـيه تراب, فأصابه الوابل من الـمطر, فذهب بـما علـيه من التراب, فتركه نقـيا لا تراب علـيه ولا شيء يراهم الـمسلـمون فـي الظاهر أن لهم أعمالاً كما يرى التراب علـى هذا الصفوان بـما يراءونهم به, فإذا كان يوم القـيامة وصاروا إلـى الله اضمـحل ذلك كله, لأنه لـم يكن لله كما ذهب الوابل من الـمطر بـما كان علـى الصفوان من التراب, فتركه أملس لا شيء علـيه, فذلك قوله: لا يقدرون, يعنـي به الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس, ولا يؤمنون بـالله ولا بـالـيوم الاَخر, يقول: لا يقدرون يوم القـيامة علـى ثواب شيء مـما كسبوا فـي الدنـيا, لأنهم لـم يعملوا لـمعادهم ولا لطلب ما عند الله فـي الاَخرة, ولكنهم عملوه رئاء الناس وطلب حمدهم, وإنـما حظهم من أعمالهم ما أرادوه وطلبوه بها. ثم أخبر تعالـى ذكره أنه لا يهدي القوم الكافرين, يقول: لا يسددهم لإصابة الـحق فـي نفقاتهم وغيرها فـيوفقهم لها, وهم للبـاطل علـيها مؤثرون, ولكنه تركهم فـي ضلالتهم يعمهون, فقال تعالـى ذكره للـمؤمنـين: لا تكونوا كالـمنافقـين الذين هذا الـمثل صفة أعمالهم, فتبطلوا أجور صدقاتكم بـمنّكم علـى من تصدقتـم بها علـيه وأذاكم لهم, كما أبطل أجر نفقة الـمنافق الذي أنفق ماله رئاء الناس, وهو غير مؤمن بـالله والـيوم الاَخر عند الله.)
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
4856ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِـالـمَنّ والأذَى} فقرأ حتـى بلغ: {عَلَـى شَيْءٍ مِـمّا كَسَبُو} فهذا مثل ضربه الله لأعمال الكفـار يوم القـيامة يقول: لا يقدرون علـى شيء مـما كسبوا يومئذٍ, كما ترك هذا الـمطر الصفـاةَ الـحجرَ لـيس علـيه شيء أنقـى ما كان.
4857ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بـالـمَنّ} إلـى قوله: {وَاللّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الكافِرِينَ} هذا مثل ضربه الله لأعمال الكافرين يوم القـيامة, يقول: لا يقدرون علـى شيء مـما كسبوا يومئذٍ, كما ترك هذا الـمطر الصفـا نقـيا لا شيء علـيه.
4858ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بـالـمَنّ وَالأذَى} إلـى قوله: {عَلَـى شَيْءٍ مِـمّا كَسَبُو} أما الصفوان الذي علـيه تراب فأصابه الـمطر, فذهب ترابه فتركه صلدا, فكذا هذا الذي ينفق ماله رياء الناس ذهب الرياء بنفقته, كما ذهب هذا الـمطر بتراب هذا الصفـا فتركه نقـيا, فكذلك تركه الرياء لا يقدر علـى شيء مـما قدم¹ فقال للـمؤمنـين: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بـالـمنّ والأذَى} فتبطل كما بطلت صدقة الرياء.
4859ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك, قال: أن لا ينفق الرجل ماله, خير من أن ينفقه ثم يتبعه منّا وأذى. فضرب الله مثله كمثل كافر أنفق ماله لا يؤمن بـالله ولا بـالـيوم الاَخر, فضرب الله مثلهما جميعا {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَـيْهِ تُرَابٌ فَأصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْد} فكذلك من أنفق ماله ثم أتبعه منّا وأذى.
4860ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بـالـمَنّ والأذَى} إلـى: {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَـيْهِ تُرَابٌ فأصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْد} لـيس علـيه شيء, وكذلك الـمنافق يوم القـيامة لا يقدر علـى شيء مـما كسب.
4861ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج فـي قوله: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بـالـمَنّ والأذَى} قال: يـمنّ بصدقته ويؤذيه فـيها حتـى يبطلها.
4862ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: {ثُمّ لاَ يُتْبِعُون ما أنْفَقُوا مَنّا وَلا أذًى} فقرأ: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بـالـمَنّ والأذَى} حتـى بلغ: {لا يَقْدِرُونَ عَلـى شَيْءٍ مِـمّا كَسَبُو} ثم قال: أترى الوابل يدع من التراب علـى الصفوان شيئا؟ فكذلك منّك وأذاك لـم يدع مـما أنفقت شيئا. وقرأ قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بـالـمَنّ وَالأذَى} وقرأ: {وَمَا أنْفَقْتُـمْ مِنْ نَفَقَةٍ}. فقرأ حتـى بلغ: {وأَنْتُـمْ لاَ تُظْلَـمُونَ}.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {صَفْوَانٍ} قد بـينا معنى الصفوان بـما فـيه الكفـاية, غير أنا أردنا ذكر من قال مثل قولنا فـي ذلك من أهل التأويـل.
4863ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قوله: {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} كمثل الصفـاة.
4864ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك: {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} والصفوان: الصفـا.
4865ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, مثله.
4866ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: أما صفوان, فهو الـحجر الذي يسمى الصفـاة.
4867ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, مثله.
4868ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس قوله: {صفوان} يعنـي الـحجر.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فأصَابَهُ وَابِلٌ}.
قد مضى البـيان عنه, وهذا ذكر من قال قولنا فـيه:
4869ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: أما وابل: فمطر شديد.
4870ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك: {فأصَابَهُ وَابِلٌ} والوابل: الـمطر الشديد.
4871ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, مثله.
4872ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, مثله.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَتَرَكَهُ صَلْد}.
ذكر من قال نـحو ما قلنا فـي ذلك:
4873ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {فَتَرَكَهُ صَلْد} يقول نقـيا.
4874ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: {فَتَرَكَهُ صَلْد} قال: تركها نقـية لـيس علـيها شيء.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج, قال ابن عبـاس قوله: {فَتَرَكَهُ صَلْد} قال: لـيس علـيه شيء.
4875ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك: {صَلْد} فتركه جردا.
4876ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة: {فَتَرَكَهُ صَلْد} لـيس علـيه شيء.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس: {فَتَرَكَهُ صَلْد} لـيس علـيه شيء